فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب تمني الشهادة

( بابُُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان جَوَاز تمني الشَّهَادَة.



[ قــ :2670 ... غــ :2797 ]
- حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ أخبرَنا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ والَّذيِ نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا أنَّ رِجالاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أنْفُسُهُمْ أنْ يتَخَلَّفُوا عَنِّي ولاَ أجِدُ مَا أحْمِلُهُم عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عنُ سريَّةٍ تَغْزو فِي سَبِيلِ الله والَّذي نَفْسي بِيَدِهِ لوَدَدْتُ أنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ أحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، فَإِن فِيهِ تمني الشَّهَادَة، وَهَذَا السَّنَد بِعَيْنِه قد مضى غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع.
وَهَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة من وَجه وَمضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بابُُ الْجِهَاد من الْإِيمَان.

قَوْله: ( وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَن رجَالًا من الْمُؤمنِينَ لَا تطيب أنفسهم) ، وَفِي رِوَايَة أبي زرْعَة وَأبي صَالح: ( لَوْلَا أَن أشق على أمتِي) ، وَرِوَايَة الْبابُُ تفسر المُرَاد بالمشقة الْمَذْكُورَة، وَهِي أَن نُفُوسهم لَا تطيب بالتخلف، وَلَا يقدرُونَ على التأهب لعجزهم عَن آلَة السّفر من مركوب وَغَيره، وَتعذر وجوده عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصرح بذلك فِي رِوَايَة هما، وَلَفظه: ( وَلَكِن لَا أجد سَعَة فأحملهم، وَلَا يَجدونَ سَعَة فيتبعوني، وَلَا تطيب أنفسهم أَن يقعدوا بعدِي) .
قَوْله: ( عَن سَرِيَّة) ، أَي: قِطْعَة من الْجَيْش يبلغ أقصاها أَرْبَعمِائَة تبْعَث إِلَى الْعَدو، وَجمعه: السَّرَايَا، سموا بذلك لأَنهم يكونُونَ خُلَاصَة الْعَسْكَر وخيارهم، من الشَّيْء السّري: النفيس.
قَوْله: ( وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْت) وَوَقع فِي رِوَايَة أبي زرْعَة بِلَفْظ: ( ولددت أَنِّي أقتل) ، بِحَذْف الْقسم.
قَوْله: ( أَنِّي أقتل فِي سَبِيل الله) ، اسْتشْكل بَعضهم صُدُور هَذَا الْيَمين من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَ علمه بِأَنَّهُ لَا يقتل، وَأجَاب ابْن التِّين بِأَن ذَلِك لَعَلَّه كَانَ قبل نزُول قَوْله تَعَالَى: { وَالله يَعْصِمك من النَّاس} ( الْمَائِدَة: 76) .
وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن نزُول هَذِه الْآيَة كَانَ فِي أَوَائِل مَا قدم الْمَدِينَة، وَقد صرح أَبُو هُرَيْرَة بِسَمَاعِهِ من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ قدومه فِي أَوَائِل سنة سبع من الْهِجْرَة.
وَأجَاب بَعضهم بِأَن تمني الْفضل وَالْخَيْر لَا يسْتَلْزم الْوُقُوع.
قلت: أَو هُوَ ورد على الْمُبَالغَة فِي فضل الْجِهَاد وَالْقَتْل فِيهِ، وَسَيَجِيءُ عَن أنس فِي الشَّهِيد: ( أَنه يتَمَنَّى أَن يرجع إِلَى الدُّنْيَا فَيقْتل عشر مَرَّات لما يرى من الْكَرَامَة) ، وروى الْحَاكِم بِسَنَد صَحِيح عَن جَابر: كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ذكر أَصْحَاب أحد، قَالَ: ( وَالله لَوَدِدْت أَنِّي غودرت مَعَ أَصْحَابِي بفحص الْجَبَل) ، وفحص الْجَبَل مَا بسط مِنْهُ وكشف من نواحيه.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَمَنَّى من أَفعَال الْخَيْر مَا يعلم أَنه لَا يعطاه، حرصاً مِنْهُ على الْوُصُول إِلَى أَعلَى دَرَجَات الشَّاكِرِينَ، وبذلاً لنَفسِهِ فِي مرضاة ربه، وإعلاء كلمة دينه، ورغبته فِي الإزدياد من ثَوَاب ربه، ولتتأسي بِهِ أمته فِي ذَلِك، وَقد يُثَاب الْمَرْء على نِيَّته، وَسَيَأْتِي فِي كتاب التَّمَنِّي مَا يتمناه الصالحون مِمَّا لَا سَبِيل إِلَى كَونه.
وَفِيه: إِبَاحَة الْقسم بِاللَّه على كل مَا يَعْتَقِدهُ الْمَرْء بِمَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى يَمِين وَمَا لَا يحْتَاج، وَكَذَا مَا كَانَ يَقُول فِي كَلَامه: ( لَا ومقلب الْقُلُوب) ، لِأَن فِي الْيَمين بِاللَّه توحيداً وتعظيماً لَهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يكره تعمد الْحِنْث.
وَفِيه: أَن الْجِهَاد لَيْسَ بِفَرْض معِين على كل أحد، وَلَو كَانَ معينا مَا تخلف الشَّارِع وَلَا أَبَاحَ لغيره التَّخَلُّف عَنهُ، وَلَو شقّ على أمته إِذا كَانُوا يطيقُونَهُ، هَذَا إِذا كَانَ الْعَدو لم يفجأ الْمُسلمين فِي دَارهم وَلَا ظهر عَلَيْهِم وإلاَّ فَهُوَ فرض عين على كل من لَهُ قُوَّة.
وَفِيه: أَن الإِمَام والعالم يجوز لَهما ترك فعل الطَّاعَة إِذا لم يطق أَصْحَابه ونصحاؤه على الْإِتْيَان بِمثل مَا يقدر عَلَيْهِ، هُوَ مِنْهَا إِلَى وَقت قدرَة الْجَمِيع عَلَيْهَا، وَذَلِكَ من كرم الصُّحْبَة وآداب الْأَخْلَاق.
وَفِيه: عظم فضل الشَّهَادَة.





