فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافا} [البقرة: 273] وكم الغنى

( بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى {لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ إلْحَافا ( الْبَقَرَة: 372) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا} ( الْبَقَرَة: 372) .
لأجل مدح من لَا يسْأَل النَّاس إلحافا.
أَي: سؤالاً إلحافا أَي: إلحاحا وإبراما.
قَالَ الطَّبَرِيّ: ألحف السَّائِل فِي مَسْأَلته إِذا ألح فَهُوَ ملحف فِيهَا.
.

     وَقَالَ  السّديّ: لَا يلحفون فِي الْمَسْأَلَة إلحافا، وَهَذَا من آيَة كَرِيمَة فِي سُورَة الْبَقَرَة أَولهَا قَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف تعرفهم بِسِيمَاهُمْ لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا وَمَا تنفقوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم} ( الْبَقَرَة: 372) .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله} ( الْبَقَرَة: 372) .
يَعْنِي الْمُهَاجِرين قد انْقَطَعُوا إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله وَسَكنُوا الْمَدِينَة، وَلَيْسَ لَهُم سَبَب يردون بِهِ على أنفسهم مَا يغنيهم.
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض} ( الْبَقَرَة: 372) .
يَعْنِي: سفرا للتسبب فِي طلب المعاش، وَالضَّرْب فِي الأَرْض هُوَ السّفر.
قَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض} ( المزمل: 02) .
وَمعنى عدم استطاعتهم أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ الْمسير لِئَلَّا تفوتهم صُحْبَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: {يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف} ( الْبَقَرَة: 372) .
فِي لباسهم وحالهم ومقالهم.
قَوْله: {تعرفهم بِسِيمَاهُمْ} ( الْبَقَرَة: 372) .
إِنَّمَا يظْهر لِذَوي الْأَلْبابُُ من صفاتهم كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم} ( الْفَتْح: 92) .
وَقيل: الْخطاب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: لكل رَاغِب فِي معرفَة حَالهم، يَقُول: تعرف فَقرهمْ بالعلامة فِي وُجُوههم من أثر الْجُوع وَالْحَاجة، وَفِي ( تَفْسِير النَّسَفِيّ) : هم أَصْحَاب الصّفة، وَكَانُوا أَرْبَعمِائَة إِنْسَان لم يكن لَهُم مسَاكِن فِي الْمَدِينَة وَلَا عشائر، فَكَانُوا يخرجُون فِي كل سَرِيَّة بعثها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يرجعُونَ إِلَى مَسْجِد الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: {وَمَا تنفقوا من خير} ( الْبَقَرَة: 372) .
من أَبْوَاب القربات {فَإِن الله بِهِ عليم} ( الْبَقَرَة: 372) .
لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ وَلَا من غَيره، وسيجزي عَلَيْهِ أوفى الْجَزَاء وأتمه يَوْم الْقِيَامَة أحْوج مَا يكونُونَ إِلَيْهِ.

وكَمِ الغِنى؟
أَي: مِقْدَار الْغنى الَّذِي يمْنَع السُّؤَال؟ و: كم، هُنَا استفهامية تَقْتَضِي التَّمْيِيز، وَالتَّقْدِير: كم الْغنى؟ أهوَ الَّذِي يمْنَع السُّؤَال أم غَيره؟ والغنى، بِكَسْر الْغَيْن وبالقصر: ضد الْفقر وَإِن صحت الرِّوَايَة بِالْفَتْح وبالمد فَهُوَ: الْكِفَايَة، وَقد تقدم فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود ( يَا رَسُول الله مَا الْغنى؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما) .
وَقد ذكرنَا فِي: بابُُ الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة، جملَة أَحَادِيث عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِي هَذَا الْبابُُ.

وقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَلاَ يَجِدُ غِنىً يُغْنِيهِ
بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله من الْمَجْرُور، وَهَذَا جُزْء من حَدِيث رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة، يَأْتِي فِي هَذَا الْبابُُ، وَفِيه: ( وَلَكِن الْمِسْكِين الَّذِي لَا يجد غنى يُغْنِيه) ، وَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا ذكر هَذَا كَأَنَّهُ تَفْسِير لقَوْله: ( وَكم الْغنى؟) ليَكُون الْمَعْنى: إِن الْغنى هُوَ الَّذِي يجد الرجل مَا يُغْنِيه، وَفسّر هَذَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: ( من سَأَلَ النَّاس وَله مَا يُغْنِيه جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة ومسألته فِي وَجهه خموش.
قيل: يَا رَسُول الله {وَمَا يُغْنِيه؟ قَالَ: خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب)
.
وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَإِنَّمَا لم يذكرهُ البُخَارِيّ لِأَنَّهُ لَيْسَ على شَرطه، لِأَن فِيهِ مقَالا.

