فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل الصوم

(بابُُ فَضْلِ الصَّوْمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل الصَّوْم.



[ قــ :1808 ... غــ :1894 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الصِّيامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ ولاَ يَجْهَلْ وَإنِ امْرُءٌ قاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ الله تعَالى مِنْ رِيحِ المِسْكِ يَتْرُكْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهْوَتَهُ مِنْ أجْلِي الصَّيامُ لِي وَأَنا أجْزِي بِهِ والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم عَن القعْنبِي بِهِ، وَلم يذكر: الصّيام جنَّة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ،.

     وَقَالَ : الصّيام جنَّة، وروى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عمرَان بن مُوسَى الْقَزاز حَدثنَا عبد الْوَارِث ابْن سعيد عَن عَليّ بن زيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن ربكُم يَقُول: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ، وَالصَّوْم جنَّة من النَّار، ولخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك، وَإِن جهل على أحدكُم جَاهِل وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم) .
.

     وَقَالَ : حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَقد انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِإِخْرَاجِهِ من هَذَا الْوَجْه،.

     وَقَالَ : وَفِي الْبابُُ عَن معَاذ بن جبل وَسَهل بن سعد وَكَعب بن عجْرَة وسلامة بن قَيْصر وَبشير بن الخصاصية.
قَالَ: وَاسم بشير زحم، والخصاصية هِيَ أمه.
أما حَدِيث معَاذ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَنهُ.
قَالَ: (كنت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فَأَصْبَحت يَوْمًا قَرِيبا مِنْهُ وَنحن نسير، فَقلت: أَخْبرنِي بِعَمَل يدخلني الْجنَّة) .
الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ قَالَ: أَلا أدلك على أَبْوَاب الْخَيْر: الصَّوْم جنَّة) الحَدِيث.
.

     وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) .
وَأما حَدِيث سهل بن سعد فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (فِي الْجنَّة بابُُ يُدعى الريَّان يُدعى لَهُ الصائمون فَمن كَانَ من الصائمين دخله وَمن دخله لم يظمأ أبدا) .
وَكَذَلِكَ أخرجه ابْن مَاجَه وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عَن أبي حَازِم على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما حَدِيث كَعْب بن عجْرَة فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَنهُ فِي حَدِيث فِيهِ: (وَالصَّوْم جنَّة حَصِينَة) ،.

     وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.
وَأما حَدِيث سَلامَة بن قَيْصر فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث عمر بن ربيعَة الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: سَمِعت سَلامَة بن قَيْصر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاء وَجه الله تَعَالَى بعَّده الله، عز وَجل، من جَهَنَّم بعد غراب طَار وَهُوَ فرخ حَتَّى مَاتَ هرما) .
وَأما حَدِيث بشير بن الخصاصية فَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي (معجميهما) من رِوَايَة قَتَادَة عَن جرير بن كُلَيْب عَن بشير ابْن الخصاصية قَالَ يَعْنِي قَتَادَة: وَحدثنَا أَصْحَابنَا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ، يروي عَن ربه تَعَالَى: (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث.

قلت: وَفِي الْبابُُ أَيْضا عَن أبي سعيد وَعلي وَعَائِشَة وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان ابْن أبي الْعَاصِ وَأنس وَجَابِر وَأبي عُبَيْدَة وَحُذَيْفَة وَأبي أُمَامَة وَعقبَة بن عَامر.
وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد، قَالَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله يَقُول: إِن الصّيام لي وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث.
وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي إِسْحَاق عَن عبد الله بن الْحَارِث عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الله يَقُول: الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث،.

