فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الخطإ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، ولا عتاقة إلا لوجه الله

(بابُُ الخَطَإ والنِّسْيانِ فِي العَتَاقَةِ والطَّلاقِ ونَحْوِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْخَطَأ وَالنِّسْيَان فِي الْعتْق وَالطَّلَاق، وَالْخَطَأ ضد الْعمد، فَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْخَطَأ نقيض الصَّوَاب، وَقد يمد، وقرىء بهما فِي قَوْله تَعَالَى: { وَمن قتل مُؤمنا خطأ} (النِّسَاء: 29) .
تَقول: أَخْطَأت وتخطأت، بِمَعْنى وَاحِد، وَلَا يُقَال: أخطيت،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: وَأَخْطَأ يخطىء: إِذا سلك سَبِيل الْخَطَأ عمدا أَو سَهوا، وَيُقَال: خطىء بِمَعْنى أَخطَأ أَيْضا، وَقيل: خطىء إِذا تعمد، وَأَخْطَأ إِذا لم يتَعَمَّد، وَيُقَال لمن أَرَادَ شَيْئا فَفعل غَيره أَو فعل غير الصَّوَاب: أَخطَأ.
وَالنِّسْيَان خلاف الذّكر وَالْحِفْظ، وَرجل نِسْيَان، بِفَتْح النُّون: كثير النسْيَان للشَّيْء، وَقد نسيت الشَّيْء نِسْيَانا، وَعَن أبي عُبَيْدَة: النسْيَان التّرْك، قَالَ تَعَالَى: { نسوا الله فنسيهم} (التَّوْبَة: 76) .
وَقد ذكرت فِي (شرح مَعَاني الْآثَار) الَّذِي ألفته: أَن الْخَطَأ فِي الإصطلاح هُوَ الْفِعْل فِي غير قصد تَامّ، وَالنِّسْيَان معنى يَزُول بِهِ الْعلم من الشَّيْء مَعَ كَونه ذَاكِرًا لأمورٍ كَثِيرَة، وَإِنَّمَا قيل ذَلِك احْتِرَازًا عَن النّوم وَالْجُنُون وَالْإِغْمَاء، وَقيل: النسْيَان عبارَة عَن الْجَهْل الطارىء، وَيُقَال؛ المأتى بِهِ إِن كَانَ على جِهَة مَا يَنْبَغِي فَهُوَ الصَّوَاب، وَإِن كَانَ لَا على مَا يَنْبَغِي نظر، فَإِن كَانَ مَعَ قصد من الْآتِي بِهِ يُسمى الْغَلَط، وَإِن كَانَ من غير قصد مِنْهُ، فَإِن كَانَ يتَنَبَّه بإيسر تَنْبِيه يُسمى السَّهْو، وإلاَّ يُسمى الْخَطَأ.
قَوْله: (وَنَحْوه) ، أَي: نَحْو مَا ذكر من الْعتَاقَة وَالطَّلَاق من الْأَشْيَاء الَّتِي يُرِيد الرجل أَن يتَلَفَّظ بِشَيْء مِنْهَا.
فَيَسْبق لِسَانه إِلَى غَيره،.

