فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله

( بابٌُ أفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بنَفْسِهِ ومالِهِ فِي سَبِيلِ الله)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ أفضل النَّاس إِلَى آخِره قَوْله: ( مُجَاهِد) صفة لقَوْله مُؤمن وَفِي رِوَايَة الْكشميهني يُجَاهد بِلَفْظ الْمُضَارع.

و.

     قَوْلُهُ  تعَالى { يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكُمْ علَى تِجَارَةٍ تنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُوله وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بأمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويُدْخِلكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ومَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} ( الصَّفّ: 01) .


وَقَوله، بِالرَّفْع عطف على قَوْله: أفضل النَّاس، لِأَنَّهُ مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وخيره قَوْله: مُؤمن، هَاتَانِ آيتان من سُورَة الصَّفّ فيهمَا إرشاد للْمُؤْمِنين إِلَى طَرِيق الْمَغْفِرَة.
قَالُوا: النداء بقوله: { يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} ( الصَّفّ: 01) .
للمخلصين، وَقيل: عَام.
قَوْله: { هَل أدلكم} ( الصَّفّ: 01) .
اسْتِفْهَام فِي اللَّفْظ إِيجَاب فِي الْمَعْنى.
قَوْله: { تنجيكم} ( الصَّفّ: 01) .
أَي: تخلصكم وتبعدكم { من عَذَاب إليم} ( الصَّفّ: 01) .
قَرَأَ ابْن عَامر بِالتَّشْدِيدِ من: التنجية، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ من الإنجاء.
قَوْله: { تؤمنون} ( الصَّفّ: 01) .
اسْتِئْنَاف كَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيفَ نعمل؟ فَبين مَا هِيَ؟ فَقَالَ: تؤمنون، وَهُوَ خبر فِي معنى الْأَمر، وَلِهَذَا أُجِيب بقوله: { يغْفر لكم} ( الصَّفّ: 01) .
قَوْله: { وتجاهدون} ( الصَّفّ: 01) .
عطف على: تؤمنون، وَإِنَّمَا جِيءَ على لفظ الْخَبَر للإيذان بِوُجُوب الِامْتِثَال، كَأَنَّهَا وجدت وحصلت.
قَوْله: { ذَلِكُم} ( الصَّفّ: 01) .
أَي: مَا ذكر من الْإِيمَان وَالْجهَاد { خير لكم} من أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ { إِن كُنْتُم تعلمُونَ} ( الصَّفّ: 01) .
أَنه خير لكم.
قَوْله: { يغْفر لكم} قيل: إِنَّه جَوَاب لقَوْله: { هَل أدلكم} ( الصَّفّ: 01) .
وَوَجهه أَن مُتَعَلق الدّلَالَة هُوَ التِّجَارَة، وَهِي مفسرة بِالْإِيمَان وَالْجهَاد، فَكَأَنَّهُ قيل: هَل تَتَّجِرُونَ بِالْإِيمَان وَالْجهَاد يغْفر لكم؟ وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنهم قَالُوا: لَو نعلم أحب الْأَعْمَال إِلَى الله تَعَالَى لعملناها، فَنزلت هَذِه الْآيَة، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ الله يَقُولُونَ: ليتنا نعلم مَا هِيَ؟ فدلهم الله بقوله: تؤمنون، وَهَذَا يدل على أَن: تؤمنون، كَلَام مُسْتَأْنف.
قَوْله: { ويدخلكم} ( الصَّفّ: 01) .
عطف على { يغْفر لكم} ( الصَّفّ: 01) .



[ قــ :2659 ... غــ :2786 ]
- حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عَطاءُ بنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أنَّ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حدَّثَهُ قَالَ قِيلَ يَا رسولَ الله أيُّ النَّاسِ أفْضلُ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله بِنَفْسِهِ ومالِهِ قالُوا ثُمَّ مَنْ قالَ مُؤْمِنٌ فِي شعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي الله ويدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ.

( الحَدِيث 6872 طرفه فِي: 4946) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( مُؤمن مُجَاهِد فِي سَبِيل الله بِنَفسِهِ وَمَاله) .

وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق.
وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَعَن مَنْصُور بن أبي مُزَاحم وَعَن عبد بن حميد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي عمار الْحُسَيْن بن حُرَيْث، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن كثير بن عبيد.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن هِشَام بن عمار.

قَوْله: ( مُؤمن مُجَاهِد) أَي: أفضل النَّاس مُؤمن مُجَاهِد، قَالُوا: هَذَا عَام مَخْصُوص تَقْدِيره: هَذَا من أفضل النَّاس، وإلاَّ فَالْعُلَمَاء أفضل، وَكَذَا الصديقون، كَمَا جَاءَت بِهِ الْأَحَادِيث، وَيدل على ذَلِك أَن فِي بعض طرق النَّسَائِيّ كَحَدِيث أبي سعيد: أَن من خير النَّاس رجلا عمل فِي سَبِيل الله على ظهر فرسه.
قَوْله: ( فِي شعب) ، بِكَسْر الشين المعجم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة هُوَ مَا انفرج بَين الجبلين، وَهُوَ خَارج على سَبِيل الْمِثَال لَا للقيد بِنَفس الشّعب، وَإِنَّمَا المُرَاد الْعُزْلَة والإنفراد عَن النَّاس، وَلما كَانَ الشعاب الْغَالِب عَلَيْهَا حلوها عَن النَّاس ذكرت مثلا، وَهَذَا كَقَوْلِه فِي الحَدِيث الآخر: وليسعك بَيْتك.

