فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب التنكيل لمن أكثر الوصال

( بابُُ التَّنْكِيلِ لِمَنْ أكْثَرَ الوِصَالَ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان تنكيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن أَكثر الْوِصَال فِي صَوْمه، والتنكيل من النكال وَهُوَ الْعقُوبَة الَّتِي تنكل النَّاس عَن فعل جعلت لَهُ جَزَاء، وَقد نكل بِهِ تنكيلاً وَنكل بِهِ إِذا جعله عِبْرَة لغيره، وَقيد الأكثرية يقْضِي عدم النكال فِي الْقَلِيل، وَلَكِن لَا يلْزم من عدم النكال الْجَوَاز.

رَوَاهُ أنَس عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى التنكيل لمن أَكثر الْوِصَال أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب التَّمَنِّي فِي: بابُُ مَا يجوز من اللوم، من طَرِيق حميد بن ثَابت ( عَن أنس قَالَ: وَاصل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخر الشَّهْر وواصل أنَاس من النَّاس، فَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لَو مد بِي الشَّهْر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إِنِّي لست مثلكُمْ، إِنِّي أظل يطعمني رَبِّي ويسقيني) .
وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا من حَدِيث حميد عَن ثَابت ( عَن أنس، قَالَ: وَاصل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أول شهر رَمَضَان، فواصل نَاس من الْمُسلمين، فَبَلغهُ ذَلِك، فَقَالَ: لَو مد لنا الشَّهْر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إِنَّكُم لَسْتُم مثلي، أَو قَالَ: إِنِّي لست مثلكُمْ إِنِّي أظل يطعمني رَبِّي ويسقيني) .



[ قــ :1882 ... غــ :1965 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الوِصَالِ فِي الصَّوْمِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ إنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رسولَ الله قَالَ وأيُّكُمْ مِثْلِي إنَّي أبيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي فَلَمَّا أبَوْا أنْ يَنْتَهُوا عنِ الوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْما ثُمَّ يَوْما ثُمَّ رَأوْا الْهِلاَلَ فَقَالَ لَوْ تَأخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كالتَّنْكِيل لَهُمْ حِينَ أبَوْا أنْ يَنْتَهُوا.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( لَو تَأَخّر لزدتكم.
.
)
إِلَى آخِره، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم أَيْضا عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن أَبِيه عَن شُعَيْب بِهِ.
قَوْله: ( حَدثنِي أَبُو سَلمَة) ، ويروى: ( أَخْبرنِي) ، هَكَذَا رَوَاهُ شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ وَتَابعه عقيل عَن الزُّهْرِيّ كَمَا سَيَأْتِي فِي: بابُُ التعذير، وَمعمر كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّمَنِّي، وَتَابعه يُونُس عِنْد مُسلم، وَخَالفهُم عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر، فَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، علقه المُصَنّف فِي الْمُحَاربين، وَفِي التَّمَنِّي وَلَيْسَ اخْتِلَافا ضارا، فقد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي ( الْعِلَل) من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن خَالِد هَذَا عَن الزُّهْرِيّ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن نمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد، وَأبي سَلمَة جَمِيعًا عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا ذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن الزبيد تَابع ابْن نمر على الْجمع بَينهمَا.
قَوْله: ( قَالَ لَهُ رجل) وَفِي رِوَايَة عقيل: ( فَقَالَ لَهُ رجل) .
قَوْله: ( فَلَمَّا أَبَوا) قيل: كَيفَ جَازَ للصحابة مُخَالفَة حكم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُم فَهموا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه للتنزيه لَا للتَّحْرِيم.
قَوْله: ( عَن الْوِصَال) ، فِي رِوَايَة الْكشميهني: ( من الْوِصَال) .
قَوْله: ( يَوْمًا ثمَّ يَوْمًا ثمَّ رَأَوْا الْهلَال) ، ظَاهره أَن المواصلة بهم كَانَت يَوْمَيْنِ، وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة معمر.
قيل: كَيفَ جوز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم الْوِصَال؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ احْتمل للْمصْلحَة تَأْكِيدًا لزجرهم وبيانا للمفسدة المترتبة على الْوِصَال، وَهِي: الْملَل من الْعِبَادَة والتعرض للتقصير فِي سَائِر الْوَظَائِف.
قَوْله: ( لَو تَأَخّر) أَي: الْهلَال وَهُوَ الشَّهْر.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ جَوَاز قَول: فَإِن قلت: ورد النَّهْي عَن ذَلِك { } قلت: النَّهْي فِيمَا لَا يتَعَلَّق بالأمور الشَّرْعِيَّة.
قَوْله: ( لزدتكم) ، أَي: فِي الْوِصَال إِلَى أَن تعجزوا عَنهُ، فتسألوا التَّخْفِيف عَنهُ بِالتّرْكِ.
قَوْله: ( كالتنكيل) ، وَفِي رِوَايَة معمر: ( كالمنكل لَهُم) ، وَوَقع عِنْد الْمُسْتَمْلِي: ( كالمنكر) ، من الإنكاء بالراء فِي آخِره، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: ( المنكي) بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون، على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من الْإِنْكَار، قَالَ بَعضهم: المنكي من النكاية.
قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل من الإنكاء لِأَنَّهُ من بابُُ الْمَزِيد، لَا يَذُوق مثل هَذَا إلاَّ من لَهُ يَد فِي التصريف.
قَوْله: ( حِين أَبَوا) أَي: حِين امْتَنعُوا.
قَوْله: ( أَن ينْتَهوا) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: الِانْتِهَاء.