[ قــ :671 ... غــ :798 ]
- حدَّثنا يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ الصَّفَارُ قل حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ علَيَّةَ عنْ أيُّوبَ عنْ حُمِيدِ بنِ هِلاَلٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ خطَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أخذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فأصِيبَ ثُمَّ أخَذَهَا جَعْفَرٌ فأصِيبَ ثُمَّ أخَذَهَا عَبْدُ الله بنُ رَوَاحَةَ فأصِيبَ ثُمَّ أخَذَهَا خالِدُ بنُ الوَلِيدِ عنْ غَيْرِ إمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ وقالَ مَا يَسُرُّنَا أنَّهُمْ عنْدَنا قَالَ أيُّوبُ أوْ قالَ مَا يَسُرُّهُمْ أنَّهُمْ عِنْدَنا وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( مَا يسرهم أَنهم عندنَا) وَذَلِكَ أَنهم لما رَأَوْا من الْكَرَامَة بِالشَّهَادَةِ فَلَا يعجبهم أَن يعودوا إِلَى الدُّنْيَا، كَمَا كَانُوا من غير أَن يستشهدوا مرّة أُخْرَى، ويوسف بن يَعْقُوب الصفار، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْفَاء وبالراء: الْكُوفِي، مَاتَ فِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلم يخرج لَهُ البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَحميد بن بِلَال ابْن هُبَيْرَة الْعَدوي الْبَصْرِيّ.

وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بابُُ الرجل ينعى إِلَى أهل الْمَيِّت، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: ( زيد) ، هُوَ زيد بن حَارِثَة، وجعفر هُوَ ابْن أبي طَالب، وَعبد الله بن رَوَاحَة، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة.
قَوْله: ( عَن غير إمرة) بِكَسْر الْهمزَة، أَي: بِغَيْر أَن يَجعله أحد أَمِيرا لَهُم.
قَوْله: ( قَالَ أَيُّوب) هُوَ الرَّاوِي الْمَذْكُور.
قَوْله: ( أَو قَالَ) ، شكّ من أَيُّوب.
قَوْله: ( تَذْرِفَانِ) ، أَي: تسيلان دمعاً، وَالْجُمْلَة حَالية.


( بابُُ فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي سَبِيلِ الله فَمَاتَ فَهْوَ مِنْهُمْ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من يصرع، وَكلمَة: من، مَوْصُولَة تَضَمَّنت معنى الشَّرْط فَلذَلِك دخلت الْفَاء فِي جوابها، وَهُوَ قَوْله: فَهُوَ مِنْهُم، أَي: من الْمُجَاهدين.
قَوْله: ( فَمَاتَ) ، عطف على قَوْله: يصرع، وَعطف الْمَاضِي على الْمُضَارع قَلِيل.
وَقَوله: ( فَمَاتَ) ، سقط من رِوَايَة النَّسَفِيّ.

