فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم

( بابُُ مَا يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلاَحِ فِي العِيدِ والحَرَمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الَّذِي يكره من حمل السِّلَاح، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة.
أعترض بِأَن هَذِه التَّرْجَمَة تخَالف التَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ قَوْله: بابُُ الخراب والدرق يَوْم الْعِيد.
بَيَان ذَلِك أَن التَّرْجَمَة تدل على الْإِبَاحَة وَالنَّدْب لدلَالَة حَدِيثهَا عَلَيْهَا، وَهَذِه التَّرْجَمَة تدل على الْكَرَاهَة وَالتَّحْرِيم، لقَوْل عبد الله بن عمر فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي: من أَمر بِحمْل السِّلَاح فِي يَوْم لَا يحل فِيهِ حمله.
.
وَأجِيب: بِأَن حَدِيث التَّرْجَمَة الأولى يدل على وُقُوعهَا مِمَّن حملهَا بالتحفظ عَن إِصَابَة أحد من النَّاس، وَطلب السَّلامَة من إِيصَال الْإِيذَاء إِلَى أحد، وَحَدِيث هَذِه التَّرْجَمَة يدل على قلَّة مبالاة حامله وَعدم احترازه عَن إِيصَال الْأَذَى إِلَى أحد مِنْهُ، بل الظَّاهِر أَن حمله إِيَّاه هَهُنَا لم يكن إلاّ بطرا وأشرا، وَلَا سِيمَا عِنْد مزاحمة النَّاس والمسالك الضيقة.

وقالَ الحَسَنُ نُهُوا أنْ يَحْمِلُوا السِّلاَحَ يَوْمَ عِيدٍ إلاّ أَن يَخَافُوا عدُوّا
الْحسن: هُوَ الْبَصْرِيّ وَقَوله: ( نوا) بِضَم النُّون وَأَصله: نهيوا، مثل نفوا أَصله: نفيوا.
استثقلت الضمة على الْيَاء فنقلت إِلَى مَا قبلهَا بعد سلب حَرَكَة مَا قبلهَا ثمَّ حذفت الْيَاء لالتقاء الساكنين.
وَجه النَّهْي خوفًا من إِيصَال أَذَى لأحد، وَوجه الِاسْتِثْنَاء أَن الْخَوْف من الْعَدو يُبِيح مَا حرم من حمل السِّلَاح للضَّرُورَة، وروى عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد مُرْسل، قَالَ: ( نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخرج بِالسِّلَاحِ يَوْم الْعِيد) ، وروى ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد ضَعِيف عَن ابْن عَبَّاس: ( إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن يلبس السِّلَاح فِي بِلَاد الْإِسْلَام فِي الْعِيدَيْنِ إلاّ أَن يَكُونُوا بِحَضْرَة الْعَدو) .



[ قــ :937 ... غــ :966 ]
- حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحْيَى أبُو السُّكَيْنِ قَالَ حدَّثنا المُحَارِبِيُّ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سُوقَةَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ ابنِ عُمَرَ حِينَ أصابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أخْمَصِ قَدَمِهِ فلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ فنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا وَذالِكَ بِمِنىً فبَلَغَ الحَجَّاجُ فجَعَلَ يَعُودُهُ فقالَ الحَجِّاجُ لَوْ نَعْلَمُ منْ أصابَكَ فَقَالَ ابنُ عُمَرَ أنْتَ أصَبْتَنِي قَالَ وكَيْفَ قَالَ حَمَلْتَ السِّلاَحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ وأدْخَلْتَ السِّلاَحَ الحَرَمَ ولَمْ يَكُنْ السِّلاَحُ يُدْخَلُ الحَرَمَ ( الحَدِيث 966 طرفه فِي: 967) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( لم يكن يحمل فِيهِ) إِلَى آخر الحَدِيث.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: زَكَرِيَّا بن يحيى بن عمر الطَّائِي الْكُوفِي، وكنيته أَبُو السكين، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون، وَقد مر فِي أول كتاب التَّيَمُّم.
الثَّانِي: الْمحَاربي، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد يكنى أَبَا مُحَمَّد، مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن سوقة، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْقَاف: أَبُو بكر الغنوي الْكُوفِي.
الرَّابِع: سعيد بن جُبَير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الْخَامِس: عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده.
وَفِيه: أَن الروَاة كلهم كوفيون.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، لِأَن مُحَمَّد بن سوقة تَابِعِيّ صَغِير من أجلة النَّاس.

وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعِيدَيْنِ عَن أَحْمد بن يَعْقُوب عَن إِسْحَاق بن سعيد عَن مُحَمَّد بن سوقة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( أَخْمص قدمه) ، بِإِسْكَان الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْمِيم وبالصاد الْمُهْملَة، قَالَ ثَابت فِي ( كتاب خلق الْإِنْسَان) : وَفِي الْقدَم الأخمص وَهُوَ خصر بَاطِنهَا الَّذِي يتجافى عَن الأَرْض لَا يُصِيبهَا إِذا مَشى الْإِنْسَان.
وَفِي ( الْمُحكم) : هُوَ بَاطِن الْقدَم، وَمَا رق من أَسْفَلهَا.
قَوْله: ( فنزعتها) ، أَي: فنزعت السنان، وَإِنَّمَا أنث الضَّمِير إِمَّا بِاعْتِبَار السِّلَاح لِأَنَّهُ مؤنث، وَإِمَّا بِاعْتِبَار أَنَّهَا حَدِيدَة، أَو يكون الضَّمِير رَاجعا إِلَى: الْقدَم، فَيكون من بابُُ الْقلب كَمَا يُقَال: أدخلت الْخُف فِي الرجل.
قَوْله: ( وَذَلِكَ بمنى) أَي: مَا ذكر وَقع فِي منى، وَهُوَ يصرف وَيمْنَع، سمي بهَا لِأَن الدِّمَاء تمنى فِيهَا أَي: تراق، أَو لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، لما أَرَادَ مُفَارقَة آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ لَهُ: تمن فَقَالَ: أَتَمَنَّى الْجنَّة، أَو لتقدير الله فِيهَا الشعائر من منى الله أَي: قدره.
قَوْله: ( فَبلغ الْحجَّاج) أَي: ابْن يُوسُف الثَّقَفِيّ، وَكَانَ إِذْ ذَاك أَمِيرا على الْحجاز، وَذَلِكَ بعد قتل عبد الله بن الزبير بِسنة، وَكَانَ عَاملا على الْعرَاق عشْرين سنة وَفعل فِيهَا مَا فعل من سفك الدِّمَاء والإلحاد فِي حرم الله وَغير ذَلِك من الْمَفَاسِد، مَاتَ بواسط سنة خمس وَتِسْعين وَدفن بهَا، وَعفى قَبره وَأجْرِي عَلَيْهِ المَاء.
قَوْله: ( فجَاء) ، أَي: الْحجَّاج ( يعودهُ) أَي: يعود عبد الله بن عمر، وَهِي جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال.
وَقَوله: ( فجَاء) ، رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ ( فآتاه) وَفِي رِوَايَة غَيره: ( فَجعل يعودهُ) ، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة الَّتِي وضعت للدلالة على الشُّرُوع فِي الْعَمَل، وَيعود خَبره.
قَوْله: ( لَو نعلم) ، بنُون الْمُتَكَلّم، ( مَا أَصَابَك) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: ( لَو نعلم من أَصَابَك) ، وَجَوَاب: لَو، مَحْذُوف تَقْدِيره: لجازيناه أَو عزرناه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة ابْن سعد عَن ابي نعيم عَن إِسْحَاق بن سعيد، فَقَالَ فِيهِ: ( لَو نعلم من أَصَابَك عاقبناه) .
وَله من وَجه آخر قَالَ: لَو أعلم الَّذِي أَصَابَك لضَرَبْت عُنُقه، وَيجوز أَن تكون كلمة: لَو، لِلتَّمَنِّي، فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَاعْلَم أَن الْإِصَابَة تسْتَعْمل متعدية إِلَى مفعول نَحْو أَصَابَهُ سِنَان الرمْح، وَإِلَى مفعولين نَحْو أَنْت أصبتني أَي سنانه.
قَوْله: ( أَنْت أصبتني) خطاب ابْن عمر للحجاج، وَفِيه نِسْبَة الْفِعْل إِلَى الْآمِر بِشَيْء يتسبب مِنْهُ ذَلِك الْفِعْل، لَكِن حكى الزبير فِي ( الْأَنْسَاب) : أَن عبد الْملك لما كتب إِلَى الْحجَّاج: أَن لَا يُخَالف ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، شقّ عَلَيْهِ، فَأمر رجلا مَعَه حَرْبَة، يُقَال: إِنَّهَا مَسْمُومَة، فلصق ذَلِك الرجل بِهِ، فَأمر الحربة على قدمه فَمَرض مِنْهَا أَيَّامًا ثمَّ مَاتَ.
وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَسبعين.
قَوْله: ( قَالَ: وَكَيف؟) أَي: قَالَ الْحجَّاج: وَكَيف أصبتك.
قَالَ ابْن عمر: حملت السِّلَاح فِي يَوْم أَي فِي يَوْم الْعِيد لم يكن يحمل فِيهِ سلَاح، وأدخلت السِّلَاح فِي حرم مَكَّة وخالفت السّنة من وَجْهَيْن: لِأَنَّهُ حمل السِّلَاح فِي غير مَكَانَهُ وَغير زَمَانه.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن منى من الْحرم.
وَفِيه: الْمَنْع من حمل السِّلَاح فِي الْحرم للأمن الَّذِي جعله الله لجَماعَة الْمُسلمين فِيهِ لقَوْله تَعَالَى: { وَمن دخله كَانَ آمنا} ( آل عمرَان: 97) .
وَحمل السِّلَاح فِي الْمشَاهد الَّتِي لَا يحْتَاج إِلَى الْحَرْب فِيهَا مَكْرُوه لما يخْشَى فِيهَا من الْأَذَى والعقر عِنْد تزاحم النَّاس، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للَّذي رَآهُ يحمل: ( أمسك بنصالها لَا تعقرن بهَا مُسلما) .
فَإِن خَافُوا عدوا فمباح حملهَا، كَمَا قَالَ الْحسن: وَقد أَبَاحَ الله تَعَالَى حمل السِّلَاح فِي الصَّلَاة فِي الْخَوْف.
فَإِن قلت: ذكر فِي كتاب الصريفيني، لما أنكر عبد الله على الْحجَّاج نصب المنجنيق يَعْنِي: على الْكَعْبَة، وَقتل عبد الله بن الزبير، أَمر الْحجَّاج بقتْله، فَضَربهُ بِهِ رجل من أهل الشَّام ضَرْبَة، فَلَمَّا أَتَاهُ الْحجَّاج يعودهُ قَالَ لَهُ عبد الله: تقتلني ثمَّ تعودني؟ كفى الله حكما بيني وَبَيْنك؟ هَذَا صَرِيح بِأَنَّهُ أَمر بقتْله وَهُوَ قَاتله، وَلِهَذَا قَالَ عبد الله: تقتلني ثمَّ تعودني؟ وَفِيمَا حَكَاهُ الزبير فِي ( الْأَنْسَاب) الْأَمر بِالْقَتْلِ غير صَرِيح، وروى ابْن سعد من وَجه آخر أَن الْحجَّاج دخل على ابْن عمر يعودهُ لما أُصِيبَت رجله، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن هَل تَدْرِي من أصَاب رجلك؟ قَالَ: لَا.
قَالَ أما وَالله لَو علمت من أَصَابَك لقتلته! قَالَ: فَأَطْرَقَ ابْن عمر، فَجعل لَا يكلمهُ وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ، فَوَثَبَ كالمغضب.
قلت: يحْتَمل تعدد الْوَاقِعَة وتعدد السُّؤَال، وَأما أَمر عبد الله مَعَه فَثَلَاثَة أَحْوَال: الأولى: عرض بِهِ، وَالثَّانيَِة: صرح بِهِ، وَالثَّالِثَة: أعرض عَنهُ وَلم يتَكَلَّم بِشَيْء.
وَفِيه: ميل من البُخَارِيّ إِلَى أَن قَول الصَّحَابِيّ: كَانَ يفعل كَذَا، على صِيغَة الْمَجْهُول حكم مِنْهُ بِرَفْعِهِ.





