فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الطيب عند الإحرام، وما يلبس إذا أراد أن يحرم، ويترجل ويدهن

( بابُُ الطِّيبِ عِنْدَ الإحْرَامِ ومَا يَلْبَسُ إذَا أرَادَ أنْ يحْرِمَ ويَتَرَجَّلُ وَيَدَّهِنُ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان جَوَاز الطّيب عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام، وَجَوَاز مَا يلبس الشَّخْص إِذا أَرَادَ الْإِحْرَام.
قَوْله: ( ويترجل) بِالرَّفْع، عطف على قَوْله: وَمَا يلبس، ويروى بِالنّصب وَوَجهه أَن يكون مَنْصُوبًا بِأَن، الْمقدرَة كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
( للبسُ عباءة وتقر عَيْني ... أحب إِلَيّ من لبس الشفوفِ)

وَقَوله: ( ويترجل) ، من التَّرَجُّل على وزن: التفعل، وَهُوَ أَن يسرح شعره، من: رجلت رَأْسِي: إِذا مشطته بالمشط.
قَوْله: ( ويدهن) ، بِفَتْح الْهَاء من الثلاثي، يَعْنِي: من دهن يدهن، وبكسرها من ادَّهن على وزن: افتعل، إِذا تطلى بالدهن، وَأَصله يتدهن، فأبدلت التَّاء دَالا وأدغمت الدَّال فِي الدَّال، وَهُوَ عطف أَيْضا على: يلبس، وَقد تكلم الشُّرَّاح هُنَا بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ، فتركناه.

وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَشَمُّ المُحْرَمْ الرَّيْحَانَ ويَنْظُرُ فِي المِرْآةِ ويَتَداوَى بِمَا يأكُلُ الزَّيْتَ والسَّمْنَ

هَذَا التَّعْلِيق فِي شم الْمحرم الريحان وَصله الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد جيد إِلَى سُفْيَان،: حَدثنَا أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا للْمحرمِ أَن يشم الريحان، وروى الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَد صَحِيح عَنهُ: الْمحرم يشم الريحان وَيدخل الْحمام وَينْزع سنه ويفقأ القرحة، وَإِن انْكَسَرَ ظفره أماط عَنهُ الْأَذَى.

وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الريحان.
فَقَالَ إِسْحَاق: يُبَاح، وَتوقف أَحْمد فِيهِ،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: يحرم، وَكَرِهَهُ مَالك وَالْحَنَفِيَّة.
ومنشأ الْخلاف أَن كل مَا يتَّخذ مِنْهُ الطّيب يحرم بِلَا خلاف، وَأما غَيره فَلَا، وروى بن أبي شيبَة عَن جَابر أَنه قَالَ: لَا يشم الْمحرم الريحان، وروى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يكره شم الريحان للْمحرمِ.
وَعَن أبي الزبير: سمع جَابِرا يسْأَل عَن الريحان أيشمه الْمحرم وَالطّيب والدهن؟ فَقَالَ: لَا.
وَعَن جَابر: إِذا شم الْمحرم ريحانا أَو مس طيبا إهراق لذَلِك دَمًا.
وَعَن إِبْرَاهِيم: فِي الطّيب الْفِدْيَة.
وَعَن عَطاء: إِذا شم طيبا كفر، وَعنهُ: إِذا وضع الْمحرم على شَيْء دهنا فِيهِ طيب فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة.
وَالريحَان: مَا طَابَ رِيحه من النَّبَات كُله سهلية وجبلية، والواحدة رَيْحَانَة.
وَفِي ( الْمُحكم) : الريحان أَطْرَاف كل كل بقلة طيبَة الرّيح إِذا خرج عَلَيْهَا أَوَائِل النَّور، والريحانة: طَاقَة من الريحان.

وَأما النّظر فِي الْمرْآة، فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي ( جَامعه) : رِوَايَة عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي عَنهُ عَن هِشَام بن حسان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا بَأْس أَن ينظر فِي الْمرْآة وَهُوَ محرم، وروى ابْن أبي شيبَة عَن لَيْث عَن طَاوُوس: لَا ينظر.

