فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب حمل الزاد في الغزو

( بابُُ حَمْلِ الزَّادِ فِي الغَزْوِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان جَوَاز حمل الزَّاد فِي الْغَزْو، وَهُوَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّل.

وَقَوْلِ الله تَعَالَى { وتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ( الْبَقَرَة: 791) .


وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: ( حمل الزَّاد) ، روى النَّسَائِيّ عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَن سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ نَاس يحجون بِغَيْر زادٍ، فَأنْزل الله تَعَالَى: { وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} ( الْبَقَرَة: 791) .
وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، قَالَ: كَانَ نَاس من أهل الْيمن يحجون وَلَا يتزودون وَيَقُولُونَ: نَحن المتوكلون، فَأنْزل الله تَعَالَى: { وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} ( الْبَقَرَة: 791) .
وَلما أَمرهم بالزاد للسَّفر فِي الدُّنْيَا أرشدهم إِلَى زَاد الْآخِرَة واستصحاب التَّقْوَى إِلَيْهَا.



[ قــ :2846 ... غــ :2979 ]
- حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبَرَنِي أبِي وحدَّثَتْنِي أَيْضا فاطِمَةُ عنْ أسْمَاءَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا قالَتْ صَنَعْتُ سُفْرَةَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِ أبِي بَكْرٍ حينَ أرَادَ أنْ يُهَاجِرَ إلَى المَدِينَةِ قالَتْ فَلَمْ تَجِدْ لِسُفْرَتِهِ ولاَ لِسِقَائِهِ مَا نَرْبُطُهُمَا بِهِ فَقُلْتُ لأِبِي بَكْر وَالله ماأجِدُ بِهِ إلاَّ نِطَاقِي قَالَ فَشُقِّيهِ باثْنَيْنِ فارْبُطِيهِ بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ وبالآخَرِ السُّفْرَةَ فَفَعَلْتُ فلِذَلِكَ سُمِّيتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فَلم نجد لسفرته وَلَا لسقائه مَا نربطهما بِهِ) فَإِنَّهُ يدل على حمل الزَّاد لأجل السّفر.
فَإِن قلت: لَيْسَ فِيهِ سفر الْغَزْو، فَأَيْنَ الْمُطَابقَة؟ قلت: قَاس سفر الْغَزْو عَلَيْهِ.

وَعبيد، بِضَم الْعين مصغر عبد: ابْن إِسْمَاعِيل، واسْمه فِي الأَصْل، عبد الله، يكنى: أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة، يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَفَاطِمَة هِيَ بنت الْمُنْذر زَوْجَة هِشَام، وَأَسْمَاء هِيَ بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عبد الله بن أبي شيبَة، وَإِنَّمَا قَالَ هِشَام فِي رِوَايَته عَن أَبِيه: أَخْبرنِي، وَفِي رِوَايَته عَن زَوجته فَاطِمَة: حَدَّثتنِي، لِأَنَّهُ سمع من فَاطِمَة وَقَرَأَ على الْوَالِد، أَو للتفنن والاحتراز عَن التّكْرَار.
قَوْله: ( سفرة) ، بِضَم السِّين الْمُهْملَة، قَالَ ابْن الْأَثِير: السفرة طَعَام يَتَّخِذهُ الْمُسَافِر، وَأكْثر مَا يحمل فِي جلد مستدير، فَنقل اسْم الطَّعَام إِلَى الْجلد وَسمي بِهِ، كَمَا سميت المزادة راوية، وَغير ذَلِك من الْأَسْمَاء المنقولة.
قَوْله: ( وَلَا لسقائه) ، بِكَسْر السِّين، وَهُوَ ظرف المَاء من الْجلد، وَيجمع على: أسقية، والسقاية إِنَاء يشرب فِيهِ.
قَوْله: ( إلاَّ نطاقي) ، بِكَسْر النُّون، وَهُوَ: شقة تلبسها الْمَرْأَة.
قَالَ ابْن الْأَثِير: النطاق هُوَ أَن تلبس الْمَرْأَة ثوبها ثمَّ تشد وَسطهَا بِشَيْء وترفع وسط ثوبها وترسله على الْأَسْفَل عِنْد معاناة الأشغال، لِئَلَّا تعثر فِي ذيلها، وَبِه سميت أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ذَات النطاقين، وَقيل: لِأَنَّهَا كَانَت تطارق نطاقاً فَوق نطاق، وَقيل: كَانَ لَهَا نطاقان تلبس أَحدهمَا وَتحمل فِي الآخر الزَّاد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وهما فِي الْغَار، وَقيل: شقَّتْ نطاقها نِصْفَيْنِ فاستعملت أَحدهمَا وَجعلت الآخر شداداً لزادهما.
قَوْله: ( فَلذَلِك سميت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، ويروى على صِيغَة الْمُتَكَلّم على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا.





[ قــ :847 ... غــ :980 ]
- حدَّثنا علِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ أخبرنَا سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ.

     وَقَالَ  أَخْبرنِي عَطَاءٌ قَالَ سَمِعَ جابِرَ بنَ عبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأضَاحِي علَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى المَدِينَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( كُنَّا نتزود) إِلَى آخِره، وَقد ذكرنَا فِي مُطَابقَة الحَدِيث الْمَاضِي أَنه قَاس سفر الْغَزْو عَلَيْهِ، وَهَهُنَا كَذَلِك.

وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله أَيْضا فِي الْأَضَاحِي وَفِي الْأَطْعِمَة عَن عبد الله بن مُحَمَّد.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَضَاحِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.

وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَشْيَاء: الأول: فِيهِ دَلِيل على مَشْرُوعِيَّة التزود فِي السّفر مُطلقًا.
وَفِيه: رد على مَا يَدعِيهِ أهل البطالة من الصُّوفِيَّة والمخرفة على النَّاس باسم التَّوَكُّل وَترك التزود.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز التزود من لُحُوم الْأَضَاحِي، وروى مُسلم من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه: نهى عَن أكل لُحُوم الْأَضَاحِي بعد ثَلَاث، ثمَّ قَالَ بعد: كلوا وتزودوا وَادخرُوا.
الثَّالِث فِيهِ: جَوَاز الْأكل من لُحُوم الْأَضَاحِي وَلَو كَانَ المضحي غَنِيا، لِأَن التزود يسْتَلْزم الْأكل عَادَة.





[ قــ :848 ... غــ :981 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عبْدُ الوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ أخبرَنِي بُشَيْرُ ابنُ يَسارٍ أنَّ سُوَيْدَ بنَ النُّعْمَانِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخْبَرَهُ أنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عامَ خَيْبَرَ حتَّى إذَا كانُوا بالصَّهْبَاءِ وهْيَ مِنْ خَيْبَرَ وهْيَ أدْنَى خَيْبَرَ فَصَلُّوا العَصْرَ فدَعَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالأطْعِمَةِ فَلَمْ يُؤْتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ بِسَوِيقٍ فَلُكْنا فأكَلْنَا وشَرِبنَا ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَضْمَضَ ومَضْمَضْنَا وصَلَّيْنَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من موضِعين: الأول: من قَوْله: ( فَدَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالأطعمة) فَهَذَا يدل على أَنه كَانَ مَعَهم الزَّاد.
وَالثَّانِي: من قَوْله: ( إِلَّا بسويق) وَهَذَا زَاد كَانَ مَعَهم، وهم فِي الْغَزْو، وَعبد الْوَهَّاب هُوَ ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَبشير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن يسَار ضد الْيَمين والْحَدِيث مر فِي كتاب الْوضُوء فِي: بابُُ من مضمض من السويق، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: ( فلكنا) بِضَم اللَّام وَسُكُون الْكَاف، يُقَال: لكت اللُّقْمَة ألوكها فِي فمي لوكاً، والسويق: دَقِيق الْقَمْح المقلو أَو الشّعير أَو الذّرة أَو الدخن.





[ قــ :849 ... غــ :98 ]
- حدَّثنا بِشْرُ بنُ مَرْحُومٍ قَالَ حدَّثنا حاتِمُ بنُ إسْمَاعِيلَ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ خَفَّتْ أزْوَادُ النَّاسِ وأمْلَقُوا فأتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَحْرِ إبِلِهِمْ فأذِنَ لَهُمْ فلَقِيَهُمْ عُمَرُ فأخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا بَقَاؤكُمْ بَعْدَ إبِلِكُمْ فدَخَلَ عُمَرُ علَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله مَا بَقاؤهُمْ بَعْدَ إبِلِهِمْ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نادِ فِي النَّاسِ يأتُونَ بِفَضْلِ أزْوَادِهمْ فدَعا وبَرَّكَ علَيْهِ ثُمَّ دَعاهُمْ بأوْعِيَتِهِمْ فاحْتَثَى النَّاسُ حتَّى فرَغُوا ثُمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشْهَدُ أنْ لَا إلاه إلاَّ الله وأنِّي رَسُولُ الله.

( انْظُر الحَدِيث 484) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( خفَّت أزواد النَّاس) وَكَذَا فِي قَوْله: ( بِفضل أَزْوَادهم) وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مَرْحُوم، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر فِي البيع وَهُوَ من أَفْرَاده، و: خَاتم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، وَيزِيد من الزِّيَادَة مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، يروي عَن مَوْلَاهُ، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بابُُ الشّركَة فِي الطَّعَام، بِعَين هَذَا الإساد والمتن، وَفِيه بعض زِيَادَة.

قَوْله: ( وأملقوا) أَي: افتقروا، وَالْمعْنَى هُنَا: فني زادهم.
قَوْله: ( فِي نحر إبلهم) أَي: بِسَبَب نحر إبلهم، وَفِيه حذف تَقْدِيره: فاستأذنوه فِي نحر إبلهم.
قَوْله: ( مَا بقاؤهم بعد إبلهم) أَي: بعد نحر إبلهم، يُشِير بذلك إِلَى غَلَبَة الهلكة على الراجل.
قَوْله: ( يأْتونَ) قَالَ بَعضهم: أَي فهم يأْتونَ، فَلذَلِك رَفعه.
قلت: كَونه حَالا أوجه على مَا لَا يخفى.
قَوْله: ( وبرك) ، بِالتَّشْدِيدِ أَي: دَعَا بِالْبركَةِ.
قَوْله: ( عَلَيْهِ) ، أَي: على الطَّعَام، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: عَلَيْهِم.
قَوْله: ( فاحتثى النَّاس) ، من الاحتثاء من الحثي، بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة: وَهُوَ الحفن بِالْيَدِ.
قَوْله: ( قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى أَن ظُهُور المعجزة مِمَّا يُؤَيّد الرسَالَة، لِأَن المعجزات مُوجبَات للشهادات على صدق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.

وَفِيه: حسن خلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإجابته إِلَى مَا يلْتَمس مِنْهُ أَصْحَابه وإجراؤهم على الْعَادة البشرية فِي الِاحْتِيَاج إِلَى الزَّاد فِي السّفر.
وَفِيه: منقبة ظَاهِرَة لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دَالَّة على يقينه بإجابة دُعَاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى حسن نظره للْمُسلمين،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: استنبط مِنْهُ بعض الْفُقَهَاء أَنه يجوز للْإِمَام فِي الغلاء إِلْزَام مَا عِنْده من فَاضل قوته أَن يُخرجهُ للْبيع لما فِي ذَلِك من صَلَاح النَّاس.