فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الجمعة في القرى والمدن

(بابُُ الجُمُعَةِ فِي القُرَى وَالمُدْنِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم صَلَاة الْجُمُعَة فِي الْقرى والمدن، والقرى جمع قَرْيَة على غير قِيَاس، قَالَ الْجَوْهَرِي: لِأَن مَا كَانَ على فعلة، بِفَتْح الْفَاء من المعتل، فَجَمعه مَمْدُود مثل: ركوة وركاء، وظبية وظباء، فجَاء الْقرى مُخَالفا لبابُه لَا يُقَاس عَلَيْهِ.
وَيُقَال الْقرْيَة لُغَة يَمَانِية، ولعلها جمعت على ذَلِك مثل لحية ولحى، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: قروي.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: الْقرْيَة من المساكن والأبنية والضياع، وَقد تطلق على المدن.
.

     وَقَالَ  صَاحب (الْمطَالع) : الْقرْيَة الْمَدِينَة وكل مَدِينَة قَرْيَة لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهَا، من: قريت المَاء فِي الْحَوْض أَي: جمعته، والمدن، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الدَّال: جمع مَدِينَة، وَتجمع أَيْضا على مَدَائِن بِالْهَمْزَةِ، وَقد تضم الدَّال.
واشتقاقها من: مدن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ، وَيُقَال: وَزنهَا فعيلة إِذا كَانَت من مدن إِذا أَقَامَ، ومفعلة إِذا كَانَت من: دنت، أَي: ملكت، وَفُلَان مدَّن الْمَدَائِن كَمَا يُقَال مصَّر الْأَمْصَار.
وَسُئِلَ أَبُو عَليّ الْفَسَوِي عَن همز مَدَائِن، فَقَالَ: إِن كَانَت من: مدن، تهمز، وَإِن كَانَت من: دين، أَي: ملك، لَا تهمز، وَإِذا نسبت إِلَى مَدِينَة الرَّسُول قلت: مدنِي، وَالِي مَدِينَة مَنْصُور: مديني، وَإِلَى مَدَائِن كسْرَى، قلت: مدائني، للْفرق بَين النّسَب لِئَلَّا يخْتَلط.



[ قــ :866 ... غــ :892 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قالَ حدَّثَنَا أبُو عَامرً العَقَدِيُّ قالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ عنْ أبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِي عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قالَ إنَّ أوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْجِدِ عَبْدِ القَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ البَحْرَيْنِ.
(الحَدِيث 892 طرفه فِي: 4371) .


مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة إِنَّمَا تتجه إِذا كَانَ المُرَاد من: جواثى، أَنَّهَا تكون قَرْيَة من قرى الْبَحْرين، وَأما إِذا كَانَ: جواثى، اسْم مَدِينَة فالتطابق يكون للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة، وسنحقق الْكَلَام فِيمَا يتَعَلَّق بجواثى.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِلَفْظ الْمَفْعُول من التَّثْنِيَة بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَقد مر فِي: بابُُ حلاوة الْإِيمَان.
الثَّانِي: أَبُو عَامر الْعَقدي واسْمه: عبد الْملك بن عَمْرو، والعقدي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف: نِسْبَة إِلَى العقد، قوم من قيس وهم صنف من الأزد، مر فِي: بابُُ أُمُور الْإِيمَان.
الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة، مر فِي: بابُُ الْقِسْمَة وَتَعْلِيق القنو فِي الْمَسْجِد.
الرَّابِع: أَبُو جَمْرَة، بِفَتْح الْجِيم، واسْمه: نصر بن عمرَان، والضبعي، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى ضبيعة، أَبُو حَيّ من بكر بن وَائِل.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن الْأَوَّلين من الروَاة بصريان وَالثَّالِث هروي وَالرَّابِع بَصرِي.
وَفِيه: عَن ابْن عَبَّاس، هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ من أَصْحَاب إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَنهُ، وَخَالفهُم الْمعَافي بن عمرَان فَقَالَ: عَن ابْن طهْمَان عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه النَّسَائِيّ: قَالُوا: إِنَّه خطأ من الْمعَافي، على أَنه يحْتَمل أَن يكون لإِبْرَاهِيم فِيهِ إسنادان.

والْحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَأخرج أَبُو دَاوُد،.