     وَقَالَ : إِنَّه خطأ، وَالصَّوَاب: عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله بن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عُرْوَة عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الصّيام جنَّة من النَّار) ، الحَدِيث.
وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي كتاب (طَبَقَات الْمُحدثين بأصبهان) وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مَوْقُوفا عَلَيْهِ: (الصَّوْم جنَّة) ، من رِوَايَة أبي الْأَحْوَص عَنهُ.
وَأما حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الصّيام جنَّة كجنة أحدكُم من الْقِتَال) ، وَزَاد النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة: (جنَّة من النَّار) ، وَأخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه.
وَأما حَدِيث أنس فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ فِيهِ: (وَالصِّيَام جنَّة من النَّار) .
وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) عَنهُ فِي حَدِيث قَالَ فِيهِ: (وَالصَّوْم جنَّة) .
وَأما حَدِيث أبي عُبَيْدَة فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الصَّوْم جنَّة مَا لم يخرقها) ، وَزَاد الدَّارمِيّ: (بالغيبة) ، وَرَوَاهُ أَيْضا مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
وَأما حَدِيث حُذَيْفَة فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ قَالَ: (اسندت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى صَدْرِي، فَقَالَ: لَا إلاهَ إلاَّ الله، من ختم لَهُ بهَا دخل الْجنَّة، وَمن صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاء وَجه الله ختم لَهُ بهَا دخل الْجنَّة، وَمن تصدق بِصَدقَة ابْتِغَاء وَجه الله ختم لَهُ بهَا، دخل الْجنَّة) .
وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة فَرَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة الْوَلِيد بن جميل عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله جعل الله بَينه وَبَين النَّار خَنْدَقًا بعد مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) .
وَأما حَدِيث عقبَة بن عَامر فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله تبَارك وَتَعَالَى، باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم مسيرَة مائَة عَام) .

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جنَّة) ، بِضَم الْجِيم: كل مَا ستر، وَمِنْه: الْمِجَن، وَهُوَ الترس، وَمِنْه سمي الْجِنّ لاستتارهم عَن الْعُيُون، والجنان لاستتارها بورق الْأَشْجَار، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّوْم جنَّة من النَّار لِأَنَّهُ إمْسَاك عَن الشَّهَوَات، وَالنَّار محفوفة بالشهوات كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (حفت الْجنَّة بالمكاره، وحفت النَّار بالشهوات) .
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: معنى كَونه جنَّة أَي يقي صَاحبه مَا يُؤْذِيه من الشَّهَوَات،.

     وَقَالَ  عِيَاض: مَعْنَاهُ يستر من الآثام أَو من النَّار أَو بِجَمِيعِ ذَلِك، وبالأخير قطع النَّوَوِيّ.
قَوْله: (فَلَا يرْفث) ، بِفَتْح الْفَاء وَكسرهَا وَضمّهَا مَعْنَاهُ: لَا يفحش، وَالْمرَاد من الرَّفَث هُنَا الْكَلَام الْفَاحِش، وَيُطلق على الْجِمَاع وعَلى مقدماته، وعَلى ذكره مَعَ النِّسَاء، وَيحْتَمل أَن يكون النَّهْي عَمَّا هُوَ أَعم مِنْهَا.
قَوْله: (وَلَا يجهل) أَي: لَا يفعل شَيْئا من أَفعَال الْجَاهِلِيَّة: كالعياط والسفه والسخرية، وَوَقع فِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه: (فَلَا يرْفث وَلَا يُجَادِل،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: لَا يفهم من هَذَا أَن غير الصَّوْم يُبَاح فِيهِ مَا ذكر، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن الْمَنْع من ذَلِك يتَأَكَّد بِالصَّوْمِ.
قَوْله: (وَإِن امْرُؤ قَاتله) ، كلمة: إِن، مُخَفّفَة مَوْصُولَة بِمَا بعده تَقْدِيره: وَإِن قَاتله امْرُؤ، وَلَفظ: قَاتله، يفسره كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك} (التَّوْبَة: 6) .
أَي: استجارك أحد من الْمُشْركين.
وَمعنى قَاتله: نازعه ودافعه.
قَوْله: (أَو شاتمه) أَي: أَو تعرض للمشاتمة، وَفِي رِوَايَة أبي صَالح: (فَإِن سابه أحد) ، وَفِي رِوَايَة أبي قُرَّة عَن طَرِيق سُهَيْل عَن أَبِيه: (وَإِن شَتمه إِنْسَان فَلَا يكلمهُ) ، وَنَحْوه فِي رِوَايَة همام عَن أبي هُرَيْرَة عِنْد أَحْمد، وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق سُهَيْل: (فَإِن سابه أحد أَو ماراه) ، يَعْنِي: جادله، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق عجلَان مولى المشمعل عَن أبي هُرَيْرَة: (فَإِن شاتمك أحد، فَقل: إِنِّي صَائِم، وَأَن كنت قَائِما فاجلس) .
وَقد ذكرنَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، (وَإِن جهل على أحدكُم جَاهِل وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم) .

