فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة} [مريم: 39]

( سورَة كَهيعص)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة كهيعس، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: مَكِّيَّة،.

     وَقَالَ  مقَاتل: مَكِّيَّة كلهَا إِلَّا سجدتها فَإِنَّهَا مَدَنِيَّة، وَعَن الْقُرْطُبِيّ عَنهُ: نزلت بعد المهاجرة إِلَى أَرض الْحَبَشَة، وَهِي ثَمَان وَتسْعُونَ آيَة، وتسع مائَة وإثنان وَسِتُّونَ كلمة، وَثَلَاثَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حرف وحرفان.
وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهَا: فَعَن ابْن عَبَّاس إسم من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَقيل: إسم الله الْأَعْظَم، وَعَن قَتَادَة هُوَ إسم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَقيل: إسم السُّورَة، وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا: هُوَ قسم أقسم الله تَعَالَى بِهِ، وَعَن الْكَلْبِيّ: هُوَ ثَنَاء أثنى الله بِهِ على نَفسه، وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا: الْكَاف من كريم، وَالْهَاء من هاد، وَالْيَاء من رَحِيم، وَالْعين من عليم وعظيم، وَالصَّاد من صَادِق، رَوَاهُ الْحَاكِم من طَرِيق عَطاء بن السَّائِب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ الله يَقُولُهُ وهُمُ اليومَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ يَعْنِي قَوْلَهُ أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ الكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ أسْمَعُ شَيْءٍ وأبْصَرُهُ.
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي قَوْله تَعَالَى: { أسمع بهم وَأبْصر يَوْم يأتوننا لَكِن الظَّالِمُونَ الْيَوْم فِي ضلال مُبين} ( مَرْيَم: 83) .
قَوْله: أسمع بهم وَأبْصر لَفظه لفظ الْأَمر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر، أَي: مَا اسمعهم وأبصرهم يَوْم الْقِيَامَة حِين لَا يَنْفَعهُمْ ذَلِك، وَقيل: سمع بِحَدِيثِهِمْ وَأبْصر كَيفَ يسمع بهم يَوْم يأتوننا، يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: ( الله يَقُوله) ، جملَة إسمية.
قَوْله: ( وهم) أَي: الْكفَّار الْيَوْم لَا يسمعُونَ وَلَا يبصرون، وَالْيَوْم نصب على الظّرْف.
قَوْله: ( الْكفَّار يومئذٍ أسمع شَيْء وأبصره لكِنهمْ الْيَوْم) ، يَعْنِي فِي الدُّنْيَا فِي ضلال مُبين لَا يسمعُونَ وَلَا يبصرون، ثمَّ تَعْلِيق ابْن عَبَّاس هَذَا وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس.
قَوْله: لأرْجُمَنَّكَ لأشْتَمِنَّكَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { يَا إِبْرَاهِيم لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمتك واهجرني مَلِيًّا} ( مَرْيَم: 64) وَفسّر قَوْله: ( لأرجمنك) بقوله: ( لأشتمنك) وَكَذَا فسره مقَاتل وَالضَّحَّاك والكلبي، وَعَن ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ لأضربنك، وَقيل: لأظهرن أَمرك.
قَوْله: ( مَلِيًّا) أَي: دهراً، قَالَه سعيد بن جُبَير، وَعَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة: حينا، وَعَن قَتَادَة وَالْحسن وَعَطَاء: ( سالما) .
ورِئْياً مَنْظَراً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً} ( مَرْيَم: 47) وَفسّر: ( ورئياً) بقوله: ( منْظرًا) ، وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس بِهِ،.

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ: وقرىء بالزاي، وَهُوَ الْهَيْئَة.
وَقَالَ أبُو وائِلٍ علِمَتْ مَرْيَمُ أنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حَتَّى قالَتْ: { إنِّي أعُوذُ بالرَّحْمانِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقيًّا} ( مَرْيَم: 81) .

