فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {وكان الله سميعا بصيرا} [النساء: 134]

( بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} )

أَي: هَذَا بابُُ فِي قَول الله تَعَالَى: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} غَرَضه من هَذَا الرَّد على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ قَالُوا: إِنَّه سميع بِلَا سمع، وعَلى من قَالَ: معنى السَّمِيع الْعَالم بالمسموعات لَا غير، وَقَوْلهمْ هَذَا يُوجب مساواته تَعَالَى للأعمى والأصم الَّذِي يعلم أَن السَّمَاء خضراء وَلَا يَرَاهَا، وَأَن فِي الْعَالم أصوتاً وَلَا يسْمعهَا، وفساده ظَاهر، فَوَجَبَ كَونه سميعاً بَصيرًا مُفِيدا أمرا زَائِدا على مَا يُفِيد كَونه عَالما.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: السَّمِيع من لَهُ سمع يدْرك بِهِ المسموعات، والبصير من لَهُ بصر يدْرك بِهِ المرئيات، قيل: كَيفَ يتَصَوَّر السّمع لَهُ وَهُوَ عبارَة عَن وُصُول الْهَوَاء المتموج إِلَى العصب المفروش فِي مقعر الصماخ؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَيْسَ السّمع ذَلِك بل هُوَ حَالَة يخلقها الله فِي الْحَيّ، نعم جرت سنة الله تَعَالَى أَنه لَا يخلقه عَادَة إلاَّ عِنْد وُصُول الْهَوَاء إِلَيْهِ، وَلَا مُلَازمَة عقلا بَينهمَا، وَالله تَعَالَى يسمع المسموع بِدُونِ هَذِه الوسائط العادية.
كَمَا أَنه يرى بِدُونِ المواجهة والمقابلة وَخُرُوج الشعاع وَنَحْوه من الْأُمُور الَّتِي لَا يحصل الإبصار عَادَة إلاَّ بهَا.

وَقَالَ الأعْمَشُ: عَنْ تَميمٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ قالَتِ: الحَمْدُ لله الّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْواتَ، فأنْزلَ الله تَعَالَى عَلى النبيِّ { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
أَي:.

     وَقَالَ  سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن تَمِيم بن سَلمَة الْكُوفِي التَّابِعِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: ... إِلَى آخِره، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَحْمد وَالنَّسَائِيّ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور هُنَا، وَأخرجه ابْن مَاجَه من رِوَايَة أبي عُبَيْدَة بن معن عَن الْأَعْمَش بِلَفْظ: تبَارك الَّذِي وسع سَمعه كل شي، إِنِّي أسمع كَلَام خَوْلَة، وَيخْفى عَليّ بعضه وَهِي تَشْتَكِي زَوجهَا إِلَى رَسُول الله وَهِي تَقول: أكل شَبابُُِي وَنَثَرت لَهُ بَطْني حَتَّى إِذا كَبرت سني وَانْقطع وَلَدي ظَاهر مني، اللَّهُمَّ إِنِّي أشكوا إِلَيْك، فَمَا بَرحت حَتَّى نزل جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، بهؤلاء الْآيَات: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} انْتهى.
وَمعنى قَول عَائِشَة أوعى: وسع سَمعه الْأَصْوَات، لَا أَنه اتَّسع صَوته لَهَا، لِأَن الْمَوْصُوف بِالسَّعَةِ لَا يَصح وَصفه بالضيق بَدَلا مِنْهُ، والوصفان جَمِيعًا من صِفَات الْأَجْسَام فيستحيل هَذَا فِي حق الله فَوَجَبَ صرف قَوْلهَا عَن ظَاهره إِلَى مَا اقْتَضَاهُ صِحَة الدَّلِيل.



[ قــ :6992 ... غــ :7386 ]
- حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْب، حدّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عنْ أيُّوبَ، عنْ أبي عُثْمانَ، عنْ أبي مُوساى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ فِي سَفَرٍ، فَكنَّا إِذا عَلَوْنا كَبَّرْنا، فَقَالَ: أرْبَعُوا على أنْفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلَا غائِباً، تَدْعُونَ سَمِيعاً بَصِيراً قَرِيباً ثُمَّ أتَى عَليَّ، وَأَنا أقُولُ فِي نَفْسِي: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، فَقَالَ لي: يَا عَبْدَ الله بنَ قَيْسٍ قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قوَّةَ إلاَّ بِالله، فإنّها كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ أوْ قَالَ: أَلا أدُلُّكَ بِهِ؟
ا
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: تدعون سميعاً بَصيرًا
وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بِفَتْح النُّون، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ واسْمه عبد الله بن قيس.

