فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب في العطار وبيع المسك

( بابٌُ فِي الْعَطَّارِ وبَيْعِ المِسْكِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي الْعَطَّار، على وزن: فعال، بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ الَّذِي يَبِيع الْعطر، وَهُوَ الطّيب.
قَوْله: ( وَبيع الْمسك) عطف على مَا قبله.



[ قــ :2017 ... غــ :2101 ]
- حدَّثني مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا أبُو بُرْدَةَ بنُ عَبْدِ الله قَالَ سَمِعْتُ أبَا بُرْدَةَ بنَ أبِي مُوسَى عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والجَلِيسِ السُّوءِ كمَثَلِ صاحِبِ المِسْكِ وكِيرِ الحَدَّادِ لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صاحِبِ المِسْكِ إمَّا تَشْتَرِيهِ أوْ تَجِدُ رِيحَهُ وكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أوْ ثَوْبَكَ أوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحا خَبِيثَةً.
( الحَدِيث 1012 طرفه فِي: 4355) .


مطابقته للتَّرْجَمَة للجزء الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ: بيع الْمسك.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَبيع الْمسك لَيْسَ فِي حَدِيث الْبابُُ سوى ذكر الْمسك، وَكَأَنَّهُ ألحق الْعَطَّار بِهِ لاشْتِرَاكهمَا فِي الرَّائِحَة الطّيبَة.
قلت: صَاحب الْمسك أَعم من أَن يكون حامله أَو بَائِعه، وَلَكِن الْقَرِينَة الحالية تدل على أَن المُرَاد مِنْهُ بَائِعه، فَتَقَع الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة.
وَأما أَنه ذكر الْعَطَّار، وَإِن لم يكن لَهُ ذكر فِي الحَدِيث، فَلِأَنَّهُ قَالَ: وَبيع الْمسك، وَهُوَ يسْتَلْزم البَائِع، وبائع الْمسك يُسمى: الْعَطَّار.
وَإِن كَانَ يَبِيع غير الْمسك من أَنْوَاع الطّيب.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي.
الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْعَبْدي.
الثَّالِث: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه بريد مصغر الْبرد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى.
الرَّابِع: أَبُو بردة، بِالضَّمِّ أَيْضا: واسْمه عَامر بن أبي مُوسَى.
الْخَامِس: أَبوهُ، أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان والبقية كوفيون.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب وَعَن الْجد، على مَا لَا يخفى.

وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي كريب.
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة، وَعَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( مثل الجليس) ، الجليس على وزن: فعيل، هُوَ الَّذِي يُجَالس الرجل.
يُقَال: جالسته فَهُوَ جليسي وجلسي.
قَوْله: ( كير الْحداد) ، بِكَسْر الْكَاف وَسُكُون الْيَاء، هُوَ زق أَو جلد غليظ ينْفخ بِهِ النَّار، وَفِي رِوَايَة أُسَامَة: ( كحامل الْمسك ونافخ الْكِير) .
وَفِي الْكَلَام لف وَنشر،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الْمُشبه بِهِ الْكِير أَو صَاحب الْكِير لاحْتِمَال عطف الْكِير على الصاحب وعَلى الْمسك فَأجَاب بِأَن ظَاهر اللَّفْظ أَنه الْكِير، وَالْمُنَاسِب للتشبيه أَنه صَاحبه.
قَوْله: ( لَا يعدمك) ، بِفَتْح الْيَاء وَفتح الدَّال من: عدمت الشَّيْء بِالْكَسْرِ، أعدمه أَي: فقدته.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَضبط فِي البُخَارِيّ، بِضَم الْيَاء وَكسر الدَّال من عدمت الشَّيْء بِالْكَسْرِ أعدمه، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ يعدوك.
قلت: هُوَ رِوَايَة أبي ذَر، فَيكون من الإعدام، وفاعل: ( لَا يعدمك) ، قَوْله: ( تشتريه) ، وَأَصله: أَن تشتريه، وَكلمَة: إِمَّا، زَائِدَة، وَيجوز أَن يكون الْفَاعِل مَا يدل عَلَيْهِ إِمَّا أَي: لَا يعدمك أحد الْأَمريْنِ.
قَوْله: ( وَأما تشتريه أَو تَجِد رِيحه) وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: ( إِمَّا أَن يجديك، وَإِمَّا أَن تبْتَاع مِنْهُ) .
وَرِوَايَة عبد الْوَاحِد أرجح لِأَن: الإجداء وَهُوَ الْإِعْطَاء.
لَا يتَعَيَّن بِخِلَاف الرَّائِحَة، فَإِنَّهَا لَازِمَة سَوَاء وجد البيع أَو لم يُوجد.
قَوْله: ( وكير الْحداد) إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: ( ونافخ الْكِير، إِمَّا أَن يحرق ثِيَابك) .

