فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما يحقن بالأذان من الدماء

(بابُُ مَا يُحْقَنُ بِالآذَانِ مِنَ الدِّمَاءِ)
أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا يمْنَع من الدِّمَاء بِسَبَب الْأَذَان، يُقَال: حقنت لَهُ دَمه أَي: منعت من قَتله وإراقته، أَي: جمعته لَهُ وحبسته عَلَيْهِ، وأصل الحقن الْحَبْس، وَمِنْه الحاقن لِأَنَّهُ يحبس بَوْله أَو غائطه فِي بَطْنه، وَمِنْه: حقن اللَّبن، إِذا حَبسه فِي السقاء، والدماء جمع: دم.



[ قــ :594 ... غــ :610 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَس بن مَالِكٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إِذا غَزَا بِنَا قوْما لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ ويَنْظُرَ فإنْ سَمِعَ أذَانا كَفَّ عَنْهُمْ وإنْ لَمْ يَسْمَعْ أذَانا أغَارَ عَلَيْهِمْ قَالَ فَخَرَجْنَا إلَى خَيْبَرَ فانْتَهَيْنَا إلَيْهِمْ لَيْلاً فلَمَّا أصْبَحَ ولَمْ يَسْمَعْ أذَانا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أبي طلْحَةَ وإنَّ قَدَمي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَخَرَجُوا إلَيْنَا بِمَكاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فلَمَّا رَأُوا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا مُحَمَّدٌ واللَّهِ مُحَمَّدٌ والخَمِيسُ قَالَ فَلَمَّا رَآهُمُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ الله أكبرُ الله أكبرُ خَربَتْ خَيْبَرُ إنَّا إِذا نَزَلْنا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد سبق فِي: بابُُ خوف الْمُؤمن أَن يحبط عمله، وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ، وَحميد الطَّوِيل.

وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن قُتَيْبَة فِي الْجِهَاد، وروى مُسلم طرفه الْمُتَعَلّق بِالْأَذَانِ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُغير إِذا طلع الْفجْر وَكَانَ يستمع الْأَذَان، فَإِن سمع الْأَذَان أمسك وإلاَّ أغار.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا غزا بِنَا) أَي: مصاحبا، فالباء للمصاحبة.
قَوْله: (لم يَغْزُو بِنَا) قَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ خمس نسخ.
قلت: الأولى: لم يَغْزُو، من: غزا يغزوا غزوا، وَالِاسْم: الْغُزَاة، وَكَانَ الأَصْل فِيهِ إِسْقَاط: الْوَاو عَلامَة، للجزم، وَلكنه على بعض اللُّغَات، وَهُوَ عدم إِسْقَاط الْوَاو، وإخراجه عَن الأَصْل.
ثمَّ قيل: هَذِه لُغَة، وَقيل: ضَرُورَة، وَلَا ضَرُورَة إلاَّ فِي الشّعْر كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(لم تهجو وَلم تدع)

ووروده هَكَذَا يدل على أَنَّهَا لُغَة، وَهِي، رِوَايَة كَرِيمَة.
وَالثَّانيَِة: لم يغز، مَجْزُومًا على أَنه بدل من لفظ: لم يكن.
وَهِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
الثَّالِثَة: لم يُغير، من الإغارات بِإِثْبَات الْيَاء بعد الْغَيْن، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَهُوَ على غير الأَصْل.
الرَّابِعَة: لم يغر من الإغارة أَيْضا لكنه على الأَصْل.
الْخَامِسَة: لم يَغْدُو، بِإِسْكَان الْغَيْن وبالدال الْمُهْملَة من: الغدو، ونقيض الرواح وَهِي رِوَايَة الْكشميهني.
قَوْله: (وَينظر) ، أَي: ينْتَظر.
قَوْله: (فخرجنا إِلَى خَيْبَر) ، وخيبر بلغَة الْيَهُود: حصن، وَقد ذكرنَا تَحْقِيق هَذَا فِي: بابُُ مَا يذكر من الْفَخْذ، فَإِن البُخَارِيّ ذكر بعض هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غزا خَيْبَر فصلينا عِنْدهَا صَلَاة الْغَدَاة بِغَلَس، فَركب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَركب أَبُو طَلْحَة وَأَنا رَدِيف أبي طَلْحَة، فَأجرى نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زقاق خَيْبَر، وَإِن ركبتي لتمس فَخذ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ حسر الْإِزَار عَن فَخذه حَتَّى كَأَنِّي أنظر إِلَى بَيَاض فَخذ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا دخل الْقرْيَة قَالَ: الله أكبر، خربَتْ خَيْبَر إِنَّا إِذا نزلنَا بِسَاحَة قوم فسَاء صباح الْمُنْذرين، قَالَهَا ثَلَاثًا) الحَدِيث.
وَأَبُو طَلْحَة وَهُوَ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور، واسْمه: زيد بن سهل، وَهُوَ زوج أم أنس.
.