وَأما التَّدَاوِي.
قَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر وَعباد بن الْعَوام عَن أَشْعَث عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ يَقُول: يتداوى الْمحرم بِمَا يَأْكُل.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذا تشققت يَد الْمحرم أَو رِجْلَاهُ فليدهنهما بالزيت أَو السّمن.
وروى أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر: يتداوى الْمحرم بِأَيّ دَوَاء شَاءَ إلاَّ دَوَاء فِيهِ طيب، وَكَانَ الْأسود يضمد رجله بالشحم وَهُوَ محرم.
وَعَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء: حَدثنِي من سمع أَبَا ذَر يَقُول: لَا بَأْس أَن يتداوى الْمحرم بِمَا يَأْكُل، وَفِي رِوَايَة: حَدثنِي مرّة بن خَالِد عَن أبي ذَر، وَعَن معتب البَجلِيّ قَالَ: أصابني شقَاق وَأَنا محرم فَسَأَلت أَبَا جَعْفَر؟ فَقَالَ: ادهنه بِمَا تَأْكُل.
وَكَذَا قَالَه ابْن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وَجَابِر بن زيد وَنَافِع وَالْحسن وَعُرْوَة.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا حَمَّاد عَن فرقد السنجي عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عمر أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يدهن بالزيت عِنْد الْإِحْرَام.
قَالَ الزُّهْرِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث فرقد، وَلَفظه: بالزيت وَهُوَ محرم غير المقتت.
قَالَ أَبُو عِيسَى: المقتت المطيب.
قلت: المقتت، بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَتَشْديد التَّاء الأولى الْمُثَنَّاة من فَوق.

قَوْله: ( يشم) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة على الْأَشْهر، وَحكى ضمهَا، وَذكر فِي ( الفصيح) بِفَتْح الشين فِي الْمُضَارع وَكسرهَا فِي الْمَاضِي، والعامة تَقول: شممت، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي، وَفِي الْمُسْتَقْبل بِالضَّمِّ وَهُوَ خطأ.
وَعَن الْفراء وَابْن الْأَعرَابِي: يُقَال: شممت أَشمّ، شممت أَشمّ وَالْأولَى أفْصح، وَيُقَال فِي مصدره: الشم والشميم وتشممته تشمما.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وَقد جَاءَ فِي مصدره: شميمي على وزن: فعيلي كالخطيطي.
.

     وَقَالَ  ابْن درسْتوَيْه: معنى الشم استنشاق الرَّائِحَة، وَقد يستعار فِي غير ذَلِك فِي كل مَا قَارب شَيْئا أدنى مِنْهُ.
قَوْله: ( ويتداوى بِمَا يَأْكُل) أَي: بِالَّذِي يَأْكُل مِنْهُ قَوْله: ( الزَّيْت وَالسمن) بِالْجَرِّ فيهمَا.
قَالَ الْكرْمَانِي: لِأَنَّهُ بدل أَو بَيَان لما يَأْكُل.
.

     وَقَالَ  ابْن مَالك: بِالْجَرِّ عطف على: مَا، الموصولة فَإِنَّهَا مجرورة بِالْبَاء أَعنِي: فِي قَوْله بِمَا قيل.
وَقع بِالنّصب وَلَيْسَ الْمَعْنى عَلَيْهِ لِأَن الَّذِي يَأْكُل هُوَ الْآكِل لَا الْمَأْكُول.
لَكِن يجوز على الاتساع.
قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التعسف، بل يكون مَنْصُوبًا على تَقْدِير: أَعنِي الزَّيْت وَالسمن، عطف عَلَيْهِ، وَيجوز الرّفْع فيهمَا على أَن يكون الزَّيْت خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ الزَّيْت وَالسمن، عطف عَلَيْهِ.

وَقَالَ عَطَاءٌ يَتَخَتَّمُ ويَلْبَسُ الهِمْيَانَ
عَطاء: ابْن أبي رَبَاح.
قَوْله: ( يتختم) أَي: يلبس الْخَاتم، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة، حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا هِشَام بن الْغَاز عَن عَطاء، قَالَ: لَا بَأْس بالخاتم للْمحرمِ.
وَحدثنَا الْمحَاربي عَن الْعَلَاء عَن عَطاء، قَالَ: لَا بَأْس بالخاتم للْمحرمِ.
وَحدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ، وَعَن ابْن عَبَّاس بِسَنَد صَحِيح: لَا بَأْس بالخاتم للْمحرمِ.
وَعَن أبي الْهَيْثَم عَن النَّخعِيّ وَمُجاهد مثله.
.