     وَقَالَ : حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد الله المخرمي لَفظه، قَالَا: حَدثنَا وَكِيع عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن أبي جَمْرَة (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِن أول جُمُعَة جمعت فِي الْإِسْلَام بعد جُمُعَة جمعت فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ لجمعة جمعت بجواثى) ، قَرْيَة من قرى الْبَحْرين.
قَالَ عُثْمَان: قَرْيَة من قرى عبد الْقَيْس.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جمعت) ، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم، وَيُقَال: جمع الْقَوْم تجميعا أَي: شهدُوا الْجُمُعَة وقضوا الصَّلَاة فِيهَا.
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (جمعت فِي الْإِسْلَام) ، كَمَا ذكرنَا الْآن.
قَوْله: (بعد جُمُعَة) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي أَوَاخِر الْمَغَازِي: (بعد جُمُعَة جمعت) .
قَوْله: (فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة وَكِيع: بِالْمَدِينَةِ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمعَافي: بِمَكَّة، وَهُوَ خطأ بِلَا نزاع.
قَوْله: (فِي مَسْجِد عبد الْقَيْس) ، هُوَ علم لقبيلة كَانُوا ينزلون بِالْبَحْرَيْنِ، وَهُوَ مَوضِع قريب من بَحر عمان بِقرب القطيف والأحساء.
قَوْله: (بجواثى) ، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْوَاو وبالثاء الْمُثَلَّثَة وبالقصر، وَمِنْهُم من يهمزها، وَهِي قَرْيَة من قرى الْبَحْرين، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة وَكِيع كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن أبي دَاوُد، وَفِي رِوَايَة عُثْمَان شيخ أبي دَاوُد: قَرْيَة من قرى عبد الْقَيْس، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة عَن ابْن طهْمَان، وَحكى ابْن التِّين عَن الشَّيْخ أبي الْحسن: أَنَّهَا مَدِينَة.
وَفِي (الصِّحَاح) للجوهري و (الْبلدَانِ) للزمخشري: جواثى: حصن بِالْبَحْرَيْنِ.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: وَهِي مَدِينَة بِالْبَحْرَيْنِ لعبد الْقَيْس، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(ورحنا كأنا من جواثى عَشِيَّة ... نعالى النعاج بَين عدل ومحقب)

يُرِيد كأنا من تجار جواثى، لِكَثْرَة مَا مَعَهم من الصَّيْد، وَأَرَادَ كَثْرَة أَمْتعَة تجار جواثى.
قلت: كَثْرَة الْأَمْتِعَة تدل غَالِبا على كَثْرَة التُّجَّار، وَكَثْرَة التُّجَّار تدل على أَن جواثى مَدِينَة قطعا، لِأَن الْقرْيَة لَا يكون فِيهَا تجار كَثِيرُونَ غَالِبا عَادَة.
فَإِن قلت: قد يُطلق على الْمَدِينَة اسْم قَرْيَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى , { لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم} (الزخرف: 31) .
يَعْنِي: مَكَّة والطائف، قلت: إِطْلَاق لفظ: الْقرْيَة، على الْمَدِينَة بِاعْتِبَار الْمَعْنى اللّغَوِيّ، وَلَا يخرج ذَلِك عَن كَونه مَدِينَة فَلَا يتم اسْتِدْلَال من يُجِيز الْجُمُعَة فِي الْقرى بِهَذَا الْوَجْه، كَمَا سَنذكرُهُ مُسْتَوفى عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: استدلت الشَّافِعِيَّة بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْجُمُعَة تُقَام فِي الْقرْيَة إِذا كَانَ فِيهَا أَرْبَعُونَ رجلا أحرارا مقيمين، حَتَّى قَالَ الْبَيْهَقِيّ: بابُُ الْعدَد الَّذين إِذا حَضَرُوا فِي قَرْيَة وَجَبت عَلَيْهِم، ثمَّ ذكر فِيهِ إِقَامَة الْجُمُعَة بجواثى.
قُلْنَا: لَا نسلم أَنَّهَا قَرْيَة، بل هِيَ مَدِينَة كَمَا حكينا عَن الْبكْرِيّ وَغَيره، حَتَّى قيل: كَانَ يسكن فِيهَا فَوق أَرْبَعَة آلَاف نفس، والقرية لَا تكون كَذَلِك، وَإِطْلَاق الْقرْيَة عَلَيْهَا من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا قَرْيَة فَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اطلع على ذَلِك وأقرهم عَلَيْهِ، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْموضع الَّذِي تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة، فَقَالَ مَالك: كل قَرْيَة فِيهَا مَسْجِد أَو سوق فالجمعة وَاجِبَة على أَهلهَا، وَلَا يجب على أهل العمود وَإِن كَثُرُوا لأَنهم فِي حكم الْمُسَافِرين.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي وَأحمد: كل قَرْيَة فِيهَا أَرْبَعُونَ رجلا أحرارا بالغين عقلاء مقيمين بهَا لَا يظعنون عَنْهَا صيفا وَلَا شتاءً إلاّ ظعن حَاجَة، فالجمعة وَاجِبَة عَلَيْهِم، وَسَوَاء كَانَ الْبناء من حجر أَو خشب أَو طين أَو قصب أَو غَيرهَا، بِشَرْط أَن تكون الْأَبْنِيَة مجتمعة، فَإِن كَانَت مُتَفَرِّقَة لم تصح، وَأما أهل الْخيام فَإِن كَانُوا ينتقلون من موضعهم شتاءً أَو صيفا لم تصح الْجُمُعَة بِلَا خلاف، وَإِن كَانُوا دائمين فِيهَا شتاءً وصيفا وَهِي مجتمعة بَعْضهَا إِلَى بعض فَفِيهِ قَولَانِ: أصَحهمَا: لَا تجب عَلَيْهِم الْجُمُعَة وَلَا تصح مِنْهُم، وَبِه قَالَ مَالك.
وَالثَّانِي: تجب عَلَيْهِم وَتَصِح مِنْهُم، وَبِه قَالَ أَحْمد وَدَاوُد: وَمذهب أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تصح الْجُمُعَة إلاّ فِي مصر جَامع أَو فِي مصلى الْمصر، وَلَا تجوز فِي الْقرى، وَتجوز فِي منى إِذا كَانَ الْأَمِير أَمِير الْحَاج، أَو كَانَ الْخَلِيفَة مُسَافِرًا.
.