وَفِيه: فضل الْعُزْلَة والإنفراد عِنْد خوف الْفِتَن على المخالطة، وَأما عِنْد عدم الْفِتَن فَقَالَ النَّوَوِيّ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأكْثر الْعلمَاء: أَن الِاخْتِلَاط أفضل بِشَرْط رَجَاء السَّلامَة من الْفِتَن، وَمذهب طوائف: أَن الاعتزال أفضل.
قلت: يدل لقَوْل الْجُمْهُور ( قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمُؤمن الَّذِي يخالط النَّاس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الْمُؤمن الَّذِي لَا يخالط النَّاس وَلَا يصبر على أذاهم) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي أَبْوَاب الزّهْد، وَابْن مَاجَه.





[ قــ :660 ... غــ :787 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبرني سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَثَلُ المُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله وَالله أعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وتَوَكَّلَ الله لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأنْ يَتَوَفَّاهُ أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرْجِعَهُ سالِمً مَعَ أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجِهَاد عَن عَمْرو بن عُثْمَان بن سعيد عَن أَبِيه عَن شُعَيْب بِهِ.

قَوْله: (وَالله أعلم بِمن يُجَاهد فِي سَبيله) وَقع جملَة مُعْتَرضَة يَعْنِي: الله أعلم بِعقد نِيَّته إِن كَانَت خَالِصَة لإعلاء كَلمته، فَذَلِك الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله، وَإِن كَانَ فِي نِيَّته حب المَال وَالدُّنْيَا واكتساب الذّكر بهَا، فقد أشرك مَعَ سَبِيل الله سَبِيل الدُّنْيَا، وَفِي (الْمُسْتَدْرك) على شَرطهمَا، أَي: الْمُؤمن أكمل إِيمَانًا.
قَالَ: الَّذِي يُجَاهد فِي سَبِيل الله بِمَالِه وَنَفسه.
قَوْله: (كَمثل الصَّائِم الْقَائِم) زَاد النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه: الخاشع الرَّاكِع الساجد، وَفِي (الْمُوَطَّأ) وَابْن حبَان: كَمثل الصَّائِم الْقَائِم الدَّائِم الَّذِي لَا يفتر من صِيَام وَلَا صَلَاة حَتَّى يرجع، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَالْبَزَّار من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير مَرْفُوعا: مثل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله كَمثل الصَّائِم نَهَاره الْقَائِم ليله، مثله بالصائم لِأَنَّهُ مُمْسك لنَفسِهِ عَن الْأكل وَالشرب وَاللَّذَّات، وَكَذَلِكَ الْمُجَاهِد مُمْسك لنَفسِهِ على محاربة الْعَدو وحابس نَفسه على من يقاتله.
قَوْله: (وتوكل الله) ، أَي: ضمن الله بملابسة التوفي الْجنَّة وبملابسة عدم التوفي الرجع بِالْأَجْرِ أَو الْغَنِيمَة.
قَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي: لَا يَخْلُو من الشَّهَادَة أَو السَّلامَة، فعلى الأول: يدْخل الْجنَّة بعد الشَّهَادَة فِي الْحَال، وعَلى الثَّانِي: لَا يَنْفَكّ من أجر أَو غنيمَة مَعَ جَوَاز الِاجْتِمَاع بَينهمَا فَهِيَ قَضِيَّة مَانِعَة الْخُلُو لَا مَانِعَة الْجمع، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (تضمن الله لمن خرج فِي سَبيله لَا يُخرجهُ إِلَّا إِيمَان بِي.
.
) وَفِي رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق الْأَعْرَج، عَنهُ بِلَفْظ: تكفل الله لمن جَاهد فِي سَبيله لَا يُخرجهُ من بَيته إلاَّ جِهَاد فِي سَبيله وتصديق كَلمته، وَكَذَلِكَ أخرجه مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن أبي الزِّنَاد) .
وَفِي رِوَايَة الدَّارمِيّ من وَجه آخر عَن أبي الزِّنَاد، بِلَفْظ: لَا يُخرجهُ إلاَّ الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وتصديق كَلِمَاته، وَلَفظ: الضَّمَان والتكفل والتوكل والانتداب الَّذِي وَقع فِي الْأَحَادِيث كلهَا بِمَعْنى: تَحْقِيق الْوَعْد على وَجه الْفضل مِنْهُ، وعبَّر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بتفضيله بالثواب بِلَفْظ الضَّمَان وَنَحْوه بِمَا جرت بِهِ الْعَادة بَين النَّاس بِمَا تطمئِن بِهِ النُّفُوس، وتركن إِلَيْهِ الْقُلُوب.
