فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الدهن للجمعة

( بابُُ الدَّهْنِ لِلْجُمُعَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الدّهن لأجل الْجُمُعَة، والدهن، بِفَتْح الدَّال: مصدر من دهنت دهنا، وبالضم اسْم، وَهَهُنَا بِالْفَتْح، وَإِنَّمَا لم يجْزم بِحكمِهِ للِاخْتِلَاف فِيهِ على مَا نذكرهُ.



[ قــ :857 ... غــ :883 ]
- حدَّثنا آدَمُ قالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئبٍ عنْ سَعِيدٍ المَقْبَرِيِّ قالَ أخبرَنِي أبي عنِ ابنِ وَدِيعَةَ عَنْ سلْمَانَ الفَارِسِيِّ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٍ يَوْمَ الجُمُعَةِ ويتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ ويَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أوْ يَمسُّ مِنْ طِيبِ بيتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفرِّقُ بَينَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تكَلَّمَ الإمامُ إلاّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجُمعةِ الأُخْرَى.
( الحَدِيث 883 طرفه فِي: 910) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ويدهن من دهنه) .

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس.
الثَّانِي: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، واسْمه هِشَام الْقرشِي العامري أَبُو الْحَارِث الْمدنِي.
الثَّالِث: سعيد بن أبي سعيد واسْمه: كيسَان المَقْبُري أَبُو سعيد الْمدنِي، والمقبري نِسْبَة إِلَى مَقْبرَة بِالْمَدِينَةِ كَانَ مجاورا بهَا.
الرَّابِع: أَبُو سعيد المَقْبُري.
الْخَامِس: عبد الله بن وَدِيعَة بن حرَام أَبُو وَدِيعَة الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، قتل بِالْحرَّةِ.
السَّادِس: سلمَان الْفَارِسِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلم مدنيون.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين مُتَوَالِيَة وهم: سعيد وَأَبوهُ وَابْن وَدِيعَة، وَقد ذكر ابْن سعد ابْن وَدِيعَة من الصَّحَابَة، وَكَذَا ذكره ابْن مَنْدَه، وَعَزاهُ لأبي حَاتِم.
.

