فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قوله تعالى {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم} [آل عمران: 45] "

( بابُُ قَوْلِهِ تعَالى { إِذْ قالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ} إِلَى قوْلِهِ { فإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ} ( آل عمرَان: 54 84) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: { إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة ... } ( آل عمرَان: 54) .
إِلَى آخِره، وَفِي بعض النّسخ: بابُُ قَول الله تَعَالَى، وَلَيْسَ فِي بَعْضهَا إِلَى قَوْله إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذِه التَّرْجَمَة فِي الْبابُُ الَّذِي قبل الْبابُُ الْمُجَرّد الَّذِي قبل هَذَا الْبابُُ.
قَوْله: ( إِلَى قَوْله) ، أَي: إقرأ إِلَى قَوْله: { فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} ( آل عمرَان: 84) .
وَهُوَ قَوْله: { وجيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن المقربين ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلاً وَمن الصَّالِحين قَالَت رب أنَّى يكون لي ولد وَلم يمسسني بشر قَالَ كَذَلِك الله يخلق مَا يَشَاء إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} ( 54 84) .
قَوْله: ( وجيهاً) ، أَي: شريفاً ذَا جاه وَقدر.
قَوْله: ( وَمن المقربين) ، أَي: عِنْد الله بالثواب والكرامة.
قَوْله: ( ويكلم النَّاس فِي المهد) ، يَعْنِي: صَغِيرا فِي حجر أمه، وَقيل: فِي الْموضع الَّذِي مهد للنوم، رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: كنت إِذا خلوت بِهِ أحادثه ويحادثني فَإِذا شغلني عَنهُ إِنْسَان يسبح فِي بَطْني وَأَنا أسمع.
وَاخْتلفُوا: هَل كَانَ نَبيا فِي وَقت كَلَامه؟ فَقيل: نعم لظُهُور المعجزة وَقيل: لَا، وَإِنَّمَا جعل ذَلِك تأسيساً لنبوته.
قَوْله: ( وكهلاً) ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِي المهد، نصب على الْحَال، و: كهلاً، عطف عَلَيْهِ بمعني: ويكلم النَّاس طفْلا وكهلاً، يَعْنِي: يكلم فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ بِكَلَام الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: { وَمن الصَّالِحين} ( آل عمرَان: 54 84) .
أَي: فِي قَوْله وَعَمله.
قَوْله: { وَلم يمسسني بشر} أَي: لم يُصِبْنِي رجل.
قَوْله: { إِذا قضى أمرا} أَي: إِذا أَرَادَ تكوينه { فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} ، لَا يتَأَخَّر من وقته بل يُوجد عقيب الْأَمر بِلَا مهلة.

يُبَشِّرُكِ ويَبْشُرُكِ واحِدٌ
الأول: من بابُُ نصر ينصر، وَهُوَ قِرَاءَة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَالثَّانِي: من بابُُ التفعيل من التبشير، والبشير هُوَ الَّذِي يخبر الْمَرْء بِمَا يسره من خير وَلَا يسْتَعْمل فِي الشَّرّ إلاَّ تهكماً.

وجِيهاً شَرِيفاً
فسر وجيهاً الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: { وجيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} ( آل عمرَان: 54) .
بقوله: شريفاً، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب، وانتصابه على الْحَال.