     وَقَالَ  ابنُ عُيَيْنَةَ تَؤُزُّهُمْ أزًّا تُزْعِجُهُمْ إِلَى المَعاصِي إزْعاجاً.
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي قَوْله، عز وَجل: { ألم تَرَ أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين تؤزهم أزًّا} ( مَرْيَم: 38) أَي: تزعجهم إِلَى الْمعاصِي إزعاجاً وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، وَعَن الضَّحَّاك: تَأْمُرهُمْ بِالْمَعَاصِي أمرا.
وَعَن سعيد بن جُبَير: تغريهم إغراء، وَعَن مُجَاهِد: تشليهم أشلاءً.
وَعَن الْأَخْفَش: توهجهم، وَعَن المؤرج: تحركهم فِي الأَصْل: الصَّوْت.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: لُدًّا عُوَجاً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لتبشر بِهِ الْمُتَّقِينَ وتنذر بِهِ قوما لدا} ( مَرْيَم: 79) وَفسّر: ( لدا) بقوله: ( عوجا) بِضَم الْعين جمع أَعْوَج، واللد، جمع أَلد، يُقَال: رجل أَلد إِذا كَانَ من عَادَته مخاصمة النَّاس، وَعَن مُجَاهِد: ألالد الظَّالِم الَّذِي لَا يَسْتَقِيم، وَعَن أبي عُبَيْدَة: ألالد الَّذِي لَا يقبل الْحق وَيَدعِي الْبَاطِل، وَتَعْلِيق مُجَاهِد رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة: حَدثنَا زيد حَدثنَا ابْن ثَوْر عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وِرْداً عِطاشاً أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: { ونسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وردا} ( مَرْيَم: 68) وَفسّر: ( وردا) بقوله: ( عطاشاً) ، والورد جمَاعَة يردون المَاء إسم على لفظ الْمصدر،.

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ: عطاشاً مشَاة على أَرجُلهم قد تقطعت أَعْنَاقهم من الْعَطش.
أثاثاً مَالا أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { هم أحسن أثاثاً ورئياً} ( مَرْيَم: 47) وَفسّر: ( أثاثاً) بقوله: ( مَالا) وَعَن ابْن عَبَّاس: هَيْئَة، وَعَن مقَاتل: ثيابًا، وَقيل: مَتَاعا.
إداً قَوْلاً عَظِيماً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إداً} ( مَرْيَم: 98) وَفسّر: ( إداً) ، بقوله: ( قولا عَظِيما) ، وَهُوَ اتخاذهم لله ولدا، وَرُوِيَ هَكَذَا عَن ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
رِكْزاً صَوْتاً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { أَو تسمع لَهُم ركزاً} ( مَرْيَم: 89) وَفسّر: ( ركزاً) بقوله: ( صَوتا) ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَكَذَا روى عبد الرَّزَّاق عَن قَتَادَة مثله، قَالَ الطَّبَرِيّ: الركز فِي كَلَام الْعَرَب الصَّوْت الْخَفي.
غَيًّا خُسْرَاناً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا} .
وَفسّر ( غياً) بقوله: ( خسراناً) لم يثبت هَذَا لأبي ذَر، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس مثله، وَعَن ابْن مَسْعُود: الغي وادٍ فِي جَهَنَّم بعيد القعر، أخرجه الْحَاكِم، وَعنهُ: الغي نهر فِي جَهَنَّم، وَعَن عَطاء: الغي وَاد فِي جَهَنَّم يسيل قَيْحا ودماً، وَعَن كَعْب: هُوَ وَاد فِي جَهَنَّم أبعدها قعراً وأشدها حرا فِيهِ بِئْر يُسمى الهيم، كلما خبت جَهَنَّم فتح الله تِلْكَ الْبِئْر فتسعر بهَا جَهَنَّم.
بُكيا جَماعَةُ باكٍ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { خروا سجدا وبُكياً} ( مَرْيَم: 85) .

     وَقَالَ : ( بكيا) جمع ( باك) وَكَذَا قَالَه أَبُو عُبَيْدَة قلت: أَصله بكوى، على وزن فعول كقعود جمع قَاعد اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت يَاء ثمَّ أدغمت الْيَاء فِي الْيَاء ثمَّ أبدلت ضمة الْكَاف كسرة لأجل الْيَاء، فَافْهَم.
.