     وَقَالَ  بَعضهم: (وَنَحْوه) ، أَي: من التعليقات.
قلت: هَذَا التَّفْسِير لَيْسَ بِظَاهِر وَلَا لَهُ معنى يُفِيد صُورَة الْخَطَأ فِي الْعتاق إِن أَرَادَ التَّلَفُّظ بِشَيْء فَسبق لِسَانه، فَقَالَ لعَبْدِهِ: أَنْت حر، وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاق، قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق، بعد أَن أَرَادَ التَّلَفُّظ بِشَيْء،.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: طَلَاق الخاطىء وَالنَّاسِي والهازل واللاعب وَالَّذِي يكلم بِهِ من غير قصد وَاقع، وَصُورَة النَّاسِي فِيمَا إِذا حلف وَنسي،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: النسْيَان لَا يكون فِي الطَّلَاق وَلَا الْعتاق إلاَّ أَن يُرِيد أَنه حلف بهما على فعل شَيْء ثمَّ نسي يَمِينه وَفعله، فَهَذَا إِنَّمَا يوضع فِيهِ النسْيَان إِذا لم يذكر فِيهِ يَمِينه، كَمَا تُوضَع الصَّلَاة عَمَّن نَسِيَهَا إِذا لم يذكرهَا حَتَّى يَمُوت، وَكَذَلِكَ دُيُون النَّاس وَغَيرهَا لَا يَأْثَم بِتَرْكِهَا نَاسِيا.
قَالَ ابْن التِّين: هَذَا من الدَّاودِيّ على مَذْهَب مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى.
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي النَّاسِي فِي يَمِينه: هَل يلْزمه حنث أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: لَا، وَهُوَ قَول عَطاء وَأحد قولي الشَّافِعِي، وَبِه قَالَ إِسْحَاق، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ فِي الْبابُُ.
وَثَانِيهمَا: وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وطاووس: من أَخطَأ فِي الطَّلَاق فَلهُ نِيَّته، وَفِيه قَول ثَالِث: يَحْنَث فِي الطَّلَاق خَاصَّة، قَالَه أَحْمد، وَذهب مَالك والكوفيون إِلَى أَنه يَحْنَث فِي الْخَطَأ أَيْضا، وَادّعى ابْن بطال أَنه الْأَشْهر عَن الشَّافِعِي، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أَصْحَاب ابْن مَسْعُود.
وَاخْتلف ابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب فِيمَا إِذا دَعَا رجل عبدا يُقَال لَهُ نَاصح، فَأَجَابَهُ عبد يُقَال لَهُ مَرْزُوق، فَقَالَ لَهُ: أَنْت حر، وَهُوَ يظنّ الأول، وَشهد عَلَيْهِ بذلك، فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يعتقان جَمِيعًا: مَرْزُوق بمواجهته بِالْعِتْقِ، وناصح بِمَا نَوَاه، وَأما فِيمَا بَينه وَبَين الله فَلَا يعْتق إلاَّ نَاصح.
.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم: إِن لم يكن لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة لم يعْتق إلاَّ الَّذِي نوى،.

     وَقَالَ  أَشهب: يعْتق مَرْزُوق فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى، وَفِيمَا بَينه وَبَين الله لَا يعْتق نَاصح، لِأَنَّهُ دَعَاهُ لِيعْتِقَهُ فَأعتق غَيره وَهُوَ يَظُنّهُ مرزوقاً.

ولاَ عَتَاقَةَ إلاَّ لِوَجْهِ الله تَعَالَى
روى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: لَا طَلَاق إلاَّ لعدة، وَلَا عتاق إلاَّ لوجه الله، وَمعنى: لَا عتاقة إلاَّ لوجه الله، أَي: لذات الله أَو لجِهَة رِضَاء الله، قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ بإيراد هَذَا الرَّد على الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم: إِذا قَالَ الرجل لعَبْدِهِ: أَنْت حر للشَّيْطَان أَو للصنم، فَإِنَّهُ يعْتق لصدوره من أَهله مُضَافا إِلَى مَحَله عَن ولَايَة فنفذ، ولغت تَسْمِيَة الْجِهَة وَكَانَ عَاصِيا بهَا.
وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: تَصْحِيح الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالْآخر: بعد التَّسْلِيم أَن المُرَاد بِهِ أَن يكون نِيَّة الْمُعْتق الْإِخْلَاص فِيهَا، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، فَإِذا لم يكن خَالِصا فِي نِيَّته يكون عَاصِيا بِذكر غير الله، كَمَا ذكرنَا، وَترك هَذَا لَا يمْنَع وُقُوع الْعتْق لقضية: أَنْت حر، وَالْبَاقِي لَغْو.

وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد مر فِي أول الْكتاب بِلَفْظ: (وَإِنَّمَا لكل امرىء مَا نوى) .
وَأوردهُ فِي أَوَاخِر كتاب الْإِيمَان: (وَلكُل امرىء مَا نوى) .
فَإِن قلت: مَا مُرَاده من ذكر هَذِه الْقطعَة هَهُنَا؟ قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَأْكِيد مَا سبق من عدم وُقُوع الْعتاق إِذا كَانَ لغير وَجه الله، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَلكنه لَا يُفِيد شَيْئا، لِأَن النِّيَّة أَمر مبطن وَوُقُوع الْإِعْتَاق غير مُتَوَقف عَلَيْهِ، بل الْوُقُوع بِمُقْتَضى الْكَلَام الصَّحِيح، فَلَا يمنعهُ تَسْمِيَة الْجِهَة اللَّغْو.

ولاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِي والْمُخْطِىء
كَأَنَّهُ استنبط من قَوْله: (لكل امرىء مَا نوى) ، عدم وُقُوع الْعتاق من النَّاسِي والمخطىء لِأَنَّهُ لَا نِيَّة لَهما، وَفِيه نظر، لِأَن الْوُقُوع إِنَّمَا هُوَ بِمُقْتَضى كَلَام صَحِيح صادر من عَاقل بَالغ، والمخطىء من: أَخطَأ من أَرَادَ الصَّوَاب فَصَارَ إِلَى غَيره، وَوَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: الخاطىء من خطأ، وَهُوَ من تعمد لما لَا يَنْبَغِي.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون أَشَارَ بالترجمة إِلَى مَا ورد فِي بعض الطّرق، وَهُوَ الحَدِيث الَّذِي يذكرهُ أهل الْفِقْه وَالْأُصُول كثيرا بِلَفْظ: (رفع الله عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ، أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس، إلاَّ أَنه بِلَفْظ: وضع، بدل: رفع.
انْتهى.
قلت: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى هَذَا الحَدِيث الَّذِي أخبر بِأَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان رفعا عَن أمته، فَلَا يَتَرَتَّب على النَّاسِي والمخطىء حكم، وَذَلِكَ لعدم النِّيَّة فيهمَا، والأعمال بِالنِّيَّاتِ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يَقع الْعتاق من النَّاسِي والمخطىء، وَكَذَلِكَ الطَّلَاق، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَار لَهُ فَصَارَ كالنائم والمغمى عَلَيْهِ، قُلْنَا: الِاخْتِيَار أَمر بَاطِن لَا يُوقف عَلَيْهِ إلاَّ بحرج فَلَا يَصح تَعْلِيق الحكم عَلَيْهِ، أما هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ صَحِيح، فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد رِجَاله رجال الصَّحِيح غير شَيْخه، حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن، قَالَ: حَدثنَا بشر بن بكر، قَالَ: أخبرنَا الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء عَن عبيد بن عُمَيْر عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تجَاوز الله لي عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَالَّذِي أعله إِنَّمَا أعل إِسْنَاد ابْن مَاجَه الَّذِي أخرجه عَن مُحَمَّد بن الْمُصَفّى الْحِمصِي: حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن الله وضع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا كَمَا ترى أسقط: عبيد بن عُمَيْر، وَأَيْضًا أعله بِأَنَّهُ من رِوَايَة الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَالصَّحِيح طَرِيق الطَّحَاوِيّ، وَأخرج نَحوه الدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم، وَرَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق الرّبيع وَصَححهُ،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ فِي الْأَرْبَعين: هُوَ حَدِيث حسن صَحِيح.
قَوْله: (تجَاوز الله) أَي: عَفا الله.
قَوْله: (لي) ، أَي: لأجلي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يتَجَاوَز ذَلِك إلاَّ عَن هَذِه الْأمة لأجل سيدنَا مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (الْخَطَأ وَالنِّسْيَان) ، أَي: حكمهمَا فِي حق الله لَا فِي حُقُوق الْعباد، لِأَن فِي حَقه عذرا صَالحا لسقوطه، حَتَّى قيل إِن الخاطىء لَا يَأْثَم، فَلَا يُؤَاخذ بِحَدّ وَلَا قصاص.
وَأما فِي حُقُوق الْعباد فَلم يَجْعَل عذرا حَتَّى وَجب ضَمَان الْعدوان على الخاطىء، لِأَنَّهُ ضَمَان مَال لَا جَزَاء فعل، وَوَجَب بِهِ الدِّيَة وَصَحَّ طَلَاقه وعتاقه.



[ قــ :2418 ... غــ :2528 ]
- حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا مِسْعَرٌ عنْ قَتادَةَ عنْ زُرَارَةَ بنِ أوْفَى عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الله تَجَاوَزَ لِي عنْ أُمَّتِي مَا وسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُها مَا لَمْ تَعْمَلْ أوْ تَكَلَّمْ..
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْء يُطَابق التَّرْجَمَة، لِأَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي وَسْوَسَة الصُّدُور، وَلَو ذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور الْآن لَكَانَ أنسب، وَأجَاب الْكرْمَانِي بِشَيْء يقرب مِنْهُ أَخذ وَجه الْمُطَابقَة حَيْثُ قَالَ: أَولا: مَا وَجه تعلق الحَدِيث بالوسوسة؟ ثمَّ قَالَ: قلت: الْقيَاس على الوسوسة، فَكَمَا أَنَّهَا لَا اعْتِبَار لَهَا عِنْد عدم التوطين، فَكَذَلِك النَّاسِي والمخطىء، لَا توطين لَهما.

