فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب


[ قــ :3336 ... غــ :3495 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا المُغِيرَةُ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشأنِ مُسْلِمُهُمْ تبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وكافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ.
والنَّاسُ مَعَادِنُ خيارُهُمْ فِي الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ فِي الإسْلاَمِ إذَا فَقُهُوا تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ أشَدَّ النَّاسِ كَراهِيَةً لِهَذَا الشَّأنِ حتَّى يَقَعَ فِيهِ.
( انْظُر الحَدِيث 3943 وطرفه) .


هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور، رَوَاهُ مُخْتَصرا وَمُطَولًا.
والمغيرة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن الْحزَامِي الْمَدِينِيّ، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن القعْنبِي، وَفِيه وَفِي الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: ( النَّاس تبع لقريش) قَالَ الْخطابِيّ: يُرِيد بقوله: تبع لقريش، تَفْضِيلهمْ على سَائِر الْعَرَب وتقديمهم فِي الْإِمَارَة.
وَبِقَوْلِهِ: ( مسلمهم تبع لمسلمهم) الْأَمر بطاعتهم أَي: من كَانَ مُسلما فليتبعهم وَلَا يخرج عَلَيْهِم، وَأما معنى ( كافرهم تبع لكافرهم) ، فَهُوَ إِخْبَار عَن حَالهم فِي مُتَقَدم الزَّمَان، يَعْنِي: أَنهم لم يزَالُوا متبوعين فِي زمَان الْكفْر، وَكَانَت الْعَرَب تقدم قُريْشًا وتعظمهم وَكَانَت دَارهم موسماً، وَلَهُم السدَانَة والسقاية والرفادة يسقون الحجيج ويطعمونهم فحازوا بِهِ الشّرف والرياسة عَلَيْهِم، وَيُرِيد بقوله: ( خيارهم إِذا فقهوا) أَن من كَانَت لَهُ مأثرة وَشرف فِي الْجَاهِلِيَّة وَأسلم وَفقه فِي الدّين فقد أحرز مأثرته الْقَدِيمَة وشرفه الثَّابِت إِلَى مَا استفاده من المزية بِحَق الدّين، وَمن لم يسلم فقد هدم شرفه وضيع قديمه، ثمَّ أخبر أَن خِيَار النَّاس هم الَّذين يَجدونَ الْإِمَارَة ويكرهون الْولَايَة حَتَّى يقعوا فِيهَا، وَهَذَا يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنهم إِذا وَقَعُوا فِيهَا عَن رَغْبَة وحرص زَالَت عَنْهُم محَاسِن الأخيار، أَي: صفة الْخَيْرِيَّة، كَقَوْلِه: من ولي الْقَضَاء فقد ذبح بِغَيْر سكين.
وَالْآخر: أَن خِيَار النَّاس هم الَّذين يكْرهُونَ الْإِمَارَة حَتَّى يقعوا فِيهَا، فَإِذا وَقَعُوا فِيهَا وتقلدوها زَالَ معنى الْكَرَاهَة، فَلم يجز لَهُم أَن يكرهوها وَلم يقومُوا بِالْوَاجِبِ من أمورها، أَي: إِذا وَقَعُوا فِيهَا فَعَلَيْهِم أَن يجتهدوا فِي الْقيام بِحَقِّهَا فعْلَ الرَّاغِب فِيهَا غير كَارِه لَهَا.


( بابٌُ)
أَي: هَذَا بابُُ وَهُوَ كالفصل لما قبله.





[ قــ :3337 ... غــ :3497 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ حدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ عنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما { إلاَّ الموَدَّةَ فِي القُرْبَى} ( الشورى: 3) .
قالَ فقالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْش إلاَّ وفِيهِ قَرَابَةٌ فنَزَلَتْ عَلَيْهِ { إلاَّ أنْ تَصِلُوا قَرَابَةَ بَينِي وبَيْنَكُم} ( الشورى: 3) .
( الحَدِيث 7943 طرفه فِي: 8184) .


