فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب التكبير والغلس بالصبح، والصلاة عند الإغارة والحرب

( بابُُ التَّكْبِيرِ والغَلَسِ بِالصُّبْحِ والصَّلاَةِ عِنْدَ الإغَارَةِ والحَرْبِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان التَّكْبِير من كبر يكبر تَكْبِيرا، وَهُوَ قَول: الله أكبر، هَكَذَا هُوَ فِي مُعظم الرِّوَايَات، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: التبكير، بِتَقْدِيم الْبَاء الْمُوَحدَة من: بكر يبكر تبكيرا إِذا أسْرع وبادر، و: الْغَلَس، بِفتْحَتَيْنِ: الظلمَة آخر اللَّيْل، وَالْمرَاد مِنْهُ التغليس بِصَلَاة الصُّبْح.
قَوْله: ( عِنْد الإغارة) يتَعَلَّق بِالتَّكْبِيرِ، وَمَا عطف عَلَيْهِ، والإغارة، بِكَسْر الْهمزَة فِي الأَصْل: الْإِسْرَاع فِي الْعَدو، وَيُقَال: أغار يُغير إغارة، وَكَذَلِكَ الْغَارة، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا: الهجوم على الْعَدو على وَجه الْغَفْلَة، فَهُوَ من الأجوف الواوي.
فَإِن قلت: مَا مُنَاسبَة ذكر هَذَا الْبابُُ فِي كتاب صَلَاة الْخَوْف؟ قلت: قيل: أَشَارَ بذلك إِلَى أَن صَلَاة الْخَوْف لَا يشْتَرط فِيهَا التَّأْخِير إِلَى آخر الْوَقْت، كَمَا شَرطه من شَرطه فِي صَلَاة شدَّة الْخَوْف عِنْد التحام الْقِتَال، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون للْإِشَارَة إِلَى تعْيين الْمُبَادرَة إِلَى الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا.
قلت: هَذَا وَجه بعيد لَا يخفى ذَلِك، لِأَن مَحل ذَلِك فِي كتاب الصَّلَاة.



[ قــ :919 ... غــ :947 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ وَثَابِتٍ البُنَانِيِّ عَن أنَسِ بنِ مالَكٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ الله أكْبَرُ خَرِبتْ خَيْبَرُ إنَّا إِذا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فسَاءَ صَبَاحُ المُنْذِرِينَ فَخَرَجُوا يسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ ويقُولُونَ مُحَمَّدٌ والخَمِيسُ قَالَ والخمِيسُ الجَيْشُ فظَهَرَ علَيْهِمْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقَتَلَ المُقَاتِلَةَ وسَبَى الذرَارِيَّ فصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الكَلْبِيِّ وصارَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا فقالَ عَبْدُ العَزِيزِ لِثَابِتٍ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أأنْتَ سَأَلْتَ أنَسا مَا أمْهَرَهَا قَالَ أمْهَرَهَا نَفْسَهَا فتَبَسَّمَ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( صلى الصُّبْح بِغَلَس ثمَّ ركب فَقَالَ الله أكبر) .

وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي: بابُُ مَا يذكر فِي الْفَخْذ، بأطول مِنْهُ، وَأتم عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وتكلمنا هُنَاكَ على جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ.

