فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إذا وكل رجلا، فترك الوكيل شيئا فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز

(بابُُ إذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلاً فتَرَكَ الوَكِيلُ شَيْئا فأجازَهُ المُوَكِّلُ فَهْوَ جائِزٌ وإنْ أقْرَضَهُ إلَى أجلٍ مُسَمَّى جازَ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا وكل رجل رجلا فَترك الْوَكِيل شَيْئا مِمَّا وكل فِيهِ فَأَجَازَهُ الْمُوكل جَازَ.
قَوْله: (وَإِن أقْرضهُ) أَي: وَإِن أقْرض الْوَكِيل شَيْئا مِمَّا وكل فِيهِ جَازَ، يَعْنِي: إِذا أجَازه الْمُوكل.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: مَفْهُوم التَّرْجَمَة أَن الْمُوكل إِذا لم يجز مَا فعله الْوَكِيل، مِمَّا لم يَأْذَن لَهُ فِيهِ، فَهُوَ غير جَائِز.



[ قــ :2215 ... غــ :2311 ]
- وَقَالَ عثْمانُ بنُ الهَيْثَمِ أبُو عَمْرٍ وحدَّثنا عَوْفٌ عَن مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ عَن أبِي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ وكَّلَنِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحِفْظِ زَكاةِ رَمَضانَ فأتَانِي آتٍ فجعَلَ يَحْثُو منَ الطَّعامِ فأخَذْتُهُ وقُلْتُ وَالله لأرْفَعَنَّكَ إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي مُحْتاجٌ وعَلَيَّ عِيالٌ ولِي حاجَةٌ شَدِيدةٌ قَالَ فَخَلَّيْت عَنْهُ فأصْبَحْتُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فعَلَ أسِيرُكَ البارحَةَ قَالَ.

قُلْتُ يَا رسولَ الله شَكا حاجَةً شَدِيدَةً وَعِيالاً فَرَحِمْتَهُ فخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ أما أنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ فعَرَفْتُ أنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ سَيَعُودُ فرَصَدْتُهُ فَجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ فَأخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأرْفَعَنَّكَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ دَعْنِي فإنِّي محْتَاجٌ وعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أعُودُ فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فأصْبَحْتُ فقالَ لِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أسِيرُكَ.

قُلْتُ يَا رسولَ الله شَكَا حاجَةً شدِيدَةً وعِيالاً فرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبيلهُ قَالَ أما أنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ: الثَّالِثةَ فجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ فأخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إلَى رسُولِ الله الله وهاذا آخِرُ ثَلاثِ مَرَّاتٍ إنَّكَ تَزْعَمُ لاَ تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ قالَ دَعْنِي أُعلِّمْكَ كلِماتٍ يَنْفَعُكَ الله بِهَا.

قُلْتُ مَا هْوَ قَالَ إذَا أوَيْتَ إلَى فِرَاشِك فاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيَّ { الله لَا إلاهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِم الآيَةَ فإنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ منَ الله حافِظُ ولاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فأصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا فَعَلَ إسِيرُكَ الْبَارِحَةِ قلْتُ يَا رسولَ الله زَعَمَ أنَّهُ يُعَلِّمُني كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي الله بهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ مَا هِيَ.

قُلْتُ قَالَ لِي إذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فاقْرَأ آيَةَ الكُرْسيَّ مِنْ أوَّلِها حتَّى تَخْتِمَ الله لَا إلاه إلاَّ هُو الحَيُّ القَيُّومُ.

     وَقَالَ  لِي لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ الله حافِظٌ ولاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ وكانُوا أحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَّا أنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وهْوَ كَذُوبٌ تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لاَ قَالَ ذَاكَ شَيْطَانٌ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ وَكيلا لحفظ زَكَاة رَمَضَان، وَهُوَ صَدَقَة الْفطر، وَترك شَيْئا مِنْهَا حَيْثُ سكت حِين أَخذ مِنْهَا ذَلِك الْآتِي، وَهُوَ الشَّيْطَان، فَلَمَّا أخبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك سكت عَنهُ وَهُوَ إجَازَة مِنْهُ.
فَإِن قلت: من أَيْن يُسْتَفَاد جَوَاز الْإِقْرَاض إِلَى أجل مُسَمّى؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: حَيْثُ أمهله إِلَى الرّفْع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأوجه مِنْهُ مَا قَالَه الْمُهلب: إِن الطَّعَام كَانَ مجموعا للصدقة، فَلَمَّا أَخذ السَّارِق.