     وَقَالَ  خَالِد بن أبي بكر: رَأَيْت سَالم بن عبد الله يلبس خَاتمه وَهُوَ محرم، وَكَذَا قَالَه إِسْمَاعِيل بن عبد الْملك عَن سعيد بن جُبَير.
قَوْله: ( ويلبس الْهِمْيَان) ، بِكَسْر الْهَاء معرَّب، هُوَ شبه تكة السَّرَاوِيل تجْعَل فِيهَا الدَّرَاهِم وتشد على الْوسط.
وَفِي ( المغيث) : قيل هُوَ فعلان من: همى، إِذا سَالَ لِأَنَّهُ إِذا أفرغ همي مَا فِيهِ، وَفسّر ابْن التِّين الْهِمْيَان: بالمنطقة، وَأخرج الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن عَطاء.
رُبمَا ذكره عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا بَأْس بالهميان والخاتم للْمحرمِ.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ وَابْن عدي من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وَإِسْنَاده ضَعِيف.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: وَأجْمع عوام أهل الْعلم على أَن للْمحرمِ أَن يشد الْهِمْيَان على وَسطه.
وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم وَعَطَاء وطاووس وَالنَّخَعِيّ وَهُوَ قَول مَالك والكوفيين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر غير إِسْحَاق فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يعقده وَيدخل السيور بَعْضهَا فِي بعض.
وسئلت عَائِشَة عَن المنطقة، فَقَالَت: أوثق عَلَيْك نَفَقَتك.
.

     وَقَالَ  ابْن علية: قد أَجمعُوا على أَن للْمحرمِ أَن يعْقد الْهِمْيَان والإزار على وَسطه وَكَذَلِكَ المنطقة.
وَقَول إِسْحَاق لَا يعد خلافًا ولاحظ لَهُ فِي النّظر لِأَن الأَصْل النَّهْي عَن لِبَاس الْمخيط وَلَيْسَ هَذَا مثله، فارتفع أَن يكون لَهُ حكمه.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: إِنَّمَا ذَلِك ليَكُون نَفَقَته فِيهَا، وَأما نَفَقَة غَيره فَلَا، وَإِن جعلهَا فِي وَسطه لنفقته ثمَّ نفدت نَفَقَته وَكَانَ مَعهَا وَدِيعَة ردهَا إِلَى صَاحبهَا، فَإِن تَركهَا افتدى، وَإِن كَانَ صَاحبهَا غَابَ بِغَيْر علمه فينفقها وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، ويشد المنطقة من تَحت الثِّيَاب.

وطَافَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وهْوَ محْرِمٌ وقَدْ حَزَمَ عَلَى بطْنِهِ بِثَوْبٍ

الْوَاو فِي: وَهُوَ، وَقد حزم، للْحَال.
أَي: شدّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الشَّافِعِي من طَرِيق طَاوُوس، قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يسْعَى وَقد حزم على بَطْنه بِثَوْب.
وَعَن سعيد عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة أَن نَافِعًا أخبرهُ أَن ابْن عمر لم يكن عقد الثَّوْب عَلَيْهِ، إِنَّمَا غرز طرفه على إزَاره.
وَعَن ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا ابْن فُضَيْل عَن لَيْث عَن عَطاء وطاووس، قَالَا: رَأينَا ابْن عمر وَهُوَ محرم وَقد شدّ حقْوَيْهِ بعمامة.
وَحدثنَا وَكِيع عَن ابْن أبي ذِئْب عَن مُسلم بن جُنْدُب: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: لَا تعقد عَلَيْك شَيْئا وَأَنت محرم، وَحدثنَا ابْن علية عَن هِشَام بن حُجَيْر، قَالَ: رأى طَاوُوس ابْن عمر قد يطوف وَقد شدّ حقْوَيْهِ بعمامة.
وروى الْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه مشَاة، فَقَالَ: اربطوا على أوساطكم مآزركم، وامشوا خلط الهرولة.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : اخْتلف فِي الرِّدَاء الَّذِي يلتحف بِهِ على مِئْزَره، فَكَانَ مَالك لَا يرى عقده وَيلْزمهُ الْفِدْيَة إِن انْتفع بِهِ، وَنهى عَنهُ ابْن عمر وَعَطَاء وَعُرْوَة، وَرخّص فِيهِ سعيد بن الْمسيب، وَكَرِهَهُ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو ثَوْر، وَقَالُوا: لَا بَأْس عَلَيْهِ إِن فعل.
وَحكي عَن مَالك أَنه رخص لِلْعَامِلِ أَن يحزم الثَّوْب على منطقته، وَكَرِهَهُ لغيره.