     وَقَالَ  مُحَمَّد: لَا جُمُعَة بمنى وَلَا تصح بِعَرَفَات فِي قَوْلهم جَمِيعًا.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي كِتَابه (الْأَحْكَام) : اتّفق فُقَهَاء الْأَمْصَار على أَن الْجُمُعَة مَخْصُوصَة بِموضع لَا يجوز فعلهَا فِي غَيره لأَنهم مجتمعون على أَنَّهَا لَا تجوز فِي الْبَوَادِي، ومناهل الْأَعْرَاب، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يرى على أهل المناهل والمياه أَنهم يجمعُونَ.

ثمَّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِي الْمصر الَّذِي تجوز فِيهِ الْجُمُعَة، فَعَن أبي يُوسُف: هُوَ كل مَوضِع يكون فِيهِ كل محترف، وَيُوجد فِيهِ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ النَّاس من مَعَايشهمْ عَادَة، وَبِه قَاض يُقيم الْحُدُود.
وَقيل: إِذا بلغ سكانه عشرَة آلَاف، وَقيل: عشرَة آلَاف مقَاتل، وَقيل: بِحَيْثُ أَن لَو قصدهم عَدو لأمكنهم دَفعه، وَقيل: كل مَوضِع فِيهِ أَمِير وقاض يُقيم الْحُدُود، وَقيل: أَن لَو اجْتَمعُوا إِلَى أكبر مَسَاجِدهمْ لم يسعهم، وَقيل: أَن يكون بِحَال يعِيش كل محترف بحرفته من سنة إِلَى سنة من غير أَن يشْتَغل بحرفة أُخْرَى، وَعَن مُحَمَّد: مَوضِع مصرة الإِمَام فَهُوَ مصر حَتَّى إِنَّه لَو بعث إِلَى قَرْيَة نَائِبا لإِقَامَة الْحُدُود وَالْقصاص تصير مصرا، فَإِذا عز لَهُ وَدعَاهُ يلْحق بالقرى، ثمَّ اسْتدلَّ أَبُو حنيفَة على أَنَّهَا لَا تجوز فِي الْقرى بِمَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) ؛ أخبرنَا معمر عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق إلاّ فِي مصر جَامع) ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن حجاج عَن أبي إِسْحَاق عَن الْحَارِث، (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق وَلَا صَلَاة فطر وَلَا أضحى إلاّ فِي مصر جَامع أَو مَدِينَة عَظِيمَة) ، وروى أَيْضا بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا جرير عَن مَنْصُور عَن طَلْحَة عَن سعد بن عُبَيْدَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن أَنه قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق إلاّ فِي مصر جَامع) .
فَإِن قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: حَدِيث عَليّ ضَعِيف مُتَّفق على ضعفه، وَهُوَ مَوْقُوف عَلَيْهِ بِسَنَد ضَعِيف مُنْقَطع؟ قلت: كَأَنَّهُ لم يطلع إلاّ على الْأَثر الَّذِي فِيهِ الْحجَّاج بن أَرْطَاة، وَلم يطلع على طَرِيق جرير عَن مَنْصُور، فَإِنَّهُ سَنَد صَحِيح، وَلَو اطلع لم يقل بِمَا قَالَه، وَأما قَوْله: مُتَّفق على ضعفه، فَزِيَادَة من عِنْده، وَلَا يدْرِي من سلفه فِي ذَلِك، على أَن أَبَا زيد زعم فِي (الْأَسْرَار) : أَن مُحَمَّد بن الْحسن قَالَ: رَوَاهُ مَرْفُوعا معَاذ وسراقة بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
فَإِن قلت: فِي (سنَن سعيد بن مَنْصُور) : عَن أبي هُرَيْرَة أَنهم كتبُوا إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تبَارك وَتَعَالَى عَنهُ، من الْبَحْرين يسألونه عَن الْجُمُعَة، فَيكْتب إِلَيْهِم: إجمعوا حَيْثُ مَا كُنْتُم.
وَذكره ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح بِلَفْظ: جمعُوا، وَفِي (الْمعرفَة) أَن أَبَا هُرَيْرَة هُوَ السَّائِل، وَحسن سَنَده، وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن الزُّهْرِيّ، عَن أم عبد الله الدوسية، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْجُمُعَة وَاجِبَة على أهل كل قَرْيَة فِيهَا إِمَام وَإِن لم يَكُونُوا إِلَّا أَرْبَعَة) .
وَزَاد أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ: حَتَّى ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة، وَفِي (المُصَنّف) : (عَن مَالك: كَانَ أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذِه الْمِيَاه بَين مَكَّة وَالْمَدينَة يجمعُونَ) .
وروى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا ابْن إِدْرِيس عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن أبي أُمَامَة بن سهل عَن أَبِيه عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك، وَكَانَ قَائِد أَبِيه بَعْدَمَا ذهب بَصَره، عَن أَبِيه عَن كَعْب بن مَالك أَنه: كَانَ إِذا سمع النداء يَوْم الْجُمُعَة ترحم لأسعد بن زُرَارَة، فَقلت لَهُ: إِذا سَمِعت النداء ترحمت لأسعد ابْن زُرَارَة؟ قَالَ: لِأَن أول من جمع بِنَا فِي هزم النبيت من حرَّة بني بياضة فِي نَقِيع يُقَال لَهُ: نَقِيع الْخضمات، قلت: كم أَنْتُم يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ) .
وَأخرجه أَيْضا ابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِيّ، وَزَاد: قبل مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِي (الْمعرفَة) : قَالَ الزُّهْرِيّ: لما بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصعب بن عُمَيْر إِلَى الْمَدِينَة ليقرئهم الْقُرْآن جمع بهم وهم اثْنَا عشر رجلا، فَكَانَ مُصعب أول من جمع الْجُمُعَة بِالْمَدِينَةِ بِالْمُسْلِمين قبل أَن يقدمهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: يُرِيد الاثنا عشر النُّقَبَاء الَّذين خَرجُوا بِهِ إِلَى الْمَدِينَة وَكَانُوا لَهُ ظهيرا.
وَفِي حَدِيث كَعْب: جمع بهم أسعد وهم أَرْبَعُونَ، وَهُوَ يُرِيد جَمِيع من صلى مَعَه مِمَّن أسلم من أهل الْمَدِينَة مَعَ النُّقَبَاء، وَعَن جَعْفَر بن برْقَان، قَالَ: كتب عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى عدي بن عدي.
وَأما أهل قَرْيَة لَيْسُوا بِأَهْل عَمُود فأمِّر عَلَيْهِم أَمِيرا يجمع بهم.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ قلت: الْجَواب عَن الأول مَعْنَاهُ: جمعُوا حَيْثُ مَا كُنْتُم من الْأَمْصَار، أَلا ترى أَنَّهَا لَا تجوز فِي البراري؟ وَعَن الثَّانِي: أَن رُوَاته كلهم عَن الزُّهْرِيّ متروكون، وَلَا يَصح سَماع الزُّهْرِيّ من الدوسية.
وَعَن الثَّالِث: أَنه لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على وجوب الْجُمُعَة على أهل الْقرى.
وَعَن الرَّابِع: أَن فِيهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق، فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْحفاظ يتوقون مَا ينْفَرد بِهِ ابْن إِسْحَاق، وَهنا قد تفرد بِهِ، وَالْعجب مِنْهُ تَصْحِيحه هَذَا الحَدِيث، وَالْحَال أَنه كَانَ يتَكَلَّم فِي ابْن إِسْحَاق بأنواع الْكَلَام.
فَإِن قلت: قَالَ الْحَاكِم: إِنَّه على شَرط مُسلم.
قلت: لَيْسَ كَمَا قَالَ، لِأَن مَدَاره على ابْن إِسْحَاق، وَلم يخرج لَهُ مُسلم إلاّ مُتَابعَة.
وَعَن الْخَامِس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمُرهُم بذلك وَلَا أقرهم عَلَيْهِ.
وَعَن السَّادِس: أَنه: رأى عمر بن عبد الْعَزِيز لَيْسَ بِحجَّة، وَلَئِن سلمنَا فَلَيْسَ فِيهِ ذكر عدد،.

