فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم، من الطعام واللحم وغيره

( بابُُُ: { مَا كَانَ السَّلَفُ يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَأسْفَارِهِمْ مِنَ الطعامِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِ} )

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا كَانَ السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ يدخرون فِي بُيُوتهم ليتقوتون فِي الْمُسْتَقْبل فِي الْحَضَر، ويدخرون أَيْضا بالتزود فِي أسفارهم لكفاية مُدَّة من الْأَيَّام.
قَوْله: ( من الطَّعَام) ، يتَعَلَّق بقوله: ( يدخرون) وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة أَي: من أَنْوَاع الطَّعَام من أَي طَعَام كَانَ وَمن اللَّحْم بأنواعه وَغير ذَلِك مِمَّا يدخرون ويحفظ من الأقوات، وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا الرَّد على الصُّوفِيَّة وَمن يذهب إِلَى مَذْهَبهم فِي قَوْلهم: إِنَّه لَا يجوز إدخار طَعَام لغد، وَأَن الْمُؤمن الْكَامِل الْإِيمَان لَا يسْتَحق اسْم الْولَايَة حَتَّى يتَصَدَّق بِمَا يفضل عَن شبعه وَلَا يتْرك طَعَاما لغد وَلَا يصبح عِنْده شَيْء من عين وَلَا عرض ويمسي كَذَلِك، وَمن خَالف ذَلِك فقد أَسَاءَ الظَّن بربه وَلم يتوكل عَلَيْهِ حق توكله، وَقد جَاءَ فِي الْأَخْبَار الثَّابِتَة بإدخار الصَّحَابَة وتزود الشَّارِع وَأَصْحَابه فِي أسفارهم، وَقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْفق على أَهله نَفَقَة سنتهمْ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ من بني النَّضِير، على مَا سلف، فِي كتاب الْخمس، وَفِيه مقنع وَحجَّة كَافِيَة فِي الرَّد عَلَيْهِم.

.

     وَقَالَتْ  عَائِشَةُ وَأسْماءُ صَنَعْنَا لِلنبيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبِي بَكْرٍ سُفْرَةً.

مطابقته هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن صنع عَائِشَة وَأَسْمَاء السفرة كَانَت حِين سَافر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر مَعَه إِلَى الْمَدِينَة مُهَاجِرين، وَقد مر فِي: بابُُ هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة، فِي حَدِيث طَوِيل، قَالَت عَائِشَة: فجهزناهما أحب الجهاز ووضعنا لَهما سفرة فِي جراب الحَدِيث، وَهَذَا من أقوى الْحجَج لجَوَاز التزود للمسافرين، وَأَسْمَاء بنت أبي بكر وَأُخْت عَائِشَة من الْأَب لِأَن أم عَائِشَة أم رُومَان بنت عَامر، وَأم أَسمَاء أم الْعُزَّى قيلة، وَهِي شَقِيقَة عبد الله بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.



[ قــ :5130 ... غــ :5423 ]
- حدَّثنا خَلادُ بنُ يَحْيَى حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَابِسٍ عَنْ أبِيهِ قَالَ:.

قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أنَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أنْ يُؤْكَلَ مِنْ لُحُومِ الأضَاحِي فَوْقَ ثَلاثٍ؟ قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إلاَّ فِي عامِ جاعَ النَّاسُ فِيهِ، فأرَادَ أنْ يُطْعِمَ الغَنِيُّ الفَقِيرَ وَإنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، قِيلَ: مَا اضْطَرَّكُمْ إلَيْهِ؟ فَضَحِكَتْ.
قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومِ ثَلاثَةَ أيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِالله.


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( وَإِن كُنَّا لنرفع الكراع فنأكله بعد خمس عشرَة) .

     وَقَالَ  بَعضهم: لَيْسَ فِي شَيْء من أَحَادِيث الْبابُُ للطعام ذكر، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ مِنْهَا بطرِيق الْإِلْحَاق.
قلت: هَذَا تصرف عَجِيب أَلَيْسَ قَوْله: ( لنرفع الكراع) يُطلق عَلَيْهِ الطَّعَام، وَلَيْسَ المُرَاد من قَوْله فِي التَّرْجَمَة: من الطَّعَام وجود لفظ الطَّعَام صَرِيحًا، وَإِنَّمَا المُرَاد كل شَيْء يطعم يُؤْكَل يُطلق عَلَيْهِ الطَّعَام.

وخلاد بن يحيى بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ الْكُوفِي، سكن مَكَّة وَمَات بهَا سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَابس يروي عَن أَبِيه عَابس بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة الْمَكْسُورَة وَالسِّين الْمُهْملَة ابْن ربيعَة النَّخعِيّ الْكُوفِي التَّابِعِيّ الْكَبِير.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَأخرجه مُسلم فِي أَوَاخِر الْكتاب عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَضَاحِي عَن قُتَيْبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَفِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي.

