فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم

( بابٌُ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهْوَ لاَ يَعْلَمُ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا تصدق رجل على شخص غَنِي، وَالْحَال أَنه لم يعلم أَنه غَنِي، يَعْنِي ظَنّه فَقِيرا.
وَجَوَاب: إِذا، مُقَدّر أَي: فصدقته مَقْبُولَة، وَإِن كَانَت وَقعت فِي غير محلهَا لعدم التَّقْصِير من جِهَته.


[ قــ :1366 ... غــ :1421 ]
- ( حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب قَالَ حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ قَالَ رجل لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد سَارِق فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق على سَارِق فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَدي زَانِيَة فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق اللَّيْلَة على زَانِيَة فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على زَانِيَة لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَدي غَنِي فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق على غَنِي فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على سَارِق وعَلى زَانِيَة وعَلى غَنِي فَأتي فَقيل لَهُ أما صدقتك على سَارِق فَلَعَلَّهُ أَن يستعف عَن سَرقته وَأما الزَّانِيَة فلعلها أَن تستعف عَن زنَاهَا وَأما الْغَنِيّ فَلَعَلَّهُ أَن يعْتَبر فينفق مِمَّا أعطَاهُ الله)
مطابقته للتَّرْجَمَة من قَوْله " فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد غَنِي " ( فَإِن قلت) الْمَذْكُور فِي الحَدِيث ثَلَاثَة أَشْيَاء فَمَا وَجه التَّرْجَمَة فِي التَّصَدُّق على الْغَنِيّ ( قلت) التَّصَدُّق على الْغَنِيّ لَا يجوز على كل حَال حَتَّى إِذا أعْطى زَكَاته لَغَنِيّ يَظُنّهُ فَقِيرا ثمَّ بَان لَهُ أَنه غَنِي يُعِيد زَكَاته عِنْد الْبَعْض على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما دَفعهَا إِلَى سَارِق فَقِيرا وَإِلَى زَانِيَة فقيرة فَهُوَ جَائِز بِلَا خلاف.
( ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة وَأَبُو الْيَمَان بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن حَمْزَة الْحِمصِي وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون ذكْوَان والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز ( ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِي رِوَايَة مَالك فِي الغرائب للدارقطني عَن أبي الزِّنَاد أَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز أخبرهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة وَفِيه راويان مذكوران بكنيتهما وَالْآخر بلقبه وَالْآخر مُجَردا عَن نِسْبَة فَافْهَم.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة بِالْإِسْنَادِ وَأخرجه مُسلم من حَدِيث مُوسَى بن عقبَة عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج " عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَالَ رجل لأتصدقن اللَّيْلَة بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد زَانِيَة فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق اللَّيْلَة على زَانِيَة قَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على زَانِيَة لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد غَنِي فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق على غَنِي قَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على غَنِي لأتصدقن بِصَدقَة فَخرج بِصَدَقَتِهِ فوضعها فِي يَد سَارِق فَأَصْبحُوا يتحدثون تصدق على سَارِق فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على زَانِيَة وعَلى غَنِي وعَلى سَارِق فَأتى فَقيل لَهُ أما صدقتك فقد قبلت أما الزَّانِيَة فلعلها تستعف بهَا عَن زنَاهَا وَلَعَلَّ الْغَنِيّ يعْتَبر فينفق مِمَّا أعطَاهُ الله وَلَعَلَّ السَّارِق يستعف بهَا عَن سَرقته " ( ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " قَالَ رجل " لم يعرف اسْمه وَوَقع عِنْد أَحْمد من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن الْأَعْرَج فِي هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ من بني إِسْرَائِيل قَوْله " لأتصدقن " فِي معرض الْقسم فَلذَلِك أكده بِاللَّامِ وَالنُّون الْمُشَدّدَة كَأَنَّهُ قَالَ وَالله لأتصدقن وَهُوَ من بابُُ الِالْتِزَام كالنذر قَوْله " بِصَدقَة " وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة عَن أبي أُميَّة عَن أبي الْيَمَان بِهَذَا الْإِسْنَاد " لأتصدقن اللَّيْلَة " وَفِي رِوَايَة مُسلم " لأتصدقن فِي اللَّيْلَة بِصَدقَة " قَوْله " فوضعها فِي يَد سَارِق " أَي فَوضع صدقته فِي يَد سَارِق من غير أَن يعلم أَنه سَارِق قَوْله " فَأَصْبحُوا " أَي الْقَوْم الَّذين فيهم هَذَا الرجل الْمُتَصَدّق قَوْله " يتحدثون " فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر أَصْبحُوا الَّذِي هُوَ من الْأَفْعَال النَّاقِصَة قَوْله " تصدق " على صِيغَة الْمَجْهُول هَذَا إِخْبَار فِي معنى التَّعَجُّب وَالْإِنْكَار وَفِي رِوَايَة أبي أُميَّة " تصدق اللَّيْلَة على سَارِق " وَفِي رِوَايَة ابْن لَهِيعَة " تصدق على فلَان السَّارِق " قَوْله " فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمد " أَي على تصدقي على سَارِق هَذَا وَارِد إِمَّا إنكارا أَو إِمَّا تَعَجبا أما الْإِنْكَار فَأن يجْرِي الْحَمد على الشُّكْر وَذَلِكَ أَنه لما جزم أَن يتَصَدَّق على مُسْتَحقّ لَيْسَ بعده بِدلَالَة التنكير فِي صَدَقَة أبرز كَلَامه فِي معرض القسمية تَأْكِيدًا وقطعا للقبول بِهِ فَلَمَّا جوزي بِوَضْعِهِ على يَد سَارِق حمد الله بِأَنَّهُ لم يقدر على من هُوَ أَسْوَأ حَالا من السَّارِق وَأما التَّعَجُّب فَأن يجْرِي الْحَمد على غير الشُّكْر وَأَن يعظم الله تَعَالَى عِنْد رُؤْيَة الْعجب كَمَا يُقَال سُبْحَانَ الله عِنْد مُشَاهدَة مَا يتعجب مِنْهُ وللتعظيم قرن بِهِ اللَّهُمَّ قَوْله " لَك الْحَمد على زَانِيَة " قَالَ الطَّيِّبِيّ لما قَالُوا تصدق على زَانِيَة تعجب هُوَ أَيْضا من فعل نَفسه.