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ المَسيحُ الصِّدِّيقُ
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ الْمَسِيح الصّديق، وَكَذَا فسره سُفْيَان الثَّوْريّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى إِبْرَاهِيم، وَفِيه معَان أخر نذكرها الْآن، فَإِن قلت: الدَّجَّال أَيْضا سمى بالمسيح؟ قلت: أما مَعْنَاهُ فِي عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَفِيهِ أَقْوَال تبلغ ثَلَاثَة وَعشْرين قولا ذَكرنَاهَا فِي كتَابنَا ( زين الْمجَالِس) .
مِنْهَا: مَا قيل إِن أَصله الْمَسِيح على وزن مفعل، فأسكنت الْيَاء ونقلت حركتها إِلَى السِّين طلبا للخفة، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ لَا يمسح ذَا عاهة إلاَّ برىء وَلَا مَيتا إلاَّ حيى، وَعنهُ: لِأَنَّهُ كَانَ أَمسَح الرجل لَيْسَ لَهَا أَخْمص، والأخمص من لَا يمس الأَرْض من بَاطِن الرجل، وَعَن أبي عُبَيْدَة: أَظن أَن هَذِه الْكَلِمَة: مشيخاً، بالشين الْمُعْجَمَة فعربت، وَكَذَا تنطق بِهِ الْيَهُود، وَقيل: لِأَنَّهُ خرج من بطن أمه كَأَنَّهُ مَمْسُوح بالدهن، وَقيل: لِأَن زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَسحه.
وَقيل: لحسن وَجهه إِذْ الْمَسِيح فِي اللُّغَة جميل الْوَجْه، لِأَنَّهُ كَانَ يمسح الأَرْض لِأَنَّهُ قد يكون تَارَة فِي الْبلدَانِ وَتارَة فِي المفاوز والفلوات،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: لِأَنَّهُ كَانَ يلبس المسوح.
وَأما مَعْنَاهُ فِي الدَّجَّال، فَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ يمسح الأَرْض أَي يقطعهَا.
فَإِن قلت: قد ذكرت هَذَا الْمَعْنى فِي عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ .
قلت: إِنَّه كَانَ فِي هَذَا الْوَجْه اشْتِرَاك بِحَسب الظَّاهِر لِأَن الْمَسِيح فِي عِيسَى بِمَعْنى الْمَمْسُوح عَن الآثام وَعَن كل شَيْء فِيهِ قبح، فعيل بِمَعْنى مفعول، وَفِي الدَّجَّال: فعيل بِمَعْنى فَاعل، لِأَنَّهُ يمسح الأَرْض، وَقيل: لِأَنَّهُ لَا عين لَهُ وَلَا حَاجِب،.

     وَقَالَ  ابْن فَارس: مسيح أحد شقي وَجهه مَمْسُوح لَا عين لَهُ وَلَا حَاجِب، فَلذَلِك سمي بِهِ.
وَقيل: الْمَسِيح الْكذَّاب وَهُوَ مُخْتَصّ بِهِ لِأَنَّهُ أكذب الْبشر، فَلذَلِك خصّه الله بالشوه والعور، وَقيل: الْمَسِيح المارد الْخَبيث وَهُوَ أَيْضا مُخْتَصّ بِهِ بِهَذَا الْمَعْنى، وَيُقَال فِيهِ: مسيخ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة لِأَنَّهُ مُشَوه مثل الممسوخ، وَيُقَال فِيهِ: مسيح بِكَسْر الْمِيم وَتَشْديد السِّين للْفرق بَينه وَبَين الْمَسِيح ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

وقالَ مُجَاهِدٌ الْكَهْلُ الحَلِيمُ
كَذَا قَالَه مُجَاهِد فِي قَوْله: { وكهلاً وَمن الصَّالِحين} ( آل عمرَان: 64) .
.

     وَقَالَ  أَبُو جَعْفَر النّحاس: هَذَا لَا يعرف فِي اللُّغَة، وَإِنَّمَا الكهل عِنْدهم من ناهز الْأَرْبَعين أَو قاربها، وَقيل: من جَاوز الثَّلَاثِينَ، وَقيل: الكهل ابْن ثَلَاث وَثَلَاثِينَ.

والأكْمَهُ مَنْ يُبْصِرُ بالنَّهَارِ ولاَ يُبْصِرُ باللَّيْلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: { وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيى الْمَوْتَى بِإِذن الله} ( آل عمرَان: 94) .
وَقيل بعكسه، وَقيل: هُوَ الْأَعْشَى، وَقيل: الْأَعْمَش.

وَقَالَ غَيْرُهُ مَنْ يُولَدُ أعْماى
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد: الأكمه هُوَ الَّذِي يُولد أعمى، وَهُوَ الْأَشْبَه لِأَنَّهُ أبلغ فِي المعجزة وَأقوى فِي التحدي.



[ قــ :3276 ... غــ :3433 ]
- حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ مُرَّةَ الهَمْدَانِيَّ يُحَدِّثُ عنْ أبِي مُوساى الأشْعَرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلى سائِرِ الطَّعَامِ كَمَنْ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وآسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ.

مضى هَذَا الحَدِيث عَن قريب فِي: بابُُ قَول الله تَعَالَى: { وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا} ( التَّحْرِيم: 11) .
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يحيى بن جَعْفَر عَن وَكِيع عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره.





[ قــ :377 ... غــ :3434 ]
- وقالَ ابْنُ وَهْبٍ أخْبَرَني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ نِساءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ أحْنَاهُ علَى طِفْلٍ وأرْعاهُ علَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ يقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ علَى إثْرِ ذالِكَ ولَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيراً قَطُّ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَلم تركب مَرْيَم بنت عمرَان) .
وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب إِلَى آخِره.