قَالَ شَيخنَا زين الدّين: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَن يَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ إِنِّي صَائِم حَتَّى يعلم من يجهل أَنه معتصم بالصيام عَن اللَّغْو والرفث وَالْجهل وَالثَّانِي أَن يَقُول ذَلِك لنَفسِهِ أَي: وَإِذا كنت صَائِما فَلَا يَنْبَغِي أَن أخدش صومي بِالْجَهْلِ وَنَحْوه، فيزجر نَفسه بذلك.
وَالْقَوْل الثَّالِث: التَّفْرِقَة بَين صِيَام الْفَرْض وَالنَّفْل، فَيَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ فِي الْفَرْض، ويقوله لنَفسِهِ فِي التَّطَوُّع، قَوْله: (فَلْيقل) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: كلَاما لسانيا ليسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غَالِبا أَو كلَاما نفسانيا أَي: يحدث بِهِ نَفسه ليمنعها من مشاتمته، وَعند الشَّافِعِي: يجب الْحمل على كلا الْمَعْنيين.

وَاعْلَم أَن كل أحد مَنْهِيّ عَن الرَّفَث وَالْجهل والمخاصمة، لَكِن النَّهْي فِي الصَّائِم آكِد.
قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يفْطر السب والغيبة، فَقيل: مَعْنَاهُ أَنه يصير فِي حكم الْمُفطر فِي سُقُوط الْأجر لَا أَنه يفْطر حَقِيقَة.
انْتهى كَلَامه.
فَإِن قلت: قَاتله أَو شاتمه من بابُُ المفاعلة وَهِي للمشاركة بَين الْإِثْنَيْنِ، والصائم مَأْمُور بالكف عَن ذَلِك؟ قلت: لَا يُمكن حمله على أصل الْبابُُ، وَلكنه قد يَجِيء بِمَعْنى: فعل، يَعْنِي لنسبة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل لَا غير، كَقَوْلِك: سَافَرت بِمَعْنى نسبت السّفر إِلَى الْمُسَافِر، وكما فِي قَوْلهم: عافاه الله، وَفُلَان عالج الْأَمر، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكرنَا من رِوَايَة سُهَيْل عَن أَبِيه: (وَإِن شَتمه إِنْسَان فَلَا يكلمهُ) ، وَقد مضى عَن قريب.

قَوْله: (مرَّتَيْنِ) اتّفقت الرِّوَايَات كلهَا على أَنه يَقُول: إِنِّي صَائِم، فَمنهمْ من ذكرهَا مرَّتَيْنِ، وَمِنْهُم من اقْتصر على وَاحِدَة.
قَوْله: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) ، أقسم على ذَلِك للتَّأْكِيد.
قَوْله: (لخلوف فَم الصَّائِم) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة لَا غير، هَذَا هُوَ لمعروف فِي كتب اللُّغَة، والْحَدِيث، وَلم يحك صاحبا (الْمُحكم) و (الصِّحَاح) غَيره.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: وَكثير من الشُّيُوخ يَرْوُونَهُ بِفَتْحِهَا، قَالَ الْخطابِيّ: وَهُوَ خطأ.
قَالَ القَاضِي: وَحكي عَن الْقَابِسِيّ فِيهِ الْفَتْح وَالضَّم،.

     وَقَالَ  أهل الْمشرق: يَقُولُونَهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَالصَّوَاب الأول.
وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي رِوَايَة (لخلفة فَم الصَّائِم) ، بِالضَّمِّ أَيْضا،.

     وَقَالَ  البرقي: هُوَ تغير طعم الْفَم وريحه لتأخر الطَّعَام، يُقَال: خلف فوه بِفَتْح الْخَاء وَاللَّام يخلف، بِضَم اللَّام وأخلف يخلف إِذا تغير، واللغة الْمَشْهُورَة: خلف.
.

     وَقَالَ  الْمَازرِيّ: هَذَا مجَاز واستعارة، لِأَن استطابة بعض الروائح من صِفَات الْحَيَوَان الَّذِي لَهُ طباع يمِيل إِلَى شَيْء يستطيبه وينفر من شَيْء يستقذره، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تقدس عَن ذَلِك، لَكِن جرت عادتنا على التَّقَرُّب للروائح الطّيبَة، فاستغير ذَلِك فِي الصَّوْم لتقريبه من الله تَعَالَى،.

