فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل صلاة الفجر

(بابُُ فَضْلِ صَّلاَةِ الفَجْرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان صَلَاة الْفجْر.
قَوْله: (وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَلم يَقع فِي رِوَايَة غَيره.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَلم تظهر مُنَاسبَة لفظ الحَدِيث فِي هَذَا الْموضع، وَقد يُقَال: الْغَرَض مِنْهُ بابُُ كَذَا: وَبابُُ الحَدِيث الْوَارِد فِي فضل صَلَاة الْفجْر.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلم يظْهر لي تَوْجِيه لهَذَا: اللَّفْظ، واستبعد تَوْجِيه الْكرْمَانِي، ثمَّ قَالَ: وَالظَّاهِر أَن هَذَا وهم، وَيدل لذَلِك أَنه ترْجم لحَدِيث جرير إيضا بابُُ صَلَاة الْعَصْر بِغَيْر زِيَادَة، وَيحْتَمل أَنه كَانَ فِيهِ بابُُ فضل صَلَاة الْفجْر وَالْعصر، فتحرفت الْكَلِمَة الْأَخِيرَة.
قلت: استبعاده كَلَام الْكرْمَانِي بعيد، لِأَنَّهُ لَا يبعد أَن يُقَال: تَقْدِير كَلَامه: بابُُ فِي بَيَان فضل الْفجْر، وَفِي بَيَان الحَدِيث الْوَارِد فِيهِ، وَهَذَا أوجه من إدعاء الْوَهم، وَلَا يلْزم من قَوْله: لفظ الحَدِيث فِي بابُُ صَلَاة الْفجْر، أَن تكون هَذِه اللَّفْظَة هَهُنَا وهما، وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذكره بعيد، لِأَن تحرف الْعَصْر بِالْحَدِيثِ بعيد جدا.

فَإِن قلت: فَمَا وَجه خُصُوصِيَّة هَذَا الْبابُُ بِهَذِهِ اللَّفْظَة دون سَائِر الْأَبْوَاب الَّذِي يذكر فِيهَا فَضَائِل الْأَعْمَال؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون وَجه ذَاك أَن صَلَاة الْفجْر إِنَّمَا هِيَ عقيب النّوم، وَالنَّوْم أَخُو الْمَوْت، أَلا ترى كَيفَ ورد أَن يُقَال عِنْد الاستيقاظ من النّوم: (الْحَمد لله الَّذِي أَحْيَانًا بَعْدَمَا أماتنا وَإِلَيْهِ النشور) .
فَإِذا كَانَ كَذَلِك يَنْبَغِي أَن يجْتَهد المستيقظ على أَدَاء صَلَاة الْفجْر شكرا لله على حَيَاته وإعادة روحه إِلَيْهِ، وَيعلم أَن لإقامتها فضلا عَظِيما لوُرُود الْأَحَادِيث فِيهِ، فنبه على ذَلِك بقوله: والْحَدِيث، وَخص هَذَا الْبابُُ بِهَذِهِ الزِّيَادَة.



[ قــ :557 ... غــ :573]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يحْيَى عنْ إسْماعِيلَ قَالَ حدَّثنا قَيْسٌ قَالَ لي جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الله كنَّا عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ نَظَرَ إلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ فَقَالَ أمَا إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكم كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُّونَ أوْ لاَ تُضَاهُونَ فِي رُؤيَتِهِ فإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْس وقَبْلَ غُرُوبِهَا فأفْعَلُوا ثمَّ قَالَ فسَبِّحْ بحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طلوعِ الشَّمْس وقَبْلَ غُرُوبِهَا.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ((على صَلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس) ، وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي بابُُ فضل صَلَاة الْعَصْر، وَرَوَاهُ هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة عَن إِسْمَاعِيل عَن قيس عَن جرير، وَهَهُنَا عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن إِسْمَاعِيل ابْن أبي خَالِد عَن قيس ابْن أبي حَازِم، قَالَ: قَالَ لي جرير بن عبد الله، وَهُنَاكَ: قَالَ عَن جرير، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ متعلقات الحَدِيث كلهَا.
قَوْله: (أوَ لَا تضاهون) من المضاهاة، وَهِي المشابهة.
قَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ لَا يشْتَبه عَلَيْكُم وَلَا ترتابون فِيهِ.





