فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث، ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197] وقوله {يسألونك عن الأهلة، قل: هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189]

(بابُُ قَوْلِ الله تَعَالَى {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان تَفْسِير قَول الله تَعَالَى: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع:
الأول فِي إعرابها: فَقَوله: {الْحَج} مُبْتَدأ.
وَقَوله: {أشهر} خَبره.
وَقَوله: {مَعْلُومَات} صفة الْأَشْهر، وَمن شَرط الْخَبَر أَن يَصح بِهِ الْإِخْبَار عَن الْمُبْتَدَأ فَلَا يَصح أَن يخبر بِالْأَشْهرِ عَن الْحَج، فَلذَلِك قدر فِيهِ حذف تَقْدِيره: وَقت الْحَج أشهر مَعْلُومَات، وَيُقَال: تَقْدِيره الْحَج حج أشهر مَعْلُومَات، فعلى الأول الْمُقدر قبل الْمُبْتَدَأ، وعَلى الثَّانِي قبل الْخَبَر، وَإِن كَانَ يصلح فِيهِ تَقْدِير كلمة: فِي، فَلَا يُقَال إلاَّ بِالرَّفْع، وَكَذَلِكَ كَلَام الْعَرَب يَقُولُونَ: الْبرد شَهْرَان، فَلَا ينصبونه،.

     وَقَالَ  الواحدي: يُمكن حمله على غير إِضْمَار، وَهُوَ أَن الْأَشْهر جعلت نفس الْحَج اتساعا لكَون الْحَج يَقع فِيهَا، كَقَوْلِهِم: ليل نَائِم.
قَوْله: (أشهر) جمع شهر، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ ثَلَاثَة أشهر كوامل، وَلَكِن المُرَاد شَهْرَان وَبَعض الثَّالِث، وَوَجهه أَن اسْم الْجمع يشْتَرك فِيهِ مَا وَرَاء الْوَاحِد، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) .
وَلَو قَالَ: الْحَج ثَلَاثَة أشهر كَانَ يتَوَجَّه السُّؤَال وَقيل: نزل بعض الشَّهْر منزلَة كُله، كَمَا يُقَال: رَأَيْتُك سنة كَذَا، أَو على عهد فلَان، وَلَعَلَّ الْعَهْد عشرُون سنة أَو أَكثر، وَإِنَّمَا رَآهُ فِي سَاعَة مِنْهَا.
قَوْله: (مَعْلُومَات) يَعْنِي: معروفات عِنْد النَّاس لَا تشكل عَلَيْهِم.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَفِيه: أَن الشَّرْع لم يَأْتِ على خلاف مَا عرفوه، وَإِنَّمَا جَاءَ مقررا لَهُ.
قَوْله: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) .
أَي: فَمن ألزم نَفسه بِالتَّلْبِيَةِ أَو بتقليد الْهَدْي وسوقه.
وَقَوله: {فَلَا رفث} هُوَ جَوَاب: من، الشّرطِيَّة.
،.

     وَقَالَ  القتبي: الْفَرْض هُوَ وجوب الشَّيْء، يُقَال: فرضت عَلَيْكُم أَي أوجبت.
قَالَ الله تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم} (الْبَقَرَة: 732) .
فَمن: أهل فِيهِنَّ بِالْحَجِّ.
قَوْله: (فَلَا رفث) ، نفي، وَمَعْنَاهُ النَّهْي أَي: فَلَا ترفثوا، وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عمر {فَلَا رفث وَلَا فسوق} (الْبَقَرَة: 791) .
أَي ألزمتم أَنفسكُم.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس الْفَرْض التَّلْبِيَة.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك هُوَ الْإِحْرَام قَالَ عَطاء فَمن فرض فِيهِنَّ بِالرَّفْع مَعَ التَّنْوِين، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنّصب بِغَيْر تَنْوِين، وَاتَّفَقُوا فِي قَوْله: {وَلَا جِدَال} بِالنّصب غير أبي جَعْفَر الْمدنِي فَإِنَّهُ قَرَأَهُ بِالرَّفْع، وَهَذَا يُقَال لَهُ: لَا، التبرئة فَفِي كل مَوضِع يدْخل فِيهِ: لَا، التبرئة فصاحبه بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ نَصبه بِغَيْر تَنْوِين، وَإِن شَاءَ ضمه بِالتَّنْوِينِ،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وَالْمرَاد بِالنَّفْيِ وجوب انتفائها وَأَنَّهَا حَقِيقَة بِأَن لَا تكون، وقرىء المنفيات الثَّلَاث بِالنّصب وَالرَّفْع، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كثير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الْأَوَّلين بِالرَّفْع وَالْآخر بِالنّصب، لِأَنَّهُمَا حملا الْأَوَّلين على معنى النَّهْي، كَأَنَّهُ قيل: فَلَا يكونن رفث وَلَا فسوق، وَالثَّالِث على معنى الْإِخْبَار بِانْتِفَاء الْجِدَال، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا شكّ وَلَا خلاف فِي الْحَج.

