فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9]

( بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى { ويُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ( الْحَشْر: 9) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر قَول الله تَعَالَى ... إِلَخ، إِنَّمَا ذكر هَذِه الْآيَة بِنَاء على أَنَّهَا نزلت فِي الْأَنْصَار، وَلَكِن ظَاهر حَدِيث الْبابُُ يدل على أَنَّهَا نزلت فِي رجل أَنْصَارِي، على مَا يَجِيء بَيَانه عَن قريب، وعَلى كل حَال الْمُطَابقَة مَوْجُودَة من حَيْثُ إِنَّهَا فِيمَن يُسمى بِالْأَنْصَارِيِّ، مُفردا أَو بالأنصار جمعا، وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول على مَا نذكرهُ الْآن.
قَوْله: ( ويؤثرون) من آثَرته بِكَذَا أَي: خصصته أَي: يؤثرون بِأَمْوَالِهِمْ ومساكنهم أَي: لَا عَن غنى، بل مَعَ احتياجهم، وَهُوَ معنى قَوْله: { وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} ( الْحَشْر: 9) .
أَي: فقر وحاجة.



[ قــ :3622 ... غــ :3798 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا عَبْدُ الله بنُ داوُدَ عنْ فُضَيْل بن غَزْوَانَ عنْ أبِي حازمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رَجُلاً أتَى النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبَعَثَ إِلَى نسائِهِ فقُلْنَ مَا مَعَنَا إلاَّ المَاءَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ يَضُمُّ أوْ يُضيفُ هَذا فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ أَنا فانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأتِهِ فَقَالَ أكْرِمِي ضَيْفَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ مَا عِنْدَنَا إلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي فَقَالَ هَيِّئِي طَعَامَكِ وأصْبِحِي سِرَاجَكِ ونَوِّمِي صِبْيَانَكِ إذَا أرَادُوا عَشاءً فَهَيَّأتْ طَعَامَهَا وأصْبَحَتْ سِرَاجَهَا ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا ثُمَّ قامَتْ كأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفأتْهُ فجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أنَّهُمَا يأكُلاَنِ فَباتَا طاوِيَيْنِ فَلَمَّا أصْبَحْ غدَا إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ضَحِكَ اللَّيْلَةَ أوْ عَجِبَ مِنْ فِعَالِكُمَا فأنْزَلَ الله { ويُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأُلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ( الْحَشْر: 9) .
( الحَدِيث 8973 طرفه فِي: 9884) .


قد ذكرنَا أَن الْمُطَابقَة مَوْجُودَة.
وَعبد الله بن دَاوُد بن عَامر الْهَمدَانِي الْكُوفِي، سكن الْحُدَيْبِيَة بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ من أَفْرَاده، وفضيل بن غَزوَان بن جرير أَبُو الْفضل الْكُوفِي، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء وَالزَّاي: اسْمه سلمَان الْأَشْجَعِيّ، وَلَا يشْتَبه عَلَيْك ب أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْمَذْكُور فِي آخر الْبابُُ الَّذِي قبله.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَأبي كريب.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أبي كريب، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع.

قَوْله: ( فَبعث إِلَى نِسَائِهِ) أَي: يطْلب مِنْهُنَّ مَا يضيف الرجل بِهِ.
قَوْله: ( فَقُلْنَ: مَا مَعنا) أَي: مَا عندنَا إلاَّ المَاء.
قَوْله: ( من يضم) أَي: يجمعه إِلَى نَفسه فِي الْأكل.
قَوْله: ( أَو يضيف) شكّ من الرَّاوِي، من أضَاف يضيف، يُقَال: ضفت الرجل إِذا نزلت بِهِ فِي ضِيَافَة، وأضفته إِذا أنزلته، وتضيفته إِذا نزلت بِهِ، وتضيفني إِذا نزلني.
قَوْله: ( فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار) قيل: هَذَا أَبُو طَلْحَة بن زيد بن سهل، وَهُوَ الْمَفْهُوم من كَلَام الْحميدِي، لِأَنَّهُ لما ذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ فِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل: فَقَامَ رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ أَبُو طَلْحَة زيد بن سهل،.