     وَقَالَ  لَهُ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاج وَتَركه، فَكَأَنَّهُ أسلفه ذَلِك الطَّعَام إِلَى أجل، وَهُوَ وَقت قسمته وتفرقته على الْمَسَاكِين: لأَنهم كَانُوا يجمعونه قبل الْفطر بِثَلَاثَة أَيَّام للتفرقة، فَكَأَنَّهُ أسلفه إِلَى ذَلِك الْأَجَل.

ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عُثْمَان بن الْهَيْثَم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره مِيم: وكنيته أَبُو عَمْرو الْمُؤَذّن الْبَصْرِيّ، مَاتَ قَرِيبا من سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَقد مر فِي آخر الْحَج.
الثَّانِي: عَوْف، بِالْفَاءِ: الْأَعرَابِي، وَقد مر فِي الْإِيمَان.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن سِيرِين.
الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: أَنه ذكره هَكَذَا مُعَلّقا وَلم يُصَرح فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ حَتَّى زعم ابْن الْعَرَبِيّ أَنه مُنْقَطع، وَكَذَا ذكره فِي فَضَائِل الْقُرْآن وَفِي صفة إِبْلِيس.
وَأخرجه النَّسَائِيّ مَوْصُولا فِي: الْيَوْم وَاللَّيْلَة، عَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب عَن عُثْمَان ابْن الْهَيْثَم بِهِ، وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا من حَدِيث الْحسن بن السكن، وَأَبُو نعيم من حَدِيث هِلَال بن بشر عَنهُ، وَالتِّرْمِذِيّ نَحوه من حَدِيث أبي أَيُّوب.

     وَقَالَ : حسن غَرِيب، وَصَححهُ قوم وَضَعفه آخَرُونَ.
.
وَفِيه: أَن عُثْمَان من مشايخه وَمن أَفْرَاده،.