النَّوْع الثَّانِي: فِي مَعْنَاهَا: قَوْله: (الْحَج) فِي اللُّغَة: الْقَصْد، من حججْت الشَّيْء أحجه حجا: إِذا قصدته.
.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: وأصل الْحَج من قَوْلك: حججْت فلَانا أحجه حجا إِذا عدت إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى، فَقيل: حج الْبَيْت، لِأَن النَّاس يأتونه كل سنة، وَالْحج فِي اصْطِلَاح الشَّرْع: قصد إِلَى زِيَارَة الْبَيْت الْحَرَام على وَجه التَّعْظِيم بِأَفْعَال مَخْصُوصَة.
قَوْله: (أشهر) جمع شهر، جمع قلَّة، لِأَنَّهُ على وزن: أفعل، بِضَم الْعين، والشهر عبارَة عَن الزَّمَان الَّذِي بَين الهلالين، واشتقاقه من الشُّهْرَة، والهلال أول لَيْلَة من الشَّهْر وَالثَّانيَِة وَالثَّالِثَة، ثمَّ هُوَ قمر بعد ذَلِك إِلَى آخر الشَّهْر، وَفِي اللَّيْلَة الرَّابِعَة عشر يُقَال لَهُ: بدر، لتمامه.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: إِنَّمَا سمي بَدْرًا لمبادرته الشَّمْس بالطلوع.
.

     وَقَالَ  الْفراء: هُوَ فِي أول لَيْلَة هِلَال، ثمَّ قمير ثمَّ قمر ثمَّ بدر.
قَوْله: {فَلَا رفث} : الرَّفَث الْجِمَاع، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} (الْبَقَرَة: 781) .
وَهُوَ حرَام على الْمحرم، وَكَذَلِكَ دواعيه من الْمُبَاشرَة والتقبيل.
وَنَحْو ذَلِك، وَكَذَا التَّكَلُّم بِحَضْرَة النِّسَاء،.

     وَقَالَ  ابْن جرير: حَدثنَا يُونُس أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي يُونُس أَن نَافِعًا أخبرهُ أَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يَقُول: الرَّفَث إتْيَان النِّسَاء، والتكلم بذلك بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء إِذا ذكرُوا ذَلِك بأفواههم.
.

     وَقَالَ  ابْن وهب: وحَدثني أَبُو صَخْر عَن مُحَمَّد بن كَعْب مثله،.

     وَقَالَ  عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه: سَأَلت ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) .
قَالَ: الرَّفَث التَّعَرُّض بِذكر الْجِمَاع، وَهِي: العرابة، فِي كَلَام الْعَرَب، وَهُوَ أدنى الرَّفَث.
.

     وَقَالَ  عَطاء بن أبي رَبَاح: الرَّفَث الْجِمَاع وَمَا دونه من قَول الْفُحْش، وَكَذَا قَالَ عَمْرو بن دِينَار،.

     وَقَالَ : وَكَانُوا يكْرهُونَ العرابة، وَهُوَ التَّعْرِيض بِذكر الْجِمَاع وَهُوَ محرم،.

     وَقَالَ  طَاوُوس: هُوَ أَن يَقُول للْمَرْأَة إِذا حللت أصبتك، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَة،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: الرَّفَث غشيان النِّسَاء، وَكَذَا قَالَ سعيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم وَأَبُو الْعَالِيَة وَمَكْحُول وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَعَطَاء بن يسَار وعطية وَالربيع وَالزهْرِيّ وَالسُّديّ وَمَالك بن أنس وَمُقَاتِل بن حَيَّان وَعبد الْكَرِيم بن مَالك وَالْحسن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَآخَرُونَ.
قَوْله: (وَلَا فسوق) ، قَالَ مقسم وَغير وَاحِد عَن ابْن عَبَّاس: هِيَ الْمعاصِي، وَكَذَا قَالَ عَطاء وَمُجاهد وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ وَمَكْحُول وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَعَطَاء بن يسَار وَمُقَاتِل بن حَيَّان،.

     وَقَالَ  مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: الفسوق مَا أُصِيب من معاصي الله صيدا أَو غَيره، وروى ابْن وهب عَن يُونُس عَن نَافِع: أَن عبد الله ابْن عمر كَانَ يَقُول: الفسوق إتْيَان معاصي الله تَعَالَى فِي الْحرم.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ: الفسوق هَهُنَا السبابُ، قَالَه ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَابْن الزبير وَمُجاهد وَالسُّديّ وَإِبْرَاهِيم وَالْحسن، وَقد تمسك هَؤُلَاءِ بِمَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (سبابُ الْمُسلم فسوق وقتاله كفر) ، وروى ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: الفسوق هَهُنَا الذّبْح للأصنام،.