قَوْله: (بِأَن يتوفاه أَن يدْخلهُ الْجنَّة) ، أَي: بِأَن يدْخلهُ الْجنَّة، و: أَن، فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّة، تَقْدِيره: ضمن الله بتوفيه بِدُخُول الْجنَّة، وَفِي رِوَايَة أبي زرْعَة الدِّمَشْقِي عَن أبي الْيَمَان: إِن توفاه، بِالشّرطِ وَالْفِعْل الْمَاضِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ.
قَوْله: (أَن يدْخلهُ الْجنَّة) أَي: بِغَيْر حِسَاب وَلَا عَذَاب، أَو، المُرَاد: يدْخلهُ الْجنَّة سَاعَة مَوته.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: إِدْخَاله الْجنَّة يحْتَمل أَن يدخلهَا إِثْر وَفَاته تَخْصِيصًا للشهيد، أَو بعد الْبَعْث، وَيكون فَائِدَة تَخْصِيصه أَن ذَلِك كَفَّارَة لجَمِيع خَطَايَا الْمُجَاهِد، وَلَا توزن مَعَ حَسَنَاته، قَوْله: (أَو يرجعه) ، بِفَتْح الْيَاء تَقْدِيره: أَو أَن يرجعه، بِالنّصب عطفا على أَن يتوفاه.
قَوْله: (سالما) حَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي يرجعه.
قَوْله: (مَعَ أجر أَو غنيمَة) ، إِنَّمَا أَدخل، وَهَهُنَا قيل: لِأَنَّهُ قد يرجع مرّة بغنيمة دون أجر، وَلَيْسَ كَذَلِك على مَا يَجِيء الْآن، بل أبدا يرجع بِالْأَجْرِ كَانَت غنيمَة أَو لم تكن، قَالَه ابْن بطال.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين والقرطبي: إِن، أَو، هُنَا بِمَعْنى المواو الجامعة على مَذْهَب الْكُوفِيّين، وَقد سَقَطت فِي أبي دَاوُد وَفِي بعض رِوَايَات مُسلم، وَبِه جزم ابْن عبد الْبر، وَرجحه التوربشتي شَارِح (المصابيح) وَالتَّقْدِير: أَو يرجعه بِأَجْر وغنيمة، وَكَذَا وَقع عِنْد النَّسَائِيّ من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن سعيد ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، بِالْوَاو أَيْضا، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن: أَو، على بابُُهَا وَلَيْسَت بِمَعْنى: الْوَاو، أَي: أجر لمن لم يغنم أَو غنيمَة وَلَا أجر، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح لحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ مَرْفُوعا: (مَا من غَازِيَة تغزو فِي سَبِيل الله فيصيبون الْغَنِيمَة إلاَّ تعجلوا ثُلثي أجرهم من الْأُجْرَة، وَيبقى لَهُم الثُّلُث، فَإِن لم يُصِيبُوا غنيمَة تمّ لَهُم أجرهم) .
فَبِهَذَا يدل على أَنه لَا يرجع أصلا بِدُونِ الْأجر، وَلكنه ينقص عِنْد الْغَنِيمَة.
فَإِن قلت: ضعف هَذَا الحَدِيث لِأَن فِيهِ حميد بن هانىء وَهُوَ غير مَشْهُور.
قلت: هَذَا كَلَام لَا يلْتَفت إِلَيْهِ لِأَنَّهُ ثِقَة مُحْتَج بِهِ عِنْد مُسلم، وَقد وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَابْن يُونُس وَغَيرهمَا، وَلَا يعرف فِيهِ تجريح لأحد.


( بابُُ الدُّعَاءِ بالجِهَادِ والشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ والنِّساءِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الدُّعَاء بِالْجِهَادِ بِأَن يَقُول: أللهم ارزقني الْجِهَاد، أَو أللهم اجْعَلنِي من الْمُجَاهدين.
قَوْله: ( وَالشَّهَادَة) ، أَي: الدُّعَاء بِالشَّهَادَةِ، بِأَن يَقُول: أللهم ارزقني الشَّهَادَة فِي سَبِيلك.
قَوْله: ( للرِّجَال وَالنِّسَاء) ، مُتَعَلق بِالدُّعَاءِ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن هَذَا غير مَخْصُوص بِالرِّجَالِ، وَإِنَّمَا هم وَالنِّسَاء فِي ذَلِك سَوَاء.

وَقَالَ عُمَرُ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي بَلَدِ رسولِكَ

هَذَا التَّعْلِيق مُطَابق للدُّعَاء بِالشَّهَادَةِ فِي التَّرْجَمَة، وَقد مضى هَذَا مَوْصُولا فِي آخر الْحَج بأتم مِنْهُ، رَوَاهُ عَن يحيى ابْن بكير عَن اللَّيْث عَن خَالِد بن يزِيد عَن سعيد بن أبي هِلَال عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أللهم ارزقني شَهَادَة فِي سَبِيلك وَاجعَل موتِي فِي بلد رَسُولك.
وَأخرجه ابْن سعد فِي ( الطَّبَقَات الْكَبِير) عَن حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا سَمِعت أَبَاهَا يَقُول: أللهم ارزقني قتلا فِي سَبِيلك، ووفاةً فِي بَلْدَة نبيك، قَالَت: قلت: وأنَّى ذَاك؟ قَالَ: إِن الله يَأْتِي بأَمْره أنَّى شَاءَ.