قَوْله: ( بِغَلَس) أَي: فِي أول الْوَقْت.
وَقيل: التغليس بالصبح سنة سفرا أَو حضرا، وَكَانَ من عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك.
قلت: إِنَّمَا غلس هُنَا لأجل مبادرته إِلَى الرّكُوب، وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة صَحِيحَة بِالْأَمر بالإسفار.
قَوْله: ( فَقَالَ: الله أكبر) فِيهِ: أَن التَّكْبِير عِنْد الإشراف على المدن والقرى سنة، وَكَذَا عِنْد مَا يسر بِهِ من ذَلِك عِنْد رُؤْيَة الْهلَال، وَكَذَا رفع الصَّوْت بِهِ إِظْهَارًا لعلو دين الله تَعَالَى، وَظُهُور أمره.
قَوْله: ( خربَتْ خَيْبَر) ، يحْتَمل الْإِنْشَاء وَالْخَبَر، وَفِيه التفاؤل، وبخرابه سَعَادَة الْمُسلمين فَهُوَ من الفأل الْحسن لَا من الطَّيرَة.
قَوْله: ( بِسَاحَة قوم) قَالَ ابْن التِّين: الساحة الْموضع، وَقيل: ساحة الدَّار.
قَوْله: ( فسَاء صباح الْمُنْذرين) أَي: أَصَابَهُم السوء من الْقَتْل على الْكفْر والاسترقاق.
قَوْله: ( يسعون) جملَة حَالية.
قَوْله: ( فِي السكَك) ، بِكَسْر السِّين: جمع سكَّة.
وَهِي الزقاق.
قَوْله: ( وَالْخَمِيس) سمي الْجَيْش خميسا لانقسامه إِلَى خَمْسَة أَقسَام: الميمنة والميسرة وَالْقلب والمقدمة والساقة.
قَوْله: ( الْمُقَاتلَة) أَي: النُّفُوس الْمُقَاتلَة، وهم الرِّجَال.
والذراري: جمع الذُّرِّيَّة وَهِي الْوَلَد، وَيجوز فِيهَا تَخْفيف الْيَاء وتشديدها، كَمَا فِي العواري وكل جمع مثله.
قَوْله: ( فَصَارَت صَفِيَّة لدحية الْكَلْبِيّ، وَصَارَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ظَاهره أَنَّهَا صَارَت لَهما جَمِيعًا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل صَارَت أَولا لدحية ثمَّ صَارَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعلى هَذَا: الْوَاو، فِي: وَصَارَت، بِمَعْنى: ثمَّ، أَي: ثمَّ صَارَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو تكون بِمَعْنى: الْفَاء، والحروف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض، وَيجوز أَن يكون هُنَا مُقَدّر للقرينة الدَّالَّة عَلَيْهِ، تَقْدِيره: فَصَارَت صَفِيَّة أَولا لدحية وَبعده صَارَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَيْفِيَّة الصيرورتين قد مَضَت فِي ذَلِك الْبابُُ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: النِّسَاء لَيست داخلات تَحت لفظ الذَّرَارِي، فَكيف قَالَ: فَصَارَت صَفِيَّة لدحية؟ ثمَّ أجَاب: بِأَن المُرَاد بِالذَّرَارِيِّ غير الْمُقَاتلَة بِدَلِيل أَنه قسيمه.
قَوْله: ( وَجعل صَدَاقهَا عتقهَا) لِأَنَّهَا كَانَت بنت ملك، وَلم يكن مهرهَا إلاّ كثيرا، وَلم يكن بِيَدِهِ مَا يرضيها فَجعل صَدَاقهَا عتقهَا، لِأَن عتقهَا عِنْدهَا كَانَ أعز من الْأَمْوَال الْكَثِيرَة.
قَوْله: ( فَقَالَ عبد الْعَزِيز) ، هُوَ عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب الْمَذْكُور.
قَوْله: ( لِثَابِت) هُوَ الْبنانِيّ.
قَوْله: ( أَأَنْت؟) بهمزتين: أولاهما للاستفهام، وَفَائِدَة هَذَا السُّؤَال مَعَ علمه ذَلِك بقوله: ( وَجعل صَدَاقهَا عتقهَا) للتَّأْكِيد، أَو كَانَ استفسره بعد الرِّوَايَة ليصدق رِوَايَته.
قَوْله: ( مَا أمهرها) قَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: مهرت الْمَرْأَة وأمهرتها إِذا جعلت لَهَا مهْرا، وَإِذا سقت إِلَيْهَا مهْرا، وَهُوَ: الصَدَاق:.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي ( شَرحه) : صَوَابه مهرهَا يَعْنِي بِحَذْف الْألف، وبخط الْحَافِظ الدمياطي، مثل مَا قَالَه ابْن الْأَثِير، وَأنكر أَبُو حَاتِم: أمهرت، إِلَّا فِي لُغَة ضَعِيفَة، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ، وَصَححهُ أَبُو زيد، وَقيل: مهرت، ثلاثي أفْصح وأعرب.