     وَقَالَ  الضَّحَّاك: الفسوق التَّنَابُز بِالْأَلْقَابِ.
قَوْله: {وَلَا جِدَال فِي الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) .
فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَا مجادلة فِي وَقت الْحَج وَفِي مَنَاسِكه.
وَالثَّانِي: أَن المُرَاد بالجدال هَهُنَا الْمُخَاصمَة، وَعَن ابْن مَسْعُود فِي قَوْله: {وَلَا جِدَال فِي الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) .
قَالَ: أَن تُمَارِي صَاحبك حَتَّى تغضبه، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْجِدَال المراء والملاحاة حَتَّى تغْضب أَخَاك وَصَاحِبك، فَنهى الله عَن ذَلِك.
وَعَن ابْن عمر: الْجِدَال المراء والسبابُ والخصومات.

النَّوْع الثَّالِث: فِي الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بأشهر الْحَج: قَالَ الله تَعَالَى: {أشهر مَعْلُومَات} (الْبَقَرَة: 791) .
وَهِي: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن عَطاء وطاووس وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَمَكْحُول وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالربيع بن أنس وَمُقَاتِل بن حَيَّان، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي يُوسُف وَأبي ثَوْر، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير، ويحكى عَن عمر، وَعلي وَابْن مَسْعُود وَعبد الله بن الزبير وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،.

     وَقَالَ  مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم: هِيَ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة بِكَمَالِهِ، وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن عمر أَيْضا ابْن.

     وَقَالَ  ابْن جرير: حَدثنَا أَحْمد بن إِسْحَاق قَالَ: حَدثنَا أَبُو أَحْمد حَدثنَا شريك عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، قَالَ: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة،.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى حَدثنَا ابْن وهب أَخْبرنِي ابْن جريج، قَالَ: قلت لنافع: سَمِعت عبد الله بن عمر يُسمى شهور الْحَج؟ قَالَ: نعم، كَانَ عبد الله يُسَمِّي شَوَّال وَذَا الْقعدَة وَذَا الْحجَّة.
قَالَ ابْن جريج:.

     وَقَالَ  ذَلِك ابْن شهَاب وَعَطَاء وَجَابِر بن عبد الله صَاحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى ابْن جريج، وَحكي هَذَا أَيْضا عَن مُجَاهِد وطاووس وَعُرْوَة بن الزبير وَالربيع بن أنس وَقَتَادَة، قَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : وَجَاء فِيهِ حَدِيث مَرْفُوع، وَلكنه مَوْضُوع رَوَاهُ الْحَافِظ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق حُصَيْن بن الْمخَارِق، وَهُوَ مُتَّهم بِالْوَضْعِ عَن يُونُس بن عبيد عَن شهر بن حَوْشَب عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أشهر مَعْلُومَات: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة) ، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت لَا يَصح رَفعه، وَاحْتج الْجُمْهُور بِمَا علقه البُخَارِيّ على مَا يَجِيء، قَالَ ابْن عمر: هِيَ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة، وَرَوَاهُ ابْن جرير: حَدثنِي أَحْمد بن حَازِم بن أبي عزْرَة حَدثنَا أَبُو نعيم حَدثنَا وَرْقَاء عَن عبد الله بن دِينَار (عَن ابْن عمر: أشهر الْحَج مَعْلُومَات؟ قَالَ: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر ذِي الْحجَّة) إِسْنَاده صَحِيح، وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي (مُسْتَدْركه) عَن الْأَصَم عَن الْحسن بن عَليّ بن عَفَّان عَن عبد الله بن نمير عَن عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر فَذكره.
.

     وَقَالَ : على شَرط الشَّيْخَيْنِ.
وَعَن الْحَاكِم رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه، وَمِمَّا احْتج بِهِ مَالك مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن الضَّحَّاك (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أشهر الْحَج شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة) ، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود نَحوه، وَعَن عبد الله بن الزبير نَحوه.
.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا أَرَادَ من قَالَ: أشهر الْحَج شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة، أَن هَذِه الْأَشْهر لَيست أشهر الْعمرَة إِنَّمَا هِيَ لِلْحَجِّ وَإِن كَانَ الْحَج يَنْقَضِي بِانْقِضَاء إيام منى.
قلت: الْإِحْرَام بِالْحَجِّ فِيهَا أكمل من الْإِحْرَام بِهِ فِيمَا عَداهَا، وَإِن كَانَ صَحِيحا.
وَالْقَوْل بِصِحَّة الْإِحْرَام فِي جَمِيع السّنة مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة وَأحمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعيد، وَمذهب الشَّافِعِي: أَنه لَا يَصح الْإِحْرَام بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج، فَلَو أحرم بِهِ قبلهَا لم ينْعَقد إِحْرَامه بِهِ، وَهل ينْعَقد عمْرَة؟ فِيهِ قَولَانِ عَنهُ: وَالْقَوْل بِأَنَّهُ: لَا يَصح الْإِحْرَام بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر، وَبِه يَقُول طَاوُوس وَعَطَاء وَمُجاهد.
فَإِن قلت: هَل يدْخل يَوْم النَّحْر فِي عشر ذِي الْحجَّة أم لَا؟ قلت: قَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: يدْخل،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَا يدْخل، وَهُوَ الْمَشْهُور الْمُصَحح عَنهُ،.