[ قــ :660 ... غــ :789 ]
- حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ عنْ مالِكٍ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله ابنِ أبي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ ابنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقولُ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْخُلُ عَلى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحانَ فَتُطْعِمُهُ وكانَتْ أُمُّ حَرامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ علَيْهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأطْعَمَتْهُ وجَعَلَتْ تَفْلِي رَأسَهُ فَنامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهْوَ يَضْحَكُ قالَتْ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رسولَ الله قَالَ ناسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ الله يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ مُلُوكاً علَى الأسِرَّةِ أَو مِثْلَ الْمُلُوكِ على الأسِرَّةِ شَكَّ إسْحَاقُ قالَتْ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فدَعَ لَهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وضَعَ رأسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهْوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رسولَ الله قَالَ ناسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً فِي سَبِيلِ الله كَمَا قَالَ فِي الأوَّلِ قالَتْ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ فرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمانِ مُعَاوِيَةَ بنِ أبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ فَهَلَكَتْ.

.
.

قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَن الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ تمني الشَّهَادَة، وَإِنَّمَا فِيهِ تمني الْغَزْو.
وَأجِيب: بِأَن الثَّمَرَة الْعُظْمَى من الْغَزْو هِيَ الشَّهَادَة، وَقيل: حَاصِل الدُّعَاء بِالشَّهَادَةِ أَن يَدْعُو الله أَن يُمكن مِنْهُ كَافِرًا يعْصى الله فيقتله، وَاعْترض بِأَن تمني مَعْصِيّة الله لَا تجوز إلاَّ لَهُ وَلَا لغيره، ووجَّه بَعضهم بِأَن الْقَصْد من الدُّعَاء نيل الدرجَة المرفوعة الْمعدة.
للشهداء، وَأما قتل الْكَافِر فَلَيْسَ مَقْصُود الدَّاعِي، وَإِنَّمَا هُوَ من ضروريات الْوُجُود، لِأَن الله تَعَالَى أجْرى حكمه أَن لَا ينَال تِلْكَ الدرجَة إلاَّ شَهِيد.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرُّؤْيَا عَن عبد الله بن يُوسُف أَيْضا وَفِي الاسْتِئْذَان عَن إِسْمَاعِيل.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم ستتهم عَن مَالك بِهِ،.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.
وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَيْضا هَذَا الحَدِيث من مُسْند أم حرَام من رِوَايَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن أبي طوالة عَن أنس عَن أم حرم، وَقد اخْتلف فِيهِ على أنس فَقيل: عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل: عَن أنس عَن أم حرَام، وَاخْتلف فِيهِ أَيْضا على أبي طوالة، فَقَالَ زَائِدَة بن قدامَة: عَن أبي طوالة عَن أنس عَن أم حرَام عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر: عَن أبي طوالة عَن أنس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة عَطاء بن يسَار عَن أُخْت أم سليم الرميصاء قَالَت: نَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... ثمَّ ذكر مَعْنَاهُ، وَالْحَاصِل أَن الْأَئِمَّة السِّتَّة، مَا خلا التِّرْمِذِيّ، أخرجُوا هَذَا الحَدِيث عَن أم حرَام من رِوَايَة مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان عَن أنس بن مَالك عَن أم حرَام، وَهِي خَالَة أنس، قَالَت: أَتَانَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا ... الحَدِيث.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْخل على أم حرَام) ، حرَام ضد حَلَال بنت ملْحَان، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون اللَّام وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون: ابْن خَالِد بن زيد بن حرَام بن جُنْدُب بن عَامر بن غنم بن عدي بن النجار، زوج عبَادَة بن الصَّامِت وَأُخْت أم سليم، وَخَالَة أنس بن مَالك،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: وَلَا أَقف لَهَا على اسْم صَحِيح، وأظنها أرضعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأم سليم أَرْضَعَتْه أَيْضا، إِذْ لَا يشك مُسلم أَنَّهَا كَانَت مِنْهُ بِمحرم، وَقد أَنبأَنَا غير وَاحِد من شُيُوخنَا عَن أبي مُحَمَّد بن فطيس عَن يحيى بن إِبْرَاهِيم بن مزبن قَالَ: إِنَّمَا استجاز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تفلي أم حرَام رَأسه لِأَنَّهَا كَانَت مِنْهُ ذَات محرم من قبل خالاته، لِأَن أم عبد الْمطلب كَانَت من بني النجار،.