ولَمْ تَرَ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بالتُّبَّانِ بَأْسا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا
التبَّان، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف نون: وَهُوَ سَرَاوِيل قصير جدا وَهُوَ مِقْدَار شبر سَاتِر للعورة الغليظة فَقَط، وَيكون للملاحين والمصارعين قَوْله: ( يرحلون) بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول: رحلت الْبَعِير أرحله، بِفَتْح أَوله، رحلاً، إِذا شددت على ظَهره الرحل.
قَوْله: ( هودجها) ، بِفَتْح الْهَاء وبالجيم، وَهُوَ مركب من مراكب النِّسَاء مقتب وَغير مقتب، وَتَعْلِيق عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنَّهَا حجت وَمَعَهَا غلْمَان لَهَا، وَكَانُوا إِذا شدوا رَحلهَا يَبْدُو مِنْهُم الشَّيْء، فَأَمَرتهمْ أَن يتخذوا التبابُين فيلبسوها وهم محرمون.
وَأخرجه من وَجه آخر مُخْتَصرا بِلَفْظ: يشدون هودجها، وَفِي هَذَا رد على ابْن التِّين فِي قَوْله: أَرَادَت النِّسَاء، لِأَنَّهُنَّ يلبسن الْمخيط بِخِلَاف الرِّجَال، وَكَأن هَذَا رَأْي رَأَتْهُ عَائِشَة وإلاَّ فالأكثر على أَنه لَا فرق بَين التبَّان والسراويل فِي مَنعه للْمحرمِ.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : التبَّان لبسه حرَام عندنَا كالقميص والدراعة والخف وَنَحْوهَا، فَإِن لبس شَيْئا من ذَلِك مُخْتَارًا عَامِدًا أَثم وأزاله وافتدى، سَوَاء قصر الزَّمَان أَو طَال.



[ قــ :1475 ... غــ :1537 ]
- حدَّثنا محَمَّدُ بنُ يُوسُفُ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ فذَكَرْتُهُ لإبْرَاهِيمَ قَالَ مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ.
حدَّثني الأسْوَدُ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كأنِّي أنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْوَ مُحْرِمٌ.
[/ نه
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن وبيص هَذَا الطّيب كَانَ من الطّيب الَّذِي تطيب بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام.

ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة كلهم قد ذكرُوا، وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ وَالْأسود هُوَ ابْن زيد، وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم كوفيون مَا خلا ابْن عمر.

ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح الْبَزَّار.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله المخرمي.
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من ثَمَانِيَة عشر طَرِيقا عَن الْأسود عَن عَائِشَة مثل رِوَايَة البُخَارِيّ، غير أَن لَفظه: فِي مفرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْأسود عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنَّهَا كَانَت تطيب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأطيب مَا تَجِد من الطّيب، قَالَت: حَتَّى أرى وبيض الطّيب فِي رَأسه ولحيته.
وَعَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأطيب مَا أجد.
وَعَن الْقَاسِم عَنْهَا، قَالَت: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بيَدي لإحرامه قبل أَن يحرم.
وَعَن ابْن عمر عَنْهَا، قَالَت: كنت أطيب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالغالية الجيدة عِنْد إِحْرَامه.
وَعَن الْقَاسِم عَنْهَا، قَالَت: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لحرمه حِين أحرم.
وَعَن عَطاء، عَنْهَا: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْحلّ وَالْإِحْرَام.
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَائِشَة، قَالَت: طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن يحرم، وَيَوْم النَّحْر قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ بِطيب فِيهِ مسك.
وروى ابْن أبي شيبَة عَن شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود عَنْهَا: كَانَ يتطيب قبل أَن يحرم فَيرى أثر الطّيب فِي مفرقه بعد ذَلِك بِثَلَاث.
وروى أَيْضا عَن ابْن فُضَيْل عَن عَطاء بن السَّائِب عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَنْهَا: ( رَأَيْت وبيص الطّيب فِي مفارق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ثَلَاث وَهُوَ محرم) وَعند النَّسَائِيّ: ( بعد ثَلَاث وَهُوَ محرم) ، وَفِي أُخْرَى: ( فِي أصُول شعره) ، وَفِي لفظ: ( إِذا أَرَادَ أَن يحرم ادَّهن بأطيب دهن يجده حَتَّى أرى وبيصه فِي رَأسه ولحيته) .
وَعند الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عقيل عَن عُرْوَة عَنْهَا: ( كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا أَرَادَ أَن يحرم غسل رَأسه بخطمي وأشنان ودهنه بِزَيْت غير كثير) .
وَفِي ( مُسْند أبي مُحَمَّد الدَّارمِيّ) : ( طيبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لحرمه وطيبته بمنى قبل أَن يفِيض) .
وَعند أبي عَليّ الطوسي: ( طيبته قبل أَن يحرم وَيَوْم النَّحْر قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ بِطيب فِيهِ مسك) .