[ قــ :1883 ... غــ :1966 ]
- حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامٍ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إيَّاكُمْ والوِصَالِ مَرَّتَيْنِ قِيلَ إنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي فاكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى وَقع كَذَا غير مَنْسُوب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا يحيى بن مُوسَى،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يحيى هُوَ إِمَّا يحيى بن مُوسَى الْبَلْخِي، وَإِمَّا يحيى بن جَعْفَر البُخَارِيّ.
قلت: يحيى بن مُوسَى بن عبد ربه بن سَالم أَبُو زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الْحدانِي الْبَلْخِي، يُقَال لَهُ: خت.
قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَيحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو زَكَرِيَّا البُخَارِيّ البيكندي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ.

قَوْله: ( إيَّاكُمْ والوصال) مرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق بِهَذَا الْإِسْنَاد: ( إيَّاكُمْ والوصال) ، فعلى هَذَا قَوْله: ( مرَّتَيْنِ) اخْتِصَار من البُخَارِيّ أَو من شَيْخه، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: ( إيَّاكُمْ والوصال) ثَلَاث مَرَّات، وَإِسْنَاده صَحِيح، وانتصاب الْوِصَال على التحذير يَعْنِي: احْذَرُوا الْوِصَال.
قَوْله: ( أَبيت) ، كَذَا فِي الطَّرِيقَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة لفظ أَبيت، وَقد تقدم فِي رِوَايَة أنس بِلَفْظ: ( أظل) .
وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن عَائِشَة، وَأكْثر الرِّوَايَات، وَكَانَ بعض الروَاة عبر عَن ( أَبيت) بِلَفْظ: أظل نظرا إِلَى اشتراكهما فِي مُطلق الْكَوْن، أَلا يرى أَنه يُقَال: أضحى فلَان كَذَا، مثلا وَلَا يُرَاد بِهِ تَخْصِيص ذَلِك بِوَقْت الضُّحَى، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: { وَإِذا بشر أحدهم بِالْأُنْثَى ظلّ وَجهه مسودا} ( النَّحْل: 85) .
فَإِن المُرَاد بِهِ مُطلق الْوَقْت وَلَا اخْتِصَاص لذَلِك بنهار دون ليل.
قَوْله: ( فاكلفوا) بِفَتْح اللَّام لِأَنَّهُ من: كلفت بِهَذَا الْأَمر أكلف، من: بابُُ علم يعلم، أَي: أولعت بِهِ، وَالْمعْنَى هَهُنَا: تكلفوا مَا تطيقونه، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، وتطيقونه، صلَة وعائد، أَي الَّذِي تقدرون عَلَيْهِ وَلَا تتكلفوا فَوق مَا تطيقونه فتعجزوا.