     وَقَالَ  عبد الْحق فِي أَحْكَامه: لَا يَصح فِي عدد الْجُمُعَة شَيْء فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم، فِي معرض الِاسْتِدْلَال لمذهبه: وَمن أعظم الْبُرْهَان أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى الْمَدِينَة، وَإِنَّمَا هِيَ قرى صغَار مُتَفَرِّقَة، فَبنى مَسْجده فِي بني مَالك بن النجار وَجمع فِيهِ فِي قَرْيَة لَيست بالكبيرة وَلَا مصر هُنَاكَ.
قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء من وُجُوه: الأول: قد صحّح قَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الَّذِي هُوَ أعلم النَّاس بِأَمْر الْمَدِينَة: لَا جُمُعَة وَلَا تَشْرِيق إلاّ فِي مصر جَامع.
الثَّانِي: أَن الإِمَام أَي مَوضِع حل جمع.
الثَّالِث: التمصير للْإِمَام، فَأَي مَوضِع مُصِّر.

وَأما معنى حَدِيث أبي دَاوُد فَقَوله: (فِي هزم النبيت) ، الهزم بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الزَّاي بعْدهَا مِيم: مَوضِع بالمدية، و: النبيت، بِفَتْح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق: وَهِي حَيّ من الْيمن.
قَوْله: (من حرَّة بني بياضة) ، الْحرَّة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء قَرْيَة على ميل من الْمَدِينَة، وَبَنُو بياضة بطن من الْأَنْصَار، مِنْهُم: سَلمَة بن صَخْر البياضي لَهُ صُحْبَة، قَوْله: (فِي نَقِيع) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة: بطن من الأَرْض يستنقع فِيهِ المَاء مُدَّة، فَإِذا نضب المَاء أنبت الْكلأ، وَمِنْه حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَنه حمى النقيع لخيل الْمُسلمين، وَقد يصحفه بعض النَّاس فيرويه بِالْبَاء الْمُوَحدَة، و: البقيع، بِالْبَاء: مَوضِع الْقُبُور، وَهُوَ بَقِيع الْغَرْقَد، قَوْله: (يُقَال لَهُ: نَقِيع الْخضمات) بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد المعجمتين، قَالَ ابْن الْأَثِير: نَقِيع الْخضمات مَوضِع بنواحي الْمَدِينَة.