والْحَدِيث مضى فِي كتاب الدَّعْوَات فِي: بابُُ الدُّعَاء إِذا علا عقبَة، وَأخرجه هُنَاكَ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد عَن سُلَيْمَان بن حَرْب إِلَى آخِره، وبعين هَذَا الْمَتْن، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: أربعوا بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: ارْفَعُوا وَلَا تبالغوا فِي الْجَهْر، وَحكى ابْن التِّين أَنه وَقع فِي رِوَايَة بِكَسْر الْبَاء، وَأَنه فِي كتب أهل اللُّغَة وَبَعض كتب الحَدِيث بِفَتْحِهَا.
قلت: الْفَتْح هُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ من الْكَلِمَة الَّتِي فِي لَام فعله حرف حلق وَلَا يَجِيء مضارعه إلاَّ بِفَتْح عين الْفِعْل.
قَوْله: أَصمّ ويروى: أصماً، وَلَعَلَّه لمناسبة: غَائِبا.
قَوْله: وَلَا غَائِبا قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمُنَاسب، وَلَا أعمى، وَقلت: الْأَعْمَى غَائِب عَن الإحساس بالبصر وَالْغَائِب كالأعمى فِي عدم رُؤْيَة ذَلِك المبصر، فنفى لَازمه ليَكُون أبلغ وأعم، وَزَاد: الْقَرِيب، إِذْ رب سامع وباصر لَا يسمع وَلَا يبصر لبعده عَن المحسوس، فَأثْبت الْقَرِيب لتبين وجود الْمُقْتَضى وَعدم الْمَانِع، وَلم يرد بِالْقربِ قرب الْمسَافَة لِأَنَّهُ تَعَالَى منزه عَن الْحُلُول فِي مَكَان بل الْقرب بِالْعلمِ أَو هُوَ مَذْكُور عل سَبِيل الِاسْتِعَارَة.
قَوْله: كنز أَي: كالكنز فِي نفاسته.
أَو قَالَ شكّ من الرَّاوِي أَي: أَلا أدلك على كلمة هِيَ كنز بِهَذَا الْكَلَام.

وَقَالَ ابْن بطال: فِي هَذَا الحَدِيث: نفي الآفة الْمَانِعَة من السّمع، والآفة الْمَانِعَة من الْبَصَر وَإِثْبَات كَونه سميعاً بَصيرًا قَرِيبا مُسْتَلْزم أَن لَا يَصح أضداد هَذِه الصِّفَات عَلَيْهِ.





[ قــ :6993 ... غــ :7387 ]
- حدّثنا يَحْياى بنُ سُلَيْمان، حدّثني ابْن وَهْبٍ، أَخْبرنِي عَمْرٌ و، عنْ يَزِيدَ عنْ أبي الخَيْرِ سَمِعَ عَبْدَ الله بنَ عَمْرِو أنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ للنَّبيِّ يَا رسولَ الله عَلِّمْنِي دُعاءً أدعُو بِهِ فِي صَلاَتِي.
قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاّ أنْتَ فاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ
الحَدِيث 7388: انْظُر الحَدِيث 834 وطرفه
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن بعض الذُّنُوب مِمَّا يسمع وَبَعضهَا مِمَّا يبصر لم تقع مغفرته إلاَّ بعد الإسماع والإبصار.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: مناسبته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن دُعَاء أبي بكر بِمَا علمه النَّبِي يَقْتَضِي أَن الله تَعَالَى سمع لدعائه ويجازيه عَلَيْهِ، وَبِمَا ذكرنَا رد على من قَالَ: حَدِيث أبي بكر لَيْسَ مطابقاً للتَّرْجَمَة إِذْ لَيْسَ فِيهِ ذكر صِفَتي السّمع وَالْبَصَر.

وَيحيى بن سُلَيْمَان بن يحيى أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي نزل بِمصْر وَمَات بهَا سنة سبع أَو ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن عَمْرو بن الْحَارِث الْمصْرِيّ عَن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي حبيب: وَاسم أبي حبيب سُوَيْد عَن أبي الْخَيْر مرْثَد بِفَتْح الْمِيم وبالثاء الْمُثَلَّثَة ابْن عبد الله، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.

والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بابُُ الدُّعَاء قبل السَّلَام، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: كثيرا بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ الْمَشْهُور من الرِّوَايَات، وَوَقع للقابسي بِالْبَاء الْمُوَحدَة.
قَوْله: مغْفرَة أَي: عَظِيمَة، وَلَفظ: من عنْدك أَيْضا يدل على التَّعْظِيم لِأَن عَظمَة الْمُعْطِي تَسْتَلْزِم عَظمَة الْعَطاء.





[ قــ :6994 ... غــ :7389 ]
- حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ، أخبرنَا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبرنِي يُونُسُ، عنِ ابنِ شِهابٍ، حدّثني عُرْوَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، حَدَّثَتْهُ، قَالَ النَّبيُّ إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، نادانِي قَالَ: إنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ
انْظُر الحَدِيث 33
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله مَشْهُورُونَ قد ذكرُوا غير مرّة.

والْحَدِيث قد مضى بأتم مِنْهُ فِي بَدْء الْخلق.

قَوْله: وَمَا ردوا عَلَيْك أَي: أجابوك، أَو ردهم الدّين عَلَيْك وَعدم قبولهم الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا ناداه بعد رُجُوعه، من الطَّائِف ويأسه من أَهله.