لِقَوْلِهِ تَعَالى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ} إلَى قَولِهِ {فإنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} ( الْبَقَرَة: 372) .

هَذَا تَعْلِيق لقَوْله: ( وَلَا يجد غنى يُغْنِيه) ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الحَدِيث: الْمِسْكِين الَّذِي لَا يجد غنى يُغْنِيه وَلَا يفْطن بِهِ، فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ، وَلَا يقوم فَيسْأَل النَّاس.
وَوصف الْمِسْكِين بِثَلَاثَة أَوْصَاف: مِنْهَا عدم قِيَامه للسؤال، وَذَلِكَ لَا يكون إلاَّ لتعففه وَحصر نَفسه عَن ذَلِك وَعلل ذَلِك الْمِسْكِين الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف الَّذِي ذكر مِنْهَا البُخَارِيّ: عدم وجدان الْغنى، وَاكْتفى بِهِ بقوله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا} ( الْبَقَرَة: 372) .
الْآيَة، وَكَانَ حصرهم لأَنْفُسِهِمْ عَن السُّؤَال للتعفف، وَعدم ضَربهمْ فِي الأَرْض خوفًا من فَوَات صُحْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَأما: اللَّام، الَّتِي فِي قَوْله: {للْفُقَرَاء الَّذِي أحْصرُوا} ( الْبَقَرَة: 372) .
فلبيان مصرف الصَّدَقَة وموضعها لِأَنَّهُ قَالَ قبل هَذَا: {وَمَا تنفقوا من خير فلأنفسكم} ( الْبَقَرَة: 272) .
ثمَّ بَين مصرف ذَلِك وموضعه بقوله: {للْفُقَرَاء} ( الْبَقَرَة: 372) .
إِلَى آخِره، وَقد تصرف الْكرْمَانِي هُنَا تَصرفا عجيبا لَا يقبله من لَهُ أدنى معرفَة فِي أَحْوَال تراكيب الْكَلَام، فَقَالَ: {للْفُقَرَاء} ( الْبَقَرَة: 372) .
عطف على {لَا يسْأَلُون} ( الْبَقَرَة: 372) .
وحرف الْعَطف مُقَدّر، أَو: هُوَ حَال بِتَقْدِير لفظ: قَائِلا، ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: فِي بَعْضهَا لقَوْل الله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء} ( الْبَقَرَة: 372) .
قلت: مَعْنَاهُ شَرط فِي السُّؤَال عدم وجدان الْغنى لوصف الله الْفُقَرَاء بِلَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض، إِذْ من اسْتَطَاعَ ضربا فِيهَا فَهُوَ وَاجِد لنَوْع من الْغنى.
انْتهى.
قلت: كَانَ فِي نُسْخَة: وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَلَا يجد غنى يُغْنِيه للْفُقَرَاء الَّذين.
.
فَقَالَ: هَذَا عطف على: لَا يسْأَلُون، فليت شعري أَي وَجه لهَذَا الْعَطف، وَلَا عطف هُنَا أصلا، وَأي ضَرُورَة دعت إِلَى ارتكابه تَقْدِير حرف الْعَطف الَّذِي لَا يجوز حذف حرف الْعَطف إلاَّ فِي مَوضِع الضَّرُورَة على الشذوذ، أَو فِي الشّعْر كَذَلِك، وَلَا ضَرُورَة هُنَا أصلا} ثمَّ لما وقف على نُسْخَة فِيهَا لقَوْل الله عز وَجل: {للْفُقَرَاء} ( الْبَقَرَة: 372) .
سَأَلَ السُّؤَال الْمَذْكُور وَأجَاب بالجوابين الْمَذْكُورين اللَّذين تمجهما الأسماع ويتركهما أهل اليراع،.

     وَقَالَ  بَعضهم: اللَّام فِي قَوْله: لقَوْل الله، لَام التَّعْلِيل لِأَنَّهُ أورد الْآيَة تَفْسِيرا لقَوْله فِي التَّرْجَمَة، وَكم الْغنى؟ قلت: وَهَذَا أعجب من ذَلِك، لِأَن التَّعْلِيل لَا يُقَال لَهُ: التَّفْسِير، وَيفرق بَينهمَا من لَهُ أدنى مسكة فِي التَّصَرُّف فِي علم من الْعُلُوم، وَبَاقِي الْكَلَام فِي الْآيَة الْكَرِيمَة تقدم آنِفا.