     وَقَالَ  يُونُس بن عبد الْأَعْلَى: قَالَ لنا وهب: أم حرَام إِحْدَى خالات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرضَاعَة، قَالَ أَبُو عمر: فَأَي ذَلِك كَانَ فَأم حرم محرم مِنْهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: قَالَ غَيره: إِنَّمَا كَانَت خَالَة لِأَبِيهِ أَو لجده، وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ عَن بعض الْعلمَاء أَن هَذَا مَخْصُوص بسيدنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو يحمل دُخُوله عَلَيْهَا: أَنه كَانَ قبل الْحجاب، إلاَّ أَن قَوْله: تفلي رَأسه، يضعف هَذَا.
وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَنه سمع بعض الْحفاظ يَقُول: كَانَت أم سليم أُخْت آمِنَة من الرضَاعَة.

     وَقَالَ  الْحَافِظ الدمياطي: لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على الْخلْوَة بهَا، فَلَعَلَّ ذَاك كَانَ مَعَ ولد أَو خَادِم أَو زوج أَو تَابع، وَالْعَادَة تَقْتَضِي المخالطة بَين المخدوم وَأهل الْخَادِم، سِيمَا إِذا كنَّ مسنَّات، مَعَ مَا ثَبت لَهُ عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْعِصْمَة، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قبل الْحجاب، لِأَنَّهُ كَانَ فِي سنة خمس، وَقتل أَخِيهَا حرَام الَّذِي كَانَ رَحمهَا لأَجله كَانَ سنة أَربع.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: حرَام ابْن ملْحَان قتل يَوْم بِئْر مَعُونَة، قَتله عَامر بن الطُّفَيْل.
قَوْله: ( تَحت عبَادَة بن الصَّامِت) أَي: كَانَت امْرَأَته، والصامت ابْن قيس بن أَصْرَم بن فهر بن ثَعْلَبَة بن غنم بن سَالم بن عَوْف بن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ السالمي، يكنى: أَبَا الْوَلِيد، قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: أول من ولي قَضَاء فلسطين عبَادَة بن الصَّامِت، مَاتَ عبَادَة سنة أَربع وَثَلَاثِينَ بالرملة، وَقيل: بِبَيْت الْمُقَدّس، وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة.
قَوْله: ( تفلي رَأسه) ، بِفَتْح التَّاء وَإِسْكَان الْفَاء وَكسر اللَّام، يَعْنِي: تفتش الْقمل من رَأسه وتقتله، من: فلى يفلي من بابُُ ضرب يضْرب، فلياً مصدرة، والفلي أَخذ الْقمل من الرَّأْس.
قَوْله: ( وَهُوَ يضْحك) ، جملَة وَقعت حَالا، وَكَذَا قَوْله: ( غزَاة) ، وَهُوَ جمع غَازِي، كقضاة جمع قَاضِي.
قَوْله: ( ثبج هَذَا الْبَحْر) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا جِيم، قَالَ الْخطابِيّ: ثبج الْبَحْر: مَتنه ومعظمه، وثبج كل شَيْء وَسطه، وَقيل: ثبج الْبَحْر ظَهره، يُوضحهُ بعض مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَات: يركبون ظهر هَذَا الْبَحْر، وَقيل: ثبج الْبَحْر: هوله، والثبج مَا بَين الْكَتِفَيْنِ.
قَوْله: ( ملوكاً) ، نصب بِنَزْع الْخَافِض أَي: مثل مُلُوك على الأسرة، وَهُوَ جمع سَرِير، قَالَ أَبُو عمر: أَرَادَ أَنه رأى الْغُزَاة فِي الْبَحْر على الأسرة فِي الْجنَّة، ورؤيا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَحي يشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى: { على الأرائك متكئون} ( ي س: 65) .
وَبِه جزم ابْن بطال حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا رَآهُمْ ملوكاً على الأسرة فِي الْجنَّة فِي رُؤْيَاهُ،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن يكون خَبرا عَن حَالهم فِي غزوهم أَيْضا.
قَوْله: { شكّ إِسْحَاق} ، وَهُوَ إِسْحَاق بن عبد الله الرَّاوِي عَن أنس.
قَوْله: ( ثمَّ وضع رَأسه ثمَّ اسْتَيْقَظَ) ، قيل: رُؤْيَاهُ الثَّانِيَة كَانَت فِي شُهَدَاء الْبر، فوصف حَال الْبر وَالْبَحْر بِأَنَّهُم مُلُوك على الأسرة، حَكَاهُ ابْن التِّين وَغَيره، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون حالتهم فِي الدُّنْيَا كالملوك على الأسرة، وَلَا يبالون بِأحد.
قَوْله: ( أَنْت من الْأَوَّلين) ، خطاب لأم حرَام، وَأَرَادَ بالأولين: هم الَّذين عرضوا أَولا، وهم الَّذين يركبون ثبج الْبَحْر.
قَوْله: ( فِي زمن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان) ، وَكَانَت غزت مَعَ زَوجهَا فِي أول غَزْوَة كَانَت إِلَى الرّوم فِي الْبَحْر مَعَ مُعَاوِيَة زمن عُثْمَان بن عَفَّان سنة ثَمَان وَعشْرين،.

