فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب القطائع

( بابُُ القطائع)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم القطائع، وَهُوَ جمع قطيعة من: أقطعه الإِمَام أَرضًا يَتَمَلَّكهُ ويستبد بِهِ وينفرد، والإقطاع يكون تَمْلِيكًا وَغير تمْلِيك، وإقطاع الإِمَام تسويفه من مَال الله تَعَالَى لمن يرَاهُ أَهلا لذَلِك، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي إقطاع الأَرْض، وَهُوَ أَن يخرج مِنْهَا شَيْئا يحوزه إِمَّا أَن يملكهُ إِيَّاه فيعمره، أَو يجل لَهُ غَلَّته مُدَّة.
قلت: فِي صُورَة التَّمْلِيك يملك الَّذِي أقطع لَهُ، وَهُوَ الَّذِي يُسمى المقطع لَهُ رَقَبَة الأَرْض فَيصير ملكا لَهُ يتَصَرَّف فِيهِ تصرف الْملاك فِي أملاكهم، وَفِي صُورَة جعل الْغلَّة لَهُ لَا يملك إلاَّ مَنْفَعَة الأَرْض دون رقبَتهَا، فعلى هَذَا يجوز للجندي الَّذِي يقطع لَهُ أَن يُؤجر مَا أقطع لَهُ لِأَنَّهُ يملك مَنَافِعهَا، وَأَن لم يملك رقبته، وَله نَظَائِر فِي الْفِقْه.
مِنْهَا: أَنه إِذا وَقعت الْمُصَالحَة على خدمَة عبد سنة كَانَ للْمصَالح أَن يؤجره، وَمَعْلُوم أَنه لَا يملك رقبته، وَإِنَّمَا يملك منفعَته.
وَمِنْهَا: أَن المستؤجر يملك إِجَارَة مَا اسْتَأْجرهُ، وَإِن كَانَ لَا يملك مِنْهُ إلاَّ الْمَنْفَعَة.
وَمِنْهَا: أَن الْوَقْف بِأَن غَلَّته لفُلَان صَحِيح، وَله أَن يؤجره فِي الصَّحِيح ذكره فِي ( الْمُحِيط) .
وَمِنْهَا: أَن أم الْوَلِيد يجوز لسَيِّدهَا أَن يؤجرها، مَعَ أَنه لَا يملك مِنْهَا سوى مَنْفَعَتهَا، فَإِذا جَازَت لَهُ الْإِجَارَة تجوز لَهَا الْمُزَارعَة أَيْضا، لِأَن الْقرى والأراضي فِي الممالك الإسلامية لَا يُمكن أَن ينْتَفع بهَا إلاَّ بالكراء والزراعة ومباشرة أَعمال الفلاحة من السَّقْي والحصاد والدياس والتذرية وَغير ذَلِك من الْأُمُور الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا الاستغلال، وَذَلِكَ لَا يحصل إلاَّ بالمزارعة عَلَيْهَا، أَو بإيجارها لمن يقوم بِهَذِهِ الْأَعْمَال، فَإِن الْجند لَا يقدرُونَ على الْقيام بذلك بِأَنْفسِهِم، إِذْ لَو أمروا بذلك لصاروا أكرة وتعطل الْمَعْنى الْمَطْلُوب مِنْهُم، وَهُوَ الْقيام بِمَا أعدُّوا لَهُ من مصَالح الْمُسلمين، وَهِي: قتال أَعدَاء الْإِسْلَام، وردع المفسدين، وقمع الخارجين، وصون الْأَمْوَال والأنفس من السراق واللصوص وقطاع الطَّرِيق، وَحفظ مراصد الطرقات ومواطن المرابطات، فَمَتَى اشْتغل الْجند بذلك تفوت تِلْكَ الْمصَالح، كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي رزق القَاضِي: إَنه إِذا كَانَ فَقِيرا فَالْأَفْضَل لَهُ، بل الْوَاجِب عَلَيْهِ، الْأَخْذ لِأَنَّهُ مَتى اشْتغل بِالْكَسْبِ أقعد عَن إِقَامَته فرض الْقَضَاء، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك يجوز لَهُم الِانْتِفَاع بِالَّذِي يقطع لَهُم بِالْإِجَارَة أَو الْمُزَارعَة، فبأيهما تمكن الجندي فعل، أما الْمُزَارعَة فعلى قَول الصاحبين، فَإِنَّهَا فِي معنى الْإِجَارَة، فليزارع الْجند على قَوْلهمَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكرنَاهَا، كَمَا هِيَ محررة فِي كتب الْفِقْه، وَالله أعلم.