     وَقَالَ  بعض الشَّافِعِيَّة: تسع من ذِي الْحجَّة، وَلَا يَصح فِي يَوْم النَّحْر وَلَا ليلته، وَهُوَ شَاذ.

{ويَسْألُونَكَ عنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لَلنَّاسِ وَالحَجِّ} (الْبَقَرَة: 981) .

وَقَوله: {ويسألونك عَن الْأَهِلّة} (الْبَقَرَة: 981) .
عطف على: قَول الله تَعَالَى أَي: وَفِي بَيَان تَفْسِير قَول الله تَعَالَى.
.

     وَقَالَ  الْعَوْفِيّ: عَن ابْن عَبَّاس، سَأَلَ الناسُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَهِلّة فَنزلت هَذِه الْآيَة يعلمُونَ بهَا حل دينهم وعدة نِسَائِهِم وَوقت حجهم،.

     وَقَالَ  أَبُو جَعْفَر: عَن الرّبيع عَن أبي الْعَالِيَة: بلغنَا أَنهم قَالُوا: يَا رَسُول الله! لم خلقت الْأَهِلّة؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة} (الْبَقَرَة: 981) .
.

     وَقَالَ  الواحدي: عَن معَاذ: يَا رَسُول الله إِن الْيَهُود تغشانا، ويكثرون مَسْأَلَتنَا، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة.
.

     وَقَالَ  النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) : نزلت هَذِه الْآيَة فِي عدي بن حَاتِم ومعاذ بن جبل سَأَلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْهلَال، فَنزلت أَي: يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة مَا لَهَا تبدو صَغِيرَة ثمَّ تصير بدورا ثمَّ تعود كالعرجون؟ وَمَا معنى تغير أحوالها؟.

     وَقَالَ  الْكَلْبِيّ: نزلت فِي معَاذ وثعلبة بن غنمة الأنصاريين، قَالَا: يَا رَسُول الله مَا بَال الْهلَال يَبْدُو دَقِيقًا مثل الْخَيط، ثمَّ يزِيد ثمَّ ينقص؟ فَنزلت، والأهلة: جمع هِلَال، وَهُوَ إِذا كَانَ لليلة أَو لَيْلَتَيْنِ، وَسمي بِهِ لِأَن النَّاس يرفعون أَصْوَاتهم عِنْد رُؤْيَته.
فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر الْحَج بالخصوص من بَين الْعِبَادَات؟ قلت: لكَونه أهم وأشق، وَلِهَذَا ذكره البُخَارِيّ بعد هَذِه الْآيَة.

وقالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أشْهُرُ الحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو القِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الحِجَّةِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن جرير، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَوَصله الطَّبَرِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من طَرِيق وَرْقَاء عَن عبد الله بن دِينَار، عَنهُ، قَالَ: (الْحَج أشهر مَعْلُومَات، شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة) .
فَإِن قلت: روى مَالك فِي الْمُوَطَّأ) عَن عبد الله بن دِينَار (عَن ابْن عمر، قَالَ: من اعْتَمر فِي أشهر الْحَج شَوَّال أَو ذِي الْقعدَة أَو ذِي الْحجَّة قبل الْحَج فقد استمتع) ؟ قلت: لَعَلَّه تجوز فِي ذكر ذِي الْحجَّة بِكَمَالِهِ، وَبِهَذَا يجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ.

وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مِنَ السُّنَّةِ أنْ لاَ يُحْرِمَ بِالحَجِّ إلاَّ فِي أشْهُرِ الحَجِّ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق الحكم عَن مقسم عَنهُ، قَالَ: (لَا يحرم بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج فَإِن من سنة الْحَج أَن لَا يحرم بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج فَإِن من سنة الْحَج أَن لَا يحرم بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أشهر الْحَج) .
.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: من السّنة أَي من الشَّرِيعَة، إِذْ هُوَ وَاجِب وَلَا ينْعَقد الْإِحْرَام بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أشهره عِنْد الشَّافِعِي، وَأما عِنْد غَيره: فَلَا يَصح شَيْء من أَفعَال الْحَج إلاَّ فِيهَا.
قلت: هَذَا تَفْسِير على مساعدة مَا قَالَه إِمَامه، وَلَكِن لَا يساعده هَذَا فَإِن قَوْله: (من السّنة) ، لَا يدل على الْوُجُوب قطعا، إِذْ يحْتَمل أَن يكون من السّنة الَّتِي إِذا فعلهَا كَانَ لَهُ أجر، وَإِذا تَركهَا لَا يفْسد مَا فعله من الْإِحْرَام قبل أشهر الْحَج.
وَأَيْضًا قَوْله: وَأما عِنْد غَيره، فَلَيْسَ بقسيم لما قبله مِمَّا قَالَه الشَّافِعِي، لِأَن قسيمه أَن يُقَال: وَأما عِنْد غَيره فَينْعَقد الْإِحْرَام بِالْحَجِّ قبل أشهر الْحَج، وَالَّذِي ذكره مُتَّفق عَلَيْهِ، أَفعَال الْحَج أَفعَال الْحَج قبل أشهر الْحَج لَا تصح بِلَا خلاف.

وَكِرِهَ عُثْمَانُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أوْ كَرْمانَ
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عبد الْأَعْلَى عَن يُونُس عَن الْحسن: أَن ابْن عَامر أحرم من خُرَاسَان فعاب عَلَيْهِ وعيره فكرهوه، وروى أَحْمد بن سيار فِي (تَارِيخ مرو) : من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد، قَالَ: لما فتح عبد الله بن عَامر خُرَاسَان قَالَ: لأجعلن شكري لله أَن أخرج من موضعي هَذَا محرما فَأحْرم من نيسابور، فَلَمَّا قدم على عُثْمَان لأمه على مَا صنع.
قلت: عبد الله بن عَامر بن كريز بن ربيعَة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد منَاف بن قصي الْقرشِي العبشمي، ابْن خَال عُثْمَان ابْن عَفَّان، ولد حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتغفل فِي فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واستنابه عُثْمَان على الْبَصْرَة بعد أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وولاه بِلَاد فَارس بعد عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وعمره إِذْ ذَاك خمس وَعِشْرُونَ سنة، فَفتح خُرَاسَان كلهَا وأطراف فَارس وكرمان وسجستان وبلاد غزيَّة، وَقتل كسْرَى فِي أَيَّامه وَهُوَ يزدجرد، مَاتَ فِي سنة ثَمَانِيَة وَخمسين من الْهِجْرَة، وَأما خُرَاسَان فإقليم وَاسع من الغرب الْمَفَازَة الَّتِي بَينهَا وَبَين بِلَاد الْجَبَل وجرجان، وَمن الْجنُوب مفازة واصلة بَينهَا وَبَين فَارس وقومس، وَمن الشرق نواحي سجستان وبلاد الْهِنْد، وَمن الشمَال بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر وَشَيْء من تركستان.
وخراسان يشْتَمل على كور كَثِيرَة كل كورة مِنْهَا نَحْو إقليم، وَلها مدن كَثِيرَة، مِنْهَا: بَلخ فِي وسط خُرَاسَان، خرج مِنْهَا خلق من الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ لَا يُحصونَ.
وَمِنْهَا: جرجان وطالعان وطابران وكشمهين ونسا وهراة، وَأما كرمان، فبفتح الْكَاف وَقيل بِكَسْرِهَا، وَفِي (الْمُشْتَرك) : هُوَ صقع كَبِير بَين فَارس وسجستان، وَحدهَا يتَّصل بخراسان، وَمن بلادها الْمَشْهُورَة: زرند والسيرجان، وَهُوَ أكبر مدن كرمان.

[ قــ :1496 ... غــ :1560 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار قَالَ حدَّثني أبُو بَكْرٍ الحَنَفِيُّ قَالَ حدَّثنا أفْلَحُ بنُ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ القَاسِمَ بنَ مُحَمَّدٍ عنْ عَائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قالَتْ خَرَجْنا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أشْهُرِ الحَجِّ ولَيَالي الحَجِّ وَحُرِم الْحَج فنِزَلْنا بِسَرِفَ قالَتْ فخَرَجَ إِلَى أصْحَابِهِ فَقَالَ مَنُ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ فأحَبَّ أنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَل وَمَنْ كانَ معَهُ الهَديُ فلاَ قالَتْ فالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أصْحَابِهِ قالَتْ فأمَّا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرِجَالٌ مِنْ أصْحَابِهِ فَكانُوا أهْلَ قُوَّةٍ وكانَ مَعَهُمْ الهَدْيُ فَلَم يَقْدِرُوا عَلَى العُمْرَةِ قالَتْ فدَخَلَ عَلَيَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا أبْكِي فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهْ.

