فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: هل يستخرج السحر؟

( بابٌُ هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان: هَل يسْتَخْرج السحر، إِنَّمَا ذكره بِحرف الِاسْتِفْهَام إِشَارَة إِلَى الِاخْتِلَاف فِيهِ.

وَقَالَ قتادَةُ:.

قُلْتُ لِسَعِيد بنِ المُسَيَّبِ: رجُلٌ بِهِ طِبُّ أوْ يُؤَخذُ عَن امْرَأتِهِ أيُحَلُّ عَنْهُ أوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: لَا بأْسَ بِهِ، إنَّما يُرِيدُونَ بِهِ الإصْلاحَ، فَأَما مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ.

لما ذكر التَّرْجَمَة بالاستفهام أورد الَّذِي روى عَن قَتَادَة إِشَارَة إِلَى تَرْجِيح جَوَاز اسْتِخْرَاج السحر وعلقه عَن قَتَادَة، وَوَصله أَبُو بكر الْأَثْرَم فِي ( كتاب السّنَن) من طَرِيق أبان الْعَطَّار مثله.
قَوْله: ( بِهِ طب) بِكَسْر الطَّاء وتشديدذ الْبَاء أَي: سحر.
قَوْله: ( أَو يُؤْخَذ) بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْهمزَة على الْوَاو وَتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالذال الْمُعْجَمَة أَي: يحبس الرجل عَن مُبَاشرَة امْرَأَته وَلَا يصل إِلَى جِمَاعهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور بِعقد الرجل،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الأخذة بِالضَّمِّ الرّقية كالسحر، أَو حرزة يُؤْخَذ بهَا الرِّجَال عَن النِّسَاء من التأخيذ.
قَوْله: ( أَيحلُّ؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( أَو ينشر؟) بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة وبالراء على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا: من التنشير من النشرة، بِضَم النُّون وَسُكُون الشين وَهِي كالتعويذ والرقية يعالج بِهِ الْمَجْنُون ينشر عَنهُ تنشيراً، وَكلمَة: أَو، يحْتَمل أَن تكون شكا وَأَن تكون تنوعاً شَبِيها باللف والنشر، بِأَن يكون الْحل فِي مُقَابلَة الطِّبّ والتنشير فِي مُقَابلَة التأخيذ.
قَوْله: ( فَأَما) مَا ينفع، ويروى: مَا ينفع النَّاس فَلم ينْه عَنهُ على صِيغَة الْمَجْهُول.



[ قــ :5456 ... غــ :5765 ]
- حدّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمَعْتُ ابنَ عُيَيْنَةَ، يَقُولُ: أوَّلُ مَنْ حَدَّثنا بِهِ ابنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ: حَدَّثَني آلُ عُرْوَةَ عنْ عُرْوَةَ، فَسَألْتُ هِشاماً عَنْهُ فَحَدَّثَنا عنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُحِرَ حتَّى كَانَ يَراى أنَّهُ يَأْتِي النِّساءَ وَلَا يَأتِيهِنَّ، قَالَ سفْيانُ: وهذَا أشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذا كانَ كَذاا، فَقَالَ: يَا عائِشَةُ! أعَلِمْتِ أنَّ الله قَدْ أفْتانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فيهِ؟ أتانِي رَجلانِ فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأسِي والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأسِي لِلآخَرِ: مَا بالُ الرَّجُل؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ.
قَالَ: ومَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بنُ أعْصَمَ، رَجُلٌ مِنْ بَني زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كانَ مُنافِقاً قَالَ: وفِيم؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ ومُشاقَةٍ.
قَالَ: وأينَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرٍ ذَرْوانَ.
قَالَتْ: فأتَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البِئْرَ حتَّى اسْتَخْرَجَهُ، فَقَالَ: هاذِهِ البِئْرُ الَّتي أُرِيتُها وكأنَّ ماءَها نُقاعَةُ الحِنَّاءِ وكأنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينِ.
قَالَ: فاسْتُخْرِج.
قالَتْ: فَقُلْتُ: أفَلا؟ أيْ: تَنَشَّرْتَ.
فَقَالَ: أما وَالله فَقَدْ شَفانِي الله وأكْرَهُ أنْ أُثِيرَ عَلى أحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرّاً.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( حَتَّى استخرجه) وَفِي قَوْله: ( فاستخرج) وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي: بابُُ السحر، عَن قريب أخرجه عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن آل عُرْوَة إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.