[ قــ :1418 ... غــ :1476 ]
- حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّدُ بنُ زِيادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذي تَرُدُّهُ الأُكْلَةُ وَالأُكْلَتانِ وَلاكِنِ المِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنىٍ ويَسْتَحْيي ولاَ يَسْألُ النَّاسَ إلْحَافا.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَلَا يسْأَل النَّاس إلحافا) .
وَرِجَاله أَرْبَعَة وَهُوَ من الرباعيات.

قَوْله: ( الْمِسْكِين) ، مُشْتَقّ من السّكُون وَهُوَ عدم الْحَرَكَة فَكَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْمَيِّت ووزنه، مفعيل،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: الْمِسْكِين والمسكين الْأَخِيرَة نادة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام: مفعيل، يَعْنِي بِفَتْح الْمِيم.
وَفِي ( الصِّحَاح) : الْمِسْكِين الْفَقِير، وَقد يكون بِمَعْنى المذلة والضعف، يُقَال: تمسكن الرجل وتمسكن، وَهُوَ شَاذ، وَالْمَرْأَة مسكينة، وَقوم مَسَاكِين ومسكينون، وَالْإِنَاث مسكينات، وَالْفَقِير مُشْتَقّ من قَوْلهم: فقرت لَهُ فقرة من مَالِي، والفقر والفقر ضد الْغنى، وَقدر ذَلِك أَن يكون لَهُ مَا يَكْفِي عِيَاله، وَقد فقر فَهُوَ فَقير، وَالْجمع: فُقَرَاء، وَالْأُنْثَى فقيرة من نسْوَة فقائر،.

     وَقَالَ  الْقَزاز: أصل الْفقر فِي اللُّغَة من فقار الظّهْر كَأَن الْفَقِير كسر فقار ظَهره، فَبَقيَ لَهُ من جِسْمه بَقِيَّة.
قَالَ الْقَزاز: الْفقر والفقر، وَالْفَتْح أَكثر.
قَوْله: ( الْأكلَة وَالْأكْلَتَان) ، بِضَم الْهمزَة فيهمَا،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: الْأكلَة، ضَبطهَا بَعضهم بِضَم الْهمزَة بِمَعْنى: اللُّقْمَة، فَإِن فتحتها كَانَت الْمرة الْوَاحِدَة.
وَفِي ( الفصيح) لِأَحْمَد بن يحيى: الْأكلَة: اللُّقْمَة، والأكلة، بِالْفَتْح: الْغذَاء وَالْعشَاء.
قَوْله: ( لَيْسَ لَهُ غنى) ، زَاد فِي رِوَايَة الْأَعْرَج: ( غنى يُغْنِيه) .
قَوْله: ( ويستحي) بالياءين وبياء وَاحِدَة زَاد فِي رِوَايَة الْأَعْرَج: ( وَلَا يفْطن بِهِ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( لَهُ فَيتَصَدَّق عَلَيْهِ وَلَا يقوم فَيسْأَل النَّاس) ، وَهُوَ بِنصب: يتَصَدَّق، وَيسْأل.
قَوْله: ( وَلَا يسْأَل) ويروى: ( وَأَن لَا يسْأَل) .
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: كلمة: لَا، زَائِدَة فِي: ( وَأَن لَا يسْأَل) .
قَوْله: ( إلحافا) أَي: إلحاحا، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: يُرِيد: لَيْسَ الْمِسْكِين الْكَامِل لِأَنَّهُ بمسألته يَأْتِيهِ الكفاف، وَإِنَّمَا الْمِسْكِين الْكَامِل فِي أَسبابُُ المسكنة من لَا يجد غنى وَلَا يتَصَدَّق عَلَيْهِ، أَي: لَيْسَ فِيهِ نفي المسكنة بل نفي كمالها، أَي: الَّذِي هُوَ أَحَق بِالصَّدَقَةِ وأحوح إِلَيْهَا.

وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: حسن الْإِرْشَاد لموْضِع الصَّدَقَة، وَأَن يتحَرَّى وَضعهَا فِيمَن صفته التعفف دون الإلحاح.
وَفِيه: حسن الْمِسْكِين الَّذِي يستحي وَلَا يسْأَل النَّاس.
وَفِيه: اسْتِحْبابُُ الْحيَاء فِي كل الْأَحْوَال.





[ قــ :1419 ... غــ :1477 ]
- حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عُلَيَّةَ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ الحَذَّاءَ عنِ ابنِ أشْوعَ عنِ الشَّعبِيِّ قَالَ حدَّثني كاتبُ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ كتبَ مُعاويةُ إلَى المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ أنِ اكْتُبْ إلَيَّ بشَىءٍ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكتَبَ إلَيْهِ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ الله كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قيلَ وقالَ وإضَاعَةَ المالِ وكَثْرَةَ السُّؤَالِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَكَثْرَة السُّؤَال) .