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( يدهن بالزيت) أَي: عِنْد الْإِحْرَام بِشَرْط أَن لَا يكون مطيبا.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي.
( يدهن بالزيت) أَي: لَا يتطيب.
وَتقدم فِي: بابُُ من تطيب، فِي كتاب الْغسْل أَن ابْن عمر قَالَ: مَا أحب أَن أصبح محرما أنضح طيبا.
قَوْله: ( فَذَكرته) أَي: قَالَ مَنْصُور: ذكرت امْتنَاع ابْن عمر من التَّطَيُّب لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ.
قَوْله: ( مَا تصنع بقوله؟) أَي: بقول ابْن عمر، أَي: مَاذَا تصنع بقوله حَيْثُ ثَبت مَا يُنَافِيهِ من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يجوز أَن يكون الضَّمِير فِي: بقوله، عَائِدًا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: هَذَا فعل الرَّسُول وَتَقْرِيره لَا قَوْله قلت: فعله فِي بَيَان الْجَوَاز، كَقَوْلِه.
قَوْله: ( كَأَنِّي أنظر) أَرَادَت بذلك قُوَّة تحققها لذَلِك، بِحَيْثُ أَنَّهَا لشدَّة استحضارها لَهُ كَأَنَّهَا ناظرة إِلَيْهِ.
قَوْله: ( إِلَى وبيص) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة، وَهُوَ: البريق، وَالْمرَاد: أثر الطّيب لَا جرمه.
.

     وَقَالَ  الْإِسْمَاعِيلِيّ: الوبيص زِيَادَة على البريق، وَالْمرَاد بِهِ: التلألؤ، وَهُوَ يدل على وجود عين قَائِمَة، لَا الرِّبْح فَقَط.
قَوْله: ( فِي مفارق) جمع: مفرق، وَهُوَ وسط الرَّأْس، وَإِنَّمَا جمع تعميما لجوانب الرَّأْس الَّتِي يفرق فِيهَا.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: قَوْلهم للمفرق مفارق كَأَنَّهُمْ جعلُوا كل مَوضِع مِنْهُ مفرقا.
قَوْله: ( وَهُوَ محرم) ، الْوَاو فِي للْحَال.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَزفر فِي أَن الْمحرم إِذا تطيب قبل إِحْرَامه بِمَا شَاءَ الطّيب مسكا كَانَ أَو غَيره، فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِهِ، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ مِمَّا يبْقى عَلَيْهِ بعد إِحْرَامه أَو لَا وَلَا يضرّهُ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَأحمد وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ قَول عَائِشَة راوية الحَدِيث، وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير، وَابْن جَعْفَر وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَجَمَاعَة من التَّابِعين بالحجاز وَالْعراق، وَفِي ( شرح الْمُهَذّب) : استحبه عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام مُعَاوِيَة وَأم حَبِيبَة وَابْن الْمُنْذر وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَنَقله ابْن أبي شيبَة عَن عُرْوَة بن الزبير عمر بن عبد الْعَزِيز وَإِبْرَاهِيم فِي رِوَايَة، وَذكره ابْن حزم عَن الْبَراء بن عَازِب وَأنس بن مَالك وَأبي ذَر وَالْحُسَيْن بن عَليّ وَابْن الْحَنَفِيَّة وَالْأسود وَالقَاسِم وَسَالم وَهِشَام بن عُرْوَة وخارجة بن زيد وَابْن جريج.
.