     وَقَالَ  الْحَمد لله على زَانِيَة أَي أَتصدق عَلَيْهَا فَهُوَ مُتَعَلق بِمَحْذُوف انْتهى ( قلت) معنى قَوْله على زَانِيَة مُتَعَلق بِمَحْذُوف وَهُوَ قَوْله أتصدقت وَلَيْسَ هُوَ مُتَعَلقا بقوله لَك الْحَمد وَلم يفهم معنى هَذَا بَعضهم حَتَّى قَالَ وَلَا يخفى بعد هَذَا.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي ( فَإِن قلت) مَا معنى الْحَمد عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يكون إِلَّا على أَمر جميل وَمَا فَائِدَة تَقْدِيم لَك ( قلت) التَّقْدِيم يُفِيد الِاخْتِصَاص أَي لَك الْحَمد لَا لي على زَانِيَة حَيْثُ كَانَ التَّصَدُّق عَلَيْهَا بإرادتك لَا بإرادتي وَإِرَادَة الله تَعَالَى كلهَا جميلَة حَتَّى إِرَادَة الله الإنعام على الْكفَّار قَوْله " تصدق اللَّيْلَة على زَانِيَة " على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا وَكَذَلِكَ لفظ تصدق الثَّالِث قَوْله " فَأتى " على صِيغَة الْمَجْهُول أَي رأى فِي الْمَنَام أَو سمع هاتفا ملكا أَو غَيره أَو أخبرهُ نَبِي أَو أفتاه عَالم.

     وَقَالَ  ابْن التِّين يحْتَمل أَن يكون أخبرهُ بذلك نَبِي زَمَانه أَو أخبر فِي نَومه.