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء نِسْبَة إِلَى حميد، أحد أجداد الرَّاوِي، وَهُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى بن عبيد الله بن أُسَامَة بن عبد الله بن الزبير بن حميد أَبُو بكر.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
الثَّالِث: مسعر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين وَفتح الْعين الْمُهْملَة: ابْن كدام.
الرَّابِع: قَتَادَة.
الْخَامِس: زُرَارَة، بِضَم الزَّاي وَتَخْفِيف الرَّاء: ابْن أبي أوفى بِلَفْظ: أفعل التَّفْضِيل العامري، مَاتَ فجاءة سنة ثَلَاث وَتِسْعين، وَقيل: كَانَ يُصَلِّي صَلَاة الصُّبْح فَقَرَأَ { يَا أَيهَا المدثر} (المدثر: 1) .
إِلَى أَن بلغ { فَإِذا نقر فِي الناقور} (المدثر: 8) .
خر مَيتا.
السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مكيان، والْحميدِي قد مر فِي أول (الصَّحِيح) .
وَفِيه: حَدثنَا الْحميدِي، ويروى: حَدثنِي بِصِيغَة الْإِفْرَاد.
وَفِيه: أَن مسعراً وَقَتَادَة كوفيان، وَأَن زُرَارَة بَصرِي قَاضِي الْبَصْرَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ أَحَادِيث يسيرَة.
وَفِيه: عَن زُرَارَة، وَفِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور: حَدثنَا زُرَارَة.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَفِي النذور عَن خَلاد بن يحيى.
وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة وَسَعِيد بن مَنْصُور وَمُحَمّد بن عبيد وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَن ابْن الْمثنى وَابْن بشار وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن زُهَيْر بن حَرْب عَن وَكِيع وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق عَن عبيد الله بن سعيد وَعَن مُوسَى بن عبد الرحمان وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ وَعَن حميد بن مسْعدَة وَعَن هِشَام بن عمار.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن الله تجَاوز لي عَن أمتِي) وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (تجَاوز الله لأمتي) .
قَوْله: (لي) أَي: لأجلي.
قَوْله: (مَا وسوست بِهِ صدورها) ، جملَة فِي مَحل النصب على المفعولية، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، و: وسوست، صلتها و: بِهِ، عَائِد و: صدورها، بِالرَّفْع فَاعل وسوست، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِالنّصب على أَن: وسوست، تضمن معنى: حدثت، وَيَأْتِي فِي الطَّلَاق بِلَفْظ: مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا.
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: عَمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا.
وَفِي رِوَايَة للنسائي: (إِن الله تجَاوز لأمتي مَا وسوست بِهِ وَحدثت بِهِ أَنْفسهَا) .
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: وَأهل اللُّغَة يَقُولُونَ: أَنْفسهَا، بِالضَّمِّ يُرِيدُونَ بِغَيْر اخْتِيَارهَا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: { ونعلم مَا توسوس بِهِ نَفسه} (ق: 61) .
وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن قَوْله: بِالضَّمِّ، لَيْسَ بجيد، بل الصَّوَاب: بِالرَّفْع، لِأَنَّهَا حَرَكَة إِعْرَاب.
قلت: لَيْسَ هَذَا مَوضِع المناقشة بِالرَّدِّ عَلَيْهِ لِأَن الرّفْع هُوَ الضَّم فِي الأَصْل، غَايَة مَا فِي الْبابُُ أَن النُّحَاة يستعملون فِي الْإِعْرَاب الرّفْع، وَفِي الْبناء الضَّم، بل يسْتَعْمل كل مِنْهُمَا مَوضِع الآخر، خُصُوصا عِنْد الْفُقَهَاء الوسوسة: حَدِيث النَّفس والأفكار، وَقد وسوست إِلَيْهِ نَفسه وَسْوَسَة ووسواساً بِالْكَسْرِ، وَهُوَ بِالْفَتْح الِاسْم، ووسوس إِذا تكلم بِكَلَام لم يُبينهُ، حَاصله أَن الوسوسة تردد الشَّيْء فِي النَّفس من غير أَن تطمئِن إِلَيْهِ وتستقر عِنْده.
قَوْله: (مَا لم تعْمل) أَي: فِي العمليات (أَو تكلم) فِي القوليات.
وَأما قَول ابْن الْعَرَبِيّ: إِن المُرَاد بقوله: مَا لم تكلم، الْكَلَام النَّفْسِيّ، إِذْ هُوَ الْكَلَام الْأَصْلِيّ وَأَن القَوْل الْحَقِيقِيّ هُوَ الْوُجُود بِالْقَلْبِ المواقف للْعلم، فَهُوَ مَرْدُود عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَه تعصباً لما حكى عَن مذْهبه من وُقُوع الطَّلَاق بالعزم، وَإِن لم يتَلَفَّظ.
وَحَكَاهُ عَن رِوَايَة أَشهب عَن مَالك فِي الطَّلَاق وَالْعِتْق وَالنّذر أَنه يَكْفِي فِيهِ عزمه وَقَوله وجزمه فِي قلبه بِكَلَامِهِ النَّفْسِيّ الْحَقِيقِيّ، وَنصر ذَلِك بِأَن اللِّسَان معبر عَمَّا فِي الْقلب، فَمَا كَانَ يملكهُ الْوَاحِد كالنذر وَالطَّلَاق وَالْعتاق كفى فِيهِ عزمه، وَمَا كَانَ من التَّصَرُّفَات بَين اثْنَيْنِ لم يكن بُد من ظُهُور القَوْل، وَهَذَا فِي غَايَة الْبعد، وَقد نقضه الْخطابِيّ على قَائِله بالظهار وَغَيره، فأنهم أَجمعُوا على أَنه: لَو عزم على الظِّهَار لم يلْزمه حَتَّى يلفظ بِهِ، قَالَ: وَهُوَ فِي معنى الطَّلَاق، وَكَذَلِكَ لَو حدث نَفسه بِالْقَذْفِ لم يكن قذفا، وَلَو حدث نَفسه فِي الصَّلَاة لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة، وَقد حرم الله تَعَالَى الْكَلَام فِي الصَّلَاة، فَلَو كَانَ حَدِيث النَّفس فِي معنى الْكَلَام لكَانَتْ صلَاته تبطل،.