قَوْله: ( قَالَ سُفْيَان) هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَهُوَ مَوْصُول بالسند الْمَذْكُور.
قَوْله: ( تَحت راعوفة) هَكَذَا بِزِيَادَة ألف فِي رعوفة رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: تَحت رعوفة،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: راعوفة رِوَايَة الْأصيلِيّ فَقَط، وَهُوَ عكس مَا قَالَه الْأَكْثَرُونَ، وَوَقع فِي مُرْسل عمر بن الحكم: ارعوفة، وَوَقع عِنْد أَحْمد: رعوثة، بثاء مُثَلّثَة بدل الْفَاء وَالْمَشْهُور فِي الرِّوَايَات راعوفة،.
وَهُوَ حجر يوضع على رَأس الْبِئْر لَا يُسْتَطَاع قلعه يقوم عَلَيْهِ المستقي، وَقد يكون فِي أَسْفَل الْبِئْر إِذا حفرت.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد: هِيَ صَخْرَة تتْرك فِي أَسْفَل الْبِئْر إِذا حفر تجْلِس عَلَيْهَا الَّذِي ينظف الْبِئْر، وَقيل: هِيَ حجر تَأتي فِي بعض الْبِئْر صلباً لَا يُمكنهُم حفره فَيتْرك على حَاله، وَفِي ( التَّلْوِيح) .
راعوفة الْبِئْر وراعوفها وأرعوفتها.
حجر تَأتي على رَأسهَا إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ أَولا.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ: قَالَ شمر عَن خَالِد: راعوفة الْبِئْر النَّظَافَة، قَالَ: وَهِي مثل عين على قدر حجر الْعَقْرَب، نَيط فِي أَعلَى الرّكْبَة، فيجاوزونها فِي الْحفر خمس قيم، وَأكْثر فَرُبمَا وجدوا مَاء كثيرا، قَالَ شمر: من ذهب بالراعوفة إِلَى النَّظَافَة فَكَأَنَّهُ أَخذه من رُعَاف الْأنف وَهُوَ سيلان دَمه وقطراته، وَمن ذهب بالراعوفة إِلَى الْحجر الَّذِي يتَقَدَّم طي الْبِئْر فَهُوَ من رعف الرجل أَو الْفرس إِذا تقدم وَسبق، وَكَذَلِكَ: استرعف.
قَوْله: ( فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبِئْر حَتَّى استخرجه) إِلَى أَن قَالَ: ( فاستخرج) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس: قلت: يَا رَسُول الله { أَفلا استخرجته؟ وَفِي رِوَايَة وهيب: فَقلت: يَا رَسُول الله} فَأخْرجهُ للنَّاس.
وَفِي رِوَايَة ابْن نمير: أَفلا أخرجته؟ قَالَ: لَا، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي أُسَامَة الَّتِي تَأتي بعد هَذَا الْبابُُ.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: ذكر الْمُهلب أَن الروَاة اخْتلفُوا على هِشَام فِي إِخْرَاج السحر الْمَذْكُور فأثبته سُفْيَان، وَجعل سُؤال عَائِشَة عَن النشرة ونفاه عِيسَى بن يُونُس، وَجعل سؤالها عَن الاستخراج وَلم يذكر الْجَواب.
وَأجِيب: بِأَن رِوَايَة سُفْيَان مر جحة لتقدمه فِي الضَّبْط والإتقان، وَلَا سِيمَا أَنه كرر اسْتِخْرَاج السحر فِي رِوَايَته مرَّتَيْنِ، فَبعد من الْوَهم وَزَاد ذكر النشرة، وَالزِّيَادَة مِنْهُ مَقْبُولَة.