     وَقَالَ  ابْن زيد: سنة سبع وَعشْرين، وَقيل: بل كَانَ ذَلِك فِي خلَافَة مُعَاوِيَة على ظَاهره، وَالْأول أشهر، وَهُوَ مَا ذكره أهل السّير، وَفِيه: هَلَكت،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي، رَحمَه الله تَعَالَى، وَاخْتلفُوا فِي أَنه مَتى جرت الْغَزْوَة الَّتِي توفيت فِيهَا أم حرَام؟ فَقَالَ البُخَارِيّ وَمُسلم: فِي زمن مُعَاوِيَة،.

     وَقَالَ  القَاضِي: أَكثر أهل السّير أَن ذَلِك كَانَ فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فعلى هَذَا يكون معنى قَوْلهَا: فِي زمن مُعَاوِيَة، زمَان، غَزْوَة مُعَاوِيَة فِي الْبَحْر، لَا زمَان خِلَافَته،.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: إِن مُعَاوِيَة غزا تِلْكَ الْغَزْوَة بِنَفسِهِ.
انْتهى.
قلت: كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد منع الْمُسلمين من الْغَزْو فِي الْبَحْر شَفَقَة عَلَيْهِم، واستأذنه مُعَاوِيَة فِي ذَلِك فَلم يَأْذَن لَهُ، فَلَمَّا ولي عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، استأذنه فَأذن لَهُ.
.

     وَقَالَ : لَا تكره أحدا، من غزاه طَائِعا فاحمله، فَسَار فِي جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم أَبُو ذَر وَعبادَة بن الصَّامِت وَمَعَهُ زَوجته أم حرَام بنت ملْحَان وَشَدَّاد بن أَوْس وَأَبُو الدَّرْدَاء فِي آخَرين، وَهُوَ أول من غزا الجزائر فِي الْبَحْر، وَصَالَحَهُ أهل قبرس على مَال، وَالأَصَح أَنَّهَا فتحت عنْوَة، وَلما أَرَادوا الْخُرُوج مِنْهَا قدمت لأم حرَام بغلة لتركبها فَسَقَطت عَنْهَا، فَمَاتَتْ.
هُنَالك، فقبرها هُنَالك يعظمونه ويستسقون بِهِ، وَيَقُولُونَ: قبر الْمَرْأَة الصَّالِحَة.
قَوْله: ( حِين خرجت من الْبَحْر) ، أَرَادَ بِهِ حِين خُرُوجهَا من الْبَحْر إِلَى نَاحيَة الجزيرة، لِأَنَّهَا دفنت هُنَاكَ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز دُخُول الرجل على محرمه وملامسته إِيَّاهَا وَالْخلْوَة بهَا، وَالنَّوْم عِنْدهَا.
وَفِيه: إِبَاحَة مَا قَدمته الْمَرْأَة إِلَى ضيفها من مَال زَوجهَا، لِأَن الْأَغْلَب أَن مَا فِي الْبَيْت من الطَّعَام هُوَ للرجل، قَالَ ابْن بطال: وَمن الْمَعْلُوم أَن عبَادَة وكل الْمُسلمين يسرهم وجود سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيته،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك من مَال زَوجهَا لعلمه أَنه كَانَ يسر بذلك، وَيحْتَمل أَن يكون من مَالهَا، وَاعْتَرضهُ الْقُرْطُبِيّ فَقَالَ: حِين دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أم حرَام لم تكن زوجا لعبادة، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر اللَّفْظ، إِنَّمَا تزوجته بعد ذَلِك بِمدَّة، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة عِنْد مُسلم: فَتَزَوجهَا عبَادَة بعد.
وَفِيه: جَوَاز فلي الرَّأْس وَقتل الْقمل، وَيُقَال قتل الْقمل وَغَيره من المؤذيات مُسْتَحبّ.
وَفِيه: نوم القائلة، لِأَنَّهُ يعين الْبدن لقِيَام اللَّيْل.
وَفِيه: جَوَاز الضحك عِنْد الْفَرح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحك فَرحا وسروراً بِكَوْن أمته تبقى بعده متظاهرين، وَأُمُور الْإِسْلَام قَائِمَة بِالْجِهَادِ حَتَّى فِي الْبَحْر.
وَفِيه: دلَالَة على ركُوب الْبَحْر للغزو،.