[ قــ :867 ... غــ :893 ]
- حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ المَرُوزِيُّ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرنَا سالِمُ بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ.
وزَادَ اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ كَتبَ رَزيْقُ بنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابنِ شِهَابٍ وَأنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي القُرَي هَلْ تَرَى أنْ أُجَمِّعَ وَرُزَيْقٌ عامِلٌ علَى أرْضٍ يَعْمَلُهَا وفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السُّودَانِ وغَيْرِهِمْ ورُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أيْلَةَ فكَتَبَ ابنُ شِهَابٍ وَأنَا أسْمَعُ يَأمُرُهُ أنْ يُجَمِّعَ يُخْبِرُهُ أنَّ سالِما حَدَّثَهُ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ يقُولُ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ الإمَامُ رَاعٍ ومَسؤلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أهْلِهِ وَهْوَ مَسْؤلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالمَرْأةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤلَةٌ عنْ رَعِيَّتِهَا والخَادِمُ راعٍ فِي مالِ سيِّدِهِ وَمسؤُلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أنْ قالَ والرَّجُلُ رَاعٍ فِي مالِ أبِيهِ وَمَسْؤلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ وكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسؤُلٌ عنْ رَعِيَّتِهِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن زُرَيْق بن حَكِيم، لما كَانَ عَاملا على طَائِفَة، كَانَ عَلَيْهِ أَن يُرَاعِي حُقُوقهم وَمن جُمْلَتهَا إِقَامَة الْجُمُعَة، فَيجب عَلَيْهِ إِقَامَتهَا وَإِن كَانَت فِي قَرْيَة، هَكَذَا قَرَّرَهُ الْكرْمَانِي قلت: إِنَّمَا تتجه الْمُطَابقَة للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة، لِأَن الْقرْيَة إِذا كَانَ فِيهَا نَائِب من جِهَة الإِمَام يُقيم الْحُدُود يكون حكمهَا حكم الْأَمْصَار والمدن، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، عَن مُحَمَّد بن الْحسن.
وَإِن كَانَ مُرَاد الْكرْمَانِي: أَن هَذَا الحَدِيث يدل على جَوَاز إِقَامَة الْجُمُعَة فِي الْقرى فَلَا يتم بِهِ استدلاله، وَالظَّاهِر أَن مُرَاد البُخَارِيّ هَذَا وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث وَلَا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله مُطَابقَة إلاّ للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة على الْوَجْه الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَإِنَّمَا مطابقتها للجزء الأول وَلَيْسَ فِيهِ خلاف، وَكَانَ مَقْصُود البُخَارِيّ أَن يُشِير إِلَى الْخلاف فَلم يتم.
فَافْهَم.

ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد السجسْتانِي الْمروزِي، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك.
الثَّالِث: ابْن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
السَّادِس: أَبوهُ عبد الله بن عمر.
السَّابِع: رُزَيْق، بِضَم الرَّاء وَفتح الزَّاي: ابْن حَكِيم، بِضَم الْحَاء وَفتح الْكَاف: الْفَزارِيّ مولى بني فَزَارَة الْأَيْلِي: وَالِي أَيْلَة لعمر بن عبد الْعَزِيز، وَقيل: زُرَيْق بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء، وَالْمَشْهُور الأول.
.

     وَقَالَ  ابْن الْحذاء: وَكَانَ حَاكما بِالْمَدِينَةِ.
.

     وَقَالَ  ابْن مَاكُولَا: كَانَ عبدا صَالحا.
.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ: ثِقَة،.