قُلْتُ سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ قالَ وَما شأنَكَ.

قُلْتُ لَا أُصَلَّي قَالَ فَلاَ يَضِيرُكِ إنَّمَا أنْتِ امْرَأةٍ مِنْ بَنَاتٍ آدَمَ كَتَبَ الله عَلَيْكِ مَا كتَبَ عَلَيْهِنَّ فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ فَعَسَى الله أنْ يَرْزُقَيكِهَا قالَتْ فَخَرَجْنَا فِي حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَظَهَرَتُ ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فأفَضْتُ بِالبَيْتِ قالَتْ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي النَّفَرِ الآخرِ حَتَّى نَزلَ المُحَصَّبَ ونَزَلْنَا مَعَهُ فدعَا عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبي بَكْرِ فَقَالَ اخْرُج بأختِكَ منَ الحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغا ثُمَّ ائْتِيَا هاهُنَا فانِّي أنظُرُ كَمَا حَتَّى تأتِيَانِي قالَتْ فخَرَجْنَا حَتَّى إذَا فَرَغْتُ وفَرَغتُ مِنَ الطُّوافِ ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ فَقَالَ هَلْ فَرَغْتُمْ فقُلْتُ نعَمْ فآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِي أصْحَابِهِ فارْتَحَلَ النَّاسِ فَمَرَّ مُتَوَجِّها إلَى المَدِينَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أشهر الْحَج وليالي الْحَج وَحرم الْحَج) .

ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة: الملقب ببندار، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: أَبُو بكر الْحَنَفِيّ واسْمه عبد الْكَبِير بن عبد الْمجِيد.
الثَّالِث: أَفْلح بن حميد، بِضَم الْحَاء: ابْن نَافِع الْأنْصَارِيّ، مر فِي: بابُُ هَل يدْخل الْجنب يَده.
الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق.
الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: السماع فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلين بصريان والاثنين الآخرين مدنيان.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي نعيم، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد بن السّري.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَحرم الْحَج) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَضم الرَّاء، ويروى بِضَم الْحَاء وَفتح الرَّاء، فَالْمَعْنى على الأول: أزمنة الْحَج وأمكنته وحالاته، وعَلى الثَّانِي: مُحرمَات الْحَج وممنوعاته لِأَنَّهُ جمع حُرْمَة.
فَإِن قلت: كَانَ مُقْتَضى التَّرْكِيب أَن يُقَال: أشهر الْحَج ولياليه وَحرمه، بالإضمار فِي الآخرين.
قلت: بلَى، د وَلَكِن لما قصد بذلك التَّعْظِيم لَهُ والتفخيم ذكر بِالظَّاهِرِ مَوضِع الْمُضمر.
قَوْله: (بسرف) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره فَاء.
وَهُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث لِأَنَّهُ إسم بقْعَة قريبَة من مَكَّة، وَأول حُدُودهَا.
قَوْله: (فَخرج) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج من قُبَّته الَّتِي ضربت لَهُ إِلَى أَصْحَابه.
قَوْله: (فَلْيفْعَل) أَي: فَلْيفْعَل الْعمرَة، وَهَذَا يدل على أَن الْأَمر بذلك لمن كَانُوا مفردين بِالْحَجِّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمر بِالْفَسْخِ لمن أفرد لَا لمن قرن، وَلَا لمن أهلَّ بِعُمْرَة، فَأَمرهمْ بذلك ليتمتعوا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، فَعلم من ذَلِك أَن الْأَمر بِالْفَسْخِ كَانَ بسرف، وَإِنَّمَا أَرَادَت فسخ الْحَج فمنعت من ذَلِك،.

