فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا»

( بابُُ لَمْ يَكُنِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاحِشاً وَلَا مَتَفَحِّشاً)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: ( لم يكن)
إِلَى آخِره.
قَوْله: ( فَاحِشا) ، من الْفُحْش وَهُوَ كل مَا خرج من مِقْدَاره حَتَّى يستقبح وَيدخل فِيهِ القَوْل وَالْفِعْل وَالصّفة، يُقَال: فلَان طَوِيل فَاحش الطول إِذا أفرط فِي طوله، وَلَكِن اسْتِعْمَاله فِي القَوْل أَكثر.
قَوْله: وَلَا متفحشاً كَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: وَلَا متفاحشاً، والمتفحش بِالتَّشْدِيدِ الَّذِي يتَعَمَّد ذَلِك وَيكثر مِنْهُ ويتكلفه لِأَن هَذَا الْبابُُ فِيهِ التَّكَلُّف يَعْنِي: لَيْسَ فِيهِ ذَلِك أصلا لَا ذاتياً وَلَا عرضياً، حَاصله لم يكن متكلماً بالقبيح أصلا،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: الْفَاحِش الَّذِي يَقُول الْفُحْش والمتفحش الَّذِي يسْتَعْمل الْفُحْش ليضحك النَّاس،.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: الْفَاحِش بذيء اللِّسَان.



[ قــ :5706 ... غــ :6030 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ أخبرَنا عَبْدُ الوَهَّابِ عَنْ أيُّوبَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبي مُلَيْكَةَ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، أنَّ يَهُودَ أتَوُا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ.
فقالَتْ عائِشَةُ: عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ الله وغَضِبَ الله عَلَيْكُمْ، قَالَ: مَهْلاً يَا عائِشَةُ! عَلَيْكِ بالرِّفْقِ وإيَّاكَ والعُنْفَ والفُحْش.
قالَتْ: أوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قالُوا؟ قَالَ: أوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قلتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجابُ لِي فِيهِمْ ولاَ يُسْتَجابُ لَهُمْ فِيَّ.

هَذَا الحَدِيث ذكره فِي: بابُُ الرِّفْق فِي الْأَمر كُله، وَأَعَادَهُ هُنَا وَمن فَائِدَة إِعَادَته أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما لم يكن فَاحِشا وَلَا متفحشاً أَمر بالرفق وَنهى عَن الْفُحْش والعنف، وَهَذَا هُوَ وَجه ذكره هُنَا.

قَوْله: ( حَدثنَا عبد الله بن سَلام) ويروى: حَدثنِي، وَعبد الْوَهَّاب ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.

والعنف ضد اللطف وَحكى عِيَاض عَن بعض شُيُوخه: أَن عين العنف مثله وَالْمَشْهُور ضمهَا، وَالْفُحْش التَّكَلُّم بالقبيح.
قَوْله: ( فيستجاب لي) لِأَنَّهُ بِالْحَقِّ ( وَلَا يُسْتَجَاب لَهُم) لِأَنَّهُ بِالْبَاطِلِ وَالظُّلم.
قَوْله: ( فِي) بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء.





[ قــ :5707 ... غــ :6031 ]
- حدَّثنا أصْبَغُ قَالَ: أَخْبرنِي ابنُ وَهْبٍ أخبرنَا أَبُو يَحْياى هُوَ فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمانَ عَنْ هِلالِ بنِ أُسامَةَ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: لَمْ يَكُنِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَبَّاباً ولاَ فَحَّاشاً وَلَا لَعَّاناً، كانَ يَقُولُ لأحَدِنا عِنْدَ المَعْتَبَةِ: مالَهُ؟ تَرِبَ جَبِينُهُ.
( انْظُر الحَدِيث 6031 طرفه فِي: 6046) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وإصبغ هُوَ ابْن الْفرج الْمصْرِيّ يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وهلال بن أُسَامَة هُوَ هِلَال ابْن عَليّ وَيُقَال: هِلَال بن هِلَال، وهلال بن أبي مَيْمُونَة الْمَدِينِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.

قَوْله: ( سبابُاً) على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ وَكَذَلِكَ الفحاش وَاللّعان.
فَإِن قلت: صِيغَة فعال بِالتَّشْدِيدِ لَا تَسْتَلْزِم نفي صِيغَة فَاعل، وَالنَّبِيّ لم يَتَّصِف بِهَذِهِ الْأَشْيَاء أصلا لَا بِقَلِيل وَلَا بِكَثِير.
قلت: هَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: { ( 14) وَمَا رَبك بظلام للعبيد} ( فصلت: 46) .

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: مَا الْفرق بَين هَذِه الثَّلَاثَة؟ قلت: يحْتَمل أَن تكون اللَّعْنَة مُتَعَلقَة بِالآخِرَة لِأَنَّهَا هِيَ الْبعد عَن رَحْمَة الله تَعَالَى، والسب يتَعَلَّق بِالنّسَبِ كالقذف وَالْفُحْش بالحسب.
قَوْله: ( عِنْد المعتبة) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسرهَا وبالباء الْمُوَحدَة وَهُوَ مصدر عتبت عَلَيْهِ أعتبه عتباً قَالَ الْجَوْهَرِي: عتب عَلَيْهِ وجد تعتب وتعتب ومعتباً وَالِاسْم المعتبة والمعتبة.