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ: هَذِه الْآيَة نزلت فِي مؤمني أهل الْكتاب عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه.
صُلِّيا صَلِيَ يَصْلَى أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { ثمَّ لنَحْنُ أعلم بالذين هم أولى بهَا صلياً} ( مَرْيَم: 07) وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: صلياً.
مصدر صلى يُصَلِّي من بَاب: علم يعلم، كلقى يلقى لقيا، يُقَال: صلى فلَان النَّار أَي: دَخلهَا وَاحْتَرَقَ.
نَدِيًّا والنَّادِي واحِدٌ مَجْلِساً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { أَي الْفَرِيقَيْنِ خير مقَاما وَأحسن ندياً} ( مَرْيَم: 37) وَأَن ندياً والنادي وَاحِد، ثمَّ فسر ( ندياً) بقوله: ( مَجْلِسا) ،.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: الندي والنادي وَاحِد، وَالْجمع أندية، وَفسّر قَوْله تَعَالَى: ندياً، أَي: مَجْلِسا، والندي مجْلِس الْقَوْم ومجتمعهم، وَقيل: أَخذ من الندى وَهُوَ الْكَرم لِأَن الكرماء يَجْتَمعُونَ فِيهِ.


(بابُُ قَوْلِهِ: { وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ} (مَرْيَم: 93)

أَي: هَذَا بابُُ فِي قَوْله عز وَجل: { وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر وهم فِي غَفلَة وهم لَا يُؤمنُونَ} أَي: أنذر كفار مَكَّة يَوْم الْحَسْرَة يَوْم الْقِيَامَة يَوْم يتحسر الْمُسِيء هلا أحسن الْعَمَل، والمحسن هلا ازْدَادَ من الْإِحْسَان، وَأكْثر الْمُفَسّرين يَوْم الْحَسْرَة حِين يذبح الْمَوْت.
قَوْله: (إِذْ قضى الْأَمر) ، أَي: فرغ من الْحساب، وَقيل: ذبح الْمَوْت وهم فِي غَفلَة فِي الدُّنْيَا وهم لَا يُؤمنُونَ بِمَا يكون فِي الْآخِرَة، وَكلمَة: إِذْ، بدل من الْحَسْرَة، أَو مَنْصُوب بالحسرة.



[ قــ :4474 ... غــ :473 ]
- حدَّثنا عُمَرِ بنُ حَفْصِ بنِ غِياثٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ حدّثنا أبُو صالِحٍ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤْتَى بالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أمْلَح فَيُنَادِي مُنادٍ يَا أهْلَ الجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هاذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هاذَا المَوْتُ وكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثُمَّ يُنادِي يَا أهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هاذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هاذَا المَوْتُ وكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أهْلَ الجَنَّة خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ وَيَا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ ثُمَّ قَرَأ: { وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهاؤُلاَءِ فِي غَفْلَةٍ أهْلُ الدُّنْيا وهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (مَرْيَم: 93) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح هُوَ ذكْوَان السمان، وَأَبُو سعيد اسْمه سعد بن مَالك.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيره.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن المنيع.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن هناد بن العوسى.