وَجه ذكر هَذِه عقيب الحَدِيث السَّابِق أَن الْمَذْكُور فِيهِ أَن النَّاس تبع لقريش، وَفِيه تَفْضِيلهمْ على غَيرهم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا أَنه لم يكن بطن من قُرَيْش إلاَّ وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ قرَابَة، فَيَقْتَضِي هَذَا تفضيله على الْكل، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبد الْملك هُوَ ابْن ميسرَة أَبُو زيد الزراد.

وَهَذَا الحَدِيث ذكره فِي التَّفْسِير فِي { حم عسق} ( الشورى: 1) .
حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الْملك بن ميسرَة، قَالَ: سَمِعت طاوساً عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن قَوْله: { إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} ( الشورى: 3) .
فَقَالَ سعيد بن جُبَير: قربى آل مُحَمَّد، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: عجلت، إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن بطن من قُرَيْش إلاَّ كَانَ لَهُ فيهم قرَابَة، فَقَالَ: إلاَّ أَن تصلوا مَا بيني وَبَيْنكُم من الْقَرَابَة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن ابْن بشار بِهِ،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن غنْدر بِهِ.

قَوْله: { إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} ( الشورى: 3) .
وَقَبله: { قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} ( الشورى: 3) .
لما أوحى الله تَعَالَى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْكتاب الشريف، قَالَ: قل لَهُم يَا مُحَمَّد: لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ، أَي: لَا أطلب من هَذَا التَّبْلِيغ المَال والجاه وَلَا نفعا عَاجلا وَلَا مَطْلُوبا حَاضرا لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطْلب من هَذَا التَّبْلِيغ حظاً من الحظوظ، وَعَن قَتَادَة اجْتمع الْمُشْركُونَ فِي مجمع لَهُم، فَقَالَ: بَعضهم لبَعض: أَتَرَوْنَ أَن مُحَمَّدًا يسْأَل على مَا يتعاطاه أجرا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة يحثهم على مودته ومودة أقربائه.
قَوْله: { إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} ( الشورى: 3) .
يجوز أَن يكون اسْتثِْنَاء مُتَّصِلا، أَي: لَا أَسأَلكُم أجرا إلاَّ هَذِه، وَهُوَ أَن لَا تُؤْذُوا أهل قَرَابَتي وَلم يكن هَذَا أجرا فِي الْحَقِيقَة، لِأَن قرَابَته قرابتهم، وَكَانَت صلتهم لَازِمَة لَهُم فِي الْمَوَدَّة، وَيجوز أَن يكون اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا، أَي: لَا أَسأَلكُم أجرا قطّ، وَلَكِن أَسأَلكُم أَن تودوا قَرَابَتي الَّذين هم قرابتك وَلَا تؤذوهم.

وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِك على أَقْوَال: أَحدهَا: محبَّة قرَابَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم: أهل بَيته من آل هَاشم فَمن بعدهمْ من أهل الْبَيْت.
وَالثَّانِي: مَوَدَّة قُرَيْش.
الثَّالِث: المُرَاد عَليّ وَفَاطِمَة وولداها، ذكر فِي ذَلِك عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قَالَ ابْن عَبَّاس.
وَالرَّابِع: قَالَه عِكْرِمَة: كَانَت قُرَيْش تصل الرَّحِم، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قطعته.
فَقَالَ: ( صلوني كَمَا تَفْعَلُونَ) ، فَالْمَعْنى لَكِن أذكركم قَرَابَتي.
وَالْخَامِس: مَوَدَّة من يتَقرَّب إِلَى الله، عز وَجل، وَهُوَ رأى الصُّوفِيَّة.