     وَقَالَ  عَليّ بن الْمَدِينِيّ: حَدثنَا سُفْيَان مرّة: رُزَيْق بن حَكِيم أَو حَكِيم، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُول: ابْن حَكِيم بِالْفَتْح، وَالصَّوَاب الضَّم.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: السماع.
وَفِيه: الْكِتَابَة.
وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده.
وَفِيه: أَن الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلين من الروَاة مروزيان وَالثَّالِث أيلي، وَكَانَ مرجئا، وَكَذَا السَّابِع، وَالرَّابِع وَالْخَامِس مدنيان.
وَفِيه: قَوْله: وَزَاد اللَّيْث، إِشَارَة إِلَى أَن رِوَايَة اللَّيْث متفقة مَعَ ابْن الْمُبَارك، إلاّ فِي الْقِصَّة، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّة بِرِوَايَة اللَّيْث، وَرِوَايَة اللَّيْث معلقَة، وَقد وَصلهَا الذهلي عَن أبي صَالح كَاتب اللَّيْث عَنهُ.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوَصَايَا عَن بشر بن مُحَمَّد أَيْضا.
وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، وَأخرج مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا جحديث: ( كلكُمْ رَاع) بِغَيْر هَذِه الْقِصَّة عَن نَافِع عَن ابْن عمر.
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح، وَقد رَوَاهُ عَن ابْن عمر غير نَافِع أَيْضا، وَرَوَاهُ أَيْضا شُعْبَة عَن الزُّهْرِيّ.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( كلكُمْ رَاع) أصل: رَاع راعي فَاعل، إعلال قَاض، من رعى رِعَايَة، وَهُوَ حفظ الشَّيْء وَحسن التعهد لَهُ، والراعي: هُوَ الْحَافِظ المؤتمن الْمُلْتَزم صَلَاح مَا قَامَ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ تَحت نظره، فَكل من كَانَ تَحت نظره شَيْء فَهُوَ مَطْلُوب بِالْعَدْلِ فِيهِ وَالْقِيَام بمصالحه فِي دينه ودنياه ومتعلقاته، فَإِن وفى مَا عَلَيْهِ من الرِّعَايَة حصل لَهُ الْحَظ الأوفر وَالْجَزَاء الْأَكْبَر، وَإِن كَانَ غير ذَلِك طَالبه كل أحد من رَعيته بِحقِّهِ.
قَوْله: ( وَزَاد اللَّيْث) إِلَى قَوْله: ( يُخبرهُ) ، تَعْلِيق أَي: زَاد اللَّيْث بن سعد فِي رِوَايَته على رِوَايَة عبد الله بن الْمُبَارك، وَقد وَصله الذهلي كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: ( وَأَنا مَعَه) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
قَوْله: ( بوادي الْقرى) ، هُوَ من أَعمال الْمَدِينَة.
.

     وَقَالَ  ابْن السَّمْعَانِيّ: وَادي الْقرى مَدِينَة بالحجاز مِمَّا يَلِي الشَّام، وَفتحهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جمادي الْآخِرَة سنة سبع من الْهِجْرَة لما انْصَرف من خَيْبَر، بعد أَن امْتنع أَهلهَا وقاتلوا وَذكر بَعضهم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاتل فِيهَا، وَلما فتحهَا عنْوَة قسم أموالها وَترك الأَرْض وَالنَّخْل فِي أَيدي الْيَهُود، وعاملهم على نَحْو مَا عَامل عَلَيْهِ أهل خَيْبَر، وَأقَام عَلَيْهَا أَربع ليَالِي.
قَوْله: ( أَن أجمع) أَي: أُصَلِّي بِمن معي الْجُمُعَة.
قَوْله: ( على أَرض يعملها) ، أَي: يزرع فِيهَا.
قَوْله؛ ( من السودَان) .

قَوْله: ( على أَيْلَة) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح اللَّام، قَالَ أَبُو عبيد: هِيَ مَدِينَة على شاطىء الْبَحْر فِي منتصف مَا بَين مصر وَمَكَّة وتبوك، ورد صَاحب أَيْلَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَة.
.

     وَقَالَ  الْبكْرِيّ: سميت بأيلة بنت مَدين بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد رُوِيَ أَن أَيْلَة هِيَ الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر.
.