     وَقَالَ  الذَّهَبِيّ فِي ( تَجْرِيد الصَّحَابَة) : عبد الله ابْن وَدِيعَة بن حرَام الْأنْصَارِيّ، لَهُ صُحْبَة، وروى عَنهُ أَبُو سعيد المَقْبُري، فعلى هَذَا يكون فِيهِ: رِوَايَة تابعيين عَن صحابيين.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَفِيه: أَن ابْن وَدِيعَة لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاّ هَذَا الحَدِيث.
وَفِيه: غمز الدَّارَقُطْنِيّ على البُخَارِيّ حَيْثُ قَالَ: إِنَّه اخْتلف فِيهِ على سعيد المَقْبُري، فَرَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب عَنهُ هَكَذَا، وَرَوَاهُ ابْن عجلَان عَنهُ، فَقَالَ: عَن أبي ذَر، بدل سلمَان، وأرسله أَبُو معشر عَنهُ، فَلم يذكر سلمَان وَلَا أَبَا ذَر، وَرَوَاهُ عبيد الله الْعمريّ عَنهُ فَقَالَ: عَن أبي هُرَيْرَة.
انْتهى.
قلت: رِوَايَة ابْن عجلَان من حَدِيث أبي ذَر أخرجهَا ابْن مَاجَه فَقَالَ: أخبرنَا سهل بن أبي سهل وحوثرة بن مُحَمَّد قَالَا: أخبرنَا يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن ابْن عجلَان عَن سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن عبد الله بن وَدِيعَة عَن أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ( من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة فَأحْسن غسله، وتطهر فَأحْسن طهوره، وَلبس من أحسن ثِيَابه، وَمَسّ مَا كتب الله لَهُ من طيب أَهله، ثمَّ أَتَى الْجُمُعَة وَلم يلغ وَلم يفرق بَين اثْنَيْنِ غفر لَهُ مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة الْأُخْرَى) .
وَرِوَايَة أبي معشر عَن سعيد بن مَنْصُور، وَرِوَايَة عبيد الله الْعمريّ عَن أبي يعلى، وَلَا يرد كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ لِأَن رِوَايَة البُخَارِيّ والطريقة الَّتِي فِيهَا من اتقن الرِّوَايَات وأحكمها، وَغَيرهَا لَا يلْحقهَا.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( لَا يغْتَسل رجل.
.
)
إِلَى آخِره، مُشْتَمل على شُرُوط سَبْعَة لحُصُول الْمَغْفِرَة، وَجَاء فِي غَيره من الْأَحَادِيث شُرُوط أُخْرَى على مَا نذكرها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الأول: الِاغْتِسَال يَوْم الْجُمُعَة، وَفِيه دَلِيل على أَنه يدْخل وَقت غسل الْجُمُعَة بِطُلُوع الْفجْر من يَوْمه، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء.
الثَّانِي: التطهر، وَهُوَ معنى: ( ويتطهر مَا اسْتَطَاعَ من الطُّهْر) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( من طهر) بالتنكير، وَيُرَاد بِهِ الْمُبَالغَة فِي التَّنْظِيف، فَلذَلِك ذكره فِي بابُُ التفعل وَهُوَ للتكلف، وَالْمرَاد بِهِ: التَّنْظِيف بِأخذ الشَّارِب وقص الظفر وَحلق الْعَانَة، أَو المُرَاد بالاغتسال: غسل الْجَسَد، وبالتطهر: غسل الرَّأْس.
أَو المُرَاد بِهِ: تنظيف الثِّيَاب، وَورد ذَلِك فِي حَدِيث أبي سعيد وَأبي أَيُّوب، فَحَدِيث أبي سعيد عِنْد أبي دَاوُد وَلَفظه: ( من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة وَلبس من أحسن ثِيَابه) .
وَحَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ، وَلَفظه: ( من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة وَمَسّ من طيب إِن كَانَ عِنْده وَلبس من أحسن ثِيَابه) .
الثَّالِث: الادهان، وَهُوَ معنى قَوْله: ( ويدهن من دهنه) ، وَالْمرَاد بِهِ: إِزَالَة شعث الرَّأْس واللحية بِهِ، ويدهن بتَشْديد الدَّال من بابُُ الافتعال، لِأَن أَصله: يتدهن، فقلبت التَّاء دَالا وادغمت الدَّال فِي الدَّال.
الرَّابِع: مس الطّيب، وَهُوَ معنى قَوْله: ( أَو يمس من طيب بَيته) ، قيل: مَعْنَاهُ إِن لم يجد دهنا يمس من طيب بَيته، وَقيل: أَو، بِمَعْنى: الْوَاو.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: و: أَو، فِي ( أَو يمس) لَا يُنَافِي الْجمع بَينهمَا.
وَقيل: بِطيب بَيته ليؤذن بِأَن السّنة أَن يتَّخذ الطّيب لنَفسِهِ وَيجْعَل اسْتِعْمَاله عَادَة لَهُ، فيدخر فِي الْبَيْت بِنَاء على أَن المُرَاد بِالْبَيْتِ حَقِيقَته، وَلَكِن فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو عِنْد دَاوُد: ( أَو يمس من طيب امْرَأَته) ، وَالْمعْنَى على هَذَا إِن لم يتَّخذ لنَفسِهِ طيبا فليستعمل من طيب امْرَأَته.
وَفِي حَدِيث سلمَان عِنْد البُخَارِيّ وَلَفظه: ( أَو يمس من طيب بَيته) ،.