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: النَّهْي عَن مجالسة من يتَأَذَّى بمجالسته، كالمغتاب والخائض فِي الْبَاطِل، وَالنَّدْب إِلَيّ من ينَال بمجالسته الْخَيْر من ذكر الله وَتعلم الْعلم وأفعال الْبر كلهَا.
وَفِي الحَدِيث: ( الْمَرْء على دين خَلِيله، فَلْينْظر أحدكُم من يخالل) .
وَفِيه: دَلِيل على إِبَاحَة المقايسات فِي الدّين، قَالَه ابْن حبَان عِنْد ذكر هَذَا الحَدِيث.
وَفِيه: جَوَاز ضرب الْأَمْثَال.
وَفِيه: دَلِيل على طَهَارَة الْمسك.
وَفِي ( صَحِيح مُسلم) : عَن أبي سعيد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( الْمسك أطيب الطّيب) .
وَفِي كتاب ( الْأَشْرَاف) : روينَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَنَد جيد أَنه كَانَ لَهُ مسك يتطيب بِهِ، وعَلى هَذَا جلّ الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم، وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأنس وسلمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَجَابِر بن زيد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق.
وَخَالف فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَذكر ابْن أبي شيبَة، قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تحنطوني بِهِ، وَكَرِهَهُ.
وَكَذَا عمر ابْن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَالْحسن وَمُجاهد وَالضَّحَّاك،.

     وَقَالَ  أَكْثَرهم: لَا يصلح للحي وَلَا للْمَيت، لِأَنَّهُ ميتَة، وَهُوَ عِنْدهم بِمَنْزِلَة مَا أبين من الْحَيَوَان.
قَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا يَصح ذَلِك إلاَّ عَن عَطاء.
قلت: روى ابْن أبي شيبَة عَن عَطاء من طَرِيق جَيِّدَة أَنه سُئِلَ: أطيب الْمَيِّت بالمسك؟ قَالَ: نعم، أوليس الَّذِي تخمرون بِهِ الْمسك؟ فَهُوَ خلاف مَا قَالَه ابْن الْمُنْذر عَنهُ، وَقَوْلهمْ: إِنَّه بِمَنْزِلَة مَا أبين من الْحَيَوَان، قِيَاس غير صَحِيح، لِأَن مَا قطع من الْحَيّ يجْرِي فِيهِ الدَّم، وَهَذَا لَيْسَ سَبِيل نافجة الْمسك لِأَنَّهَا تسْقط عِنْد الاحتكاك كسقوط الشعرة.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْفضل عِيَاض: وَقع الْإِجْمَاع على طَهَارَته وَجَوَاز اسْتِعْمَاله.
.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: الْمسك حَلَال بِالْإِجْمَاع بِحل اسْتِعْمَاله للرِّجَال وَالنِّسَاء، وَيُقَال: انقرض الْخلاف الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَاسْتقر الْإِجْمَاع على طَهَارَته، وَجَوَاز بَيْعه.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: أصل الْمسك التَّحْرِيم لِأَنَّهُ دم، فَلَمَّا تغير عَن الْحَالة الْمَكْرُوهَة من الدَّم، وَهِي الزهم، وفاح الرَّائِحَة، صَار حَلَالا بِطيب الرَّائِحَة، وانتقلت حَاله كَالْخمرِ تتخل فَتحل بعد أَن كَانَت حَرَامًا بانتقال الْحَال.
وَفِي ( شرح الْمُهَذّب) : نقل أَصْحَابنَا عَن الشِّيعَة فِيهِ مذهبا بَاطِلا، وَهُوَ مُسْتَثْنى من الْقَاعِدَة الْمَعْرُوفَة: أَن مَا أبين من حَيّ فَهُوَ ميت أَو يُقَال: هُوَ فِي معنى الْجَنِين وَالْبيض وَاللَّبن، وَذكر المَسْعُودِيّ فِي ( مروج الذَّهَب) : أَنه تدفع مواد الدَّم إِلَى سرة الغزال، فَإِذا استحكم لون الدَّم فِيهَا ونضح آذاه ذَلِك وحكه.
فَيفزع حِينَئِذٍ إِلَى أحد الصخور والأحجار الحارة من حر الشَّمْس، فيجت بهَا ملتذا بذلك، فينفجر حِينَئِذٍ وتسيل على تِلْكَ الْأَحْجَار كانفجار الْجراح والدمل، ويجد بِخُرُوجِهِ لَذَّة، فَإِذا فرغ مَا فِي نافجته اندمل حِينَئِذٍ ثمَّ اندفعت إِلَيْهِ مواد من الدَّم تَجْتَمِع ثَانِيَة، فَيخرج رجال نبت يقصدون تِلْكَ الْحِجَارَة وَالْجِبَال فيجدونه قد جف بعد إحكام الْموَاد ونضج الطبيعة وجففته الشَّمْس وَأثر فِيهِ الْهوى، فيودعونه فِي نوافج مَعَهم قد أخذوها من غزلان اصطادوها، معدة مَعَهم، ولغزاله نابان صغيران محدودا الْأَعْلَى، مِنْهَا مدلًى على أَسْنَانه السُّفْلى، ويداه قصيرتان وَرجلَاهُ طويلتان، وَرُبمَا رَمَوْهَا بِالسِّهَامِ فيصرعونها ويقطعون عَنْهَا نوافجها وَالدَّم فِي سررها خام لم ينضج، وطري لم يدْرك، فَيكون لرائحته سهولة، فَيبقى زَمَانا حَتَّى تَزُول عَنهُ تِلْكَ الروائح السهلة الكريهة، وتكتسب موادا من الْهوى، وَتصير مسكا.