قَوْله: ( إلاَّ أَن تصلوا) أَي: إلاَّ صلَة الْأَرْحَام.
قَوْله: ( فَنزلت عَلَيْهِ) أَي: على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَإِن قلت: هَذَا لم ينزل؟ قلت: نزل مَعْنَاهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: { إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} ( الشورى: 3) .
وَتَقْدِيره: إلاَّ الْمَوَدَّة ثَابِتَة فِي أهل الْقُرْبَى، وَقيل: الضَّمِير فِي نزلت رَاجع إِلَى الْآيَة الَّتِي فِيهَا { إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} ( الشورى: 3) .
وَقَوله: ( إلاَّ أَن تصلوا) تَفْسِير لَهَا.





[ قــ :3338 ... غــ :3498 ]
- حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ قَيْسٍ بنِ أبِي مَسْعُودٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مِنْ هَهُنَا جاءَتِ الفِتَنُ نَحْوَ المَشْرِقِ والجَفَاءُ وغِلْظَ القُلُوبِ فِي الفَدَّادِينَ أهْلِ الوَبَرِ عِنْدَ أصُولِ أذْنابِ الإبِلِ والبَقَرِ فِي رَبِيعَةَ ومُضَرَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: فِي ربيعَة وَمُضر، فَإِنَّهُمَا قبيلتان، وَلما فسر الْكرْمَانِي هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده قَالَ: فَإِن قلت: مَا وَجه مناسبتهما بالترجمة؟ قلت: ضَرُورَة أَن النَّاس بِاعْتِبَار الصِّفَات كالقبائل، وَكَون الأتقى مِنْهُم فِيهَا أكْرم، وَفِي الْقلب مِنْهُ مَا لَا يخفى على الفطن.

وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد، وَقيس هُوَ أبي حَازِم البَجلِيّ، وَأَبُو مَسْعُود هُوَ عقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ البدري.

قَوْله: ( يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، إِنَّمَا قَالَ كَذَلِك لِأَنَّهُ أَعم من أَنه: سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من غَيره عَنهُ.
قَوْله: ( نَحْو الْمشرق) ، هُوَ بَيَان أَو بدل لقَوْله: هَهُنَا.
قَوْله: ( فِي الْفَدادِين) بِالتَّشْدِيدِ، وهم الَّذين تعلوا أَصْوَاتهم فِي حروثهم ومواشيهم، وبالتخفيف: هِيَ الْبَقَرَة الَّتِي تحرث، وَاحِدهَا: فدان مشدداً.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: يُقَال: فدا الرجل يفد فديداً إِذا اشْتَدَّ صَوته، وَقيل: الفدادون هم المكثرون من الْإِبِل، وَقيل: هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان.
قَوْله: ( أهل الْوَبر) أَي: أهل الْبَوَادِي، والوبر، بِفَتْح الْوَاو وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: هُوَ وبر الْإِبِل سمي بذلك لأَنهم يتخذون بُيُوتهم مِنْهُ.
قَوْله: ( عِنْد أصُول أَذْنَاب الْإِبِل) ، هُوَ عبارَة عَن جلبتهم عِنْد سوقها.
قَوْله: ( فِي ربيعَة وَمُضر) ، بدل من الْفَدادِين.





[ قــ :3339 ... غــ :3499 ]
- حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ الفَخْرُ والخُيَلاَءُ فِي الفَدَّادِينَ أهْلِ الوَبَرِ والسَّكِينَةِ فِي أهِّلِ الغنَمِ والإيمانُ يَمانٍ والحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ.
.


مر الْكَلَام فِي وَجه الْمُطَابقَة فِي أول الحَدِيث السَّابِق، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الله ابْن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي الْيَمَان.

