فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب يصلي المغرب ثلاثا في السفر

( بابٌُ يُصَلِّي المَغُرِبَ ثَلاَثا فِي السَّفَرِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ أَن الْمُسَافِر يُصَلِّي صَلَاة الْمغرب ثَلَاث رَكْعَات كَمَا فِي الْحَضَر وَإِنَّهَا لَا يدْخل فِيهَا الْقصر وروى أَحْمد فِي مُسْنده من طَرِيق ثُمَامَة بن شرَاحِيل قَالَ خرجت إِلَى ابْن عمر فَقلت مَا صَلَاة الْمُسَافِر قَالَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمغرب.



[ قــ :1055 ... غــ :1091 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سالِمٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ رَأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ المَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وبَيْنَ العِشَاءِ.
قَالَ سالِمٌ وكانَ عَبْدُ الله يَفْعَلُهُ إذَا أعْجَلَهُ السَّيْرُ..




[ قــ :1055 ... غــ :109 ]
- وزَادَ اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ سالِمٌ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ.
قَالَ سالمٌ وَأخَّرَ ابنُ عُمَرَ المَغْرِبَ وكانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أبِي عُبَيْدٍ فَقُلْتُ لَهُ الصَّلاَةَ فَقالَ سِرْ فَقُلْتُ لَهُ الصَّلاَةُ فقالَ سِرْ حَتَّى سارَ مِيلَيْنِ أوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ قالَ هَكَذَا رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي إذَا أعْجَلَهُ السَّيْرُ.
.

     وَقَالَ  عبدُ الله رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أعْجَلَهُ السَّيْرُ يُقِيمُ المَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلاثا ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ العِشَاءَ فَيُصَلِّيِهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلاَ يُسَبِّحُ بَعْدَ العِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يُقيم الْمغرب فيصليها ثَلَاثًا) .

ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم ابْن نَافِع البهراني.
الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: سَالم بن عبد الله بن عمر.
الْخَامِس: اللَّيْث بن سعد.
السَّادِس: يُونُس بن يزِيد.
السَّابِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان، وَفِي بعض النّسخ: أخبرنَا.
وَفِيه: الْإِخْبَار أَيْضا بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَمَانِيَة مَوَاضِع.
وَفِيه: الرُّؤْيَة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه حمصيان، وَالزهْرِيّ وَسَالم مدنيان، وَاللَّيْث مصري وَيُونُس أيلي.

وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي موضِعين: فِي تَقْصِير الصَّلَاة عَن أبي الْيَمَان.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عُثْمَان ابْن سعيد بن كثير وَعَن أَحْمد لِابْنِ مُحَمَّد بن مُغيرَة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ إِذا أعجله السّير فِي السّفر) ، قيد السّفر يخرج مَا إِذا كَانَ خَارج الْبَلَد فِي بستانه أَو كرمه مثلا.
قَوْله: (يُؤَخر الْمغرب) أَي: يُؤَخر صَلَاة الْمغرب إِلَى وَقت الْعشَاء.
قَوْله: (يَفْعَله) أَي: يفعل تَأْخِير الْمغرب إِلَى وَقت الْعشَاء إِذا كَانَ يعجله السّير فِي السّفر.
قَوْله: (وَزَاد اللَّيْث) أَي: اللَّيْث بن سعد، وَقد وصل الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: أَخْبرنِي الْقَاسِم ابْن زَكَرِيَّا حَدثنَا ابْن زَنْجوَيْه وحَدثني أبراهيم بن هانىء حَدثنَا الرَّمَادِي، حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا اللَّيْث بِهَذَا،.

     وَقَالَ  الْإِسْمَاعِيلِيّ: رأى البُخَارِيّ أول الْإِرْسَال من اللَّيْث أقوى من رِوَايَته عَن أبي صَالح عَن اللَّيْث، وَلم يستخبر أَن يروي عَنهُ.
قلت: هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره فِيهِ نظر، لِأَن البُخَارِيّ روى عَن أبي صَالح فِي (صَحِيحه) على الصَّحِيح، وَلكنه يدلسه فَيَقُول: حَدثنَا عبد الله، وَلَا ينْسبهُ، وَهُوَ هُوَ، نعم قد علق البُخَارِيّ حَدِيثا فَقَالَ فِيهِ، قَالَ اللَّيْث بن سعد حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة، ثمَّ قَالَ فِي آخر الحَدِيث: حَدثنِي عبد الله بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا اللَّيْث، فَذكره.
وَلَكِن هَذَا عِنْد ابْن حمويه السَّرخسِيّ دون صَاحِبيهِ،.