     وَقَالَ  فِي كتاب اللبَاس وَفِي الْإِيمَان وَالنُّذُور: حَدثنَا عُثْمَان بن الْهَيْثَم أَو مُحَمَّد عَنهُ.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يحفظ زَكَاة رَمَضَان) ، المُرَاد بِهِ صَدَقَة الْفطر، وَقد ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: (آتٍ) ، أَصله: آتِي، فَاعل إعلال قاضٍ.
قَوْله: (يحثو) ، قَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي: ينثر الطَّعَام فِي وعائه.
قلت: يُقَال: حثا يحثو وحثى يحثي، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: وَأَعْلَى اللغتين حثى يحثي، وَكله بِمَعْنى الغرف، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل عَن أبي هُرَيْرَة: أَنه كَانَ على تمر الصَّدَقَة فَوجدَ أثر كف كَأَنَّهُ قد أَخذ مِنْهُ، وَلابْن الضريس من هَذَا الْوَجْه، فَإِذا التَّمْر قد أَخذ مِنْهُ ملْء كف.
قَوْله: (فَأَخَذته) ، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل زِيَادَة وَهِي: أَن أَبَا هُرَيْرَة شكا ذَلِك إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَولا، فَقَالَ لَهُ: (إِن أردْت أَن تَأْخُذهُ فَقل: سُبْحَانَ من سخرك لمُحَمد) .
قَالَ: فقلتها فَإِذا أَنا بِهِ قَائِم بَين يَدي فَأَخَذته.
قَوْله: (وَالله لأرفعنك) ، أَي: لأذهبن بك أشكوك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليحكم عَلَيْك بِقطع الْيَد، يُقَال: رَفعه إِلَى الْحَاكِم إِذا أحضرهُ للشكوى.
قَوْله: (وَعلي عِيَال) أَي: نَفَقَة عِيَال، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) .
وَقيل: عَليّ، بِمَعْنى، لي، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: فَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذته لأهل بَيت فُقَرَاء من الْجِنّ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَلَا أَعُود.
قَوْله: (أسيرك) ، قَالَ الدَّاودِيّ: قيل لَهُ: أَسِير، لِأَنَّهُ كَانَ ربطه بسير، وَهُوَ الْحَبل، وَهَذَا عَادَة الْعَرَب، كَانُوا يربطون الْأَسير بالقد،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: قَول الدَّاودِيّ: إِن السّير الْحَبل من الْجلد لم يذكرهُ غَيره، وَإِنَّمَا السّير الْجلد، فَلَو كَانَ مأخوذا مِمَّا ذكره لَكَانَ تصغيره: سيير، وَلم تكن الْهمزَة: فَاء.
وَفِي (الصِّحَاح) : شدَّة بالإسار وَهُوَ الْقد.
قَوْله: (قد كَذبك) أَي: فِي قَوْله: إِنَّه مُحْتَاج، وَسَيَعُودُ إِلَى الْأَخْذ.
قَوْله: (فرصدته) أَي: رقبته.
قَوْله: (فجَاء) ، هَكَذَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: فَجعل.
قَوْله: (دَعْنِي) ، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: خلِّ عني.
قَوْله: (ينفعك الله بهَا) وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: إِذْ قلتهن لم يقربك ذكر وَلَا أُنْثَى من الْجِنّ، وَفِي رِوَايَة ابْن الضريس من هَذَا الْوَجْه: لَا يقربك من الْجِنّ ذكر وَلَا أُنْثَى صَغِير وَلَا كَبِير.
قَوْله: (فَقلت: مَا هُوَ؟) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، أَي: الْكَلَام أَو النافع أَو الشَّيْء، وَفِي رِوَايَة غَيره: مَا هِيَ، وَهَذَا ظَاهر، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: وَمَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات؟ قَوْله: (إِذا أويت) ، من الثلاثي يُقَال: أَوَى إِلَى منزله إِذا أَتَى إِلَيْهِ، وآويت غَيْرِي من الْمَزِيد.
قَوْله: (آيَة الْكُرْسِيّ { الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيُّوم} (الْبَقَرَة: 552)) ، حَتَّى تختم الْآيَة وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي: ( { الله لَا إلاه إلاَّ هُوَ الْحَيّ القيوم} (الْبَقَرَة: 552) من أَولهَا حَتَّى تختمها) ، وَفِي حَدِيث معَاذ بن جبل زِيَادَة، وَهِي خَاتِمَة سُورَة الْبَقَرَة.
قَوْله: (لن يزَال) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لم يزل، وَوَقع لَهُم عكس ذَلِك فِي فَضَائِل الْقُرْآن.
قَوْله: (من الله) أَي: من جِهَة أَمر الله، وَقدرته، أَو من بَأْس الله ونقمته، كَقَوْلِه تَعَالَى: { لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله} (الرَّعْد: 11) .
قَوْله: (وَلَا يقربك) ، بِفَتْح الرَّاء وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة.
قَوْله: (وَكَانُوا) ، أَي: الصَّحَابَة: (أحرص النَّاس على تعلم الْخَيْر) قيل: هَذَا مدرج من كَلَام بعض رُوَاته، قلت: هَذَا يحْتَمل، وَالظَّاهِر أَنه غير مدرج، وَلَكِن فِيهِ الْتِفَات، لِأَن مُقْتَضى الْكَلَام أَن يُقَال: وَكُنَّا أحرص شَيْء عَن الْخَيْر.
قَوْله: (وَهُوَ كذوب) ، هَذَا تتميم فِي غَايَة الْحسن، لِأَنَّهُ لما أثبت الصدْق لَهُ أوهم الْمَدْح، فاستدركه بِصِيغَة تفِيد الْمُبَالغَة فِي كذبه، وَفِي حَدِيث معَاذ بن جبل: صدق الْخَبيث وَهُوَ كذوب، وَفِي رِوَايَة أبي المتَوَكل: أَو مَا علمت أَنه كَذَلِك؟ قَوْله: (مُنْذُ ثَلَاث) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: مذ ثَلَاث.
قَوْله: (ذَاك شَيْطَان) ، كَذَا وَقع هُنَا بِدُونِ الْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة الْجَمِيع، أَي: شَيْطَان من الشَّيَاطِين.
وَوَقع فِي فَضَائِل الْقُرْآن: ذَاك الشَّيْطَان، بِالْألف وَاللَّام للْعهد الذهْنِي.