     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين فِي ( شرح التِّرْمِذِيّ) : الظَّاهِر أَن تَقْيِيد ذَلِك بِطيب الْمَرْأَة والأهل غير مَقْصُود، وَإِنَّمَا خرج مخرج الْغَالِب، وَإِنَّمَا المُرَاد بِمَا سهل عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ مَوْجُود فِي بَيته، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث أبي سعيد وَأبي هُرَيْرَة: ( ويمس من طيب إِن كَانَ عِنْده) .
أَي: فِي الْبَيْت سَوَاء كَانَ فِيهِ طيب أَهله أَو طيب امْرَأَته.
قَوْله: ( ثمَّ يخرج) زَاد فِي حَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد ابْن خُزَيْمَة: ( إِلَى الْمَسْجِد) .
الْخَامِس: أَن لَا يفرق بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ معنى قَوْله: ( فَلَا يفرق بَين اثْنَيْنِ) ، وَهُوَ كِنَايَة عَن التبكير، أَي: عَلَيْهِ أَن يبكر فَلَا يتخطى رِقَاب النَّاس، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَيُقَال: مَعْنَاهُ لَا يزاحم رجلَيْنِ فَيدْخل بَينهمَا، لِأَنَّهُ رُبمَا ضيق عَلَيْهِمَا خُصُوصا فِي شدَّة الْحر واجتماع الأنفاس.
السَّادِس: يُصَلِّي مَا شَاءَ وَهُوَ معنى قَوْله: ( ثمَّ يُصَلِّي مَا كتب لَهُ) ، وَفِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ، ( وَركع مَا قضي لَهُ) ، وَفِي حَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا ( فيركع إِن بدا لَهُ) .
السَّابِع: الْإِنْصَات، وَهُوَ معنى قَوْله: ( ثمَّ ينصت) ، بِضَم الْيَاء: من الْإِنْصَات.
يُقَال: أنصت إِذا سكت وأنصته إِذا أسكته، فَهُوَ لَازم ومتعد، وَالْأول المُرَاد هُنَا، ويروى: ( ثمَّ أنصت) ، وَفِي أصُول مُسلم: ( انتصت) ، بِزِيَادَة التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق.
قَالَ عِيَاض: وَهُوَ وهم، وَذكر صَاحب ( الموعب) والأزهري وَغَيرهمَا: أنصت ونصت وانتصت، ثَلَاث لُغَات بِمَعْنى وَاحِد فَلَا وهم حِينَئِذٍ.
قَوْله: ( إِذا تكلم الإِمَام) أَي: إِذا شرع فِي الْخطْبَة.
وَفِي حَدِيث قرثع الضَّبِّيّ: ( حَتَّى يقْضِي صلَاته) ، وَنَحْوه فِي حَدِيث أبي أَيُّوب.