     وَقَالَ  عِيَاض: يجازيه الله تَعَالَى بِهِ فِي الْآخِرَة، فَتكون نكهته أطيب من ريح الْمسك، وَقيل: لِكَثْرَة ثَوَابه وأجره، وَقيل: يعبق فِي الْآخِرَة أطيب من عبق الْمسك، وَقيل: طيبه عِنْد الله رِضَاهُ بِهِ، وثناؤه الْجَمِيل، وثوابه.
وَقيل: إِن المُرَاد أَن ذَلِك فِي حق الْمَلَائِكَة وَأَنَّهُمْ يستطيبون ريح الخلوق أَكثر مِمَّا يستطيبون ريح الْمسك،.

     وَقَالَ  الْبَغَوِيّ: مَعْنَاهُ الثَّنَاء على الصَّائِم والرضى بِفِعْلِهِ، وَكَذَا قَالَه الْقَدُورِيّ من الْحَنَفِيَّة، وَابْن الْعَرَبِيّ من الْمَالِكِيَّة، وَأَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي وَأَبُو بكر بن السَّمْعَانِيّ وَغَيرهم من الشَّافِعِيَّة، جزموا كلهم بِأَنَّهُ عبارَة عَن الرضى وَالْقَبُول،.

     وَقَالَ  القَاضِي، وَقد يجْزِيه الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة حَتَّى تكون نكهته أطيب من ريح الْمسك، كَمَا قَالَ فِي الكلوم فِي سَبِيل الله: (الرّيح ريح مسك) .
.

     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى، وَقد اخْتلف الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن الصّلاح وَالشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي طيب رَائِحَة الخلوف، هَل هِيَ فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة؟ فَذهب ابْن عبد السَّلَام إِلَى أَن ذَلِك فِي الْآخِرَة، كَمَا فِي دم الشَّهِيد، وَاسْتدلَّ بِمَا رَوَاهُ مُسلم وَأحمد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عَطاء عَن أبي صَالح: (أطيب عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة) ، وَذهب ابْن الصّلاح إِلَى أَن ذَلِك فِي الدُّنْيَا، فاستدل بِمَا رَوَاهُ ابْن حبَان: (فَم الصَّائِم حِين يخلف من الطَّعَام) ، وَبِمَا رَوَاهُ الْحسن بن شعْبَان فِي (مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) من حَدِيث جَابر فِي فضل هَذِه الْأمة: (فَإِن خلوف أَفْوَاههم حِين يمسون أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) .
.

