فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا} [البقرة: 22]

(بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ { قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاَْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقَوْلِهِ { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَاءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً} { وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}
غَرَض البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبابُُ إِثْبَات نِسْبَة الْأَفْعَال كلهَا إِلَى الله تَعَالَى سَوَاء كَانَت من المخلوقين خيرا أَو شرا، فَهِيَ لله خلق وللعباد كسب، وَلَا ينْسب شَيْء من الْخلق إِلَى غير الله تَعَالَى، فَيكون شَرِيكا ونداً ومساوياً لَهُ فِي نِسْبَة الْفِعْل إِلَيْهِ، وَقد نبه الله تَعَالَى عباده على ذَلِك بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَة وَغَيرهَا المصرحة بِنَفْي الأنداد والآلهة المدعوة مَعَه، فتضمنت الرَّد على من يزْعم أَنه يخلق أَفعاله، والأنداد جمع ند بِكَسْر النُّون وَتَشْديد الدَّال وَيُقَال لَهُ: النديد، أَيْضا، وَهُوَ نَظِير الشَّيْء الَّذِي يُعَارضهُ فِي أُمُوره، وَقيل: ند الشَّيْء من يُشَارِكهُ فِي جوهره فَهُوَ ضرب من الْمثل، لَكِن الْمثل يُقَال فِي أَي مُشَاركَة كَانَت، فَكل ندٍ مثلّ من غير عكس.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: التَّرْجَمَة مشعرة بِأَن الْمَقْصُود من الْبابُُ إِثْبَات نفي الشَّرِيك لله تَعَالَى، فَكَانَ الْمُنَاسب ذكره فِي أَوَائِل كتاب التَّوْحِيد.
وَأجَاب: بِأَن الْمَقْصُود لَيْسَ ذَلِك، بل هُوَ بَيَان كَون أَفعَال الْعباد بِخلق الله تَعَالَى، وَفِيه الرَّد على الْجَهْمِية حَيْثُ قَالُوا، لَا قدرَة للْعَبد أصلا، وعَلى الْمُعْتَزلَة حَيْثُ قَالُوا: لَا دخل لقدرة الله فِيهَا، إِذْ الْمَذْهَب الْحق أَن لَا جبر وَلَا قدر، وَلَكِن أَمر بَين الْأَمريْنِ، أَي: بِخلق الله وَكسب العَبْد، وَهُوَ قَول الأشعرية.
قيل: لَا تَخْلُو أَفعَال العَبْد إِمَّا أَن تكون بقدرته، وَإِمَّا أَن لَا تكون بقدرته، إِذْ لَا وَاسِطَة بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات، فَإِن كَانَت بقدرته فَهُوَ الْقدر الَّذِي هُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة، وَإِن لم تكن بهَا فَهُوَ الْجَبْر الْمَحْض الَّذِي هُوَ مَذْهَب الْجَهْمِية.
وَأجِيب: بِأَن للْعَبد قدرَة فَلَا جبر، وَبهَا يفرق بَين النَّازِل من المنارة والساقط مِنْهَا، وَلَكِن لَا تَأْثِير لَهَا بل الْفِعْل وَاقع بقدرة الله وتأثير قدرته فِيهِ بعد تَأْثِير قدرَة العَبْد عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمّى بِالْكَسْبِ، فَقيل: الْقُدْرَة صفة تُؤثر على وفْق الْإِرَادَة فَإِذا نفيت التَّأْثِير عَنْهَا فقد نفيت الْقُدْرَة لانْتِفَاء الْمَلْزُوم عِنْد انْتِفَاء لَازمه، وَأجِيب: بِأَن هَذَا التَّعْرِيف غير جَامع لخُرُوج الْقُدْرَة الْحَادِثَة عَنهُ، بل التَّعْرِيف الْجَامِع لَهَا هُوَ أَنَّهَا صفة يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الْفِعْل أَو التّرْك.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فَذَلِكَ إيمانُهُمْ وهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ
عِكْرِمَة هُوَ مولى ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ عَن هناد بن السّري عَن أبي الْأَحْوَص عَن سماك بن حَرْب عَن عِكْرِمَة، فَذكره.
قَوْله: { إِلَّا وهم مشركون} يَعْنِي: إِذا سَأَلُوا عَن الله وَعَن صفته وصفوه بِغَيْر صفته وَجعلُوا لَهُ ولدا وأشركوا بِهِ.