وَأما الزِّيَادَة على الشُّرُوط السَّبْعَة الْمَذْكُورَة.
فَمِنْهَا: الْمَشْي وَترك الرّكُوب، وَفِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) : ( من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة) الحَدِيث، وَفِيه: ( ثمَّ مَشى إِلَى الْجُمُعَة) ، وَلَا شكّ أَن الْمَشْي فِي السَّعْي إِلَيْهَا أفضل إِلَّا أَن يكون بَعيدا عَن إِقَامَتهَا وخشي فَوتهَا فالركوب أفضل، وَهل المُرَاد بِالْمَشْيِ فِي الذّهاب إِلَيْهَا فَقَط أَو الذّهاب وَالرُّجُوع؟ أما فِي الذّهاب إِلَيْهَا فَهُوَ آكِد، وَأما فِي الرُّجُوع فَهُوَ مَنْدُوب إِلَيْهِ أَيْضا.
وَمِنْهَا: ترك الْأَذَى، فَفِي حَدِيث أبي أَيُّوب: ( وَلم يؤذ أحدا) .
فَإِن قلت: قَوْله: ( فَلَا يفرق بَين اثْنَيْنِ) يُغني عَن هَذَا؟ قلت: الْأَذَى أَعم من التَّفْرِيق بَين الِاثْنَيْنِ، فَيحْتَمل أَن يكون الْأَذَى فِي الْمَسْجِد، وَفِي طَرِيق الْمَسْجِد، وَيدل عَلَيْهِ مَا فِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء: ( وَلم يتخط أحدا وَلم يؤذ) ، والعطف يَقْتَضِي الْمُغَايرَة، فَهُوَ من ذكر الْعَام بعد الْخَاص.
وَمِنْهَا: الْمَشْي إِلَى الْمَسْجِد، وَعَلِيهِ السكينَة.
وَفِي حَدِيث أبي أَيُّوب: ( ثمَّ خرج وَعَلِيهِ السكينَة حَتَّى يَأْتِي الْمَسْجِد) ، وَالْمرَاد بِهِ: التؤدة فِي مَشْيه إِلَى الْجُمُعَة وتقصير الخطا.
وَمِنْهَا: الدنو من الإِمَام، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، ثمَّ المُرَاد بالدنو من الإِمَام هَل هُوَ حَالَة الْخطْبَة أَو حَالَة الصَّلَاة إِذا تبَاعد مَا بَين الْمِنْبَر والمصلى مثلا؟ الظَّاهِر أَن المُرَاد حِينَئِذٍ الدنو مِنْهُ فِي حَالَة الْخطْبَة لسماعها، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) : ( ثمَّ دنا حَيْثُ يسمع خطْبَة الإِمَام) ، والْحَدِيث ضَعِيف.
وَمِنْهَا: ترك اللَّغْو، وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر، وَعند أبي دَاوُد: ( ثمَّ لم يتخط رِقَاب النَّاس وَلم يلغ عِنْد الموعظة كَانَت كَفَّارَة لما بَينهمَا، وَمن لَغَا وتخطى رِقَاب النَّاس كَانَت لَهُ ظهرا) .
وَفِي حَدِيث أبي طَلْحَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) ( وأنصت وَلم يلغ فِي يَوْم الْجُمُعَة) الحَدِيث.
واللغو قد يكون بِغَيْر الْكَلَام، كمس الْحَصَى وتقليبه بِحَيْثُ يشغل سَمعه وفكره، وَفِي بعض الْأَحَادِيث: ( وَمن مس الْحَصَى فقد لَغَا) .
وَمِنْهَا: الِاسْتِمَاع، وَهُوَ إِلْقَاء السّمع لما يَقُوله الْخَطِيب.
فَإِن قلت: الأنصات يُغني عَنهُ؟ قلت: لَا لِأَن الانصات ترك الْكَلَام، وَالِاسْتِمَاع مَا ذَكرْنَاهُ، وَقد يستمع وَلَا ينصت بِأَن يلقِي سَمعه لما يَقُوله وَهُوَ يتَكَلَّم بِكَلَام يسير أَو يكون قوي الْحَواس بِحَيْثُ لَا يشْتَغل بالاستماع عَن الْكَلَام، وَلَا بالْكلَام عَن الِاسْتِمَاع، فالكمال الْجمع بَين الْإِنْصَات وَالِاسْتِمَاع.

قَوْله: ( مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة الْأُخْرَى) أَي: مَا بَين يَوْم الْجُمُعَة هَذَا وَبَين يَوْم الْجُمُعَة الْأُخْرَى.
قَوْله: ( الْأُخْرَى) يحْتَمل الْمَاضِيَة قبلهَا والمستقبلة بعْدهَا، لِأَن الْأُخْرَى تَأْنِيث الآخر بِفَتْح الْخَاء لَا بِكَسْرِهَا.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبابُُ الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة، وَقَوله: ( لَا يغْتَسل.
.
)
إِلَى آخِره، وَهُوَ مَحْمُول على الْغسْل الشَّرْعِيّ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، وَحكي عَن الْمَالِكِيَّة تجويزه بِمَاء الْورْد، وَيَردهُ قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ( الصَّحِيح) ( من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة غسل الْجَنَابَة) .
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ تنظيف ثِيَابه يَوْم الْجُمُعَة.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ الادهان والتطيب.
وَفِيه: كَرَاهَة التخطي يَوْم الْجُمُعَة،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: أكره التخطي إلاّ لمن لَا يجد السَّبِيل إِلَى الْمصلى إلاّ بذلك، وَكَانَ مَالك لَا يكره التخطي إلاّ إِذا كَانَ الإِمَام على الْمِنْبَر.
وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة التَّنَفُّل قبل صَلَاة الْجُمُعَة بِمَا شَاءَ، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( صلى مَا كتب لَهُ) .
وَفِيه: وجوب الْإِنْصَات لوُرُود الْأَمر بذلك، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْكَلَام: هَل هُوَ حرَام أم مَكْرُوه كَرَاهَة تَنْزِيه؟ وهما قَولَانِ للشَّافِعِيّ قديم وجديد، قَالَ القَاضِي: قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَعَامة الْفُقَهَاء: يجب الْإِنْصَات للخطبة.
وَحكي عَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ: أَنه لَا يجب إلاّ إِذا تلى فِيهَا الْقُرْآن، وَاخْتلفُوا إِذا لم يسمع الإِمَام هَل يلْزمه الْإِنْصَات كَمَا لَو سَمعه؟ فَقَالَ الْجُمْهُور: يلْزمه.
.