قَوْله: ( أنهى) ، اسْتِفْهَام على سَبِيل الاستخبار.
قَوْله: ( فَوق ثَلَاث) ، أَي: ثَلَاثَة أَيَّام.
قَوْله: ( قَالَت: مَا فعله إِلَّا فِي عَام جَاع النَّاس فِيهِ) ، أَرَادَت عَائِشَة بذلك أَن النَّهْي عَن إدخار لُحُوم الْأَضَاحِي بعد الثَّلَاث نسخ، وَأَن سَبَب النَّهْي كَانَ خَاصّا بذلك الْعَام لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذكرتها.
قَوْله: ( الْغَنِيّ) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل ( يطعم) من الْإِطْعَام ( وَالْفَقِير) مَنْصُوب على أَنه مَفْعُوله.
قَوْله: ( وَإِن كُنَّا) ، كلمة إِن مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، والكراع فِي الْغنم مستدق السَّاق.
قَوْله: ( بعد خمس عشرَة) ، أَي: لَيْلَة.
قَوْله: ( مَا اضطركم إِلَيْهِ) ، أَي: مَا ألجأكم إِلَى تَأْخِير هَذِه الْمدَّة.
قَوْله: ( فَضَحكت) ، أَي: عَائِشَة، وضحكها كَانَ للتعجب من سُؤال عَابس عَن ذَلِك مَعَ علمه أَنهم كَانُوا فِي التقليل وضيق الْعَيْش، وبينت عَائِشَة ذَلِك بقولِهَا: ( مَا شبع آل مُحَمَّد) قَوْله: ( مأدوم) ، أَي: مَأْكُول بالأدام.
قَوْله: ( ثَلَاثَة أَيَّام) ، أَي: مُتَوَالِيَات.

( وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ: أخْبَرَنَا سُفْيَانُ حدَّثَنَا عَبْدِ الرَّحْمانِ بنُ عَابِسٍ بِهاذا) .

أَي: قَالَ مُحَمَّد بن كثير، وَهُوَ من مَشَايِخ البُخَارِيّ، أخبرنَا سُفْيَان الثَّوْريّ حدثناعبد الرَّحْمَن بن عَابس بِهَذَا أَي: بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْكَبِير) عَن معَاذ بن الْمثنى عَن مُحَمَّد بن كثير فَذكره، وغرض البُخَارِيّ من هَذَا التَّعْلِيق بَيَان تَصْرِيح سُفْيَان بِإِخْبَار عبد الرَّحْمَن بن عَابس لَهُ بِهِ فَافْهَم.





[ قــ :5131 ... غــ :544 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَمْروٍ عَنْ عَطَاء عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الهَدْي عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلَى المَدِينَةِ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وأسفارهم) وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ المسندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَجَابِر هُوَ ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ.

والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد، وَسَيَأْتِي أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن عَليّ بن عبد الله.

وَالْهَدْي مَا يهدى إِلَى الْحرم من النعم، وَهَذَا يدل على جَوَاز التزّود للمسافرين فِي أسفارهم وَفِي التزّود معنى الإدخار.

( تَابَعَهُ مُحَمَّدٌ وَعَنِ ابنِ عيننةَ)
أَي: تَابَع عَبد الله بن مُحَمَّد المسندي مُحَمَّد بن سَلام عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
قَالَ: بَعضهم: قيل: إِن مُحَمَّدًا هَذَا هُوَ ابْن سَلام.
قلت: الْقَائِل بِهَذَا هُوَ الْكرْمَانِي وَلم يقل هُوَ وَحده، وَكَذَا قَالَه أَبُو نعيم، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق الْحميدِي: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة.

( وَقَالَ ابنُ جُرَيْجٍ:.

قُلْتُ لِعَطَاء: أقَالَ: حَتَّى جِئْنَا المَدِينَةِ؟ قَالَ: لَا)

أَي: قَالَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
قلت لعطاء بن أبي رَبَاح: أقَال؟ أَي: هَل قَالَ جَابر فِي قَوْله: كُنَّا نتزود لحرم الْهَدْي حَتَّى جِئْنَا إِلَى الْمَدِينَة؟ قَالَ عَطاء: لَا أَي: لم يقل ذَلِك جَابر، وَقد وَقع فِي رِوَايَة مُسلم قلت لعطاء: أقَال جَابر حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَة؟ قَالَ: نعم، وَقد نبه الْحميدِي فِي جمعه على اخْتِلَاف البُخَارِيّ وَمُسلم فِي هَذِه اللَّفْظَة وَلم يذكر أَيهمَا أرجح، وَالظَّاهِر أَن يرجح مَا قَالَه البُخَارِيّ لِأَن أَحْمد أخرجه فِي ( مُسْنده) عَن يحيى بن سعيد كَذَلِك وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بن سعيد كَذَلِك،.

     وَقَالَ  بَعضهم: لَيْسَ المُرَاد بقوله: لَا، نفي الحكم بل مُرَاده أَن جَابِرا لم يُصَرح باستمرار ذَلِك حَتَّى قدمُوا فَيكون على هَذَا معنى قَوْله فِي رِوَايَة عَمْرو بن دِينَار عَن عَطاء: كُنَّا نتزود لُحُوم الْهَدْي إِلَى الْمَدِينَة أَي: لتوجهنا إِلَى الْمَدِينَة، وَلَا يلْزم من ذَلِك بَقَاؤُهَا مَعَهم حَتَّى يصلوا الْمَدِينَة.
قلت: هَذَا كَلَام واهٍ لِأَنَّهُ قَالَ: إِلَى الْمَدِينَة، بِكَلِمَة إِلَى الَّتِي أصل وَضعهَا للغاية، وَهنا للغاية المكانية كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} ( الْإِسْرَاء: 1) وَفِيمَا قَالَه جعل: إِلَى، للتَّعْلِيل وَلم يقل بِهِ أحد، وَيُقَوِّي وهاء كَلَام هَذَا الْقَائِل مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ثَوْبَان قَالَ: ذبح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أضْحِية.
ثمَّ قَالَ لي: يَا ثَوْبَان أصلح لحم هَذِه، فَلم أزل أطْعمهُ مِنْهُ حَتَّى قدم الْمَدِينَة.