وَقد وَقع مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة لِمعَاذ بن جبل، وَأبي بن كَعْب، وَأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَأبي أسيد الْأنْصَارِيّ، وَزيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

أما حَدِيث معَاذ بن جبل، فقد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن شَيْخه يحيى بن عُثْمَان بن صَالح بِإِسْنَادِهِ إِلَى بُرَيْدَة.
قَالَ: بَلغنِي أَن معَاذ بن جبل أَخذ الشَّيْطَان على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَتَيْته فَقلت: بَلغنِي أَنَّك أخذت الشَّيْطَان على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: نعم، ضم إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تمر الصَّدَقَة فَجَعَلته فِي غرفَة لي، فَكنت أجد فِيهِ كل يَوْم نُقْصَانا، فشكوت ذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لي: هُوَ عمل الشَّيْطَان، فارصدْه، قَالَ: فرصدته لَيْلًا، فَلَمَّا ذهب هوى من اللَّيْل أقبل على صُورَة الْفِيل، فَلَمَّا انْتهى إِلَى الْبابُُ دخل من خلل الْبابُُ على غير صورته، فَدَنَا من التَّمْر فَجعل يلتقمه، فشددت على ثِيَابِي فتوسطته، فَقلت: أشهد أَن لَا إلاه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، يَا عَدو الله، وَثَبت إِلَى تمر الصَّدَقَة فَأَخَذته وَكَانُوا أَحَق بِهِ مِنْك؟ لأرفعنك إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فيفضحك، فعاهدني أَن لَا يعود، فَغَدَوْت إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا فعل أسيرك؟ فَقلت: عاهدني أَن لَا يعود.
قَالَ: إِنَّه عَائِد، فارصده.
فرصدته اللَّيْلَة الثانة، فَصنعَ مثل ذَلِك، وصنعت مثل ذَلِك، وعاهدني أَن لَا يعود، فخليت سَبيله، ثمَّ غَدَوْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخبره فَإِذا مناديه يُنَادي: أَيْن معَاذ؟ فَقَالَ لي: يَا معَاذ! مَا فعل أسيرك؟ قَالَ: فَأَخْبَرته، فَقَالَ لي: إِنَّه عَائِد فارصده، فرصدته اللَّيْلَة الثَّالِثَة فَصنعَ مثل ذَلِك، وصنعت مثل ذَلِك، فَقَالَ: يَا عَدو الله عاهدتني مرَّتَيْنِ وَهَذِه الثَّالِثَة، لأرفعنك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيفضحك، فَقَالَ: إِنِّي شَيْطَان ذُو عِيَال، وَمَا أَتَيْتُك إِلَّا من نَصِيبين، وَلَو أصبت شَيْئا دونه مَا أَتَيْتُك، وَلَقَد كُنَّا فِي مدينتكم هَذِه حَتَّى بعث صَاحبكُم، فَلَمَّا نزل عَلَيْهِ آيتان أنفرتانا مِنْهَا، فوقعنا بنصيبين، وَلَا تقرآن فِي بَيت إلاَّ لم يلج فِيهِ الشَّيْطَان ثَلَاثًا، فَإِن خليت سبيلي علمتكهما.
قلت: نعم.
قَالَ: آيَة الْكُرْسِيّ وخاتمة سُورَة الْبَقَرَة أَمن الرَّسُول إِلَى آخرهَا، فخليت سَبيله ثمَّ غَدَوْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأخبره فَإِذا مناديه يُنَادي: أَيْن معَاذ بن جبل؟ فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قَالَ لي: مَا فعل أسيرك؟ قلت: عاهدني أَن لَا يعود، وأخبرته بِمَا قَالَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صدق الْخَبيث وَهُوَ كذوب.
قَالَ: فَكنت أقرؤهما عَلَيْهِ بعد ذَلِك فَلَا أجد فِيهِ نُقْصَانا.