     وَقَالَ  النَّخعِيّ وَأحمد وَالشَّافِعِيّ، فِي أحد قوليه: لَا يلْزمه.
وَلَو لَغَا الإِمَام هَل يلْزمه الْإِنْصَات أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ.
وَفِيه: أَن الْمَغْفِرَة مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة الْأُخْرَى، مَشْرُوطَة بِوُجُود مَا تقدم من الْأُمُور السَّبْعَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث فَإِن قلت: فِي حَدِيث نُبَيْشَة: ( يكون كَفَّارَة للْجُمُعَة الَّتِي تَلِيهَا) ، فَمَا وَجه الْجمع بَين الْحَدِيثين؟ قلت: يحْتَمل أَن يحمل الحديثان على حَالين، فَإِن كَانَت لَهُ ذنُوب فِي الْجُمُعَة الَّتِي قبلهَا كفرت مَا قبلهَا، فَإِن لم تكن لَهُ ذنُوب فِيهَا بِأَن حفظ فِيهَا أَو كفرت بِأَمْر آخر إِمَّا بِالْأَيَّامِ الثَّلَاثَة الزَّائِدَة على الْأُسْبُوع الَّتِي عينهَا فِي الحَدِيث: ( وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام) ، فتكفر عَنهُ ذنُوب الْجُمُعَة الْمُسْتَقْبلَة.
فَإِن قلت: تَكْفِير الذُّنُوب الْمَاضِيَة: بِالْحَسَنَاتِ وبالتوبة وبتجاوز الله تَعَالَى، فَكيف يعقل تَكْفِير الذَّنب قبل وُقُوعه؟ قلت: المُرَاد عدم الْمُؤَاخَذَة بِهِ إِذا وَقع، وَمِنْه مَا ورد فِي مغْفرَة مَا تقدم من الذَّنب وَمَا تَأَخّر، وَمِنْه حَدِيث أبي قَتَادَة فِي ( صَحِيح مُسلم) : ( صِيَام يَوْم عَرَفَة احتسب على الله أَن يكفر السّنة الَّتِي قبله وَالسّنة الَّتِي بعده) .



[ قــ :858 ... غــ :884 ]
- حَدثنَا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ طاوُوسٌ.

قُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ ذكَرُوا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ اغْتَسِلُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُؤوسَكُمْ وَإنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبا وَأصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أمَّا الغُسْلُ فَنَعَمْ وأمَّا الطِّيبُ فَلاَ أدْرِي ( الحَدِيث 884 طرفه فِي: 885) .


لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث ذكر الدّهن ليطابق التَّرْجَمَة، وَلَكِن تَأتي الْمُطَابقَة من وَجه آخر، وَهُوَ أَن الْعَادة اسْتِعْمَال الدّهن بعد غسل الرَّأْس، فَكَأَن هَذَا أشعر بِهِ، وَوجه آخر: أَن الدّهن ذكر فِي حَدِيث طَاوُوس هَذَا فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن ميسرَة، وَإِنَّمَا الزُّهْرِيّ الَّذِي لم يذكرهُ، وَزِيَادَة الثِّقَة الْحَافِظ مَقْبُولَة، والْحَدِيث وَاحِد، فَكَأَنَّهُ مَذْكُور أَيْضا فِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ تَقْديرا وَإِن لم يكن صَرِيحًا.

وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الْيَمَان هُوَ الحكم بن نَافِع غَالِبا يروي عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن طَاوُوس.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله عَن أبي الْيَمَان بِهِ.