     وَقَالَ  اليعقوبي: أَيْلَة مَدِينَة جليلة على سَاحل الْبَحْر الْملح، وَبهَا يجْتَمع حَاج الشَّام ومصر وَالْمغْرب، وَبهَا التِّجَارَة الْكَثِيرَة، وَمن القلزم إِلَى أَيْلَة سِتّ مراحل فِي بَريَّة صحراء يتزود النَّاس من القلزم إِلَى أَيْلَة لهَذِهِ المراحل.
قلت: هِيَ الْآن خراب ينزل بهَا الْحَاج الْمصْرِيّ والمغربي والغزي، وَبَعض آثَار الْمَدِينَة ظَاهر.
قَوْله: ( فَكتب ابْن شهَاب وَأَنا أسمع قَول يُونُس الْمَذْكُور فِيهِ) أَي: كتب مُحَمَّد بن مُسلم بن الشهَاب الزُّهْرِيّ، وَالْحَال أَنا أسمع، والمكتوب هُوَ الحَدِيث، والمسموع الْمَأْمُور بِهِ، قَالَه الْكرْمَانِي، وَالظَّاهِر أَن الَّذِي كتب هُوَ ابْن شهَاب، لِأَن الأَصْل فِي الْإِسْنَاد الْحَقِيقَة، وَيجوز أَن يكون كَاتبه كتبه بإملائه عَلَيْهِ فَسَموهُ يُونُس مِنْهُ، فَفِي الْوَجْه الأول فِيهِ تَقْدِير، وَهُوَ: كتب ابْن شهَاب وقرأه وَأَنا أسمعهُ.
قَوْله: ( يَأْمُرهُ) جملَة حَالية أَي: يَأْمر ابْن شهَاب رُزَيْق بن حَكِيم فِي كِتَابه إِلَيْهِ أَن يجمع، أَي: بِأَن يجمع أَي: بِأَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَة، ثمَّ اسْتدلَّ ابْن شهَاب على أمره إِيَّاه بالتجميع بِحَدِيث سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: ( كلكُمْ رَاع) إِلَى آخِره.
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن رزيقا كَانَ أَمِيرا على الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة، فَكل من كَانَ أَمِيرا كَانَ عَلَيْهِ أَن يُرَاعِي حُقُوق رَعيته، وَمن جملَة حُقُوقهم إِقَامَة الْجُمُعَة.
قَوْله: ( يُخبرهُ) أَي: يخبر ابْن شهَاب رزيقا فِي كِتَابه الَّذِي كتب إِلَيْهِ أَن سالما حَدثهُ.
.
إِلَى آخِره.
فَإِن قلت: مَا مَحل: يُخبرهُ، من الْإِعْرَاب؟ قلت: هِيَ جملَة وَقعت حَالا من الضَّمِير الْمَرْفُوع الَّذِي فِي: يَأْمُرهُ، من الْأَحْوَال المتداخلة، كَمَا أَن قَوْله: ( اسْمَع) .
وَقَوله: ( يَأْمُرهُ) من الْأَحْوَال المترادفة.
قَوْله: ( يَقُول: سَمِعت) مَحل: يَقُول، من الْإِعْرَاب الرّفْع لِأَنَّهُ خبر إِن وَمحل: يَقُول، الثَّانِي على الْحَال أَي: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال كَونه يَقُول: ( كلكُمْ رَاع) ، وَهَذِه جملَة إسمية، وإفراد الْخَبَر بِالنّظرِ إِلَى لَفْظَة: كل، وَقد اشْترك الإِمَام وَالرجل وَالْمَرْأَة وَالْخَادِم فِي هَذِه التَّسْمِيَة، وَلَكِن الْمعَانِي مُخْتَلفَة: فرعاية الإِمَام إِقَامَة الْحُدُود وَالْأَحْكَام فيهم على سنَن الشَّرْع، ورعاية الرجل أَهله سياسته لأمرهم وتوفية حَقهم فِي النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَالْعشرَة، ورعاية الْمَرْأَة حسن التَّدْبِير فِي بَيت زَوجهَا والنصح لَهُ وَالْأَمَانَة فِي مَاله وَفِي نَفسهَا، ورعاية الْخَادِم لسَيِّده حفظ مَا فِي يَده من مَاله وَالْقِيَام بِمَا يسْتَحق من خدمته، وَالرجل لَيْسَ لَهُ بِإِمَام وَلَا لَهُ أهل وَلَا خَادِم يُرَاعِي أَصْحَابه وأصدقاءه بِحسن المعاشرة على مَنْهَج الصَّوَاب.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ كل من هَؤُلَاءِ راعياد فَمن المرعي؟ أُجِيب: هُوَ أَعْضَاء نَفسه وجوارحه وَقواهُ وحواسه، أَو الرَّاعِي يكون مرعيا بِاعْتِبَار أَمر آخر، ككون الشَّخْص مرعيا للْإِمَام رَاعيا لأَهله، أَو الْخطاب خَاص بأصحاب التَّصَرُّفَات وَمن تَحت نظره مَا عَلَيْهِ إصْلَاح حَاله.
قَوْله: ( قَالَ: وحسبت) فَاعل قَالَ يُونُس بن يزِيد الْمَذْكُور فِيهِ، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي جزما، وَالظَّاهِر أَن فَاعله: سَالم بن عبد الله الرَّاوِي، وَكلمَة: أَن مُخَفّفَة من المثقلة، وَالتَّقْدِير: وحسبت أَنه، أَي: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد قَالَ: ( وَالرجل رَاع فِي مَال أَبِيه.
.
)
إِلَى آخِره، ثمَّ فِي هَذَا الْموضع من النُّكْتَة أَنه: عمم أَولا ثمَّ خصص ثَانِيًا، وَقسم الخصوصية إِلَى أَقسَام من جِهَة الرجل وَمن جِهَة الْمَرْأَة وَمن جِهَة الْخَادِم وَمن جِهَة النّسَب، ثمَّ عمم ثَانِيًا وَهُوَ قَوْله: ( وكلكم رَاع.
.
)
إِلَى آخِره تَأْكِيدًا، وردا للعجز إِلَى الصَّدْر بَيَانا لعُمُوم الحكم أَولا وآخرا.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: قَالَ صَاحب ( التَّوْضِيح) : إِيرَاد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث لأجل أَن أَيْلَة إِمَّا مَدِينَة أَو قَرْيَة، وَقد ترْجم لَهما.
قلت: الْمَشْهُور عِنْد الْجُمْهُور أَنَّهَا مَدِينَة كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَلَا وَجه للتردد فِيهَا، وَقد ذكر البُخَارِيّ الْبابُُ بترجمتين، بقوله: فِي الْقرى والمدن، وَذكر فِيهِ حديثين: الأول: مِنْهُمَا مُطَابق للتَّرْجَمَة الأولى على زَعمه، وَالثَّانِي: مُطَابق للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة، وَكَلَام صَاحب ( التَّوْضِيح) لَا طائل تَحْتَهُ.