وَأما حَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فقد رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي: حَدثنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي حَدثنَا مُبشر عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عَبدة بن أبي لبابَُُة عَن عبد الله ابْن أبي بن كَعْب أَن أَبَاهُ أخبرهُ أَنه: كَانَ لَهُ جرن فِيهِ تمر، فَكَانَ يتعاهده فَوَجَدَهُ ينقص، قَالَ: فحرسه ذَات لَيْلَة فَإِذا هُوَ بِدَابَّة شبه الْغُلَام المحتلم، قَالَ: فَسلمت فَرد عَليّ السَّلَام، قَالَ: فَقلت: أَنْت جني أم أنسي؟ قَالَ: جني.
قَالَ: قلت: ناولني يدك.
قَالَ: فناولني فَإِذا يَده يَد كلب وَشعر كلب، فَقلت: هَكَذَا خلق الْجِنّ؟ قَالَ: لقد علمت الْجِنّ مَا فيهم أَشد مني.
قلت: فَمَا حملك على مَا صنعت؟ قَالَ: بَلغنِي أَنَّك رجل تحب الصَّدَقَة فأحببنا أَن نصيب من طَعَامك.
قَالَ فَقَالَ لَهُ أبي: فَمَا الَّذِي يجيرنا مِنْكُم؟ قَالَ: هَذِه الْآيَة، آيَة الْكُرْسِيّ، ثمَّ غَدا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صدق الْخَبيث) .
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) ،.

     وَقَالَ : صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم.

وَأما حَدِيث أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي (فَضَائِل الْقُرْآن) : (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار، قَالَ: حَدثنَا أَبُو أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن ابْن أبي ليلى عَن أَخِيه عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَنه كَانَت لَهُ سهوة فِيهَا تمر، فَكَانَت تَجِيء فتأخذ مِنْهُ الغول، قَالَ: فَشَكا ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إذهب فَإِذا رَأَيْتهَا فَقل: بِسم الله، أجيبي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَخذهَا فَحَلَفت أَن لَا تعود، فأرسلها فجَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا فعل أسيرك؟ قَالَ: حَلَفت أَن لَا تعود، فَقَالَ: كذبت وَهِي معاودة للكذب.
قَالَ: فَأَخذهَا مرّة أُخْرَى فَحَلَفت أَن لَا تعود، فأرسلها، فجَاء إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا فعل أسيرك؟ قَالَ: حَلَفت أَن لَا تعود.
فَقَالَ: كذبت وَهِي معاودة للكذب، فَأَخذهَا فَقَالَ: مَا أَنا بتاركك حَتَّى أذهب بك إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: إِنِّي ذاكرة لَك شَيْئا، آيَة الْكُرْسِيّ اقرأها فِي بَيْتك فَلَا يقربك شَيْطَان وَلَا غَيره، فجَاء إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا فعل أسيرك؟ فَأخْبرهُ بِمَا قَالَت.
قَالَ: صدقت وَهِي كذوب) ، وَهَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.

وَأما حَدِيث أَبُو سعيد الْأنْصَارِيّ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مَالك بن حَمْزَة بن أبي أسيد عَن أَبِيه عَن جده أبي أسيد السَّاعِدِيّ الخزرجي، وَله بِئْر فِي الْمَدِينَة، يُقَال لَهَا: بِئْر بضَاعَة، قد بَصق فِيهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهِيَ ينشر بهَا ويتيمن بهَا، قَالَ: فَقطع أَبُو أسيد تمر حَائِطه فَجَعلهَا فِي غرفَة، وَكَانَت الغول تخَالفه إِلَى مشْربَته فتسرق تمره وتفسده عَلَيْهِ، فَشَكا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِذا قَالَ تِلْكَ الغول: يَا أَبَا أسيد، فاستمع عَلَيْهَا، فَإِذا سَمِعت اقتحامها، فَقل: بِسم الله أجيبي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت الغول: يَا أَبَا أسيد اعفني أَن تكلفني أَن أذهب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأعطيك موثقًا من الله أَن لَا أخالفك إِلَى بَيْتك وَلَا أسرق تمرك، وأدلك على آيَة تقرؤها فِي بَيْتك فَلَا تخَالف إِلَى أهلك، وتقرؤها على إنائك وَلَا تكشف غطاءه، فَأعْطَاهُ الموثق الَّذِي رَضِي بِهِ مِنْهَا، فَقَالَت: الْآيَة الَّتِي أدلك عَلَيْهَا آيَة الْكُرْسِيّ، ثمَّ حكت أستها تضرط، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقص عَلَيْهِ الْقِصَّة حَيْثُ ولت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صدقت وَهِي كذوب) .