وَقيل: اسْتِخْرَاج الْمَنْفِيّ غير اسْتِخْرَاج الْمُثبت فِي رِوَايَة سُفْيَان، فالمثبت هُوَ اسْتِخْرَاج الجف والمنفي اسْتِخْرَاج مَا حواه، وَوَقع فِي رِوَايَة عمْرَة: فاستخرج جف طلعة من تَحت راعوفة.
فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: أَفلا أخرجته، وَوَقع عِنْد مُسلم عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة: أَفلا أحرقته؟ بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْقَاف من الإحراق قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: كلتا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَة، كَأَنَّهَا أَي: كَأَن عَائِشَة طلبت أَن يُخرجهُ ثمَّ يحرقه، وَقيل: رِوَايَة أبي كريب شَاذَّة وَأغْرب من هَذَا أَن الْقُرْطُبِيّ جعل الضَّمِير فِي: أحرقته، للبيد بن أعصم.
قَوْله: ( الَّتِي أريتها) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: فَقلت: أَفلا؟ ( أَي: تنشرت) وَوَقع فِي رِوَايَة الْحميدِي: فَقلت: يَا رَسُول الله! فَهَلا؟ قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي: تنشرت.
قَوْله: ( أَي تنشرت) تَفْسِير لقَوْله: ( أَفلا) فَكَانَ سُفْيَان عين الَّذِي أَرَادَت بقولِهَا: أَفلا، فَلم يستحضر اللَّفْظ فَذكره بِالْمَعْنَى،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قَوْله: ( أَفلا.
أَي: تنشرت)
بِزِيَادَة كلمة التَّفْسِير، ويروى أَفلا آتِي بنشرة، بِلَفْظ الْمَجْهُول ماضي الْإِتْيَان، ثمَّ قَالَ: والنشرة بِضَم النُّون وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، وَهِي الرّقية الَّتِي بهَا يحل عقد الرجل عَن مُبَاشرَة الْأَهْل، وَهَذَا يدل على جَوَاز النشرة، وَأَنَّهَا كَانَت مَشْهُورَة عِنْدهم وَمَعْنَاهَا اللّغَوِيّ ظَاهر فِيهَا، وَهُوَ نشر مَا طوى السَّاحر، وتفريق مَا جمعه.
فَإِن قلت: روى عبد الرَّزَّاق عَن عقيل بن معقل عَن همام بن مُنَبّه قَالَ: سُئِلَ جَابر بن عبد الله عَن النشرة؟ فَقَالَ: من عمل الشَّيْطَان قلت: ترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِنْكَار على عَائِشَة لما ذكرت لَهُ النشرة دَلِيل الْجَوَاز، وَمَا رُوِيَ عَن جَابر فَمَحْمُول على نشرة بِأَلْفَاظ لَا يعلم مَعَانِيهَا.
.

     وَقَالَ  الشّعبِيّ: لَا بَأْس بالنشرة الْعَرَبيَّة الَّتِي لَا تضر إِذا وطِئت، وَهِي أَن يخرج الْإِنْسَان فِي مَوضِع عضاء فَيَأْخُذ عَن يَمِينه وشماله من كل ثمَّ بذيبه وَيقْرَأ فِيهِ، ثمَّ يغْتَسل بِهِ، وَفِي كتب وهب بن مُنَبّه: أَن يَأْخُذ سبع وَرَقَات من سدر أَخْضَر فيدقها بَين حجرين ثمَّ يضْربهَا بِالْمَاءِ، ثمَّ يقْرَأ فِيهِ آيَة الْكُرْسِيّ وَذَوَات: قل، ثمَّ يحسو مِنْهُ ثَلَاث حسوات ويغتسل بِهِ، فَإِنَّهُ يذهب عَنهُ كل عاهة وَهُوَ جيد للرجل إِذا حبس عَن أَهله.