قَوْله: ( ذكرُوا) ، لم يسم طَاوُوس من حَدثهُ بذلك، وَالظَّاهِر أَنه أَبُو هُرَيْرَة، لِأَن الطَّحَاوِيّ روى من طَرِيق عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس عَن أبي هُرَيْرَة نَحوه، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان.
قَوْله: ( واغسلوا رؤوسكم) إِمَّا تَأْكِيد ( لاغتسلوا) من بابُُ ذكر الْخَاص بعد الْعَام، وَبَيَان لزِيَادَة الاهتمام بِهِ، أَو يُرَاد بِالْأولِ: الْغسْل الْمَشْهُور الَّذِي هُوَ كَغسْل الْجَنَابَة، وَبِالثَّانِي: التَّنْظِيف من الْأَذَى وَاسْتِعْمَال الدّهن.
قَوْله: ( وَإِن لم تَكُونُوا جنبا) ، عطف على مُقَدّر تَقْدِيره: إِن كُنْتُم جنبا وَإِن لم تَكُونُوا جنبا، وَلَفظ الْجنب يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرد والمثنى وَالْجمع والمذكر والمؤنث، فَلذَلِك وَقع خَبرا لقَوْله: ( وَإِن لم تَكُونُوا) .
قَوْله: ( وأصيبوا) أَمر من الْإِصَابَة، وَكلمَة: من، فِي: من الطّيب، للتَّبْعِيض قَائِم مقَام الْمَفْعُول أَي: أصيبوا بعض الطّيب، وَمَعْنَاهُ: استعملوا.
قَوْله: ( فَلَا أَدْرِي) أَي: فَلَا أعلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه، وَهَذَا يُخَالف مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة صَالح بن أبي الْأَخْضَر عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد بن السباق عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: ( من جَاءَ إِلَى الْجُمُعَة فليغتسل وَإِن كَانَ لَهُ طيب فليمس مِنْهُ) ، وَصَالح ضَعِيف، وَخَالفهُ مَالك فَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد بن سباق مُرْسلا.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن الِاغْتِسَال يَوْم الْجُمُعَة للجنابة يجوز عَن الْجُمُعَة، سَوَاء نَوَاه للْجُمُعَة أَو لَا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: أَكثر من يحفظ فِيهِ من أهل الْعلم يَقُولُونَ: يجزىء غسلة وَاحِدَة للجنابة وَالْجُمُعَة.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: روينَاهُ عَن ابْن عمر وَمُجاهد وَمَكْحُول وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي ثَوْر،.

     وَقَالَ  أَحْمد: أَرْجُو أَن يجْزِيه، وَهُوَ قَول أَشهب وَغَيره، وَبِه قَالَ الْمُزنِيّ.
وَعَن أَحْمد: أَنه لَا يجْزِيه عَن غسل الْجَنَابَة حَتَّى ينويها، وَهُوَ قَول مَالك فِي ( الْمُدَوَّنَة) : وَذكره ابْن عبد الحكم، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن بعض ولد أبي قَتَادَة أَنه قَالَ: من اغْتسل للجنابة يَوْم الْجُمُعَة اغْتسل للْجُمُعَة.





[ قــ :859 ... غــ :885 ]
- حدَّثنا إبْرَاهيمُ بنُ مُوساى قَالَ أخبرنَا هِشَامٌ أنَّ ابنَ جُريْجٍ أخْبَرَهُمْ قالَ أخبرَنِي إبْرَاهيمُ بنُ مَيْسَرَةَ عنْ طَاوُسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الغُسْلِ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَقُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ أيَمَسُّ طِيبا أوْ دُهْنا إنْ كانَ عِنْدِ أهْلِهِ فقالَ لاَ أعْلَمُهُ.
( انْظُر الحَدِيث 884) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ الْحَافِظ.
الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة بِالْيمن.
الثَّالِث: عبد الْملك بن جريج.
الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن ميسرَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح السِّين وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ: الطَّائِفِي الْمَكِّيّ التَّابِعِيّ.
الْخَامِس: طَاوُوس الْيَمَانِيّ.
السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين رازي وصنعاني ومكي وطائفي ويماني على نسق مَذْكُور فِيهِ.

وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن الْحسن بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن هَارُون بن عبد الله، الْكل عَن ابْن جريج.

قَوْله: ( أيمس طيبا؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام وطيبا.
مَنْصُوب بقوله: ( يمس) .
قَوْله: ( فَقَالَ) ، أَي: ابْن عَبَّاس.
قَوْله: ( لَا أعلمهُ) أَي: لَا أعلم أَنه قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا كَونه مَنْدُوبًا.