     وَقَالَ  سعيد بن الْمسيب: كَانَ أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتجرون فِي الْبَحْر، مِنْهُم: طَلْحَة وَسَعِيد بن زيد، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء إلاَّ عمر بن الْخطاب وَعمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِنَّهُمَا منعا من ركُوبه مُطلقًا.
وَمِنْهُم من حمله على ركُوبه لطلب الدُّنْيَا لَا للآخرة، وَكره مَالك ركُوبه للنِّسَاء مُطلقًا، لما يخَاف عَلَيْهِنَّ من أَن يطلع مِنْهُنَّ أم يطلعن على عَورَة، وَخَصه بَعضهم بالسفن الصغار دون الْكِبَار، والْحَدِيث يخدش فِيهِ.
فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا يركب الْبَحْر إلاَّ حَاجا أَو مُعْتَمِرًا أَو غازياً، فَإِن تَحت الْبَحْر نَارا، وَتَحْت النَّار بحراً) .
قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، وَلما رَوَاهُ الْخلال فِي ( علله) من حَدِيث لَيْث عَن مُجَاهِد عَن عبد الله بن عمر يرفعهُ، قَالَ: قَالَ ابْن معِين: هَذَا عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُنكر.
وَفِيه: إِبَاحَة الْجِهَاد للنِّسَاء فِي الْبَحْر، وَقد ترْجم البُخَارِيّ لذَلِك، على مَا سَيَأْتِي.
وَفِيه: أَن الْوَكِيل أَو المؤتمن إِذا علم أَنه يسر صَاحب الْمنزل فِيمَا يَفْعَله فِي مَاله جَازَ لَهُ فعل ذَلِك، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي عَطِيَّة الْمَرْأَة من مَال زَوجهَا بِغَيْر إِذْنه، وَقد مر هَذَا فِي الْوكَالَة.
وَفِيه: أَن الْجِهَاد تَحت راية كل إِمَام جَائِز ماضٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَفِيه: تمني الْغَزْو وَالشَّهَادَة حَيْثُ قَالَت أم حرَام: أُدْعُ الله أَن يَجْعَلنِي مِنْهُم.
وَفِيه: أَنه من أَعْلَام نبوته وَذَلِكَ أَنه أخبر فِيهِ بضروب الْغَيْب قبل وُقُوعهَا، مِنْهَا: جِهَاد أمته فِي الْبَحْر، وضحكه دَال على أَن الله تَعَالَى يفتح لَهُم ويغنمهم.
وَمِنْهَا الْإِخْبَار بِصفة أَحْوَالهم فِي جهادهم، وَهُوَ قَوْله: ( يركبون ثبج هَذَا الْبَحْر) ، وَمِنْهَا قَوْله لأم حرَام: أَنْت من الْأَوَّلين، فَكَانَ كَذَلِك.
وَمِنْهَا: الْإِخْبَار بِبَقَاء أمته من بعده، وَأَن يكون لَهُم شَوْكَة، وَأَن أم حرَام تبقى إِلَى ذَلِك الْوَقْت، وكل ذَلِك لَا يعلم إلاَّ بِوَحْي عَليّ أُوحِي بِهِ إِلَيْهِ فِي نَومه.
وَفِيه: أَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، حق.
وَفِيه: الضحك المبشر إِذا بشر بِمَا يسر، كَمَا فعل الشَّارِع.
قَالَ الْمُهلب: وَفِيه: فضل لمعاوية وَأَن الله قد بشر بِهِ نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم، لِأَنَّهُ أول من غزا فِي الْبَحْر وَجعل من غزا تَحت رايته من الْأَوَّلين.
وَفِيه: أَن الْمَوْت فِي سَبِيل الله شَهَادَة،.

     وَقَالَ  ابْن أبي ( شيبَة) : حَدثنَا يزِيد ابْن هَارُون حَدثنَا أنس بن عون عَن ابْن سِيرِين عَن أبي الْعَجْفَاء السّلمِيّ، قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قَالَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتل فِي سَبِيل الله أَو مَاتَ فَهُوَ فِي الْجنَّة.
وَفِيه: دلَالَة على أَن من مَاتَ فِي طَرِيق الْجِهَاد من غير مُبَاشرَة ومشاهدة، لَهُ من الْأجر مثل مَا للمباشر، وَكَانَت النِّسَاء إِذا غزون يسقين المَاء ويداوين الكلمى ويصنعن لَهُم طعامهم وَمَا يصلحهم، فَهَذِهِ مُبَاشرَة.
وَفِيه: أَن الْمَوْت فِي سَبِيل الله وَالْقَتْل سَوَاء، أَو قَرِيبا من السوَاء فِي الْفضل، قَالَه أَبُو عمر، قَالَ: وَإِنَّمَا قلت: أَو قَرِيبا من السوَاء، لاخْتِلَاف النَّاس فِي ذَلِك، فَمن أهل الْعلم من جعل الْمَيِّت فِي سَبِيل الله والمقتول سَوَاء، وَاحْتج بقوله تَعَالَى: { وَالَّذين هَاجرُوا فِي سَبِيل الله ثمَّ قتلوا أَو مَاتُوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا} ( الْحَج: 85) .
وَبِقَوْلِهِ: { وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله} ( النِّسَاء: 001) .
وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث عبد الله بن عتِيك: ( من خرج مُجَاهدًا فِي سَبِيل الله فخرَّ عَن دَابَّته أَو لدغته حَيَّة أَو مَاتَ حتف أَنفه فقد وَقع أجره على الله) وَفِي مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة، يرفعهُ: من قتل فِي سَبِيل الله فَهُوَ شَهِيد، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث بَقِيَّة عَن عبد الرَّحْمَن بن ثَابت بن ثَوْبَان عَن أَبِيه عَن مَكْحُول عَن ابْن غنم عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وقصه فرسه أَو بعيره أَو لدغته هَامة أَو مَاتَ على فرَاشه، على أَي حتف شَاءَ الله، فَهُوَ شَهِيد، وَأخرجه الْحَاكِم.