     وَقَالَ  صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لصوت أبي طَلْحَة فِي الْجَيْش خير من فِئَة) ، وَرُوِيَ: (من مائَة رجل) قَوْله: (بمكاتلهم) ، هُوَ جمع: المكتل، بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ: القفة، أَي: الزنبيل، والمساحي، جمع: مسحاة وَهِي: المجرفة إِلَّا أَنَّهَا من الْحَدِيد.
قَوْله: (والجيش) أَي: جَاءَ مُحَمَّد والجيش، وَرُوِيَ بِالنّصب على أَنه مفعول مَعَه، ويروى (وَالْخَمِيس) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم وَهُوَ بِمَعْنى: الْجَيْش، سمي بِهِ لِأَنَّهُ خَمْسَة أَقسَام: قلب وميمنة وميسرة ومقدمة وساقة.
قَوْله: (خربَتْ خَيْبَر) ، إِنَّمَا قَالَ بخرابها لما رأى فِي أَيْديهم من الات الخراب من الْمساحِي وَغَيرهَا، وَقيل: أَخذه من اسْمهَا، وَالأَصَح أَنه أعلمهُ الله تَعَالَى بذلك.
قَوْله: (بِسَاحَة) الساحة: الفناء، وَأَصلهَا: الفضاء بَين الْمنَازل.
قَوْله: (فسَاء) كلمة: سَاءَ، مثل: بئس، من أَفعَال الذَّم و: (صباح) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: سَاءَ و: (الْمُنْذرين) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: بَيَان أَن الْأَذَان شعار لدين الْإِسْلَام، وَأَنه أَمر وَاجِب لَا يجوز تَركه، وَلَو أَن أهل بلد اجْتَمعُوا على تَركه وامتنعوا كَانَ للسُّلْطَان قِتَالهمْ عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: وَإِنَّمَا يحقن الدَّم بِالْأَذَانِ لِأَن فِيهِ الشَّهَادَة بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِقْرَار بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَهَذَا لمن قد بلغته الدعْوَة، وَكَانَ يمسك عَن هَؤُلَاءِ حَتَّى يسمع الْأَذَان ليعلم أَكَانَ النَّاس مجيبين للدعوة أم لَا، لِأَن الله وعده إِظْهَار دينه على الدّين كُله، وَكَانَ يطْمع فِي إسْلَامهمْ، وَلَا يلْزم الْيَوْم الْأَئِمَّة أَن يكفوا عَمَّن بلغته الدعْوَة لكَي يسمعوا أذانا، لِأَنَّهُ قد علم غائلتهم للْمُسلمين، فَيَنْبَغِي أَن تنتهز الفرصة فيهم.
وَفِيه: جَوَاز الإرداف على الدَّابَّة إِذا كَانَت مطيقة.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ التبكير عِنْد لِقَاء الْعَدو.
وَفِيه: جَوَاز الاستشهاد بالقران فِي الْأُمُور المحققة، وَيكرهُ مَا كَانَ على ضرب الْأَمْثَال فِي المحاورات ولغو الحَدِيث، تَعْظِيمًا لكتاب الله تَعَالَى.
وَفِيه: أَن الإغارة على الْعَدو يسْتَحبّ كَونهَا فِي أول النَّهَار، لِأَنَّهُ وَقت غفلتهم، بِخِلَاف ملاقاة الجيوش.
وَفِيه: أَن النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ يكون إسلاما، قَالَه الْكرْمَانِي، وَفِيه خلاف مَشْهُور.

<