     وَقَالَ  الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده مقارب،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: معنى (عِنْد الله) أَي: فِي الْآخِرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: { وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك} (الْحَج: 74) .
يُرِيد أَيَّام الْآخِرَة.
فَإِن قلت: يُعَكر عَلَيْهِ بِحَدِيث الْبَيْهَقِيّ على مَا لَا يخفى؟ قلت: لَا مَانع من أَن يكون ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
قَوْله: (يتْرك طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أجلى) أَي: قَالَ الله تَعَالَى: يتْرك الصَّائِم طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أَجلي، إِنَّمَا قَدرنَا هَذَا ليَصِح الْمَعْنى، لِأَن سِيَاق الْكَلَام يَقْتَضِي أَن يكون ضمير الْمُتَكَلّم فِي لفظ: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) وَلَفظ: (لأجلي) ، من مُتَكَلم وَاحِد فَلَا يَصح الْمَعْنى على ذَلِك، فَلذَلِك قَدرنَا ذَلِك، وَيُؤَيّد مَا قُلْنَاهُ مَا رَوَاهُ أَحْمد عَن إِسْحَاق بن الطباع عَن مَالك، فَقَالَ بعد قَوْله: (من ريح الْمسك، يَقُول الله، عز وَجل: إِنَّمَا يذر شَهْوَته وَطَعَامه) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي الزِّنَاد، فَقَالَ فِي أول الحَدِيث: (يَقُول الله، عز وَجل: كل عمل ابْن آدم لَهُ إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ، وَإِنَّمَا يذر ابْن آدم شَهْوَته وَطَعَامه من أَجلي) .
قيل: المُرَاد بالشهوة فِي الحَدِيث شَهْوَة الْجِمَاع لعطفها على الطَّعَام وَالشرَاب.
قلت: الشَّهْوَة أَعم، فَيكون من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص، وَلَكِن قدم لفظ الشَّهْوَة سعيد بن مَنْصُور فِي الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا، وَكَذَلِكَ من رِوَايَة الْمُوَطَّأ بِتَقْدِيم الشَّهْوَة عَلَيْهِمَا، فَيكون من قبيل عطف الْخَاص على الْعَام، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق سُهَيْل عَن أبي صَالح عَن أَبِيه: (يدع الطَّعَام وَالشرَاب من أَجلي، ويدع لذته من أَجلي، ويدع زَوجته من أَجلي) ، وَفِي رِوَايَة أبي قُرَّة من هَذَا الْوَجْه: (يدع امْرَأَته وشهوته وَطَعَامه وَشَرَابه من أَجلي) ، وأصرح من ذَلِك مَا وَقع عِنْد الْحَافِظ سمويه: (من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع من أَجلي) ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي هُنَا: فَإِن قلت: فَهَذَا قَول الله وَكَلَامه، فَمَا الْفرق بَينه وَبَين الْقُرْآن؟ قلت: الْقُرْآن لَفظه معجز ومنزل بِوَاسِطَة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَذَا غير معجز وَبِدُون الْوَاسِطَة، وَمثله يُسمى بِالْحَدِيثِ الْقُدسِي والإل هِيَ والرباني.
فَإِن قلت: الْأَحَادِيث كلهَا كَذَلِك، وَكَيف، وَهُوَ: مَا ينْطق عَن الْهوى؟ قلت: الْفرق بِأَن الْقُدسِي مُضَاف إِلَى الله ومروي عَنهُ، بِخِلَاف غَيره، وَقد يفرق بِأَن الْقُدسِي مَا يتَعَلَّق بتنزيه ذَات الله تَعَالَى وبصفاته الجلالية والجمالية مَنْسُوبا إِلَى الحضرة تَعَالَى وتقدس،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: الْقُرْآن هُوَ اللَّفْظ الْمنزل بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للإعجاز، والقدسي إِخْبَار الله رَسُوله مَعْنَاهُ بالإلهام أَو بالمنام، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته بِعِبَارَة نَفسه، وَسَائِر الْأَحَادِيث لم يضفه إِلَى الله وَلم يروه عَنهُ.
قَوْله: (الصّيام لي) ، كَذَا وَقع بِغَيْر أَدَاة عطف وَلَا غَيرهَا، وَفِي (الْمُوَطَّأ) : (فالصيام) ، بِالْفَاءِ وَهِي للسَّبَبِيَّة أَي: بِسَبَب كَونه لي إِنَّه يتْرك شَهْوَته لأجلي، وَوَقع فِي رِوَايَة مُغيرَة عَن أبي الزِّنَاد عَن سعيد بن مَنْصُور: (كل عمل ابْن آدم هُوَ لَهُ إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَمثله فِي رِوَايَة عَطاء عَن أبي صَالح الَّتِي تَأتي.
قَوْله: (وَأَنا أجزي بِهِ) ، بَيَان لِكَثْرَة ثَوَابه، لِأَن الْكَرِيم إِذا أخبر بِأَنَّهُ يتَوَلَّى بِنَفسِهِ الْجَزَاء اقْتضى عَظمته وسعته،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: تَقْدِيم الضَّمِير للتخصيص أَو للتَّأْكِيد والتقوية؟ قلت: يحتملهما، لَكِن الظَّاهِر من السِّيَاق الأول أَي: أَنا أُجَازِيهِ لَا غَيْرِي بِخِلَاف سَائِر الْعِبَادَات، فَإِن جزاءها قد يُفَوض إِلَى الْمَلَائِكَة، وَقد أَكْثرُوا فِي معنى قَوْله: (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَمُلَخَّصه: أَن الصَّوْم لَا يَقع فِيهِ الرِّيَاء كَمَا يَقع فِي غَيره، لِأَنَّهُ لَا يظْهر من ابْن آدم بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء فِي الْقلب، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ مُرْسلا.
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِي الصَّوْم رِيَاء) ، رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب الْغَرِيب عَن شَبابَُة عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن الْأَعْمَال لَا تكون إلاَّ بالحركات إلاَّ الصَّوْم فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تخفى على النَّاس، وروى الْبَيْهَقِيّ هَذَا من وَجه آخر: عَن الزُّهْرِيّ مَوْصُولا عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: (الصّيام لَا رِيَاء فِيهِ، قَالَ الله، عز وَجل: هُوَ لي) وَفِيه مقَال، قيل: لَا يدْخلهُ الرِّيَاء بِفِعْلِهِ وَقد يدْخلهُ بقوله، بِأَن أخبر أَنه صَائِم فَكَانَ دُخُول الرِّيَاء فِيهِ من جِهَة الْإِخْبَار، بِخِلَاف بَقِيَّة الْأَعْمَال، فَإِن الرِّيَاء قد يدخلهَا بِمُجَرَّد فعلهَا.
قلت: فِيهِ نظر لِأَن دُخُول الرِّيَاء وَعدم دُخُوله بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْفِعْل والإخبار لَيْسَ مِنْهُ، فَافْهَم.