     وَقَالَ  آخَرُونَ، مِنْهُم عَطاء وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَابْن سِيرِين وَالْحسن: لَا يجوز أَن يتطيب الْمحرم قبل إِحْرَامه بِمَا يبْقى عَلَيْهِ رَائِحَته بعد الْإِحْرَام، وَإِذا أحرم حرم عَلَيْهِ الطّيب حَتَّى يطوف بِالْبَيْتِ، وَإِلَيْهِ ذهب مُحَمَّد بن الْحسن، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وَهَذَا مَذْهَب عمر وَعُثْمَان وَابْن عمر وَعُثْمَان بن الْعَاصِ.
.

     وَقَالَ  الطرطوشي: يكره الطّيب الْمُؤَنَّث كالمسك والزعفران والكافور والغالية وَالْعود وَنَحْوهَا، فَإِن تطيب وَأحرم بِهِ فَعَلَيهِ الْفِدْيَة، فَإِن أكل طَعَاما فِيهِ طيب، فَإِن كَانَت النَّار مسته فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن لم تمسه النَّار فَفِيهِ وَجْهَان، وَأما غير الْمُؤَنَّث مثل الرياحين والياسمين والورد فَلَيْسَ من ذَلِك وَلَا فديَة فِيهِ أصلا، وَالطّيب الْمُؤَنَّث طيب النِّسَاء: كالخلوق والزعفران، قَالَه شمر.
وَأما شم الريحان فَفِي ( شرح الْمُهَذّب) : الريحان الْفَارِسِي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: يجوز شمها لما رُوِيَ عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه سُئِلَ عَن الْمحرم يدْخل الْبُسْتَان قَالَ: نعم ويشم الريحان.
وَالثَّانِي: لَا يجوز لِأَنَّهُ يُرَاد للرائحة، فَهُوَ كالورد والزعفران، وَالأَصَح تَحْرِيم شمها وَوُجُوب الْفِدْيَة، وَبِه قَالَ ابْن عمر وَجَابِر وَالثَّوْري وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو ثَوْر إلاَّ أَن أَبَا حنيفَة ومالكا يَقُولَانِ: يحرم وَلَا فديَة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر وَاخْتلف فِي الْفِدْيَة عَن عَطاء وَأحمد، وَمِمَّنْ جوزه.

     وَقَالَ : هُوَ حَلَال وَلَا فديَة فِيهِ عُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَمُجاهد وَإِسْحَاق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ الْعَبدَرِي: وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء، وَفِي ( التَّوْضِيح) : الْحِنَّاء عندنَا لَيْسَ طيبا، خلافًا لأبي حنيفَة، وَعند مَالك وَأحمد: فِيهِ الْفِدْيَة.
.

     وَقَالَ ت عَائِشَة: وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكره رِيحه، أخرجه ابْن أبي عَاصِم فِي ( كتاب الخضاب) وَكَانَ يحب الطّيب فَلَو كَانَ طيبا لم يكرههُ.
قلت: روى أَبُو يعلى فِي ( مُسْنده) عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: اختضبوا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ طيب الرّيح يسكن الدوخة.
وَأما الطّيب بعد رمي الْجَمْرَة فقد رخص فِيهِ ابْن عَبَّاس وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن الزبير وَعَائِشَة وَابْن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وخارجة بن زيد، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَكَرِهَهُ سَالم وَمَالك،.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم: وَلَا فديَة لما جَاءَ فِي ذَلِك، وَلما كَانَ الطَّحَاوِيّ مَعَ مُحَمَّد بن الْحسن فِيمَا ذهب إِلَيْهِ أجَاب عَن حَدِيث الْبابُُ الَّذِي احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَآخَرُونَ، فَقَالَ: وَكَانَ من الْحجَّة لَهُ أَي: لمُحَمد بن الْحسن فِي ذَلِك أَن مَا ذكر فِي حَدِيث عَائِشَة من تطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْإِحْرَام إِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا كَانَت تطيبه إِذا أَرَادَ أَن يحرم، فقد يجوز أَن يكون كَانَت تفعل ذَلِك بِهِ ثمَّ يغْتَسل إِذا أَرَادَ أَن يحرم فَيذْهب بِغسْلِهِ عَنهُ مَا كَانَ على بدنه من طيب وَيبقى فِيهِ رِيحه.
وَادّعى ابْن الْقصار والمهلب: أَنه كَانَ من خواصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد الْمُهلب معنى آخر: أَنه خص بِهِ لمباشرته الْمَلَائِكَة بِالْوَحْي وَغَيره، وَقد ذَكرْنَاهُ.