وَأما حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا، وَفِيه: أَنه خرج إِلَى حَائِطه فَسمع جلبة فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ رجل من الْجِنّ: أصابتنا السّنة فَأَرَدْت أَن أُصِيب من ثماركم.
قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي يعيذنا مِنْكُم؟ قَالَ: آيَة الْكُرْسِيّ.

قَوْله: (جرن) ، بِضَمَّتَيْنِ جمع: جرين، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الرَّاء، وَهُوَ مَوضِع تحفيف التَّمْر.
قَوْله: (سهوة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْوَاو، وَهِي: الطاق فِي الْحَائِط يوضع فِيهَا الشَّيْء، وَقيل: هِيَ الصّفة، وَقيل: المخدع بَين الْبَيْتَيْنِ، وَقيل: هِيَ شَبيه بالرف، وَقيل: بَيت صَغِير كالخزانة الصَّغِيرَة.
قَوْله: (الغول) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَهُوَ شَيْطَان يَأْكُل النَّاس، وَقيل: هُوَ من يَتلون من الْجِنّ.
قَوْله: (أَبُو أسيد) ، بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين، واسْمه: مَالك بن ربيعَة.
قَوْله: (ينشر بهَا) من النشرة، وَهِي ضرب من الرّقية والعلاج يعالج بِهِ من كَانَ يظنّ أَن بِهِ مسا من الْجِنّ، سميت نشرة لِأَنَّهُ ينشر بهَا عَنهُ مَا خامره من الدَّاء أَي: يكْشف ويزال.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن السَّارِق لَا يقطع فِي مجاعَة، وَأَنه يجوز أَن يُعْفَى عَنهُ قبل أَن يبلغ الإِمَام.
وَفِيه: أَن الشَّيْطَان قد يعلم علما ينْتَفع بِهِ إِذا صدق.
وَفِيه: أَن الكذوب قد يصدق مَعَ الندرة.
وَفِيه: عَلَامَات النُّبُوَّة لقَوْله: مَا فعل أسيرك البارحة.
وَفِيه: تَفْسِير لقَوْله تَعَالَى: { إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} (الْأَعْرَاف: 72) .
يَعْنِي: الشَّيَاطِين، إِن المُرَاد بذلك مَا هم عَلَيْهِ من خلقهمْ الروحانية، فَإِذا استحضروا فِي صُورَة الْأَجْسَام المدركة بِالْعينِ جَازَت رُؤْيَتهمْ، كَمَا شخص الشَّيْطَان لأبي هُرَيْرَة فِي صُورَة سَارِق.
وَفِيه: أَن الْجِنّ يَأْكُلُون الطَّعَام، وَهُوَ مُوَافق لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سَأَلُونِي الزَّاد) .
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَفِي شعر الْعَرَب أَنهم لَا يَأْكُلُون.
وَفِيه: ظُهُور الْجِنّ وتكلمهم بِكَلَام الْإِنْس.
وَفِيه: قبُول عذر السَّارِق.
وَفِيه: وَعِيد أبي هُرَيْرَة بِرَفْعِهِ إِلَيْهِ وخدعة الشَّيْطَان.
وَفِيه: فِي الثَّالِثَة بَلَاغ فِي الْإِعْذَار.
وَفِيه: فضل آيَة الْكُرْسِيّ.
وَفِيه: أَن للشَّيْطَان نَصِيبا مِمَّن ترك ذكر الله تَعَالَى عِنْد الْمَنَام.
وَفِيه: أَن من أقيم فِي حفظ شَيْء يُسمى وَكيلا.
وَفِيه: أَن الْجِنّ تسرق وتخدع.
وَفِيه: جَوَاز جمع زَكَاة الْفطر قبل لَيْلَة الْفطر، وتوكيل الْبَعْض لحفظها وتفرقتها.
وَفِيه: جَوَاز تعلم الْعلم مِمَّن لم يعْمل بِعِلْمِهِ.