     وَقَالَ : صَحِيح على شَرط مُسلم، وَذكر الْحلْوانِي فِي ( كتاب الْمعرفَة) ، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو عَليّ الْحَنَفِيّ حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: من حَبسه السُّلْطَان، وَهُوَ ظَالِم لَهُ، وَمَات فِي محبسه ذَلِك فَهُوَ شَهِيد، وَمن ضربه السُّلْطَان ظَالِما فَمَاتَ من ضربه ذَلِك فَهُوَ شَهِيد، وكل موت يَمُوت بِهِ الْمُسلم فَهُوَ شَهِيد، غير أَن الشَّهَادَة تتفاضل.
وروى الْحَاكِم من حَدِيث كَعْب بن عجْرَة، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر يَوْم بدر، وَرَأى قَتِيلا: يَا عمر! إِن للشهداء سادة وأشرافاً وملوكاً، وَإِن هَذَا مِنْهُم.
وَاخْتلفُوا فِي شَهِيد الْبَحْر: أهوَ أفضل أم شَهِيد الْبر؟ فَقَالَ قوم: شَهِيد الْبر،.

     وَقَالَ  قوم: شَهِيد الْبَحْر، قَالَ أَبُو عمر: وَلَا خلاف بَين أهل الْعلم أَن الْبَحْر إِذا ارتج لم يجز ركُوبه لأحد بِوَجْه من الْوَجْه، فِي حِين ارتجاجه، وَالَّذين رجحوا: شَهِيد الْبَحْر، احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي عَاصِم فِي كتاب الْجِهَاد عَن الْحسن ابْن الصَّباح، حَدثنَا يحيى بن عباد حَدثنَا يحيى بن عبد الْعَزِيز عَن عبد الْعَزِيز بن يحيى حَدثنَا سعيد بن صَفْوَان عَن عبد الله ابْن الْمُغيرَة بن عبد الله بن أبي بردة: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الشَّهَادَة تكفر كل شَيْء إلاَّ الدّين، والغزو فِي الْبَحْر يكفر ذَلِك كُله.
وَمن حَدِيث عبد الله بن صَالح عَن يحيى بن أَيُّوب عَن يحيى بن سعيد عَن عَطاء بن يسَار عَن ابْن عَمْرو مَرْفُوعا: غَزْوَة فِي الْبَحْر خير من عشر غزوات فِي الْبر، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث يعلى بن شَدَّاد عَن أم حرَام عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: الْمَائِدَة فِي الْبَحْر الَّذِي يُصِيبهُ الْقَيْء وَله أجر شَهِيد، وَالْغَرق لَهُ أجر شهيدين.
وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: غَزْوَة فِي الْبَحْر مثل عشر غزوات فِي الْبر، وَالَّذِي يسدر فِي الْبَحْر كالمتشحط فِي دَمه فِي سَبِيل الله.
وروى ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث سليم بن عَامر، قَالَ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: شَهِيد الْبَحْر مثل شهيدين فِي الْبر، والمائد فِي الْبَحْر كالمتشحط فِي دَمه فِي الْبر، وَمَا بَين الموجتين كقاطع الدِّينَا فِي طَاعَة الله تَعَالَى، فَإِن الله وكل ملك لمَوْت بِقَبض الْأَرْوَاح إلاَّ شَهِيد الْبَحْر، فَإِنَّهُ يتَوَلَّى قبض أَرْوَاحهم وَيغْفر لشهيد الْبر الذُّنُوب كلهَا إلاَّ الدَّين، ولشهيد الْبَحْر الذُّنُوب والدَّين.
قَوْله: المائد هُوَ الَّذِي يدار بِرَأْسِهِ من ريح الْبَحْر واضطراب السَّفِينَة بالأمواج.
قَوْله: ( الْغَرق) ، بِكَسْر الرَّاء: الَّذِي يَمُوت بِالْغَرَقِ، وَقيل: هُوَ الَّذِي غَلبه المَاء وَلم يغرق: فَإِذا غرق فَهُوَ غريق.
قَوْله: ( الْغَرق) ، بِكَسْر الرَّاء: الَّذِي يَمُوت بِالْغَرَقِ، وَقيل: هُوَ الَّذِي غَلبه المَاء وَلم يغرق: فَإِذا غرق فَهُوَ غريق.
قَوْله: ( وَالَّذِي يسدر) ، من السدر، بِالتَّحْرِيكِ: كالدوار، وَكَثِيرًا مَا يعرض لراكب الْبَحْر، يُقَال: سدر يسدر سدراً.
قَوْله: ( كالمتشحط فِي دَمه) ، وَهُوَ الَّذِي يتمرغ ويضطرب ويتخبط فِي دَمه.