فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة

( بابُُ مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بالشَّجَرِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ القَائِلَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر مَا علق سَيْفه ... إِلَى آخِره، والقائلة: الظهيرة، وَقد يكون بِمَعْنى النّوم فِي الظهيرة.



[ قــ :2782 ... غــ :2910 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثنِي سِنانُ بنُ أبِي سَنانٍ الدُّؤَلِيُّ وَأَبُو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرَّحْمانِ أنَّ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ أخْبرَ أنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِبَلَ نَجْدٍ فلَمَّا قَفَلَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَفَلَ معَهُ فأدْرَكَتْهُمْ القَائِلَةُ فِي وادٍ كَثِيرِ العْضَاهِ فنَزَلَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بالشَّجَرِ فَنَزَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ وعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ ونِمْنَا نَوْمَةً فإذَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُونَا وإذَا عِنْدَهُ أعْرَابِيٌّ فَقَالَ أنَّ هذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وأنَا نائِمٌ فاسْتَيْقَظْتُ وهْوَ فِي يَدِهِ صَلْتاً فَقَالَ منْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقُلْتُ الله ثلاثَاً ولَمْ يُعَاقِبْهُ وجَلَسَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَنزل تَحت سَمُرَة وعلق بهَا سَيْفه) وَفَائِدَة هَذِه التَّرْجَمَة بَيَان شجاعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحسن توكله بِاللَّه وَصدق يقينه وَإِظْهَار معجزته وَبَيَان عَفوه وصفحه عَمَّن يَقْصِدهُ بِسوء.

وَأَبُو الْيَمَان: هُوَ الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَسنَان: بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون: ابْن سِنَان، واسْمه: يزِيد بن أبي أُميَّة الدؤَلِي، بِضَم الدَّال وَفتح الْهمزَة: نِسْبَة إِلَى الدئل من كنَانَة، وَيُقَال: الدؤَلِي، بِضَم الدَّال وَسُكُون الْوَاو، وَهُوَ فِي قبائل فِي ربيعَة وَفِي الأزد وَفِي الربابُُ،.

     وَقَالَ  الْأَخْفَش، فِيمَا حَكَاهُ أَبُو حَاتِم السّخْتِيَانِيّ: جَاءَ حرف وَاحِد شَاذ على وزن: فعل، وَهُوَ: الدئل، بِضَم الدَّال وَكسر الْهمزَة، وَهُوَ دويبة صَغِيرَة تشبه ابْن عرس،.

     وَقَالَ  سِيبَوَيْهٍ: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب فِي الْأَسْمَاء وَلَا فِي الصِّفَات بنية على وزن: فعل، وَإِنَّمَا ذَلِك من بنية الْفِعْل.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أبي الْيَمَان أَيْضا، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس.
وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْوَركَانِي وَعَن أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن أبي الْيَمَان، هَذَا فِي تَرْجَمَة سِنَان.

وَفِي تَرْجَمَة أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد وَفِي الْمَغَازِي عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن عبد بن حميد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( غزا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل نجد) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: نَاحيَة نجد، وَهِي مَا بَين الْحجاز إِلَى الشَّام إِلَى العذيب، فالطائف من نجد وَالْمَدينَة من نجد وَأَرْض الْيَمَامَة والبحرين إِلَى عمان الْعرُوض.
.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: نجد بلد للْعَرَب، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: قبل أحد، وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن ذَلِك كَانَ فِي غزوته إِلَى غطفان لثنتي عشرَة مَضَت من صفر، وَقيل: فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ، وَهِي غَزْوَة ذِي أَمر، بِفَتْح الْهمزَة وَالْمِيم، وَهُوَ مَوضِع من ديار غطفان، وسماها الْوَاقِدِيّ: غَزْوَة أَنْمَار، وَيُقَال: كَانَ ذَلِك فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع.
قَوْله: ( فَلَمَّا قفل) ، أَي: رَجَعَ.
قَوْله: ( القائلة) ، مر تَفْسِيرهَا عَن قريب.
قَوْله: ( العضاه) ، بِكَسْر الْعين على وزن: شِيَاه، قَالَ ابْن الْأَثِير: العضاه شجر أم غيلَان، وكل شجر عَظِيم لَهُ شوك، الْوَاحِدَة عضة بِالتَّاءِ وَأَصلهَا: عضهة، وَقيل: واحدتها عضاهة.
قَوْله: ( تَحت سَمُرَة) ، السمرَة، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضم الْمِيم: وَاحِدَة السمر، وَهُوَ من شجر الطلح، وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: كُنَّا إِذا نزلنَا طلبنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعظم الشّجر، قَالَ: فنزلنا تَحت سَمُرَة، فجَاء رجل وَأخذ سَيْفه،.

     وَقَالَ : يَا مُحَمَّد من يَعْصِمك مني؟ فَأنْزل الله عز وَجل { وَالله يَعْصِمك من النَّاس} ( الْمَائِدَة: 76) .
قَوْله: ( وَإِذا عِنْده أَعْرَابِي) واسْمه: غورث، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الرَّاء وبالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن الْحَارِث، وَسَماهُ الْخَطِيب: غورك، بِالْكَاف مَوضِع الثَّاء،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: غويرث بِالتَّصْغِيرِ، وَذكر عِيَاض أَنه مضبوط عِنْد بعض رُوَاة البُخَارِيّ بِعَين مُهْملَة، قَالَ: وَصَوَابه الْمُعْجَمَة، قَالَ الجيلاني: هُوَ فوعل من الْغَوْث وَهُوَ الْجُوع،.