[ قــ :938 ... غــ :967 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يَعْقُوبَ قَالَ حدَّثني إسْحَاقُ بنُ سَعيدٍ بنِ عَمْرِو بنِ سعِيدِ بنِ العَاصِي عنْ أبِيهِ قَالَ دَخَلَ الحجَّاجُ عَلَى ابنِ عُمَرَ وَأنَا عِنْدَهُ فَقَالَ كَيْفَ هُوَ فَقَالَ صالِحٌ فَقَالَ منْ أصَابَكَ قَالَ أصَابَنِي مَنْ أمَرَ بِحَمْلِ السِّلاَحِ فِي يَوْمٍ لاَ يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُهُ يَعْنِي الحَجَّاجَ.
( انْظُر الحَدِيث 966) .


مطابقته للجزء الْأَخير للتَّرْجَمَة وَهُوَ قَوْله: ( من أَمر بِحمْل السِّلَاح.
.
)
إِلَخ، وَأحمد بن يَعْقُوب أَبُو يَعْقُوب المَسْعُودِيّ الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَإِسْحَاق بن سعيد هُوَ أَخُو خَالِد بن سعيد الْأمَوِي الْقرشِي، مَاتَ سنة سِتّ وَسبعين وَمِائَة، وَأَبُو سعيد بن عَمْرو بن سعيد ابْن الْعَاصِ الْقرشِي الْأمَوِي، يكنى أَبَا عُثْمَان، مر فِي: بابُُ الِاسْتِنْجَاء بِالْحِجَارَةِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: ( يَعْنِي: الْحجَّاج) بِالنّصب على المفعولية، وقائله هُوَ ابْن عمر، وَزَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي هَذِه الطَّرِيق قَالَ: لَو عَرفْنَاهُ لعاقبناه، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن النَّاس نفروا عَشِيَّة وَرجل من أَصْحَاب الْحجَّاج عَارض حربته، فَضرب ظهر قدم ابْن عمر فَأصْبح وَهنا مِنْهَا ثمَّ مَاتَ.