قَوْله: ( وَالْخُيَلَاء) بِضَم الْخَاء وَكسرهَا: الْكبر وَالْعجب، يُقَال: فِيهِ خُيَلَاء ومخيلة أَي: كبر، وَمِنْه اختال فَهُوَ مختال.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: قَوْله: ( وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء فِي الْفَدادِين) ، وهم، وَإِنَّمَا نسب إِلَيْهِم الْجفَاء وهما فِي أَصْحَاب الْخَيل.
قَوْله: ( والسكينة) ، هُوَ السّكُون وَالْوَقار.
قَوْله: ( يمَان) ، أَصله: يمني، حذف إِحْدَى الياءين وَعوض مِنْهُمَا الْألف فَصَارَ: يمَان، وَهِي اللُّغَة الفصحى، ثمَّ: يمنى، ثمَّ يماني بِزِيَادَة الْألف، ذكرهَا سِيبَوَيْهٍ، وَحكى الْجَوْهَرِي وَصَاحب ( الْمطَالع) وَغَيرهمَا من سِيبَوَيْهٍ أَنه حكى عَن بعض الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ: الْيَمَانِيّ، بِالْيَاءِ الْمُشَدّدَة.
.

     وَقَالَ  القَاضِي وَغَيره: قد صرفُوا قَوْله: الْإِيمَان يمَان، عَن ظَاهره من حَيْثُ إِن مبدأ الْإِيمَان من مَكَّة، ثمَّ من الْمَدِينَة.

وَحكى أَبُو عبيد فِيهِ أقوالاً: أَحدهَا: أَنه أَرَادَ بذلك مَكَّة، فَإِنَّهُ يُقَال: إِن مَكَّة من تهَامَة وتهامة من أَرض الْيمن.
وَالثَّانِي: المُرَاد مَكَّة وَالْمَدينَة فَإِنَّهُ يرْوى مَا فِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هَذَا الْكَلَام وَهُوَ بتبوك، وَمَكَّة ومدينة حِينَئِذٍ بَينه وَبَين الْيمن، فَأَشَارَ إِلَى نَاحيَة الْيمن وَهُوَ يُرِيد مَكَّة وَالْمَدينَة، فَقَالَ: الْإِيمَان يمَان ونسبها إِلَى الْيمن لكَونهَا حِينَئِذٍ من نَاحيَة الْيمن، كَمَا قَالُوا: الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَهُوَ بِمَكَّة لكَونه إِلَى نَاحيَة الْيمن.
وَالثَّالِث: مَا ذهب إِلَيْهِ كثير من النَّاس وَهُوَ أحْسنهَا أَن المُرَاد بذلك الْأَنْصَار لأَنهم يمانيون فِي الأَصْل، فنسب الْإِيمَان إِلَيْهِم لكَوْنهم أنصاره.
وَاعْترض عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح، فَقَالَ مَا ملخصه: إِنَّه لَو نظر إِلَى طرق الْأَحَادِيث لما ترك ظَاهر الحَدِيث.
مِنْهَا: قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: ( أَتَاكُم أهل الْيمن) وَالْأَنْصَار من جملَة المخاطبين بذلك، فهم إِذا غَيرهم.
وَمِنْهَا: قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ( جَاءَ أهل الْيمن) ، وَإِنَّمَا جَاءَ حِينَئِذٍ غير الْأَنْصَار، فَحِينَئِذٍ لَا مَانع من إِجْرَاء الْكَلَام على ظَاهره، وَحمله على الْحَقِيقَة لِأَن من اتّصف بِشَيْء وَقَوي قِيَامه بِهِ نسب ذَلِك الشَّيْء إِلَيْهِ إشعاراً بتمييزه بِهِ، وَكَمَال حَاله فِيهِ، وَهَكَذَا كَانَ حَال أهل الْيمن حِينَئِذٍ فِي الْإِيمَان، وَلَيْسَ فِي ذَلِك نفي لَهُ عَن غَيرهم، فَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن الْإِيمَان ليأرز إِلَى الْحجاز) .
ويروى: ( الْإِيمَان فِي أهل الْحجاز) ، لِأَن المُرَاد بذلك الْمَوْجُود مِنْهُم حِينَئِذٍ لَا كل أهل الْيمن فِي كل زمَان، فَإِن اللَّفْظ لَا يَقْتَضِيهِ.