وَرِجَاله ثَمَانِيَة: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير الدَّوْرَقِي، وَإِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ، وَعليَّة اسْم أمه، وخَالِد هُوَ ابْن مهْرَان الْحذاء الْبَصْرِيّ، وَقد مر غير مرّة، وَابْن أَشوع، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو وَفِي آخِره عين مُهْملَة: وَهُوَ سعيد بن عَمْرو بن الأشوع الْهَمدَانِي الْكُوفِي قَاضِي الْكُوفَة، نسب لجده.
وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَكَاتب الْمُغيرَة هُوَ: وراد، بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، والمغيرة بن شُعْبَة مَوْلَاهُ، وَمُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان.
وَفِيه: تابعيان وصحابيان، وَقد ذكرنَا فِي: بابُُ الذّكر بعد الصَّلَاة، تعدد ذكره وَمن أخرجه غَيره.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( عَن قيل.

     وَقَالَ )
، هما إِمَّا فعلان: الأول، يكون بِنَاء الْمَجْهُول من الْمَاضِي، وَالثَّانِي يكون بِنَاء الْفَاعِل، وَإِمَّا مصدران، يُقَال: قلت قولا وقيلاً وَقَالا.
وَحِينَئِذٍ يكونَانِ منونين، وَإِمَّا إسمان.
قَالَ ابْن السّكيت: هما إسمان لَا مصدران، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِمَّا أَن يُرَاد بهما حِكَايَة أقاويل النَّاس، كَمَا يُقَال: قَالَ فلَان كَذَا، وَقيل لَهُ: كَذَا، من بابُُ مَا لَا يَعْنِي.
وَأما مَا كَانَ من أَمر الدّين يَنْقُلهُ بِلَا حجَّة وَبَيَان يُقَلّد مَا يسمعهُ وَلَا يحْتَاط فِيهِ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: المُرَاد بِهِ حِكَايَة شَيْء لَا تعلم صِحَّته فَإِن الحاكي يَقُول: قيل.

     وَقَالَ : وَعَن مَالك: هُوَ الْإِكْثَار من الْكَلَام والإرجاف، نَحْو قَول الْقَائِل: أعطي فلَان كَذَا وَمنع من كَذَا، أَو الْخَوْض فِيمَا لَا يَعْنِي.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَن يُرَاد بِهِ حِكَايَة أَقْوَال النَّاس وأحاديثهم والبحث عَنْهَا لينمي فَيَقُول: قَالَ فلَان كَذَا وَفُلَان كَذَا، مِمَّا لَا يجر خيرا، إِنَّمَا هُوَ ولوع وشغب، وَهُوَ من التَّجَسُّس الْمنْهِي عَنهُ.
وَالثَّانِي: أَن يكون فِي أَمر الدّين فَيَقُول: قيل لَهُ فِيهِ كَذَا،.

     وَقَالَ  فلَان فيقلد وَلَا يحْتَاط بمواضع الِاحْتِيَاط بالحجج.
قَوْله: ( وإضاعة المَال) ، هُوَ رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: ( إِضَاعَة الْأَمْوَال) ، وَهُوَ أَن يتْركهُ من غير حفظ لَهُ فيضيع، أَو يتْركهُ حَتَّى يفْسد، أَو يرميه إِذا كَانَ يَسِيرا كبرا عَن تنَاوله، أَو بِأَن يرضى بِالْغبنِ، أَو يُنْفِقهُ فِي الْبناء واللباس والمطعم بإسراف، أَو يُنْفِقهُ فِي الْمعاصِي، أَو يُسلمهُ لخائن أَو مبذر، أَو يموه الْأَوَانِي بِالذَّهَب أَو يطرز الثِّيَاب بِهِ، أَو يذهِّب سقوف الْبَيْت، فَإِنَّهُ من التضييع الْفَاحِش لِأَنَّهُ لَا يُمكن تخليصه مِنْهُ وإعادته إِلَى أَصله، وَمِنْه قسْمَة مَا لَا ينْتَفع بقسمته كاللؤلؤة، وَمِنْه الصَّدَقَة وإكثارها وَعَلِيهِ دين لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاء دينه، وَمِنْه سوء الْقيام على مَا يملكهُ كالرقيق إِذا لم يتعهده ضَاعَ، وَمِنْه أَن يتخلى الرجل من كل مَاله وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ غير قوي على الصَّبْر والإطاقة، وَقد يحْتَمل أَن يؤول معنى الإضاعة على الْعَكْس مِمَّا تقدم بِأَن يُقَال: إضاعته: حَبسه عَن حَقه وَالْبخل بِهِ على أَهله كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
( وَمَا ضَاعَ مَال أورث الْمجد أَهله ... وَلَكِن أَمْوَال الْبَخِيل تضيع)

وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِضَاعَة المَال تُؤدِّي إِلَى الْفقر الَّذِي يخْشَى مِنْهُ الْفِتْنَة، وَكَأن الشَّارِع، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتَعَوَّذ من الْفقر وفتنته.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب فِي إِضَاعَة المَال: يُرِيد السَّرف فِي إِنْفَاقه وَإِن كَانَ فِيمَا يحل، أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد تَدْبِير المعدم لِأَنَّهُ أسرف على مَاله فِيمَا يحل ويؤجر فِيهِ، لكنه أضاع نَفسه، وأجره فِي نَفسه آكِد من أجره فِي غَيره.
قَوْله: ( وَكَثْرَة السُّؤَال) ، أما السُّؤَال إِمَّا أَن يكون من سُؤال النَّاس أَمْوَالهم والاستكثار مِنْهُ، أَو سُؤال الْمَرْء عَمَّا نهي عَنهُ من الْمُتَشَابه الَّذِي تعبدنا بِظَاهِرِهِ، أَو السُّؤَال من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أُمُور لم يكن لَهُم بهَا حَاجَة.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: الْمسَائِل فِي كتاب الله تَعَالَى على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا مَحْمُود كَقَوْلِه: { يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ} ( الْبَقَرَة: 51 و 91) .
وَنَحْوه من الإشياء الْمُحْتَاج إِلَيْهَا فِي الدّين، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: { فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} ( النَّحْل: 34، الْأَنْبِيَاء: 7) .
وَالْآخر مَذْمُوم كَقَوْلِه: { يَسْأَلُونَك عَن الرّوح} ( الْإِسْرَاء: 58) .
وَنَحْوه مِمَّا لَا ضَرُورَة فِيهِ لَهُم إِلَى علمه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: { وَلَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تَبْدُ لكُم تَسُؤْكُمْ} ( الْمَائِدَة: 101) .
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: يحْتَمل إِن يُرَاد بِكَثْرَة السُّؤَال سُؤال الْإِنْسَان عَن حَاله وتفاصيل أمره، لِأَنَّهُ يتَضَمَّن حُصُول الْحَرج فِي حق المسؤول عَنهُ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيد إخْبَاره بأحواله، فَإِن أخبرهُ شقّ عَلَيْهِ وَإِن أهمل جَوَابه ارْتكب سوء الْأَدَب.
وَيُقَال: فِي كَثْرَة السُّؤَال وَجْهَان ذكرا عَن مَالك: الأول: سُؤال سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ قَالَ: ( ذروني مَا تركتكم) .
وَالثَّانِي: سُؤال النَّاس، وَهُوَ الَّذِي فهمه البُخَارِيّ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين فِيهِ وُجُوه: أَحدهَا: التَّعَرُّض لما فِي أَيدي النَّاس من الحطام بالحرص والشره، وَهُوَ تَأْوِيل البُخَارِيّ.
ثَانِيهَا: أَن يكون فِي سُؤال الْمَرْء عَمَّا نهى عَنهُ من متشابه الْأُمُور على مَذْهَب أهل الزيغ وَالشَّكّ وابتغاء الْفِتْنَة.
ثَالِثهَا: مَا كَانُوا يسْأَلُون الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الشَّيْء من الْأُمُور من غير حَاجَة بهم إِلَيْهِ فتنزل الْبلوى بهم، كالسائل عَمَّن يجد مَعَ امْرَأَته رجلا أَشد النَّاس جرما فِي الْإِسْلَام من سَأَلَ عَن أَمر لم يكن حَرَامًا فَحرم من أجل مَسْأَلته.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على الْحجر، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْحجر على الْبَالِغ المضيع لمَاله، فجمهور الْعلمَاء يُوجب الْحجر عَلَيْهِ صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر،.