وقَوْلِ الله تعَالَى { ومنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرَاً إلَى الله ورسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ أجْرُهُ علَى الله} ( النِّسَاء: 001) .
وَقَعَ وجبَ

وَقَول الله، مجرور عطفا على قَوْله: فضل من يصرع،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: روى هشيم عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير، فِي قَوْله: { وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله} ( النِّسَاء: 001) .
قَالَ: كَانَ رجل من خُزَاعَة يُقَال لَهُ ضَمرَة بن الْعيص بن ضَمرَة بن زنباع الْخُزَاعِيّ، لما أمروا بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَ مَرِيضا، فَأمر أَهله أَن يفرشوا لَهُ على سَرِير ويحملوه إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَفَعَلُوا، فَأَتَاهُ الْمَوْت وَهُوَ بِالتَّنْعِيمِ، فَنزلت هَذِه الْآيَة.
وَقد قيل فِي ضَمرَة هَذَا: أَبُو ضَمرَة بن الْعيص، قَالَ أَبُو عمر: وَالصَّحِيح أَنه ضَمرَة لَا أَبُو ضَمرَة، روينَا عَن زيد بن حَكِيم عَن الحكم بن أبان قَالَ: سَمِعت عِكْرِمَة يَقُول: اسْم الَّذِي خرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ضَمرَة بن الْعيص، قَالَ عِكْرِمَة: طلبت اسْمه أَربع عشرَة سنة حَتَّى وقفت عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة بَين التَّرْجَمَة وَالْآيَة؟ قلت: يُدْرِكهُ الْمَوْت، أَعم من أَن يكون بقتل، أَو وُقُوع من دَابَّته أَو غير ذَلِك.
قَوْله: ( وَقع وَجب) ، لم يثبت هَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَثَبت لغيره، وَقد فسره أَبُو عُبَيْدَة هَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فقد وَقع أجره على الله} ( النِّسَاء: 001) .
أَي: وَجب ثَوَابه.



[ قــ :671 ... غــ :800 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يوسُفَ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بنِ حَبَّانَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عَن خالَتِهِ أمِّ حرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ قالَتْ نامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْماً قَرِيباً مِنِّي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ فَقُلْتُ مَا أضْحَكَكَ قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا علَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا البَحْرَ الأخْضَرَ كالمُلُوكِ علَى الأسِرَّةِ قالَتْ فادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فدَعَا لَهَا ثُمَّ نامَ الْثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا فقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا فأجابَهَا مِثْلَها فقالَتِ ادْعُ الله أنْ يَجْعَلنِي مِنْهُمْ فَقَالَ أنْتِ منَ الأوَّلِينَ فخَرَجَتْ معَ زَوْجِها عُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ غازِياً أوَّلَ مَا رَكِبَ المسْلِمُونَ البَحْرَ معَ مُعَاوِيَةَ فلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قافِلِينَ فنَزَلُوا الشَّامَ فقُرِّبَتْ إلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فصَرَعَتْهَا فَماتَتْ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فصرعتها فَمَاتَتْ) ، لِأَنَّهَا صرعت فِي سَبِيل الله تَعَالَى.
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَمُحَمّد بن يحيى ابْن حبَان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، مر فِي الْوضُوء، وَفِي الْإِسْنَاد تابعيان: يحيى وَمُحَمّد، وصحابيان: أنس وخالته، وَقد مر الحَدِيث عَن قريب فِي: بابُُ الدُّعَاء بِالْجِهَادِ، وروى ابْن وهب من حَدِيث عقبَة بن عَامر مَرْفُوعا: ( من صرع عَن دَابَّته فِي سَبِيل الله فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيد) ، وَلما لم يكن هَذَا الحَدِيث على شَرطه أَشَارَ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة وَلم يُخرجهُ.
فَإِن قيل: قَالَ فِي: بابُُ العاء بِالْجِهَادِ: فصرعت عَن دابتها، أَي: بعد الرّكُوب، وَهنا: فقربت دَابَّة لتركبها فصرعتها، أَي: قبل الرّكُوب.
أُجِيب: بِأَن الْفَاء فصيحة، أَي: فركبتها فصرعتها.
قَوْله: ( فَلَمَّا انصرفوا من غزوهم قافلين) أَي: رَاجِعين من غزوهم.
قَوْله: ( فنزلوا الشَّام) أَي: متوجهين إِلَى نَاحيَة الشَّام.