قَوْله: ( وَالْحكمَة يَمَانِية) الْحِكْمَة عبارَة عَن الْعلم المتصف بِالْأَحْكَامِ الْمُشْتَمل على الْمعرفَة بِاللَّه عز وَجل المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النَّفس وَتَحْقِيق الْحق وَالْعَمَل بِهِ والصد عَن اتِّبَاع الْهوى وَالْبَاطِل، والحكيم من لَهُ ذَلِك،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: كل كلمة وعظتك أَو زجرتك أَو دعتك إِلَى مكرمَة أَو نهتك عَن قَبِيح فَهِيَ حِكْمَة، وَحكم، وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِن من الشّعْر حِكْمَة) وَفِي بعض الرِّوَايَات: حكما.

قالَ أبُو عَبْدِ الله سُمِّيَتِ اليَمَنَ لأنَّهَا عنْ يَمِينِ الكَعْبَةِ والشَّأمَ عنْ يَسارِ الكَعْبَةِ والْمَشْأمَةُ المَيْسَرَةُ واليَدُ اليُسْرَى الشُّؤْمَى والجانِبُ الأيْسَرُ الأشْأمُ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظ بمذكور فِي بعض النّسخ.
قَوْله: ( سميت الْيمن) ، لِأَنَّهَا عَن يَمِين الْكَعْبَة هَذَا قَول الْجُمْهُور.
.

     وَقَالَ  الرشاطي: سمي بذلك قبل أَن تعرف الْكَعْبَة لِأَنَّهُ عَن يَمِين الشَّمْس، وَقيل: سمي بيمن بن قحطان، وَقيل: سمي بيعرب بن قحطان، لِأَن يعرب اسْمه يمن، فَلذَلِك قيل: أَرض يمن.
قَوْله: ( والشأم) أَي: سميت الشَّام لِأَنَّهَا عَن يسَار الْكَعْبَة، وَقيل: سمي بشامات هُنَاكَ حمر وسود، وَقيل: سمي بسام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ أول من اختطه، وَكَانَ اسْم سَام: شام بالشين الْمُعْجَمَة، فعرب فَقيل: سَام بِالسِّين الْمُهْملَة، وَقيل: شام إسم أعجمي من لُغَة بني حام، وَتَفْسِيره بالعربي: خير طيب.
.

     وَقَالَ  الْبكْرِيّ: الشَّام مَهْمُوز وَقد لَا يهمز، فِي ( الْمطَالع) : قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن سراج: الشَّام، بِهَمْزَة مَمْدُود وأباه أَكْثَرهم فِيهِ إلاَّ فِي النّسَب، أَعنِي: فتح الْهمزَة، كَمَا اخْتلف فِي إِثْبَات الْيَاء مَعَ الْهمزَة الْمَمْدُود فَأَجَازَهُ سِيبَوَيْهٍ وَمنعه غَيره، لِأَن الْهمزَة عوض من يَاء النّسَب، فعلى هَذَا يُقَال: شَامي وشآم فِي الرجل، كَمَا يُقَال: يماني ويمان.
قَوْله: ( والمشأمة الميسرة) الْمِيم فيهمَا زَائِدَة لِأَن اشتقاقهما يدل على ذَلِك، لِأَنَّهُمَا من الشؤم واليسار.
قَالَ الْجَوْهَرِي: المشأمة الميسرة، وَكَذَلِكَ الشأمة والشؤم نقيض الْيمن.
قَوْله: ( وَالْيَد الْيُسْرَى) ، يَعْنِي: تسمى بالشؤمى، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَكَذَلِكَ قَالَ للجانب الْأَيْسَر الأشأم، ومادة الْكل من الشؤم وَهُوَ نقيض الْيمن، كَمَا ذَكرْنَاهُ.