     وَقَالَ  ابْن إِسْحَاق: لما نزل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت شَجَرَة نزع ثوبيه ونشرهما على الشَّجَرَة ليجفا من مطر أَصَابَهُ، واضطجع تحتهَا، فَقَالَ الْكفَّار لدعثور، وَكَانَ سيدهم وَكَانَ شجاعاً: قد انْفَرد مُحَمَّد فَعَلَيْك بِهِ، فَأقبل وَمَعَهُ صارم حَتَّى قَامَ على رَأسه فَقَالَ: من يمنعك مني؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَدفع جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي صَدره فَوَقع السَّيْف من يَده، فَأَخذه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: من يمنعك أَنْت مني الْيَوْم؟ قل: لَا أحد، فَقَالَ: قُم فَاذْهَبْ لشأنك، فَلَمَّا ولى قَالَ: أَنْت خير مني، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنا أَحَق بذلك مِنْك، ثمَّ أسلم بعد.
وَفِي لفظ، قَالَ: وَأَنا أشهد أَن لَا إلاه إلاَّ الله وَأَنَّك رَسُول الله، ثمَّ أَتَى قومه فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام.
وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: فَسقط السَّيْف من يَد الْأَعرَابِي، فَأَخذه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

     وَقَالَ : من يمنعك مني؟ قَالَ: كن خير آخذ.
قَالَ: فتسلم؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن أعاهدك على أَن لَا أقاتلك وَلَا أكون مَعَ قوم يقاتلونك، فخلَّى سَبيله، فَأتى أَصْحَابه فَقَالَ: جِئتُكُمْ من عِنْد خير النَّاس.
قَوْله: ( اخْتَرَطَ) ، أَي: سل، وَأَصله من خرطت الْعود أخرطه وأخرطه خرطاً، قَوْله: ( صَلتا) رُوِيَ بِالنّصب وبالرفع.
فَوجه النصب أَن يكون على الْحَال، أَي: مُصْلِتًا وَوجه الرّفْع على أَنه خبر الْمُبْتَدَأ، وَهُوَ قَوْله: سيف، وَفِي يَده، مُتَعَلق بِهِ، وَفِي ( التَّوْضِيح) : الْمَشْهُور فتح لَام: صلت، وَذكر القعْنبِي أَنَّهَا تكسر فِي لُغَة،.

     وَقَالَ  ابْن عديس: ضربه بِالسَّيْفِ صَلتا وصلتا بِالْفَتْح وَالضَّم، أَي مُجَردا، يُقَال: سيف صلت ومنصلت وأصلت: متجرد ماضٍ، قَوْله: ( فَقَالَ: من يمنعك مني؟) اسْتِفْهَام يتَضَمَّن النَّفْي، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا مَانع لَك مني.
قَوْله: ( الله) ، أَي: يمنعك الله، قَالَه ثَلَاث مَرَّات، فَلم يبالِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقوله وَلَا عرج عَلَيْهِ ثِقَة بِاللَّه وتوكلاً عَلَيْهِ، فَلَمَّا شَاهد هَذَا الرجل تِلْكَ الْقُوَّة الَّتِي فَارق بهَا عَادَة النَّاس فِي مثل تِلْكَ الْحَالة، تحقق صدقه، وَعلم أَنه لَا يصل إِلَيْهِ بِضَرَر، وَهَذَا من أعظم الخوارق للْعَادَة، فَإِنَّهُ عَدو مُتَمَكن بِيَدِهِ سيف مَشْهُور وَمَوْت حَاضر، وَلَا تغير لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِحَال وَلَا حصل لَهُ روع وَلَا جزع، وَهَذَا من أعظم الكرامات، وَمَعَ اقتران التحدي يكون من أوضح المعجزات.
قَوْله: ( وَلم يُعَاقِبهُ) أَي: وَلم يُعَاقب النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرجلَ الْمَذْكُور.
قَوْله: ( وَجلسَ) ، حَال من الْمَفْعُول.

وَفِي الحَدِيث تفرق النَّاس عَن الإِمَام فِي القائلة وطلبهم الظل والراحة، وَلَكِن لَيْسَ ذَلِك فِي غير رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ بعد أَن يبْقى مَعَه من يَحْرُسهُ من أَصْحَابه، لِأَن الله تَعَالَى قد كَانَ ضمن لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعصمة.
وَفِيه: أَن حراسة الإِمَام فِي القائلة وَفِي اللَّيْل من الْوَاجِب على النَّاس، وَأَن تضييعه من الْمُنكر وَالْخَطَأ.
وَفِيه: جَوَاز نوم الْمُسَافِر إِذا أَمن، وَأَن الْمُجَاهِد أَيْضا إِذا أَمن نَام وَوضع سلاحه، وَإِن خَافَ استوفز.
وَفِيه: دُعَاء الإِمَام لأتباعه إِذا أنكر شخصا.
وَفِيه: ترك الإِمَام معاقبة من جَفا عَلَيْهِ وتوعده، إِن شَاءَ، وَإِن أحب الْعَفو عَفا.
وَفِيه: صَبر سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصفحه عَن الْجُهَّال.