     وَقَالَ  فِي (تذهيب التَّهْذِيب) : وَقد صرح ابْن حمويه عَن الْفربرِي عَن البُخَارِيّ بروايته عَن عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث فِي حَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَولا تَعْلِيقا، فَلَمَّا فرغ من الْمَتْن قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث بِهِ.
ثمَّ إعلم أَن ظَاهر سِيَاق البُخَارِيّ يدل على أَن جَمِيع مَا بعد قَوْله: (زَاد اللَّيْث) ، لَيْسَ دَاخِلا فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن رِوَايَة شُعَيْب عَنهُ تَأتي بعد ثَمَانِيَة أَبْوَاب فِي: بابُُ هَل يُؤذن أَو يُقيم إِذا جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَإِنَّمَا الزِّيَادَة فِي قصَّة صَفِيَّة، وَفعل ابْن عمر خَاصَّة، وَفِي (التَّصْرِيح) بقوله: (قَالَ عبد الله رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَقَط.
قَوْله: (استصرخ) بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أخبر بِمَوْت زَوجته صَفِيَّة بنت أبي عبيد، هِيَ أُخْت الْمُخْتَار الثَّقَفِيّ.
وَهُوَ من الصُّرَاخ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَأَصله الإستغاثة بِصَوْت مُرْتَفع، وَكَانَ هَذَا بطرِيق مَكَّة بيَّن ذَلِك فِي كتاب الْجِهَاد من رِوَايَة أسلم مولى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على مَا يَجِيء فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بابُُ السرعة فِي السّير.
قَوْله: (الصَّلَاة) بِالنّصب على الإغراء، وَيجوز الرّفْع على الِابْتِدَاء أَي: الصَّلَاة حضرت، وَيجوز الرّفْع على الخبرية أَي: هَذِه الصَّلَاة، أَي: وَقت الصَّلَاة.
قَوْله: (فَقَالَ: سر) أَي: فَقَالَ عبد الله لسالم: سر، وَهُوَ أَمر من سَار يسير.
قَوْله: (ميلين) قد مضى أَن الْميل ثلث فَرسَخ، وَهُوَ أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة.
قَوْله: (ثمَّ قَالَ) أَي: عبد الله بن عمر.
قَوْله: (يُقيم الْمغرب) من الْإِقَامَة، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وللحموي أَيْضا، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: (يعتم، بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْعين وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: أَي يدْخل فِي الْعَتَمَة وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (يُؤَخر الْمغرب) .
قَوْله: (فيصليها ثَلَاثًا) أَي: فَيصَلي الْمغرب ثَلَاث رَكْعَات.
قَوْله: (وقلما يلبث) كلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة أَي: قل لبثه.
قَوْله: (وَلَا يسبح) أَي: لَا يُصَلِّي من السبحة، وَهُوَ صَلَاة اللَّيْل.

ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: الْجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَهُوَ حجَّة للشَّافِعِيّ فِي جَوَاز الْجمع بَين المغربين بِتَأْخِير الأولى إِلَى الثَّانِيَة.
قُلْنَا: لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ أَن يُصَلِّيهمَا فِي وَقت الْعشَاء، وَلَكِن المُرَاد أَن يُؤَخر الْمغرب إِلَى آخر وَقتهَا، ثمَّ يُصليهَا ثمَّ يُصَلِّي الْعشَاء، وَهُوَ جمع بَينهمَا صُورَة لَا وقتا، وَسَيَجِيءُ تَحْقِيق الْكَلَام فِي بابُُه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ عَام فِي جَمِيع الْأَسْفَار إلاّ سفر الْمعْصِيَة، فَإِنَّهَا رخصَة، والرخص لَا تناط بِالْمَعَاصِي.
قُلْنَا: يُنَافِي عُمُوم نَص الْقُرْآن فَلَا يجوز، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.