[ قــ :2276 ... غــ :2376 ]
- حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أرادَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُقْطِعَ مِنَ البَحْرَيْنَ فقالَتْ الأنصَارُ حتَّى تُقْطِعَ لإخْوَانِنا مِن المهَاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِي تُقْطِعُ لَنَا قَالَ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبِرُوا حتَّى تَلْقَوْنِي.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، يعلم ذَلِك من قَوْله: ( أَن يقطع من الْبَحْرين) وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَفِي بعض النّسخ ذكر مَنْسُوبا، وَيحيى ابْن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن أَحْمد بن يُونُس، وَفِي فضل الْأَنْصَار عَن عبد الله بن مُحَمَّد.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( أَن يقطع من الْبَحْرين) يَعْنِي: أَرَادَ أَن يقطع من الْبَحْرين للْأَنْصَار، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: دَعَا الْأَنْصَار ليقطع لَهُم الْبَحْرين، وَفِي حَدِيث الْإِسْمَاعِيلِيّ: ليقطع لَهُم الْبَحْرين أَو طَائِفَة مِنْهَا، وَكَانَ الشَّك فِيهِ من حَمَّاد.
قلت: الظَّاهِر أَنه أَرَادَ أَن يقطع لَهُم قِطْعَة مِنْهَا، لِأَن كلمة: من، فِي قَوْله: من الْبَحْرين، تَقْتَضِي التَّبْعِيض، وَلَا يُنَافِي أَن تكون للْبَيَان أَيْضا، وَلكُل من الصُّورَتَيْنِ وَجه، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا سَيَأْتِي فِي الْجِزْيَة من طَرِيق زُهَيْر عَن يحيى بِلَفْظ: دعى الْأَنْصَار ليكتب لَهُم بِالْبَحْرَيْنِ، لِأَن الظَّاهِر أَن مَعْنَاهُ ليكتب لَهُم طَائِفَة بِالْبَحْرَيْنِ، وَيحْتَمل أَن يكْتب لَهُم الْبَحْرين كلهَا، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ فِي مَنَاقِب الْأَنْصَار من رِوَايَة سُفْيَان عَن يحيى: إِلَى أَن يقطع لَهُم الْبَحْرين.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ العامر من الْبَحْرين، لَكِن فِي حَقه من الْخمس، لِأَنَّهُ كَانَ ترك أرْضهَا فَلم يقسمها.
.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: وَالَّذِي فِي هَذَا الحَدِيث لَيْسَ مِنْهَا، فَإِن الْبَحْرين كَانَت صلحا فَلم يكن لَهُم فِي أرْضهَا شَيْء، وَإِنَّمَا هم أهل جِزْيَة، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْد عُلَمَائِنَا: إقطاع مَال من جزيتهم يأخذونه، يُقَال مِنْهُ: أقطع، بِالْألف وَأَصله من الْقطع، كَأَنَّهُ قطعه لَهُ من جملَة المَال، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث بِلَال بن الْحَارِث، أخرجه أَحْمد من رِوَايَة كثير بن عبد الله عَن عَمْرو بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده، وَمن حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أقطعه معادن الْقبلية، والقبلية: بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: نِسْبَة إِلَى: قبل، بِفَتْح الْقَاف وَالْبَاء، وَهِي نَاحيَة من سواحل الْبَحْر بَينهمَا وَبَين الْمَدِينَة خَمْسَة أَيَّام، وَقيل: هِيَ من نَاحيَة الْفَرْع، وَهُوَ مَوضِع بَين نَخْلَة وَالْمَدينَة، هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ.
وَفِي كتاب ( الْأَمْكِنَة) : معادن القلبية، بِكَسْر الْقَاف وَبعدهَا لَام مَفْتُوحَة ثمَّ بَاء، و: الْبَحْرين، على صِيغَة التَّثْنِيَة للبحر، وَهِي من نَاحيَة نجد على شطر بَحر فَارس، وَهِي ديار القرامطة، وَلها قرى كَثِيرَة وَهِي كَثِيرَة التمور.