     وَقَالَ  عِيَاض: وَالَّذِي تدل عَلَيْهِ النُّصُوص من أَحَادِيث الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا إِنَّمَا قَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد إحرامهم بِالْحَجِّ، وَيحْتَمل أَنه كرر الْأَمر بذلك فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَن الْعَزِيمَة كَانَت آخرا حِين أَمرهم بِالْفَسْخِ إِلَى الْعمرَة.
قَوْله: (فَلَا) أَي: فَلَا يفعل.
قَوْله: (فالآخذ بهَا) ، مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ و (التارك) عطف عَلَيْهِ وَخَبره هُوَ قَوْله: (من أَصْحَابه) وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا بِتَقْدِير كَانَ التَّامَّة أَي: فَكَانَ الْآخِذ بهَا والتارك لَهَا، وَالضَّمِير فِي: بهَا وَلها، يرجع إِلَى الْعمرَة.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: ظَاهره التَّخْيِير، فَلذَلِك كَانَ مِنْهُم الْآخِذ والتارك، لَكِن لما ظهر مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَزْم حِين غَضَبه، قَالُوا: تحللنا وَسَمعنَا وأطعنا، وَكَانَ ترددهم لأَنهم مَا كَانُوا يرَوْنَ الْعمرَة فِي أشهر الْحَج جَائِزَة، وَأَنَّهَا من أفجر الْفُجُور، فَبين لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَاز ذَلِك.
قَوْله: (وَأَنا أبْكِي) جملَة حَالية.
قَوْله: (يَا هنتاه) يَعْنِي: يَا هَذِه من غير أَن يُرَاد بِهِ مدح أَو ذمّ، وأصل هَذَا مَأْخُوذ من: هن، على وزن: أَخ، وَهُوَ كِنَايَة عَن شَيْء لَا تذكره باسمه، وَتقول فِي النداء: يَا هن، للرجل وللمرأة يَا هنة، وَلَك أَن تذخل فيهمَا الْهَاء لبَيَان الْحَرَكَة فَتَقول: يَا هنة وَيَا هنته، وَإِذا أشبعت الْحَرَكَة تتولد الْألف فَتَقول حِينَئِذٍ: يَا هَناه وَيَا هنتاه، وَلَا يستعملان إلاَّ فِي النداء.

     وَقَالَ  السفاقسي: ضبط فِي رِوَايَة أبي ذَر بِإِسْكَان النُّون، وَفِي رِوَايَة أبي الْحسن بِفَتْحِهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: تضم الْهَاء الْآخِرَة وتسكن وَتقول فِي التَّثْنِيَة للمذكر: هنان، وللجمع: هنون وللمؤنث هنتان وهنات، وَقيل: معنى يَا هنتاه: يَا بلهاء، كَأَنَّهَا نسبت إِلَى قلَّة الْمعرفَة بمكائد النَّاس وشرورهم.
.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: الْألف وَالْهَاء فِي آخِره كالألف وَالْهَاء فِي الندبة.
قَوْله: (قلت لَا أُصَلِّي) كِنَايَة عَن أَنَّهَا حَاضَت، وَفِيه رِعَايَة الْأَدَب وَحسن المعاشرة.
قَوْله: (فَلَا يضيرك) ، من الضير بالضاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء الضَّرَر وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة (لَا يَضرك) بتَشْديد الرَّاء من الضَّرَر.
قَوْله: (أَن يرزقيكها) أَي: الْعمرَة.
قَوْله: (فِي النَّفر الآخر) ، وَهُوَ الْيَوْم الثَّالِث عشر من ذِي الْحجَّة، والنفر الأول هُوَ الثَّانِي عشر مِنْهُ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: النَّفر، بِسُكُون الْفَاء وَفتحهَا.
قَوْله: (حَتَّى نزل المحصب) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ مَكَان متسع بَين مَكَّة وَمنى، وَسمي بِهِ لِاجْتِمَاع الْحَصْبَاء فِيهِ بِحمْل السَّيْل، وَأَنه مَوضِع منهبط، وَهُوَ الأبطح والبطحاء، وحدوه بِأَنَّهُ مَا بَين الجبلين إِلَى الْمَقَابِر وَلَيْسَت الْمقْبرَة مِنْهُ، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: الحصاب، بِكَسْر الْحَاء.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد: هُوَ من حُدُود خيف بني كنَانَة، وَحده من الْحجُون ذَاهِبًا إِلَى منى.
.