     وَقَالَ  عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي لأجهر جيشي وَأَنا فِي الصَّلَاة وَمِمَّنْ قَالَ بِأَن: طَلَاق النَّفس لَا يُؤثر، عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَجَابِر بن زيد وَقَتَادَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن هَذِه الْمُجَاوزَة من خَصَائِص هَذِه الْأمة، وَأَن الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة يؤاخذون بذلك، وَقد اخْتلف: هَل كَانَ ذَلِك يُؤَاخذ بِهِ فِي أول الْإِسْلَام؟ ثمَّ نسخ وخفف ذَلِك عَنْهُم، أَو تَخْصِيص وَلَيْسَ بنسخ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: { وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} (الْبَقَرَة: 482) .
فقد قَالَ غير وَاحِد من الصَّحَابَة، مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس: إِنَّهَا مَنْسُوخَة، بقوله تَعَالَى: { لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) .
فَإِن قيل: قَالُوا: من عزم على الْمعْصِيَة بِقَلْبِه، وَإِن لم يعملها، يُؤَاخذ عَلَيْهِ.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا شكّ أَن الْعَزْم على الْمعْصِيَة وَسَائِر الْأَعْمَال القلبية كالحسد ومحبة إِشَاعَة الْفَاحِشَة يُؤَاخذ عَلَيْهِ، لَكِن إِذا وطَّن نَفسه عَلَيْهِ، وَالَّذِي فِي الحَدِيث هُوَ: مَا لم يوطن عَلَيْهِ نَفسه وَإِنَّمَا أَمر ذَلِك بفكره من غير اسْتِقْرَار، وَيُسمى هَذَا هما، وَيفرق بَين الْهم والعزم.
فَإِن قيل: الْمَفْهُوم من لفظ: مَا لم تعْمل، مشْعر بِأَن مَا فِي الصُّدُور موطناً وَغير موطن لَا يُؤَاخذ عَلَيْهِ.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ يجب الْحمل على غير الموطن جمعا بَينه وَبَين مَا يدل على الْمُؤَاخَذَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: { إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة} (النُّور: 91) .
وَأَيْضًا: لفظ الوسوسة لَا يسْتَعْمل إلاَّ عِنْد التَّرَدُّد والتزلزل.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: الهمّ مَا يمر فِي الْفِكر من غير اسْتِقْرَار وَلَا توطن، فَإِن اسْتمرّ وتوطن عَلَيْهِ عزماً يُؤَاخذ بِهِ أَو يُثَاب عَلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: الَّذِي ذهب إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة السّلف وَأهل الْعلم وَالْفُقَهَاء والمحدثين والمتكلمين، وَلَا يلْتَفت إِلَى من خالفهم فِي ذَلِك.
فَزعم أَن مَا يهم بِهِ الْإِنْسَان وَإِن وَطن بِهِ لَا يُؤَاخذ بِهِ متمسكاً فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى: { وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا} (يُوسُف: 42) .
وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا لم تعْمل أَو تكلم، وَمن لم يعْمل بِمَا عزم عَلَيْهِ وَلَا نطق بِهِ، فَلَا.
الْجَواب عَن و: الْآيَة أَن من الهمّ مَا يُؤَاخذ بِهِ الْإِنْسَان، وَهُوَ مَا اسْتَقر واستوطن، وَمِنْه مَا يكون أَحَادِيث لَا تَسْتَقِر، فَلَا يُؤَاخذ بهَا كَمَا شهد بِهِ الحَدِيث، وَالَّذِي يرفع الْإِشْكَال وَيبين المُرَاد حَدِيث أبي كَبْشَة عَمْرو بن سعد: سمع سيدنَا رَسُول الله لله ... فَذكر حَدِيثا فِيهِ: قَالَت الْمَلَائِكَة: ذَاك عَبدك يُرِيد أَن يعْمل سَيِّئَة وَهُوَ أبْصر بِهِ.
وَزعم الطَّبَرِيّ أَن فِيهِ دلَالَة على أَن الْحفظَة يَكْتُبُونَ أَعمال الْقُلُوب خلافًا لمن قَالَ: لَا يكتبونها وَلَا يَكْتُبُونَ إلاَّ الْأَعْمَال الظَّاهِرَة، وَبِه اسْتدلَّ بَعضهم على أَنه إِذا كتب بِالطَّلَاق وَقع من قَوْله مَا لم يعْمل، وَالْكِتَابَة عمل، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن وَأحمد بن حَنْبَل، وَشرط مَالك فِيهِ الْإِشْهَاد على الْكِتَابَة، وَجعله الشَّافِعِي كِنَايَة إِن نوى بِهِ الطَّلَاق وَقع، وإلاَّ فَلَا، وَفرض بَعضهم بَين أَن يَكْتُبهُ فِي بَيَاض كالرق وَالْوَرق واللوح، وَبَين أَن يَكْتُبهُ على الأَرْض فأوقعه فِي الأول دون الثَّانِي، وَفِيه نظر.