[ قــ :1476 ... غــ :1539 ]
-
حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحمان بنِ القَاسمِ عنْ أبيهِ عنْ عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ كُنت أطَيِّبُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِحرَامهِ حِينَ يُحْرَمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلِ أنْ يَطوفَ بِالبَيْتِ..
وَهَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَائِشَة.
.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: حَدِيث عَائِشَة هَذَا صَحِيح ثَابت لَا يخْتَلف أهل الْعلم فِي صِحَّته وثبوته، وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة من وُجُوه.
قلت: قد ذكرنَا أَن الطَّحَاوِيّ أخرجه من ثَمَانِيَة عشر طَرِيقا.
قَوْله: ( لإحرامه) أَي: لأجل إِحْرَامه، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ ( حِين أَرَادَ أَن يحرم) .
قَوْله: ( ولحله) أَي: ولتحلله من مَحْظُورَات الْإِحْرَام، وَذَلِكَ بعد أَن يَرْمِي ويحلق.
وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ عَن قريب.

وَقيل: اسْتدلَّ بقول عَائِشَة: كنت أطيب ... ، على أَن: كَانَ، لَا تَقْتَضِي التّكْرَار لِأَنَّهَا لم يَقع ذَلِك مِنْهَا إلاَّ مرّة وَاحِدَة، وَقد صرحت فِي رِوَايَة عُرْوَة عَنْهَا بِأَن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وَكَذَا اسْتدلَّ بِهِ النَّوَوِيّ فِي ( شرح مُسلم) وَاعْترض بِأَن الْمُدعى تكراره إِنَّمَا هُوَ التَّطَيُّب لَا الْإِحْرَام، وَلَا مَانع من أَن يتَكَرَّر التَّطَيُّب لأجل الْإِحْرَام مَعَ كَون الْإِحْرَام مرّة وَاحِدَة.
.

     وَقَالَ  الإِمَام فَخر الدّين: إِن: كَانَ، لَا تَقْتَضِي التّكْرَار وَلَا الِاسْتِمْرَار، وَجزم ابْن الْحَاجِب بِأَنَّهَا تَقْتَضِيه.
.

     وَقَالَ  بعض الْمُحَقِّقين، تَقْتَضِي التّكْرَار، وَلَكِن قد تقع قرينَة تدل على عَدمه.
قلت: كَانَ، تَقْتَضِي الِاسْتِمْرَار بِخِلَاف: صَار، وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال فِي مَوضِع: كَانَ الله، أَن يُقَال.
صَار.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَذَا اللَّفْظ يَعْنِي لفظ: كنت، فِي قَول عَائِشَة: كنت أطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم تتفق الروَاة عَنْهَا عَلَيْهَا، فَسَيَأْتِي للْبُخَارِيّ من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم شيخ مَالك فِيهِ هُنَا بِلَفْظ: طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسَائِر الطّرق لَيْسَ فِيهَا صِيغَة: كَانَ.
قلت: فِي رِوَايَة مُسلم عَن الْأسود عَن عَائِشَة: إِنِّي كنت لأنظر إِلَى وبيص الطّيب، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: عَن عُرْوَة عَنْهَا، قَالَت: كنت أطيب ... وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن ابْن عمر عَنْهَا قَالَت كنت أطيب وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ أَيْضا: عَن الْأسود عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَت تطيب ... رَوَاهَا من طَرِيق الْفرْيَابِيّ عَن مَالك بن مغول عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَنْهَا، وَكَذَا روى من طَرِيق إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْأسود عَن أَبِيه عَنْهَا: كَانَت تطيب، وَهَذَا الْقَائِل كَأَنَّهُ لم يطلع على هَذِه الرِّوَايَات، فَلهَذَا ادّعى بقوله: وَسَائِر الطّرق لَيْسَ فِيهَا صِيغَة: كَانَ، وَهَذِه الَّتِي ذَكرنَاهَا فِيهَا صِيغَة: كَانَ وَكنت.

وَفِيه: اسْتِحْبابُُ التَّطَيُّب عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام وَجَوَاز استدامته بعد الْإِحْرَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ مفصلا، وَعَن مَالك: يحرم، وَعنهُ فِي وجوب الْفِدْيَة قَولَانِ.