     وَقَالَ  النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين وبعدهما أَبُو حنيفَة وَزفر: لَا حجر على الْبَالِغ الحَدِيث الَّذِي يخدع فِي الْبيُوع وَلم يمنعهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من التَّصَرُّف.
وَفِيه: دَلِيل على فضل الكفاف على الْفقر والغنى، لِأَن ضيَاع المَال يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَة بالفقر وَكَثْرَة السُّؤَال، وَرُبمَا يخْشَى من الْغنى الْفِتْنَة، قَالَ تَعَالَى: { كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} ( العلق: 6 و 7) .
والفقر والغنى محنتان وبليتان كَانَ الشَّارِع يتورع مِنْهُمَا، وَمن عَاشَ فيهمَا بالاقتصاد فقد فَازَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَفِيه: الْكتاب بالسؤال عَن الْعلم وَالْجَوَاب عَنهُ.
وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد وَقبُول الْكتاب وَهُوَ حجَّة فِي الْإِجَازَة.
وَفِيه: أَخذ بعض الصَّحَابَة عَن بعض.
وَفِيه: دَلِيل على أَن قلَّة السُّؤَال لَا تدخل تَحت النَّهْي خُصُوصا إِذا كَانَ مُضْطَرّا يخَاف على نَفسه التّلف بِتَرْكِهِ، بل السُّؤَال فِي هَذِه الْحَالة وَاجِب لِأَنَّهُ لَا يحل لَهُ إِتْلَاف نَفسه وَهُوَ يجد السَّبِيل إِلَى حَيَاتهَا.





[ قــ :140 ... غــ :1478 ]
- حدَّثنا محَمَّدُ بنُ غُزَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ عَن أبيهِ عنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عامِرُ بنُ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ قَالَ أعْطَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَهطا وَأنا جالِسٌ فِيهِمْ قَالَ فترَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنهُم رجُلاً لَمْ يُعْطِهِ وَهْوَ أعْجَبُهُمْ إلَيَّ فقُمْتُ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَاوَرْتُهُ فقُلْتُ مالَكَ عنْ فُلانٍ وَالله إنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنا قَالَ أوْ مُسْلِما قَالَ فسَكَتُّ قلِيلاً ثُمَّ غَلَبنِي مَا أعْلَمُ فيهِ فقُلْتُ يَا رسولَ الله مَا لَكَ عنْ فُلانٍ وَالله إنِّي لأُرَاهُ مُؤْمِنا قَالَ أوْ مُسْلِما قَالَ فسَكَتُّ قَليلاً ثُمَّ غلبَني مَا أعْلَمُ فيهِ فقُلْتُ يَا رسولَ الله مالَكَ عَن فُلانٍ وَالله لأُراهُ مُؤْمِنا قَالَ أوْ مُسْلِما يَعْنِي فَقَالَ إنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وغَيْرَهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ.

( انْظُر الحَدِيث 7) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل الَّذِي تَركه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُعْطه شَيْئا، وَهُوَ أَيْضا ترك السُّؤَال أصلا مَعَ مُرَاجعَة سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبَبِهِ ثَلَاث مَرَّات، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بابُُ إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص عَن سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهنا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن غرير، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: الزُّهْرِيّ، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الْهَاء، وَقد تقدم فِي: بابُُ مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى فِي كتاب الْعلم.
وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي كتاب الْإِيمَان.