[ قــ :419 ... غــ :59 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثيرٍ عنْ سُفْيانَ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعيدٍ عَن مُحَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْكيِّ عنْ عَلْقَمَةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيْثِي قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ ولاِمْرِىءٍ مَا نَوَى فَمَنْ كانتُ هِجْرَتُهُ إِلَى الله ورسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله ورسولِهِ ومَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهجْرَتُه إِلَى مَا هاجَرَ إلَيْهِ..
قد مر هَذَا الحَدِيث فِي أول الْكتاب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره، وَهنا: عَن مُحَمَّد بن كثير ضد قَلِيل عَن سُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.

قَوْله: ( الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ ولامرىء مَا نوى) ، كَذَا أخرجه مُحَمَّد بن كثير بِخِلَاف: إِنَّمَا، فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وٌ د أخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن كثير شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، فَقَالَ: ( إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لامرىء مَا نوى) .
قَوْله: ( إِلَى دنيا) فِي رِوَايَة الْكشميهني: للدنيا، وَهِي رِوَايَة أبي دَاوُد أَيْضا، وَوجه إِعَادَة هَذَا الحَدِيث وَذكره هُنَا لأجل ذكر قِطْعَة مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لكل امرىء مَا نوى، وَقد ذكرنَا وَجه ذكر الْقطعَة، وللإشارة أَيْضا إِلَى أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث من شيخين وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.