[ قــ :558 ... غــ :574]
- حدَّثنا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثني أبُو جَمْرَةَ عنْ أبِي بَكْرٍ بن أبي مُوسَى عنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من صَلى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن أحد البردين صَلَاة الْفجْر.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: هدبة، بِضَم الْهَاء وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة: ابْن خَالِد الْقَيْسِي الْبَصْرِيّ الْحَافِظ، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: همام بن يحيى، وَقد تقدم.
الثَّالِث: أَبُو جَمْرَة، بِالْجِيم وَالرَّاء: نصر بن عمرَان الضبعِي الْبَصْرِيّ.
الرَّابِع: أَبُو بكر بن عبد الله بن قيس، هُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه.
وَفِيه: ثَلَاثَة بصريون بالتوالي.
وَفِيه: فِي أبي بكر اخْتلفُوا فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ بعض أهل الْعلم: هُوَ أَبُو بكر بن عمَارَة ابْن رؤيبة الثَّقَفِيّ، وَهَذَا الحَدِيث مَحْفُوظ عَنهُ.
.

     وَقَالَ  الْبَزَّار: لَا نعلمهُ يروي عَن أبي مُوسَى إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَإِنَّمَا يعرف: عَن أبي بكر بن عمَارَة بن رؤيبة عَن أَبِيه، وَلَكِن هَكَذَا قَالَ همام، يعنيان بذلك حَدِيث أبي بكر بن عمَارَة بن رؤيبة الْمخْرج عِنْد مُسلم بِلَفْظ، قَالَ عمَارَة: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لن يلج النَّار أحد صلى قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا) .
يَعْنِي الْفجْر وَالْعصر، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث السّري بن إِسْمَاعِيل عَن الشّعبِيّ عَن عمَارَة بن رؤيبة: (لن يدْخل النَّار من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا، وَكَانَ يُبَادر بِصَلَاتِهِ قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا) .

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (البردين) : تَثْنِيَة برد، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء، وَالْمرَاد بهما: صَلَاة الْفجْر وَالْعصر.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: قَالَ كثير من الْعلمَاء: البردان الْفجْر وَالْعصر، وسميا بذلك لِأَنَّهُمَا يفْعَلَانِ فِي وَقت الْبرد.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: لِأَنَّهُمَا يصليان فِي بردي النَّهَار، وهما طرفاه حِين يطيب الْهَوَاء وَتذهب سُورَة الْحر.
.

     وَقَالَ  السفاقسي عَن أبي عُبَيْدَة: المُرَاد الصُّبْح وَالْعصر وَالْمغْرب، وَفِيه نظر لِأَن الْمَذْكُور تَثْنِيَة وَمَعَ هَذَا لم يتبعهُ على هَذَا أحد، وَزعم الْقَزاز أَنه اجْتهد فِي تَمْيِيز هذَيْن الْوَقْتَيْنِ لعظم فائدتهما، فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى أَدخل الْجنَّة كل من صلى تِلْكَ الصَّلَاة مِمَّن آمن بِهِ فِي أول دَعوته، وَبشر بِهَذَا الْخَبَر أَن من صلاهما مَعَه فِي أول فَرْضه إِلَى أَن نسخ لَيْلَة الْإِسْرَاء، أدخلهم الله الْجنَّة كَمَا بَادرُوا إِلَيْهِ من الْإِيمَان تفضلاً مِنْهُ تَعَالَى.
انْتهى.
قلت: كَلَامه يُؤَدِّي إِلَى أَن هَذَا مَخْصُوص ((لِأُنَاس مُعينين، وَلَا عُمُوم فِيهِ؛ وَأَنه مَنْسُوخ، وَلَيْسَ كَذَلِك من وُجُوه: الأول: أَن رَاوِيه أَبَا مُوسَى سَمعه فِي آواخر الْإِسْلَام، وَأَنه فهم الْعُمُوم، وَكَذَا غَيره فهم ذَلِك لِأَنَّهُ خير فضل لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولأمته.
الثَّانِي: أَن الْفَضَائِل لَا تنسخ.
الثَّالِث: أَن كلمة: من، شَرْطِيَّة.
وَقَوله: (دخل الْجنَّة) جَوَاب الشَّرْط، فَكل من أَتَى بِالشّرطِ فقد اسْتحق الْمَشْرُوط لعُمُوم كلمة الشَّرْط، وَلَا يُقَال: إِن مَفْهُومه يَقْتَضِي أَن من لم يصلها لم يدْخل الْجنَّة، لأَنا نقُول: الْمَفْهُوم لَيْسَ بِحجَّة وَأَيْضًا فَإِن قَوْله: (دخل الْجنَّة) خرج مخرج الْغَالِب، لِأَن الْغَالِب أَن من صلاهما وراعاهما، انْتهى.
عَمَّا ينافيهما من فحشاء ومنكر، لِأَن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر، أَو يكون آخر أمره دُخُول الْجنَّة.
وَأما وَجه التَّخْصِيص بهما فَهُوَ لزِيَادَة شرفهما وترغيبا فِي حفظهما لشهود الْمَلَائِكَة فيهمَا، كَمَا تقدم، وَقد مضى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِيهِ وروى أَبُو الْقَاسِم بن الْجَوْزِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَوْقُوفا (يُنَادي مُنَاد عِنْد صَلَاة الصُّبْح يَا بني آدم قومُوا فاطفئوا مَا أوقدتم على أَنفسكُم، وينادي عِنْد الْعَصْر كَذَلِك، فيتطهرون وَيصلونَ وينامون وَلَا ذَنْب لَهُم) .
وَوجه الْعُدُول عَن الأَصْل وَهُوَ أَن يَقُول: يدْخل الْجنَّة، بِصِيغَة الْمُضَارع لإِرَادَة التَّأْكِيد فِي وُقُوعه بِجعْل مَا هُوَ للوقوع كالواقع، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ( { ونادى أَصْحَاب الْجنَّة} (الْأَعْرَاف: 44) .