وَمَا ذُكِرَ فِي خَلْقِ أفْعالِ العِباد وأكْسابِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}
هَذَا عطف على قَول الله الْمُضَاف إِلَيْهِ تَقْدِيره: بابُُ فِيمَا ذكر فِي خلق أَفعَال الْعباد وإكسابهم، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أَعمال الْعباد، ويروى: واكتسابهم من بابُُ الافتعال الْخلق لله وَالْكَسْب للعباد، وَاحْتج على ذَلِك بقوله: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} لِأَن لَفْظَة: كل، إِذا أضيفت إِلَى نكرَة تَقْتَضِي عُمُوم الْأَفْرَاد.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ إلاّ بالحَقِّ بالرِّسالَةِ والعَذَابِ.

هَذَا وَصله الْفرْيَابِيّ عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: مَا ننزل الْمَلَائِكَة، بالنُّون وَنصب الْمَلَائِكَة فَهُوَ استشهاد لكَون نزُول الْمَلَائِكَة بِخلق الله تَعَالَى وبالتاء الْمَفْتُوحَة وَالرَّفْع فَهُوَ لكَون نزولهم بكسبهم.

{ لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} المبَلِّغِينَ المُؤَدِّينَ مِنَ الرُّسُلِ
هَذَا فِي تَفْسِير الْفرْيَابِيّ أَيْضا بالسند الْمَذْكُور.
قَوْله: { ليسأل الصَّادِقين} أَي: الْأَنْبِيَاء المبلغين المؤدين للرسالة عَن تبليغهم.

{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} عِنْدَنا.

هَذَا أَيْضا من قَول مُجَاهِد أخرجه الْفرْيَابِيّ بالسند الْمَذْكُور.

{ وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} القُرْآنُ وصَدَّقَ بِهِ المُؤْمِنُ يَقُولُ يَوْمَ القِيامَةِ هاذَا الّذِي أعْطَيْتَني عَمِلْتُ بِما فِيهِ.

هَذَا وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن مُجَاهِد قَالَ: { الَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ} وَصدق بِهِ هم أهل الْقُرْآن يجيئون بِهِ يَوْم الْقِيَامَة يَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي أعطيتمونا عَملنَا بِمَا فِيهِ، وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: الَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ رَسُول الله بِلَا إلاه إلاَّ الله، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ مُحَمَّد، وَالَّذِي صدق بِهِ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.



[ قــ :7122 ... غــ :7520 ]
- حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، حدّثنا جَرِيرٌ، عنْ مَنْصُورٍ، عنْ أبي وائِلٍ، عنْ عَمْرِو بنِ شُرَحْبِيلَ، عنْ عَبْدِ الله قَالَ: سَألْتُ النبيَّ أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ عِنْدَ الله؟ قَالَ: أنْ تَجْعَلَ نِدّاً وهْوَ خَلَقَكَ.

قُلْتُ إنَّ ذالِكَ لَعَظِيمٌ.

قُلْتُ ثُمَّ أيِّ قَالَ: ثُمَّ أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخافُ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ.

قُلْتُ ثُمَّ أيّ قَالَ: ثُمَّ أنْ تُزانِيَ بِحَلِيلَةِ جارِكَ
ا
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة تُؤْخَذ من قَوْله: أَن تجْعَل لله ندا وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَعَمْرو بن شُرَحْبِيل بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالياء آخر الْحُرُوف الساكنة منصرفاً وَغير منصرف الْهَمدَانِي أبي ميسرَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.

والْحَدِيث مضى فِي: بابُُ إِثْم الزناة فِي كتاب الْحُدُود.

قَوْله: أَن تقتل ولدك تخَاف أَن يطعم مَعَك وَفِي التَّوْضِيح يَعْنِي الموؤدة قلت: الموؤدة الَّتِي كَانَت تقتل لأجل الْعَار، وَالْمرَاد هُنَا من يقتل وَلَده خشيَة الْفقر، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: 8 9 { وَلاَ تَقْتُلُو اْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} قيل: هُوَ بِدُونِ مَخَافَة الطّعْم أعظم أَيْضا.
وَأجِيب بِأَن مَفْهُومه لَا اعْتِبَار لَهُ إِذْ شَرط اعْتِبَاره أَن لَا يكون خَارِجا مخرج الْأَغْلَب وَلَا بَيَانا للْوَاقِع.
قَوْله: بحليلة أَي: بِزَوْجَة جَارك وَالْحَال أَنه خلق لَك زَوْجَة وتقطع بالزنى الرَّحِم.
.