قَوْله: (يُؤْتى بِالْمَوْتِ كَهَيئَةِ كَبْش أَمْلَح) ، والأملح الَّذِي فِيهِ بَيَاض كثير سَواد، قَالَه الْكسَائي،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ الْأَبْيَض الْخَالِص، وَالْحكمَة فِي كَونه على هَيْئَة كَبْش أَبيض لِأَنَّهُ جَاءَ: أَن ملك الْمَوْت أَتَى آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي صُورَة كَبْش أَمْلَح قد نشر من أجنحته أَرْبَعَة آلَاف جنَاح، وَالْحكمَة فِي كَون الْكَبْش أَمْلَح أَبيض وأسود، أَن الْبيَاض من جِهَة الْجنَّة والسواد من جِهَة النَّار، قَالَه عَليّ بن حَمْزَة.
قَوْله: (فَيَشْرَئِبُّونَ) ، من الإشريبابُ، يُقَال: اشرأب إِذا مد عُنُقه لينْظر،.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: إِذا رفع رَأسه.
قَوْله: (فَيَقُولُونَ نعم) فَإِن قلت: من أَيْن عرفُوا ذَلِك حَتَّى يَقُولُونَ نعم؟ قلت: لأَنهم يعاينون ملك الْمَوْت فِي هَذِه الصُّورَة عِنْد قبض أَرْوَاحهم.
قَوْله: (فَيذْبَح) ، أَي: بَين الْجنَّة وَالنَّار، فَيذْبَح، الحَدِيث.
وَقيل: يذبح على الصِّرَاط على مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: يجاء بِالْمَوْتِ فَيُوقف على الصِّرَاط، فَيُقَال: يَا أهل الْجنَّة فيطلعون خَائِفين أَن يخرجُوا من مكانهم، ثمَّ يُقَال: يَا أهل النَّار فيطلعون مستبشرين فرحين أَن يخرجُوا من النَّار، هَذَا الْمَوْت فَيُؤْمَر بِهِ فَيذْبَح على الصِّرَاط، وَقيل: يذبح على السُّور الَّذِي بَين الْجنَّة وَالنَّار، وَأخرج التِّرْمِذِيّ هَذَا، فَيَقُولُونَ: نعم هَذَا الْمَوْت، ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح.
فَإِن قلت: الْمَوْت عرض بِنَا فِي الْحَيَاة أَو هُوَ عدم الْحَيَاة، فَكيف يذبح؟ قلت: يَجعله الله مجسماً حَيَوَانا مثل الْكَبْش أَو الْمَقْصُود مِنْهُ التَّمْثِيل، وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُقَاتِل والكلبي، أَن الْمَوْت والحياة جسمان، فالموت فِي هَيْئَة كَبْش لَا يمر بِشَيْء وَلَا يجد رِيحه شَيْء إلاَّ مَاتَ، وَخلق الْحَيَاة على صُورَة فرس أُنْثَى بلقاء وَهِي الَّتِي كَانَ جِبْرِيل والأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، يركبونها خطوها مد الْبَصَر فَوق الْحمار وَدون الْبَغْل لَا يمر بِشَيْء وَلَا يجدر رِيحهَا إلاَّ حيى، وَهُوَ الَّذِي أَخذ السامري من أَثَرهَا فَأَلْقَاهُ على الْعجل، فَإِن قلت: من الذَّابِح للْمَوْت؟ قلت: يذبحه يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: الَّذِي يذبحه جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ذكره الْقُرْطُبِيّ فِي (التَّذْكِرَة) .
قَوْله: (خُلُود لَا موت) ، لفظ: خُلُود إِمَّا مصدر، وَإِمَّا جمع خَالِد.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَلم يبين مَا وَرَاء ذَلِك.
قلت: إِذا كَانَ مصدرا يكون تَقْدِيره: أَنْتُم خُلُود وصف بِالْمَصْدَرِ للْمُبَالَغَة، كَمَا تَقول: رجل عدل وَإِذا كَانَ جمعا يكون تَقْدِيره: أَنْتُم خَالدُونَ، وَهَذَا أَيْضا يدل على الخلود لأهل الدَّاريْنِ لَا إِلَى أمد وَغَايَة، وَمن قَالَ: إِنَّهُم يخرجُون مِنْهَا وَإِن النَّار تبقى خَالِيَة وَإِنَّهَا تفنى وتزول فقد خرج عَن مُقْتَضى الْعُقُول وَخَالف مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَمَا أجمع عَلَيْهِ أهل السّنة والعدول، وَإِنَّمَا تخلى جَهَنَّم وَهِي الطَّبَقَة الْعليا الَّتِي فِيهَا عصاة أهل التَّوْحِيد، وَهِي الَّتِي ينْبت على شفيرها الجرجير، وَقد بَين ذَلِك مَوْقُوفا عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: يَأْتِي على النَّار زمَان تخفق الرِّيَاح أَبْوَابهَا لَيْسَ فِيهَا أحد من الْمُوَحِّدين، وَهَذَا، وَإِن كَانَ مَوْقُوفا فَإِن مثله لَا يُقَال بِالرَّأْيِ قَوْله: (وهم فِي غَفلَة) ، فسر بهؤلاء ليشير إِلَيْهِم بَيَانا لكَوْنهم أهل الدُّنْيَا إِذْ الْآخِرَة لَيست دَار غَفلَة.
<