وَقَالَ ابنُ رجاءٍ حدَّثنا هُمَّامٌ عنْ أبي جَمْرَةَ أنَّ أَبَا بَكْرٍ بنَ عَبْدِ الله بنِ قَيْسٍ أخْبَرَه بِهذَا
أورد البُخَارِيّ هَذَا التَّعْلِيق عَن شَيْخه عبد الله بن رَجَاء، بِفَتْح الرَّاء وَالْجِيم وبالمد: الغداني الْبَصْرِيّ ليُفِيد بذلك أَن نِسْبَة أبي بكر إِلَى أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، لِأَن النَّاس اخْتلفُوا فِيهِ، كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَقد وَصله الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) فَقَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن عمر الضَّبِّيّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن رَجَاء، فَذكره.
قَوْله: (أخبر بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الحَدِيث، وَهُوَ مُرْسل لِأَنَّهُ لم يقل: عَن أَبِيه، إلاَّ أَن يُقَال: المُرَاد بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ الحَدِيث وَبَقِيَّة الأسناد كِلَاهُمَا.

حدَّثنا إسْحَاقُ عنْ حَبَّانَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثنا أبُو جمرَةَ عنْ أبي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلُهُ.

أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا أَيْضا بِأَن شيخ أبي جَمْرَة هُوَ أَبُو بكر بن عبد الله بن قيس، وَهُوَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، ردا على من زعم أَنه ابْن عمَارَة بن رؤيبة.
وَقد ذكرنَا أَن حَدِيث عمَارَة أخرجه مُسلم وَغَيره فَظهر من هَذَا أَنَّهُمَا حديثان: أَحدهمَا عَن أبي مُوسَى، وَالْآخر عَن عمَارَة بن رؤيبة.
قَوْله: (حَدثنَا إِسْحَاق) قَالَ الغساني فِي كِتَابه (التَّقْيِيد) : لَعَلَّه إِسْحَاق بن مَنْصُور الكوسج،.

     وَقَالَ  فِي مَوضِع آخر مِنْهُ: قَالَ ابْن السكن: كل مَا فِي كتاب البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق غير مَنْسُوب فَهُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَاسْتدلَّ الغساني على أَنه مَنْصُور بِأَن مُسلما روى عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن حبَان بن هِلَال حَدِيثا غير هَذَا.
قلت: الْأَصَح أَنه إِسْحَاق بن مَنْصُور، لِأَنَّهُ روى عَن الْفربرِي فِي بابُُ البيعان بِالْخِيَارِ: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور حَدثنَا جَعْفَر ابْن هِلَال، فَذكر حَدِيثا.
وحبان هَذَا، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن هِلَال الْبَاهِلِيّ، مَاتَ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ.
قَوْله: (مثله) ، أَي: مثل هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور، ويروى (بِمثلِهِ) بِزِيَادَة الْبَاء.