وَفِيه: تَأْكِيد قيام اللَّيْل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتْركهُ فِي السّفر، فالحضر أولى بذلك،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَفِي قَوْله: (سر) جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب.
قلت: لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، فَإِن كَانَ وَقت الْخطاب وَقت الْحَاجة فَلَا يجوز، وَهَذَا إِذا وَقع فِي كَلَام الشَّارِع لَيْسَ فِي غَيره على مَا عرف فِي مَوْضِعه.

وَفِيه: أَن صَلَاة الْمغرب لَا تقصر فِي السّفر، وترجمة الْبابُُ عَلَيْهِ.

وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي ذَلِك أَحَادِيث: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ عبد الله بن عمر وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الْبابُُ.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من رِوَايَة الْحَارِث عَنهُ، قَالَ: (صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْخَوْف رَكْعَتَيْنِ إلاّ الْمغرب ثَلَاثًا، وَصليت مَعَه فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ إلاّ الْمغرب ثَلَاثًا) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد (عَن عمرَان بن حُصَيْن من رِوَايَة أبي نَضرة أَن فَتى من أسلم سَأَلَ عمرَان بن حُصَيْن عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا سَافر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ صلى رَكْعَتَيْنِ إلاّ الْمغرب) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة (عبد الله ابْن يزِيد عَن خُزَيْمَة بن ثَابت، قَالَ: صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجمع الْمغرب وَالْعشَاء ثَلَاثًا واثنتين بِإِقَامَة وَاحِدَة) .
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: لم تقصر الْمغرب فِي السّفر عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ فِي أصل الْفَرِيضَة، لِأَنَّهَا وتر صَلَاة النَّهَار، قَالَ: وَهَذَا تَمام فِي كل سفر، فَمن ادّعى أَن ذَلِك فِي بعض الْأَسْفَار فَعَلَيهِ الدَّلِيل.
.

     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: بَلغنِي إِن الْملك الْكَامِل سَأَلَ الْحَافِظ أَبَا الْخطاب بن دحْيَة عَن الْمغرب: هَل تقصر فِي السّفر؟ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهَا تقصر إِلَى ركعين، فَأنْكر عَلَيْهِ ذَلِك.
فروى حَدِيثا بِسَنَدِهِ فِيهِ قصر الْمغرب إِلَى رَكْعَتَيْنِ، وَنسب إِلَى أَنه اختلقه، فَالله أعلم هَل يَصح وُقُوعه فِي ذَلِك؟ وَمَا أَظُنهُ يَقع فِي مثل هَذَا، إلاَّ أَنه اتهمَ.
قَالَ الضياء الْمَقْدِسِي: لم يُعجبنِي حَاله، كَانَ كثير الوقيعة فِي الْأَئِمَّة، قَالَ ابْن وَاصل، قَاضِي حمان.
.
كَانَ ابْن دحْيَة مَعَ فرط مَعْرفَته بِالْحَدِيثِ وَحفظه الْكثير لَهُ مُتَّهمًا بالمجازفة فِي النَّقْل،.

     وَقَالَ  ابْن نقطة: كَانَ مَوْصُوفا بالمعرفة وَالْفضل إلاّ أَنه كَانَ يَدعِي أَشْيَاء لَا حَقِيقَة لَهَا.
وَذكره الذَّهَبِيّ فِي (الْمِيزَان) فَقَالَ: مُتَّهم فِي نَقله، مَعَ أَنه كَانَ من أوعية الْعلم، دخل فِيمَا لَا يعنيه.
فَإِن قلت: مَا وَجه تَسْمِيَة صَلَاة الْمغرب بِوتْر النَّهَار وَهِي صَلَاة ليلية جهرية اتِّفَاقًا؟ قلت: أُجِيب بِأَنَّهَا لما كَانَت عقيب آخر النَّهَار، وَندب إِلَى تَعْجِيلهَا عقيب الْغُرُوب أطلق عَلَيْهَا وتر النَّهَار لقربها مِنْهُ، لتميز عَن الْوتر الْمَشْرُوع فِي اللَّيْل، وَهَذَا كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (شهرا عيد لَا ينقصان: رَمَضَان وَذُو الْحجَّة) .
وَعِيد الْفطر إِنَّمَا هُوَ من شَوَّال، وَلَكِن لما كَانَ عقيب رَمَضَان سمي رَمَضَان: شهر عيد لقُرْبه مِنْهُ.