وَقَالَ الطَّبَرِيّ: لما كَانَت الْأَعْمَال يدخلهَا الرِّيَاء وَالصَّوْم لَا يطلع عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ فعله إلاَّ الله، فأضافه إِلَى نَفسه، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيث: (يدع شَهْوَته من أَجلي) ،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: جَمِيع الْعِبَادَات تظهر بِفِعْلِهَا، وَقل أَن يسلم مَا يظْهر من شوب بِخِلَاف الصَّوْم.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ أَن الله مُنْفَرد بِعلم مِقْدَار ثَوَاب الصَّوْم وتضعيفه، بِخِلَاف غَيره من الْعِبَادَات، فقد يطلع عَلَيْهَا بعض النَّاس، وَيشْهد لذَلِك مَا روى فِي (الْمُوَطَّأ) : (تضَاعف الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف إِلَى مَا شَاءَ الله، قَالَ الله: إلاَّ الصَّوْم فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ) .
أَي: أجازي بِهِ عَلَيْهِ جَزَاء كثيرا من غير تعْيين لمقداره، وَهَذَا كَقَوْلِه: { إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) .
والصابرون الصائمون فِي أَكثر الْأَقْوَال.
قلت: هَذَا كَلَام حسن، وَلَكِن قَوْله: (الصَّابِرُونَ الصائمون) غير مُسلم، بل الْأَمر بِالْعَكْسِ: الصائمون الصَّابِرُونَ، لِأَن الصَّوْم يسْتَلْزم الصَّبْر وَلَا يسْتَلْزم الصَّبْر الصَّوْم،.

     وَقَالَ  بَعضهم: سبق إِلَى هَذَا أَبُو عبيد فِي (غَرِيبه) ، فَقَالَ: بَلغنِي عَن ابْن عُيَيْنَة أَنه قَالَ ذَلِك، وَاسْتدلَّ لَهُ بِأَن الصَّوْم هُوَ الصَّبْر لِأَن الصَّائِم يصبر نَفسه عَن الشَّهَوَات، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: { إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) .
ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيشْهد لَهُ رِوَايَة الْمسيب بن رَافع عَن أبي صَالح عِنْد سمويه: (إِلَى سَبْعمِائة ضعف إلاَّ الصَّوْم، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أحد مَا فِيهِ) .
ثمَّ قَالَ: وَيشْهد لَهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ ابْن وهب فِي (جَامعه) عَن عمر بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر عَن جده زيد مُرْسلا، وَوَصله الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب من طَرِيق أُخْرَى عَن عمر بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: (الْأَعْمَال عِنْد الله سبع) الحَدِيث، وَفِيه: (عمل لَا يعلم ثَوَاب عَامله إلاَّ الله) .
ثمَّ قَالَ: (وَأما الْعَمَل الَّذِي لَا يعلم ثَوَاب عَامله إلاَّ الله فالصيام) .
انْتهى.
وَقد استبعد الْقُرْطُبِيّ هَذَا، بل أبْطلهُ بقوله: قد أَتَى فِي غير مَا حَدِيث أَن صَوْم الْيَوْم بِعشْرَة أَيَّام، فَهَذَا نَص فِي إِظْهَار التَّضْعِيف.