وعَنْ أبيهِ عَن صالِحٍ عنْ إسْمَاعِيلَ بنِ مُحَمَّدٍ أنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أبي يُحَدِّثُ هاذا فَقَالَ فِي حدِيثِهِ فضَرَبَ رسولُ الله بيَدِهِ فجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وكَتِفي ثُمَّ قَالَ أقْبِلْ أيْ سَعْدُ إنِّي لأُعطِي الرَّجُلَ
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور.
قَوْله: ( وَعَن أَبِيه) ، عطف على الْمَذْكُور أَولا فِي الْإِسْنَاد أَي: قَالَ يَعْقُوب عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم عَن صَالح بن كيسَان عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن سعد بن أبي وَقاص الزُّهْرِيّ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: أَبوهُ مُحَمَّد فروايته عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلَة إِذْ لَا بُد من توَسط ذكر سعد حَتَّى يصير مُسْندًا مُتَّصِلا؟ قلت: لفظ، هَذَا، هُوَ إِشَارَة إِلَى قَول سعد، فَهُوَ مُتَّصِل وَبِهَذَا السَّنَد رَوَاهُ مُسلم عَن الْحسن بن عَليّ الْحلْوانِي عَن يَعْقُوب عَن أَبِيه عَن صَالح عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد، قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن سعد يحدث بِهَذَا ... يَعْنِي حَدِيث الزُّهْرِيّ الْمَذْكُور، فَقَالَ فِي حَدِيثه: فَضرب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ بَين عنقِي وكتفي ثمَّ قَالَ: أقتالاً أَي سعد إِنِّي لأعطي الرجل؟ وَفِي الْجمع للحميدي فِي أَفْرَاد مُسلم: عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن سعد عَن أَبِيه عَن جده بِنَحْوِ حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عَامر بن سعد.
قَوْله: ( يحدث) ، هَذَا إِشَارَة إِلَى قَول سعد كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: ( فِي حَدِيثه) أَي: فِي جملَة حَدِيثه.
قَوْله: ( فَجمع) ، بفاء الْعَطف، وَفعل الْمَاضِي،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: رِوَايَة أبي ذَر: فَجمع، وَفِي رِوَايَة غَيره: جمع، بِدُونِ الْفَاء، ويروى: ( فَضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ فَجمع بَين عنقِي وكتفي) .
قَالَ ابْن قرقول: أَي: حَيْثُ يَجْتَمِعَانِ، وَكَذَلِكَ مجمع الْبَحْرين حَيْثُ يجْتَمع بَحر وبحر، وتوجيه هَذِه الرِّوَايَة إِن يكون لفظ: بَين، إسما لَا ظرفا، كَقَوْلِه تَعَالَى: { لقد تقطع بَيْنكُم} ( الْأَنْعَام: 49) .
على قراء الرّفْع فَيكون لفظ: مجمع، مُضَافا إِلَيْهِ، ويروى: ( فَضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ يجمع بَين عنقِي وكتفي) ، بِالْبَاء الجارة وَضم الْجِيم وَسُكُون الْمِيم، وَمحله نصب على الْحَال تَقْدِيره: ضرب بِيَدِهِ حَال كَونهَا مَجْمُوعَة، وَيجوز فِي الْكَتف ثَلَاث لُغَات.
قَوْله: ( ثمَّ قَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أقبل) بِفَتْح الْهمزَة، أَمر من الإقبال أَو بِكَسْر الْهمزَة وَفتح الْبَاء من الْقبُول، حسب الرِّوَايَتَيْنِ.
قَالَ التَّيْمِيّ: فِي بَعْضهَا أقبل بِقطع الْألف، كَأَنَّهُ لما قَالَ ذَلِك تولى ليذْهب فَقَالَ لَهُ: أقبل لأبين لَك وَجه الْإِعْطَاء وَالْمَنْع، وَفِي بَعْضهَا بوصل الإلف أَي: أقبل مَا أَنا قَائِل لَك وَلَا تعترض عَلَيْهِ.
قلت: وَيدل عَلَيْهِ بَاقِي رِوَايَة مُسلم: ( أقتالاً أَي سعد) أَي: أتقاتل قتالاً؟ أَي: أتعارضني فِيمَا أَقُول مرّة بعد مرّة كَأَنَّك تقَاتل؟ وَهَذَا يشْعر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كره مِنْهُ إلحاحه عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَة.
قَوْله: ( أَي سعد) يَعْنِي: يَا سعد إِنِّي لأعطي، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَإِنَّمَا أعطي الرجل ليتألفه ليستقر الْإِيمَان فِي قلبه وَعلم أَنه إِن لم يُعْطه قَالَ قولا أَو فعل فعلا دخل بِهِ النَّار، فَأعْطَاهُ شَفَقَة عَلَيْهِ، وَمنع الآخر علما مِنْهُ رسوخ الْإِيمَان فِي صَدره ووثوقا على صبره.

وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: الشَّفَاعَة للرجل من غير أَن يسْأَلهَا ثَلَاثًا.
وَفِيه: النَّهْي عَن الْقطع لأحد من النَّاس بِحَقِيقَة الْإِيمَان وَأَن الْحِرْص على هِدَايَة غير الْمُهْتَدي آكِد من الْإِحْسَان إِلَى الْمُهْتَدي.
وَفِيه: الْأَمر بالتعفف والاستغناء وَترك السُّؤَال.

قَالَ أبُو عَبْدِ الله فَكُبْكِبُوا قُلِبُوا مُكِبا أكَبَّ الرَّجُلِ إذَا كانَ فِعلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أحَدٍ فإذَا وقَعَ الفِعْلُ قُلْتَ كَبَّهُ الله لِوَجْهِهِ وكبَبْتُهُ أنَا