     وَقَالَ  الْخَطِيب: لَا أرَاهُ زيد بن سهل، بل آخر تكنى أَبَا طَلْحَة.
قلت: كَأَنَّهُ استبعد أَن يكون أَبُو طَلْحَة هُوَ زيد بن سهل لِأَنَّهُ كَانَ أَكثر الْأَنْصَار مَالا بِالْمَدِينَةِ،.

     وَقَالَ  القَاضِي إِسْمَاعِيل فِي ( أَحْكَام الْقُرْآن) : هُوَ ثَابت بن قيس بن الشماس، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن رجلا من الْمُسلمين عبر عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام لَا يجد مَا يفْطر بِهِ حَتَّى فطن لَهُ رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: ثَابت بن قيس،.

     وَقَالَ  ابْن بشكوال: قيل: هُوَ عبد الله بن رَوَاحَة، وَذكر النّحاس فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة أَنَّهَا نزلت فِي أبي المتَوَكل النَّاجِي، ورد عَلَيْهِ بِأَن أَبَا المتَوَكل تَابِعِيّ، وَقيل: هُوَ أَبُو هُرَيْرَة رَاوِي الحَدِيث، نسب ذَلِك إِلَى البحتري القَاضِي أحد الضُّعَفَاء المتروكين.
قَوْله: ( قوت صبياني) ، ويروى: صبيان، بِدُونِ الْإِضَافَة.
قَوْله: ( وأصبحي سراجك) بِهَمْزَة الْقطع أَي: أوقديه أَو نوريه.
قَوْله: ( فَجعلَا يُريانه) ، بِضَم الْيَاء من الإراءة.
قَوْله: ( أَنَّهُمَا) أَي: أَن الْأنْصَارِيّ وَامْرَأَته، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: كَأَنَّهُمَا بِالْكَاف.
قَوْله: ( طاويين) ، حَال تَثْنِيَة طاوٍ، وَهُوَ الجائع الَّذِي يطوي ليله بِالْجُوعِ.
قَوْله: ( ضحك الله) ، يُرَاد بالضحك لَازمه، لِأَن الضحك لَا يَصح على الله عز وَجل، وَهُوَ الرِّضَا بذلك، وَكلما جَاءَ هَكَذَا من أَمْثَاله يُرَاد لوازمها.
قَوْله: ( أَو عجب) شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ كَذَلِك يُرَاد لَازمه، وَهُوَ الرِّضَا بِهَذَا الْفِعْل.
قَوْله: ( فَأنْزل الله) ، هَذَا هُوَ الْأَصَح فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، وَذكر الواحدي عَن ابْن عمر، قَالَ: أهدي لرجل من الصَّحَابَة رَأس شَاة، فَقَالَ: إِن أخي وَعِيَاله أحْوج منا إِلَى هَذَا، فَبعث بِهِ إِلَيْهِ فَلم يزل يبْعَث بِهِ واحدٌ إِلَى آخر حَتَّى تداولها سَبْعَة أهل أَبْيَات، حَتَّى رجعت إِلَى الأول، فَنزلت: { ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} ( الْحَشْر: 9) .
قَوْله: { وَمن يُوقَ نَفسه} ( الْحَشْر: 9) .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَمن غلب مَا أَمرته بِهِ نَفسه وَخَالف هَواهَا بمعونة الله وتوفيقه: { فَأُولَئِك هم المفلحون} ( الْحَشْر: 9) .
الظافرون بِمَا أَرَادوا.
وقرىء: وَمن يُوقَ، بتَشْديد الْقَاف، وَأَصله من الْوِقَايَة وَهِي الْحِفْظ، وَالشح، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر وَقد قرىء بهَا: اللوم، وَأَن تكون النَّفس كزة حريصة على الْمَنْع، وَقيل: الشُّح وَالْبخل بِمَعْنى وَاحِد، وَقيل: الشُّح أَخذ المَال بِغَيْر حق، وَالْبخل الْمَنْع من المَال الْمُسْتَحق، وَقيل: الشُّح بِمَا فِي يَد الْغَيْر، وَالْبخل بِمَا فِي يَده، وَقيل: الْبَخِيل إِذا وجد شبع، والشحيح لَا يشْبع أبدا فالشح أَعم.