واحتجت الْمَالِكِيَّة فِيهِ بأَشْيَاء: مِنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل بعد أَن تطيب كَمَا فِي حَدِيث إِبْرَاهِيم بن الْمُنْتَشِر الَّذِي تقدم فِي الْغسْل، ثمَّ طَاف على نِسَائِهِ ثمَّ أصبح محرما، وَالْمرَاد من الطّواف: الْجِمَاع، وَكَانَ من عَادَته أَن يغْتَسل عِنْد كل وَاحِدَة، فالضرورة ذهَاب أثر الطّيب، ورد هَذَا بِحَدِيث: ثمَّ أصبح محرما ينضح طيبا، وَهَذَا لَا يشك أَن: نضح الطّيب، وَهُوَ رَائِحَته كَانَ فِي حَال إِحْرَامه.
فَإِن قلت: إِن فِيهِ تَقْدِيمًا وتأخيرا، وَالتَّقْدِير: طَاف على نِسَائِهِ ينضح طيبا، ثمَّ أصبح محرما؟ قلت: هَذَا خلاف الظَّاهِر: وَيَردهُ أَيْضا مَا فِي رِوَايَة مُسلم: كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يحرم يتطيب بأطيب مَا يجد، ثمَّ أرَاهُ فِي رَأسه ولحيته بعد ذَلِك، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن حبَان: رَأَيْت الطّيب فِي مفرقه بعد ثَلَاث، وَهُوَ محرم، فَإِن قلت: كَانَ الوبيص بقايا الدّهن المطيب فَزَالَ وَبَقِي أَثَره من غير رَائِحَة؟ قلت: قَول عَائِشَة: ينضح طيبا، يرد هَذَا.
فَإِن قلت: بَقِي أَثَره لَا عينه؟ قلت: لَيْسَ فِي شَيْء من طرق حَدِيث عَائِشَة أَن عينه بقيت، قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ.
قلت: قد روى أَبُو دَاوُد وَابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَائِشَة بنت طَلْحَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: كُنَّا نضمخ وُجُوهنَا بالمسك المطيب قبل أَن نحرم، ثمَّ نحرم فتعرق فيسيل على وُجُوهنَا، وَنحن مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا ينهانا.
وَفِي رِوَايَة: كُنَّا نخرج مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عِنْد الْإِحْرَام فَإِذا عرقت إحدانا سَالَ على وُجُوهنَا فيراه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا ينهانا فَهَذَا صَرِيح فِي بَقَاء عين الطّيب.
فَإِن قلت: هَذَا خَاص بِالنسَاء؟ قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن النِّسَاء وَالرِّجَال سَوَاء فِي تَحْرِيم اسْتِعْمَال الطّيب، إِذا كَانُوا محرمين.
فَإِن قلت: كَانَ ذَلِك الطّيب لَا رَائِحَة لَهُ، دلّ عَلَيْهِ رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: بِطيب لَا يشبه طيبكم، قَالَ بعض رُوَاته: يَعْنِي لَا بَقَاء لَهُ، أخرجه النَّسَائِيّ قلت: يرد هَذَا مَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة مَنْصُور بن زادان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم: بِطيب فِيهِ مسك، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن عَائِشَة: بالغالية الجيدة، كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَهَذَا يدل على أَن معنى قَوْلهَا: بِطيب لَا يشبه طيبكم: أطيب من طيبكم، لَا كَمَا فهمه بعض رُوَاته.
وَمِنْهَا: أَنهم ادعوا أَن هَذَا من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أجبنا عَن ذَلِك عَن قريب.
وَمِنْهَا: مَا قَالَه بَعضهم: بِأَن عمل أهل الْمَدِينَة على خِلَافه، ورد بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام: أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك لما حج جمع نَاسا من أهل مَكَّة مِنْهُم الْقَاسِم بن مُحَمَّد وخارجة بن زيد وَسَالم وَعبد الله ابْنا عبد الله بن عمر وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث فَسَأَلَهُمْ عَن الطّيب قبل الْإِفَاضَة، فكلهم أَمرُوهُ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة من التَّابِعين قد اتَّفقُوا على ذَلِك، فَكيف يَدعِي مَعَ ذَلِك الْعَمَل على خِلَافه؟ وَفِيه: الدّلَالَة على حل الطّيب وَغَيره من مُحرمَات الْإِحْرَام بعد رمي جَمْرَة الْعقبَة، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.