فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284]

(بابٌُ: { وَإنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الْبَقَرَة: 284) 2.

أَي: هَذَا بابُُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: { وَإِن تبدوا مَا فِي إنفسكم} إِلَى آخِره هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين أَن الْآيَة الْمَذْكُورَة سبقت إِلَى آخرهَا وَفِي رِوَايَة أبي ذَر إِلَى قَوْله: (أَو تُخْفُوهُ) فِي (تَفْسِير ابْن الْمُنْذر) عَن ابْن عَبَّاس ومولاه نزلت هَذِه الْآيَة فِي كتمان الشَّهَادَة.
.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم وروى عَن الشّعبِيّ ومقسم مثله وَفِي (صَحِيح مُسلم) عَن أبي هُرَيْرَة: لما نزلت هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة قَالَت الصحابية يَا رَسُول الله، كافنا من الْأَعْمَال مَا نطيق الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْجهَاد وَالصَّدَََقَة.
وَقد أنزلت هَذِه الْآيَة لانطيقها.
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا أتريدون أَن تَقولُوا كَمَا قَالَ أهل الْكتاب من قبلكُمْ سمعنَا وعصينا؟ بل قُولُوا: { سمعنَا وأطعنا غفرانك رَبنَا وَإِلَيْك الْمصير} (الْبَقَرَة: 285) فَلَمَّا أقرأها الْقَوْم زلت ألسنتهم فَأنْزل الله عز وَجل: { آمن الرَّسُول} إِلَى { وَإِلَيْك الْمصير} فَلَمَّا فعلوا ذَلِك نسخهَا الله تَعَالَى فَأنْزل { لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 286) إِلَى قَوْله: { أَخْطَأنَا} وَعند الواحدي الصَّحَابَة الَّذين قَالُوا ذَلِك أَبُو بكر وَعمر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف ومعاذ بن جبل وناس من الْأَنْصَار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَقَالُوا: مَا نزلت آيَة أَشد علينا من هَذِه الْآيَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَكَذَا أنزلت.
فَقولُوا: سمعنَا وأطعنا.
فَمَكَثُوا بذلك حولا فَأنْزل الله عزل وَجل الْفرج والراحة بقوله: { لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فنسخت هَذِه الْآيَة مَا قبلهَا.
.

     وَقَالَ  صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله تجَاوز لأمتي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم يعملوا أَو يتكلموا بِهِ، وَعند النّحاس، قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: هَذِه الْآيَة لم تنسخ، وَوجه مَا قَالَه بِأَن هَذِه الْآيَة خبر، وَالْأَخْبَار لَا يلْحقهَا نَاسخ وَلَا مَنْسُوخ.
قيل: وَمن زعم أَن من الْأَخْبَار نَاسِخا هَذِه الْآيَة لم تنسخ، وَوجه مَا قَالَه بِأَن هَذِه الْآيَة خبر، وَالْأَخْبَار لَا يلْحقهَا نَاسخ وَلَا مَنْسُوخ قيل: وَمن زعم أَن من الأبخار نَاسِخا ومنسوخا فقد ألحد وأجهل.
وَأجِيب بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ خَبرا لكنه يتَضَمَّن حكما وَمهما كَانَ من الْأَخْبَار مَا يتَضَمَّن حكما أمكن دُخُول النّسخ فِيهِ كَسَائِر الْأَحْكَام وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يدْخلهُ النّسخ من الْأَخْبَار وَمَا كَانَ خَبرا مَحْضا لَا يتَضَمَّن حكما كالأخبار عَمَّا مضى من أَحَادِيث الْأُمَم وَنَحْو ذَلِك: وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالنسخ فِي الحَدِيث التَّخْصِيص، فَإِن الْمُتَقَدِّمين يطلقون لفظ النّسخ عَلَيْهِ كثيرا وَفِي (تَفْسِير ابْن أبي حَاتِم) من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: هَذِه الْآيَة لم تنسخ، وَلَكِن إِذا جمع الله الْخَلَائق يَقُول إِنِّي أخْبركُم مَا أخفيتم فِي أَنفسكُم مِمَّا لم يطلع عَلَيْهِ ملائكتي، فَأَما الْمُؤْمِنُونَ فيخبرهم ثمَّ يغْفر لَهُم، وَأما أهل الريب فيخبرهم بِمَا أخفوا من التَّكْذِيب فَذَلِك قَوْله: { يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء} .