وَقَالَ بَعضهم: لَا يلْزم من الَّذِي ذكر بُطْلَانه، بل المُرَاد بِمَا أوردهُ أَن صِيَام الْيَوْم الْوَاحِد يكْتب بِعشْرَة أَيَّام، وَأما مِقْدَار ثَوَاب ذَلِك فَلَا يُعلمهُ إلاَّ الله.
انْتهى.
قلت: لَا نسلم أَنه لَا يلْزم من ذَلِك بُطْلَانه، بل يلْزم لِأَن كَلَامه يُؤَدِّي إِلَى تبطيل معنى التَّنْصِيص على مَا لَا يخفى على المتأمل،.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: مَعْنَاهُ أَن الصَّوْم أحب الْعِبَادَات إِلَيّ، والمقدم عِنْدِي، لِأَنَّهُ قَالَ: (الصّيام لي) ، فأضافه إِلَى نَفسه وَكفى بِهِ فضلا على سَائِر الْعِبَادَات.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: (عَلَيْك بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مثل لَهُ) ، لَكِن يُعَكر عَلَيْهِ بِمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (إعلموا أَن خير أَعمالكُم الصَّلَاة) .
قلت: لَا يُعَكر أصلا لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُؤال المخاطبين، كَمَا قَالَ فِي حَدِيث آخر: (خير الْأَعْمَال أدومها وَإِن كَانَ يَسِيرا) .
وَقيل: هُوَ إِضَافَة تشريف كَمَا فِي قَوْله: { نَاقَة الله} (الشَّمْس: 31) .
مَعَ أَن الْعَالم كُله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عز وَجل.
وَقيل: لِأَن الِاسْتِغْنَاء عَن الطَّعَام من صِفَات الله، عز وَجل، فَيقرب الصَّائِم بِمَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الصّفة وَإِن كَانَت صِفَات الله لَا يشبهها شَيْء، وَقيل: إِنَّمَا ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَة لِأَن ذَلِك من صفاتهم، وَقيل: إِضَافَته إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يعبد أحد غير الله بِالصَّوْمِ، فَلم يعظم الْكفَّار فِي عصر من الْأَعْصَار معبودا لَهُم بالصيام.
وَإِن كَانُوا يعظمونه بِصُورَة الصَّلَاة وَالسُّجُود وَالصَّدَََقَة وَغير ذَلِك، ونقضه بَعضهم بأربابُ الاستخدامات فَإِنَّهُم يَصُومُونَ للكواكب، وَلَيْسَ هَذَا بِنَقْض، لِأَن أَرْبابُُ الاستخدامات لَا يَعْتَقِدُونَ أَن الْكَوَاكِب آلِهَة، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: إِنَّهَا فعالة بأنفسها وَإِن كَانَت عِنْدهم مخلوقة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَذَا الْجَواب عِنْدِي لَيْسَ بطائل.
قلت: هَذَا الْجَواب جَوَاب شَيْخه الشَّيْخ زين الدّين، رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَن بيَّن وَجه مَا ذكره، وَقيل: وَجه ذَلِك أَن جَمِيع الْعِبَادَات توفّي مِنْهَا مظالم الْعباد إلاَّ الصّيام، وروى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن أَيُّوب عَن حسان الوَاسِطِيّ عَن أَبِيه عَن ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: (إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُحَاسب الله عَبده وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ من الْمَظَالِم من عمله حَتَّى لَا يبْقى لَهُ إلاَّ الصَّوْم، فيتحمل الله مَا بَقِي عَلَيْهِ من الْمَظَالِم، ويدخله بِالصَّوْمِ الْجنَّة) .
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: هَذَا حسن، غير أَنِّي وجدت فِي حَدِيث الْمُقَاصَّة ذكر الصَّوْم فِي جملَة الْأَعْمَال.
لِأَن فِيهِ: (الْمُفلس من يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاة وَصدقَة وَصِيَام، وَيَأْتِي وَقد شتم هَذَا وَضرب هَذَا وَأكل مَال هَذَا) الحَدِيث.
وَفِيه: (فَيُؤْخَذ لهَذَا من حَسَنَاته، وَلِهَذَا من حَسَنَاته، فَإِن فنيت حَسَنَاته قبل أَن يقْضِي مَا عَلَيْهِ أَخذ من سيئاته فطرحت عَلَيْهِ ثمَّ طرح فِي النَّار) وَظَاهره أَن الصّيام مُشْتَرك مَعَ بَقِيَّة الْأَعْمَال فِي ذَلِك،.