     وَقَالَ  فِي مَوضِع آخر: وَهُوَ الْخيف.
قَالَ ياقوت: وَهُوَ غير المحصب مَوضِع رمي الْجمار بمنى.
قَوْله: (فلتهل) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: من الإهلال، وَهُوَ الْإِحْرَام.
قَوْله: (ثمَّ أفرغا) أَمر لعبد الرَّحْمَن وَعَائِشَة كليهمَا أَي: أفرغا من الْعمرَة، وَهَذَا يدل على أَن عبد الرَّحْمَن أَيْضا اعْتَمر مَعَ عَائِشَة.
قَوْله: (هَهُنَا) أَي: المحصب.
قَوْله: (فَإِنِّي أنظركما) بِمَعْنى: انتظركما، وَفِي رِوَايَة للكشميهني: (انتظركما) ، من الِانْتِظَار.
قَوْله: (حَتَّى تأتياني) وَفِي غَالب النّسخ، تأتيان، بنُون الْوِقَايَة وَحذف الْيَاء الَّتِي للمتكلم والإكتفاء بالكسرة عَنْهَا.
قَوْله: (حَتَّى إِذا فرغت وفرغت) بالتكرار وصلَة الأول محذوفة أَي: فرغت من الْعمرَة وفرغت من الطّواف، وَحذف الأول للْعلم بِهِ، ويروى: (حَتَّى إِذا فرغت وَفرغ) ، بِلَفْظ الْغَائِب أَي: حَتَّى إِذا فرغت أَنا من الْعمرَة وَطواف الْوَدَاع وَفرغ عبد الرَّحْمَن أَيْضا.
قَوْله: (بِسحر) ، بِفَتْح الرَّاء بِدُونِ التَّنْوِين وبجرها مَعَ التَّنْوِين، وَهُوَ عبارَة عَن قبيل الصُّبْح الصَّادِق، فَإِذا أردْت بِهِ سحر ليلتك بِعَيْنِه لم تصرفه لِأَنَّهُ معدول عَن السحر، وَهُوَ علم لَهُ، وَإِن أردْت نكرَة صفة فَهُوَ منصرف، وَالْأولَى هُنَا هُوَ الأول.
قَوْله: (هَل فَرَغْتُمْ؟) خطاب لعبد الرَّحْمَن ولعائشة وَمن مَعَهُمَا فِي ذَلِك الإعمار، وإلاَّ فَالْقِيَاس أَن يُقَال: هَل فرغتما، أَو نقُول: إِن أقل الْجمع اثْنَان.
قَوْله: (فآذن بالرحيل) أَي: فَاعْلَم النَّاس بالارتحال.
قَوْله: (مُتَوَجها) أَي: حَال كَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَوَجها نَحْو الْمَدِينَة.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن من كَانَ بِمَكَّة وَأَرَادَ الْعمرَة فميقاته لَهَا الْحل، وَإِنَّمَا وَجب الْخُرُوج إِلَيْهِ ليجمع فِي نُسكه بَين الْحل وَالْحرم، كَمَا يجمع الْحَاج بَينهمَا، فَإِن عَرَفَات من الْحل.
وَفِيه: النُّزُول بالمحصب، فَظَاهره أَن النُّزُول فِيهِ سنة كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: كَانَ ابْن عمر يرَاهُ سنة،.

     وَقَالَ  نَافِع: حصب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء بعده، أخرجه مُسلم، وَزعم ابْن حبيب أَن مَالِكًا كَانَ يَأْمر بالتحصيب ويستحبه، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي،.

     وَقَالَ  عِيَاض: هُوَ مُسْتَحبّ عِنْد جَمِيع الْعلمَاء، وَهُوَ عِنْد الْحِجَازِيِّينَ أوكد مِنْهُ عِنْد الْكُوفِيّين، وَأَجْمعُوا أَنه لَيْسَ بِوَاجِب، وَأخرج مُسلم عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانُوا ينزلون بِالْأَبْطح) ، وأخرجت الْأَئِمَّة السِّتَّة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: إِنَّمَا نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمحصب ليَكُون أسمح لِخُرُوجِهِ وَلَيْسَ بِسنة، فَمن شَاءَ نزله وَمن شَاءَ لم ينزله.
ضَيْرَ مِنْ ضارَ يَضِيرُ ضَيْرا ويُقَالُ ضار يَضُورُ ضَوْرا وضَرَّ يَضُرُّ ضَرَّا

لما كَانَت رِوَايَتَانِ فِي قَوْله: (فَلَا يضيرك) إِحْدَاهمَا: (فَلَا يضيرك) وَالْأُخْرَى: (فَلَا يَضرك) أَشَارَ بقوله: (ضير) بالأجوف اليائي إِلَى أَن مصدر: لَا يضيرك، ضير وَأَشَارَ إِلَى أَن فِيهِ لغتين إِحْدَاهمَا: (ضار يضير) من: بابُُ بَاعَ يَبِيع، وَالْأُخْرَى: ضار يضور) من بابُُ، قَالَ يَقُول، وَأَشَارَ إِلَى الرِّوَايَة الثَّانِيَة بقوله: (وضر يضر ضرا) من: بابُُ فعل يفعل، بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي، وَضمّهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وضرا مصدره بِضَم الضَّاد، وَيَجِيء أَيْضا مصدره ضَرَرا بِفتْحَتَيْنِ.
وَفِي (الْمطَالع) : الضَّرَر والضير والضر والضر والضرار كل ذَلِك بِمَعْنى قلت: وَفِي الحَدِيث: (لَا ضَرَر وَلَا ضرار) ، فعلى مَا ذكره يكون هَذَا للتَّأْكِيد، وَفرق بَعضهم بَينهمَا فَقَالَ: الضَّرَر وَمَا تضر بِهِ صَاحبك مِمَّا تنْتَفع أَنْت بِهِ، والضرار أَن تضره من غير أَن تَنْفَع نَفسك، وَمَتى قرن بالنفع لم يكن فِيهِ إلاَّ الضّر والضر لَا ضير.