     وَقَالَ  صَاحب التَّلْوِيح لَو رأى مَا فِي مستخرج أبي نعيم لما احْتَاجَ إِلَى هَذَا التخرص وَهُوَ قَوْله فساءه ذَلِك فَأتى فِي مَنَامه فَقيل لَهُ إِن الله عز وَجل قد قبل صدقتك وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي مُسْند الشامين عَن أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب عَن أبي الْيَمَان بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور فساءه ذَلِك فَأتى فِي مَنَامه قَوْله " أما صدقتك على سَارِق " زَاد أَبُو أُميَّة " فقد قبلت " وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة وَابْن لَهِيعَة " أما صدقتك فقد قبلت " وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ " إِن الله قد قبل صدقتك " قَوْله " لَعَلَّه أَن يستعف " لَعَلَّ من الله تَعَالَى على معنى الْقطع والختم وَأَنه تَارَة يسْتَعْمل اسْتِعْمَال عَسى وَتارَة اسْتِعْمَال كَاد قَوْله " عَن زنَاهَا " قَالَ ابْن التِّين روينَاهُ بِالْمدِّ وَعند أبي ذَر بِالْقصرِ وَهِي لُغَة أهل الْحجاز وَالْمدّ لأهل نجد ( ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ دلَالَة على أَن الصَّدَقَة كَانَت عِنْدهم فِي أيامهم مُخْتَصَّة بِأَهْل الْحَاجة من أهل الْخَيْر وَلِهَذَا تعجبوا من الصَّدَقَة على الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة.
وَفِيه دَلِيل على أَن الله يَجْزِي العَبْد على حسب نِيَّته فِي الْخَيْر لِأَن هَذَا الْمُتَصَدّق لما قصد بِصَدَقَتِهِ وَجه الله تَعَالَى قبلت مِنْهُ وَلم يضرّهُ وَضعهَا عِنْد من لَا يَسْتَحِقهَا وَهَذَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع وَأما الزَّكَاة فَلَا يجوز دَفعهَا إِلَى الْأَغْنِيَاء.
وَفِيه اعْتِبَار لمن تصدق عَلَيْهِ بِأَن يتَحَوَّل عَن الْحَال المذمومة إِلَى الْحَال الممدوحة ويستعف السَّارِق من سَرقته والزانية من زنَاهَا والغني من إِمْسَاكه.
وَفِيه فضل صَدَقَة السِّرّ وَفضل الْإِخْلَاص.
وَفِيه اسْتحبَّ إِعَادَة الصَّدَقَة إِذا لم تقع الْموقع.
وَفِيه أَن الحكم للظَّاهِر حَتَّى يتَبَيَّن خِلَافه.
وَفِيه التَّسْلِيم والرضى وذم التضجر بِالْقضَاءِ وَفِيه مَا يحْتَج بِهِ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد فِيمَا إِذا أعْطى زَكَاته لشخص وظنه فَقِيرا فَبَان أَنه غَنِي سَقَطت عَنهُ تِلْكَ الزَّكَاة وَلَا تجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة وَحكي ذَلِك أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.

     وَقَالَ  أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَالْحسن بن صَالح لَا يجْزِيه وَعَلِيهِ الْإِعَادَة وَهُوَ قَول الثَّوْريّ لِأَنَّهُ لم يضع الصَّدَقَة موضعهَا وَأَخْطَأ فِي اجْتِهَاده كَمَا لَو نسي المَاء فِي رَحْله وَتيَمّم لصَلَاة لم يجزه فَافْهَم ( فَإِن قيل) هَذَا الْخَبَر خَاص وَقع فِيهِ الِاطِّلَاع على قبُول الصَّدَقَة برؤيا صَادِقَة اتّفق وُقُوعهَا فَهَل يتَعَدَّى هَذَا الحكم إِلَى غَيره ( قيل لَهُ) إِن التَّنْصِيص فِي هَذَا الْخَبَر على رَجَاء الاستعفاف فَيدل ذَلِك على التَّعْدِيَة فَيَقْتَضِي ارتباط الْقبُول بِهَذِهِ الْأَسْبابُُ