     وَقَالَ  بَعضهم: إِن ثَبت قَول ابْن عُيَيْنَة أمكن تَخْصِيص الصّيام من ذَلِك.
قلت: يجْرِي الْإِمْكَان فِي كل عَام وَلَا يثبت التَّخْصِيص إلاَّ بِدَلِيل، وإلاَّ يلْزم إِلْغَاء حكم الْعَام وَهُوَ بَاطِل.

وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد يسْتَدلّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يرفعهُ: (كل الْعَمَل كَفَّارَة إلاَّ الصَّوْم، الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد، وَلَفظه: (قَالَ ربكُم تبَارك وَتَعَالَى: كل الْعَمَل كَفَّارَة إلاَّ الصَّوْم) .
قلت: أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد عَن آدم عَن شُعْبَة بِلَفْظ: (يرويهِ عَن ربكُم قَالَ: لكل عمل كَفَّارَة، وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) .
انْتهى، وَلم يذكر إلاَّ الصَّوْم، فَدخل فِي صدر الْكَلَام الصَّوْم، لِأَن لفظ: كل، إِذا أضيف إِلَى النكرَة يَقْتَضِي عُمُوم الْأَفْرَاد، وَلكنه أخرجه من ذَلِك، بقوله: (وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) لحصوصية فِيهِ من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَإِن كَانَت جَمِيع الْأَعْمَال لله تَعَالَى.
وَقيل: إِن الصَّوْم لَا يظْهر فتكتبه الْحفظَة كَمَا لَا تكْتب سَائِر أَعمال الْقُلُوب، وَقيل: اسْتندَ قَائِله إِلَى حَدِيث واهٍ جدا، أوردهُ ابْن الْعَرَبِيّ فِي المسلسلات، وَلَفظه: (قَالَ الله: الْإِخْلَاص سرُّ من سري أستودعه قلب من أحب لَا يطلع عَلَيْهِ ملك فيكتبه، وَلَا شَيْطَان فيفسده) .
قيل: اتَّفقُوا على أَن المُرَاد بالصيام هُنَا صِيَام من سلم صِيَامه من الْمعاصِي قولا وفعلاً.
وَنقل ابْن الْعَرَبِيّ عَن بعض الزهاد أَنه مَخْصُوص بصيام خَواص الْخَواص، فَقَالَ: إِن الصَّوْم على أَرْبَعَة أَنْوَاع: صِيَام الْعَوام، وَهُوَ الصَّوْم عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع، و: صِيَام خَواص الْعَوام، وَهُوَ الصَّوْم وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَاب الْمُحرمَات من قَول أَو فعل، وَصِيَام الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم عَن ذكر غير الله وعبادته، وَصِيَام خَواص الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم عَن غير الله، فَلَا فطر لَهُم إلاَّ يَوْم لِقَائِه.

قَوْله: (الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا) ، كَذَا وَقع مُخْتَصرا عِنْد البُخَارِيّ، وروى يحيى بن بكير عَن مَالك فِي هَذَا الحَدِيث بعد قَوْله: (والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا، فَقَالَ: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ) .
فَخص الصّيام بالتضعيف على سَبْعمِائة ضعف فِي هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا عقبه بقوله: (والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا) إعلاما بِأَن الصَّوْم مُسْتَثْنى من هَذَا الحكم فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَائِر الْحَسَنَات بِعشر الْأَمْثَال بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ بأضعافه بِدُونِ الْحساب، وَالْحَاصِل أَن الصّيام لَا يتَقَيَّد بأعداد التَّضْعِيف، بل الله يجْزِيه على ذَلِك بِغَيْر حِسَاب.
فَإِن قلت: الْأَمْثَال جمع مثل، وَهُوَ مُذَكّر، فمنزلته: بِعشْرَة أَمْثَالهَا، بِالتَّاءِ الَّتِي هِيَ عَلامَة التَّأْنِيث؟ قلت: مثل الْحَسَنَة هُوَ الْحَسَنَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعشر حَسَنَات،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قد يكون لسبعمائة، وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء.
قلت: هَذَا أَقَله، والتخصيص بِالْعدَدِ لَا يدل على الزَّائِد وَلَا عَدمه.