قَوْله: ( حَتَّى تقطع) ، غَايَة لفعل مُقَدّر أَي: لَا تقطع لنا حَتَّى تقطع لإِخْوَانِنَا الْمُهَاجِرين.
قَوْله: ( مثل الَّذِي تقطع لنا) ، وَزَاد فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: فَلم يكن ذَلِك عِنْده، يَعْنِي: بِسَبَب قلَّة الْفتُوح يَوْمئِذٍ،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: مَعْنَاهُ أَنه لم يرد فعل ذَلِك، لِأَنَّهُ كَانَ أقطع الْمُهَاجِرين أَرض بني النَّضِير.
قَوْله: ( أَثَرَة) ، بِفَتْح الْهمزَة والثاء الْمُثَلَّثَة، ويروى بِضَم الْهمزَة وَإِسْكَان الثَّاء،.

     وَقَالَ  ابْن قرقول: وبالوجهين قَيده الجياني، والوجهان صَحِيحَانِ، قَالَ: وَيُقَال أَيْضا: أَثَرَة، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء، قَالَ الْأَزْهَرِي: وَهُوَ الاستيثار أَي: يستأثر عَلَيْكُم بِأُمُور الدُّنْيَا ويفضل عَلَيْكُم غَيْركُمْ، وَعَن أبي عَليّ القالي: الأثرة: الشدَّة.
وَفِي الْكتاب ( الواعي) عَن ثَعْلَب: الأثرة، بِالضَّمِّ خَاصَّة: الحدب وَالْحَال غير المرضية، وَعَن غَيره: التَّفْضِيل فِي الْعَطاء، وَجمع الأثرة: أثر.
وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ: سَتَلْقَوْنَ بعدِي أَثَرَة للْأَنْصَار، وَرَوَاهَا البُخَارِيّ عَن أسيد بن حضير فِي مَنَاقِب الْأَنْصَار، وَعَن عبد الله بن زيد بن عَاصِم فِي غَزْوَة الطَّائِف، وَعَن أنس بن مَالك بِزِيَادَة: أَثَرَة شَدِيدَة.
فَاصْبِرُوا حَتَّى تلقوا الله وَرَسُوله فَإِنِّي على الْحَوْض.
وَقَالُوا: هَذَا يدل على أَن الْخلَافَة لَا تكون فيهم، أَلا تَرى أَنه جعلهم تَحت الصَّبْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ وَالصَّبْر لَا يكون إلاَّ من مغلوب مَحْكُوم عَلَيْهِ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز إقطاع الإِمَام من الْأَرَاضِي الَّتِي تَحت يَده لمن شَاءَ من النَّاس مِمَّن يرَاهُ أَهلا لذَلِك، قَالَ الْخطابِيّ: وَذهب أهل الْعلم إِلَى أَن أهل العامر من الأَرْض للحاضر النَّفْع وَالْأُصُول من الشّجر كالنخل وَغَيرهَا، وَأما الْمِيَاه الَّتِي فِي الْعُيُون والمعادن الظَّاهِرَة: كالملح والقير والنفط وَنَحْوهَا، لَا يجوز إقطاعها، وَذَلِكَ أَن النَّاس كلهم شُرَكَاء فِي الْملح وَالْمَاء وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا يسْتَحقّهُ الْأَخْذ لَهُ بِالسَّبقِ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ لأحد أَن يحتجرها لنَفسِهِ أَو يحتظر مَنَافِعهَا على أحذ من شركائه الْمُسلمين، وَأما الْمَعَادِن الَّتِي لَا يتَوَصَّل إِلَى نيلها ونفعها إلاَّ بكدوح واعتمال واستخراج لما فِي بطونها، فَإِن ذَلِك لَا يُوجب الْملك البات، وَمن اقتطع شَيْئا مِنْهَا كَانَ لَهُ مَا دَامَ يعْمل فِيهِ، فَإِذا قطع الْعَمَل عَاد إِلَى أَصله، فَكَانَ للْإِمَام إقطاعه غَيره.
وَفِيه: من أَعْلَام نبوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ مَا أخبرهُ بقوله: ( سَتَرَوْنَ بعدِي أَثَرَة) .