قَوْله: ( نسَاء قُرَيْش) كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله: ( خير نسَاء ركبن الْإِبِل) خَبره، وَهُوَ كِنَايَة عَن نسَاء الْعَرَب.
قَوْله: ( أحناه على طِفْل) يَعْنِي: أشفقه وأعطفه، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: أحناهن، لَكِن قَالُوا: الْعَرَب لَا تَتَكَلَّم فِي مثله إلاَّ مُفردا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: إِنَّمَا وحد الضَّمِير ذَهَابًا إِلَى الْمَعْنى تَقْدِيره: أحنى من وجد أَو خلق أَو من هُنَاكَ، وَمثله قَوْله: أحسن النَّاس وَجها وَأحسنه خلقا، يُرِيد: أحْسنهم خلقا، وَهُوَ كثير فِي الْعَرَبيَّة، وَمن أفْصح الْكَلَام: وأحنى على وزن أفعل التَّفْضِيل من: حَنى يحنو، إو حَنى يحني، وَمِنْه الحانية، وَهِي الَّتِي تقيم على وَلَدهَا وَلَا تتَزَوَّج شَفَقَة وعطفاً، وَيُقَال: حنت الْمَرْأَة على وَلَدهَا تحنو: إِذا لم تتَزَوَّج بعد أَبِيهِم.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : وَفِي بعض الْكتب: أحناه، بتَشْديد النُّون،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَلَعَلَّه مَأْخُوذ من الحنان وَهُوَ الرَّحْمَة، وَمِنْه: حنين الْمَرْأَة وَهُوَ نزاعها إِلَى وَلَدهَا وَإِن لم يكن لَهَا صَوت عِنْد ذَلِك، وَقد يكون حنينها صَوتهَا، على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث من حنين الْجذع، وَالْأَصْل فِيهِ تَرْجِيع النَّاقة صَوتهَا على إِثْر وَلَدهَا.
قَوْله: ( وأرعاه) كَذَلِك، أفعل التَّفْضِيل من رعى يرْعَى رِعَايَة، وَالْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي: أحناه.
قَوْله: ( فِي ذَات يَده) ، أَي: فِي مَاله الْمُضَاف إِلَيْهِ.
وَفِيه: فَضِيلَة نسَاء قُرَيْش، وَفضل هَذِه الْخِصَال وَهِي: الحنو على الْأَوْلَاد والشفقة عَلَيْهِم وَحسن تربيتهم ومراعاة حق الزَّوْج فِي مَاله وَحفظه وَالْأَمَانَة فِيهِ وَحسن تَدْبيره فِي النَّفَقَة.
قَوْله: ( على إِثْر ذَلِك) أَي: على عقبه: ( وَلم تركب مَرْيَم بنت عمرَان بَعِيرًا قطّ) يُرِيد بِهِ: أَن مَرْيَم لم تدخل فِي النِّسَاء الْمَذْكُورَات بِمَا ذكرن، لِأَنَّهُ قَيده بركوب الْإِبِل وَمَرْيَم لم تكن مِمَّن يركب الْإِبِل.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : يُؤْخَذ من قَول أبي هُرَيْرَة هَذَا، ومِنْ ذكر البُخَارِيّ لَهُ فِي قصَّة مَرْيَم، تفضيلها على خَدِيجَة وَفَاطِمَة لِأَنَّهُمَا من الْعَرَب المخصوصين بركوب الْإِبِل.

تابَعَهُ ابنُ أخِي الزُّهْرِيِّ وإسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع يُونُس ابْن أخي الزُّهْرِيّ هُوَ أَبُو عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مُسلم بن عبيد الله الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمدنِي ابْن أخي مُحَمَّد ابْن مُسلم الزُّهْرِيّ، قَالَ الْوَاقِدِيّ: قَتله غلمانه بِأَمْر ابْنه، وَكَانَ سَفِيها شاطراً للميراث فِي آخر خلَافَة أبي جَعْفَر، فَوَثَبَ غلمانه بعد سِنِين فَقَتَلُوهُ أَيْضا.
قَوْله: ( وَإِسْحَاق) ، أَي: وَتَابعه أَيْضا إِسْحَاق بن يحيى الْكَلْبِيّ الْحِمصِي، روى لَهُ البُخَارِيّ مستشهداً فِي مَوَاضِع، أما مُتَابعَة ابْن أخي الزُّهْرِيّ فوصلها أَبُو أَحْمد بن عدي فِي ( الْكَامِل) من طَرِيق الدَّرَاورْدِي عَنهُ.

وَأما مُتَابعَة اسحاق الْكَلْبِيّ فوصلها الذهلي فِي الزهريات عَن يحي بن صَالح الوحاظي عَنهُ.