قَالَ أَبُو عبد الله، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَقد جرت عَادَته أَنه إِذا كَانَ فِي الْقُرْآن لفظ يُنَاسب لفظ الحَدِيث يذكرهُ اسْتِطْرَادًا فَقَوله: ( فكبكبوا) ، مَذْكُور فِي سُورَة الشُّعَرَاء مَعْنَاهُ: فكبوا بِلَفْظ الْمَجْهُول من الكب، وَهُوَ الْإِلْقَاء على الْوَجْه.
وَفِي بَعْضهَا: قلبوا بِالْقَافِ وَاللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة.
قَوْله: ( مكبا) ، بِضَم الْمِيم هُوَ الْمَذْكُور فِي سُورَة الْملك، وَهُوَ قَوْله: { أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه} ( الْملك: ) .
قَوْله: ( أكب الرجل) يَعْنِي: وَقع على وَجهه، وَهُوَ لَازم أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: ( إِذا كَانَ فعله غير وَاقع على أحد) ، وَذَلِكَ أَنهم يسمون الْفِعْل الَّذِي لَا يتَعَدَّى: لَازِما وَغَيره وَاقع.
قَوْله: ( فَإِذا وَقع الْفِعْل) ، يَعْنِي: إِذا وَقع على أحد يكون مُتَعَدِّيا: وَيُسمى وَاقعا أَيْضا، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: ( قلت كَبه الله لوجهه) ، وَهَذَا من نَوَادِر الْكَلِمَة حَيْثُ كَانَ ثلاثيه مُتَعَدِّيا والمزيد فِيهِ لَازِما، عكس الْقَاعِدَة التصريفية.
قَوْله: ( وكببته أَنا) متعدٍ أَيْضا، أَي: كببت أَنا فلَانا على وَجهه، وأتى بالمثالين أَحدهمَا من الْغَائِب وَالْآخر من الْمُتَكَلّم، وكببته يجوز فِيهِ أَن تبدل الْيَاء من الْبَاء الثَّانِيَة فَنَقُول: كبيته، على مَا علم فِي مَوْضِعه.

قَالَ أبُو عَبْدِ الله: صالِحُ بنُ كَيْسَانَ أكْبَرُ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَهْوَ قَدْ أدْرَكَ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه.
قَوْله: ( صَالح بن كيسَان) هُوَ الْمَذْكُور فِي الإسنادين.
قَوْله: ( أكبر) أَي: أكبر سنا، كَانَ عمره مائَة وَسِتِّينَ سنة.
قَوْله: ( من الزُّهْرِيّ) يَعْنِي من مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
قَوْله: ( وَهُوَ) أَي: صَالح ابْن كيسَان ( قد أدْرك عبد الله بن عمر) ، يَعْنِي: أدْرك السماع مِنْهُ.
وَأما الزُّهْرِيّ فمختلف فِي لقِيه لَهُ، وَالصَّحِيح أَنه لم يلقه وَإِنَّمَا يرْوى عَن أَبِيه سَالم عَنهُ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَان وَقع فِي رِوَايَة معمر عَنهُ أَنه سمعهما من ابْن عمر ثَبت ذكر سَالم بَينهمَا فِي رِوَايَة غَيره.





[ قــ :141 ... غــ :1479 ]
- حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلى الناسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ ولاكِنَّ المِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنىً يُغْنِيهِ وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فيَسْألُ النَّاسَ.

( انْظُر الحَدِيث 6741 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَلَا يقوم فَيسْأَل النَّاس) .

وَرِجَاله تقدمُوا غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ، وَقد مر الْكَلَام فِي مَعْنَاهُ فِي بابُُ الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة.
قَوْله: ( وَلَا يفْطن بِهِ) أَي: لَا يكون للنَّاس الْعلم بِحَالَة فيتصدقون عَلَيْهِ، ويروى ( وَلَا يفْطن لَهُ) بِاللَّامِ، قَوْله: ( فَيسْأَل) بِالنّصب، وَكَذَا: ( فَيتَصَدَّق) وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول.





[ قــ :14 ... غــ :1480 ]
- حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثنا أَبُو صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأَن يأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُو أحْسِبُهُ إلَي الجَبَلِ فيَحْتَطِبَ فيَبِيعَ فيَأْكُلَ ويَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسْألَ النَّاسَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( خير لَهُ من أَن يسْأَل النَّاس) ، والْحَدِيث مضى فِي: بابُُ الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة ... الحَدِيث، وَهنا أخرجه: عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات عَن أبي هُرَيْرَة.

قَوْله: ( ثمَّ يَغْدُو) أَي: ثمَّ يذهب والغدو الذّهاب فِي أول النَّهَار قَوْله: ( أَحْسبهُ) أَي قَالَ أَبُو هُرَيْرَة أطن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِلَى الْجَبَل مَوضِع الْحَطب.
قَوْله: ( فيحتطب فيبيع) ، بِالْفَاءِ فيهمَا لِأَن الاحتطاب يكون عقيب الغدو إِلَى الْجَبَل، وَالْبيع يكون عقيب الاحتطاب.
قَوْله: ( وَيتَصَدَّق) ، بواو الْعَطف ليدل على أَنه يجمع بَين البيع وَالصَّدَََقَة، يَعْنِي: إِذا بَاعَ يتَصَدَّق مِنْهُ.

وَفِيه: اسْتِحْبابُُ الاستعفاف عَن الْمَسْأَلَة.
واستحبابُ التكسب بِالْيَدِ.
واستحبابُ الصَّدَقَة من كسب يَده.