[ قــ :4294 ... غــ :4545 ]
- ح دَّثنا مُحَمَّدٌ حدَّثنا النُّفَيْلِيُّ حدَّثنا مِسْكِينٌ عنْ شُعْبَةَ عنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ عنْ رَجُلٍ مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابنُ عُمَرَ أَنَّهَا قَدْ نُسِخَتْ { وإنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ} الآيَةَ مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد شيخ البُخَارِيّ الَّذِي ذكره مُجَردا هُوَ ابْن يحيى الذهلي قَالَ الكلاباذي.

     وَقَالَ  الْحَاكِم هُوَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم البوشنجي وَقيل كَلَام أبي نعيم يقتضى أَنه مُحَمَّد بن إِدْرِيس أبي حَاتِم الرَّازِيّ فَإِنَّهُ أخرجه من طَرِيقه ثمَّ قَالَ أخرجه البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد عَن النُّفَيْلِي.

     وَقَالَ هُ الجياني كَذَا هُوَ فِي أَكثر النّسخ يَعْنِي حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا النُّفَيْلِي وَسقط من كتاب ابْن السكن -.
ذكر مُحَمَّد، وَإِنَّمَا فِيهِ حدَّثنا النُّفَيْلِي وَهُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن نفَيْل البُخَارِيّ، وَالصَّوَاب ثُبُوته، وَزعم ابْن السكن أَن مُحَمَّدًا هُوَ البُخَارِيّ فَحَذفهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك، ومسكين أَخُو الْفَقِير بن بكير مصغر بكر أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحَرَّانِي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء وبالنون نِسْبَة إِلَى حران مَدِينَة بالشرق وَالْيَوْم خرابة، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا ومروان الْأَصْفَر، وَيُقَال لَهُ الْأَحْمَر أَيْضا وَقد تقدم فِي الْحَج وَلَيْسَ لَهُ إلاَّ هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي الْحَج.

قَوْله: (عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهُوَ ابْن عمر، أبهم أَولا ثمَّ أوضح ثَانِيًا بِأَنَّهُ عبد الله بن عمر، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا التَّوْضِيح من الرَّاوِي عَن مَرْوَان، أَو تذكر بعد نسيانه،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لم يَتَّضِح لي من هُوَ الْجَازِم بِأَنَّهُ ابْن عمر.
فَإِن الرِّوَايَة الْآتِيَة بعد هَذِه بِلَفْظ: أَحْسبهُ ابْن عمر.
قلت: لَا يحْتَاج إِلَى إِيضَاح الْجَازِم إِيَّاه لِأَنَّهُ أحد رَوَاهُ الحَدِيث على كل حَال.
وهم ثِقَات، وَقد جزم فِي هَذِه الرِّوَايَة بِأَنَّهُ ابْن عمر.
وَقَوله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: أَحْسبهُ يحْتَمل أَن يكون قبل جزمه بِأَنَّهُ ابْن عمر فَلَمَّا تحقق ابْن عمر ذكره بِالْجَزْمِ.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين إِن ثَبت هَذَا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَمَعْنَى النّسخ هُنَا الْعَفو والوضع.
قَوْله: (أَنَّهَا نسخت) ، ويروى أَنه قَالَ أَنَّهَا نسخت، أَي: أَن قَوْله: { وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} وَقَوله: (وَإِن تبدوا) إِلَى آخِره بَيَان لما قبله، وَهُوَ أَن الْمَنْسُوخ هُوَ قَوْله: { وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} فَإِن قلت: روى أَحْمد من طَرِيق مُجَاهِد.
قَالَ: دخلت على ابْن عَبَّاس.
فَقلت: عبد الله بن عمر، فَقَرَأَ { وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} فَبكى.
.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: إِن هَذِه الْآيَة لما نزلت غمت أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غما شَدِيدا.
وَقَالُوا: يَا رَسُول الله! هلكنا، فَإِن قُلُوبنَا لَيست بِأَيْدِينَا فَقَالَ: قُولُوا سمعنَا وأطعنا.
فَقَالُوا: فنسختها هَذِه الْآيَة: { لَا يُكَلف الله نفسا إلاَّ وسعهَا} انْتهى.
فَهَذَا يدل على أَن ابْن عمر لم يطلع على كَون هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة.
قلت: أُجِيب بِأَنَّهُ يُمكن أَن ابْن عمر لم يكن عرف الْقِصَّة أَولا.
ثمَّ لما تحقق ذَلِك جزم بالنسخ، فَيكون مُرْسل صَحَابِيّ.