     وَقَالَ  الْخَلِيل: العتاب معاتبة الأول ومذاكرة الموجدة تَقول: عاتبه معاتبة.
قَالَ الشَّاعِر:
وَيبقى الود مَا بقى العتاب
قَوْله: ( مَاله؟ اسْتِفْهَام وترب جَبينه) إِذا أَصَابَهُ التُّرَاب، وَيُقَال: تربت يداك على الدُّعَاء أَي: لَا أصبت خيرا.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ هَذَا الدُّعَاء يحْتَمل وَجْهَيْن: الأول: أَن يخر لوجهه فَيُصِيب التُّرَاب جَبينه.
وَالْآخر: أَن يكون دُعَاء لَهُ بِالطَّاعَةِ ليُصَلِّي فيتترب جَبينه، وَقيل: الجبينان هما اللَّذَان يكتنفان الْجَبْهَة فَمَعْنَاه صرع لجنبه فَيكون سُقُوط رَأسه على الأَرْض من نَاحيَة الجبين.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: هَذِه كلمة جرت على لِسَان الْعَرَب وَلَا يُرَاد حَقِيقَتهَا.





[ قــ :5708 ... غــ :603 ]
- حدَّثنا عَمْرُو بنُ عِيسَى حَدثنَا مُحَمَّد بنُ سَواءٍ حَدثنَا رَوْحُ بنُ القاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ: أنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا رآهُ قَالَ: بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ وبِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَجْهِهِ وانْبَسَطَ إلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قالَتْ لَهُ عائِشَةُ: يَا رسُولَ الله {حِينَ رأيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وجْهِهِ وانْبَسَطْتَ إلَيْهِ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا عائِشَةَ} مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشاً؟ إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ الله مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقاءَ شَرِّهِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( مَتى عهدتني فحاشاً) .
وَعَمْرو بن عِيسَى أَبُو عُثْمَان الضبعِي الْبَصْرِيّ.
وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي كتاب الصَّلَاة، وَمُحَمّد بن سَوَاء بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وبالمد أَبُو الْخطاب السدُوسِي المكفوف، لَهُ عِنْد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي المناقب، وروح بِفَتْح الرَّاء ابْن الْقَاسِم مَشْهُور كثير الحَدِيث، وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر على وزن إسم الْفَاعِل من الانكدار.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن صَدَقَة بن الْفضل وقتيبة.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب أَيْضا عَن عَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد وَغَيره.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بِهِ.

قَوْله: ( عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة) وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: سَمِعت عُرْوَة أَن عَائِشَة أخْبرته.
قَوْله: ( أَن رجلا) قَالَ ابْن بطال: هُوَ عُيَيْنَة بن حصن بن حُذَيْفَة بن بدر الْفَزارِيّ، وَكَانَ يُقَال لَهُ: الأحمق المطاع، فَرح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بإقباله عَلَيْهِ قبل أَن يسلم قومه، وَجَاء حِين أقبل على الشّرك وَترك حَدِيثه مَعَ ابْن أم مَكْتُوم، فَأنْزل الله عز وَجل: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} ( عبس: 1 ) وَأخرج عبد الْغَنِيّ من طَرِيق أبي عَامر الخزاز عَن أبي يزِيد الْمدنِي عَن عَائِشَة قَالَت: جَاءَ مخرمَة بن نَوْفَل يسْتَأْذن، فَلَمَّا سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صَوته قَالَ: بئس أَخُو الْعَشِيرَة ... الحَدِيث.
وَحكى الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ فِي ( مُخْتَصره) الفولين، فَقَالَ: هُوَ عُيَيْنَة، وَقيل: مخرمَة.
قَوْله: ( بئس أَخُو الْعَشِيرَة وَبئسَ ابْن الْعَشِيرَة) وَفِي رِوَايَة معمر: بئس أَخُو الْقَوْم،.

     وَقَالَ  عباض: المُرَاد بالعشيرة الْجَمَاعَة والقبيلة أَي: بئس هَذَا الرجل مِنْهَا، وَهُوَ كَقَوْلِك: يَا أَخا الْعَرَب، لرجل مِنْهُم، وَهَذَا الْكَلَام من أَعْلَام النُّبُوَّة لِأَنَّهُ ارْتَدَّ بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجِيء بِهِ أَسِيرًا إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ.
قَوْله: ( تطلق) على وزن تفعل من العلاقة أَي: انْشَرَحَ وانبسط، وَمِنْه يُقَال: وَجه طلق وطليق أَي: مسترسل منبسط غير عبوس.
قَوْله: ( مَتى عهدتني فحاشاً) ؟ هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني: فحاشاً، بِصِيغَة الْمُبَالغَة وَفِي رِوَايَة غَيره: فَاحِشا.
قَوْله: ( اتقاء شَره) أَي: لأجل الاتقاء عَن شَره.

وَفِيه مداراة من يتقى فحشه، وَجَوَاز غيبَة الْفَاسِق الْمُعْلن بِفِسْقِهِ، وَمن يحْتَاج النَّاس إِلَى التحذير مِنْهُ، وَهَذَا الحَدِيث أصل فِي المداراة وَفِي جَوَاز غيبَة أهل الْكفْر وَالْفِسْق والظلمة وَأهل الْفساد.