الثَّانِي: قَالَ بَعضهم: فِي هَذِه الْقِصَّة يَعْنِي الْقِصَّة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث إِيمَاء إِلَى أَن الْجُمُعَة تَنْعَقِد بِغَيْر إِذن من السُّلْطَان إِذا كَانَ فِي الْقَوْم من يقوم بمصالحهم.
قلت: الَّذِي يقوم بمصالح الْقَوْم هُوَ الْمولى عَلَيْهِم من جِهَة السُّلْطَان، وَمن كَانَ مولى من جِهَة السُّلْطَان كَانَ مَأْذُونا بِإِقَامَة الْجُمُعَة لِأَنَّهَا من أكبر مصالحهم، وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل أَنه يسْتَدلّ على عدم إِذن السُّلْطَان لإِقَامَة الْجُمُعَة بِالْإِيمَاءِ، وَيتْرك مَا دلّ على ذَلِك حَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه وَفِيه: ( من تَركهَا فِي حَياتِي أَو بعدِي وَله إِمَام عَادل أَو جَائِر اسْتِخْفَافًا بهَا وجحودا لَهَا فَلَا جمع الله شَمله، وَلَا بَارك لَهُ فِي أمره، أَلا وَلَا صَلَاة لَهُ وَلَا زَكَاة لَهُ وَلَا حج لَهُ وَلَا صَوْم لَهُ وَلَا بر لَهُ) .
الحَدِيث، وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي ( الْأَوْسَط) : عَن ابْن عمر مثله، فَإِن قلت: فِي سَنَد ابْن مَاجَه: عبد الله بن مُحَمَّد الْعَدوي، وَفِي سَنَد الْبَزَّار: عَليّ بن زيد بن جدعَان، وَكِلَاهُمَا مُتَكَلم فِيهِ؟ قلت: إِذا رُوِيَ الحَدِيث من طرق ووجوه مُخْتَلفَة تحصل لَهُ قُوَّة، فَلَا يمْنَع من الِاحْتِجَاج بِهِ، وَلَا سِيمَا اعتضد بِحَدِيث ابْن عمر، وَالْقَائِل الْمَذْكُور أَشَارَ بقوله إِلَى قَول الشَّافِعِي، فَإِن عِنْده إِذن السُّلْطَان لَيْسَ بِشَرْط لصِحَّة الْجُمُعَة، وَلَكِن السّنة أَن لَا تُقَام إِلَّا بِإِذن السُّلْطَان، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعَن أَحْمد أَنه شَرط كمذهبنا، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما كَانَ محصورا بِالْمَدِينَةِ صلى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْجُمُعَة بِالنَّاسِ، وَلم يرو أَنه صلى بِأَمْر عُثْمَان، وَكَانَ الْأَمر بِيَدِهِ.
قُلْنَا هَذَا الِاحْتِجَاج سَاقِط لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن عليا فعل ذَلِك بأَمْره، أَو كَانَ لم يتَوَصَّل إِلَى إِذن عُثْمَان، وَنحن أَيْضا نقُول: إِذا لم يتَوَصَّل إِلَى إِذن الإِمَام فللناس أَن يجتمعوا ويقدموا من يُصَلِّي بهم، فَمن أَيْن علم أَن عليا فعل ذَلِك بِلَا إِذن عُثْمَان، وَهُوَ بِحَيْثُ يتَوَصَّل إِلَى إِذْنه؟.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: مَضَت السّنة بِأَن الَّذِي يُقيم الْجُمُعَة السُّلْطَان أَو من قَامَ بهَا بأَمْره، فَإِذا لم يكن ذَلِك صلوا الظّهْر.
.

     وَقَالَ  الْحسن الْبَصْرِيّ: أَربع إِلَى السُّلْطَان، فَذكر مِنْهَا الْجُمُعَة.
.

     وَقَالَ  حبيب بن أبي ثَابت: لَا تكون الْجُمُعَة إلاّ بأمير وخطبة، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن مسلمة وَيحيى بن عمر الْمَالِكِي وَعَن مَالك: إِذا تقدم رجل بِغَيْر إِذن الإِمَام لم يجزهم، وَذكر صَاحب ( الْبَيَان) قولا قَدِيما للشَّافِعِيّ: أَنَّهَا لَا تصح إلاّ خلف السُّلْطَان أَو من أذن لَهُ.
وَعَن أبي يُوسُف: إِن لصَاحب الشرطة أَن يُصَلِّي بهم دون القَاضِي، وَقيل: يُصَلِّي القَاضِي.

الثَّالِث: قَالَ بَعضهم: فِي الحَدِيث إِقَامَة الْجُمُعَة فِي الْقرى خلافًا لمن شَرط لَهَا المدن؟ قلت: لَا دَلِيل على ذَلِك أصلا لِأَنَّهُ إِن كَانَ يدعى بذلك بِنَفس الحَدِيث الْمُتَّصِل فَلَا يقوم بِهِ حجَّة، وَلَا يتم.
وَإِن كَانَ يَدعِي بِكِتَاب ابْن شهَاب يَأْمر فِيهِ لرزيق بن حَكِيم بِأَن يجمع فَلَا تتمّ بِهِ حجَّته أَيْضا، لِأَنَّهُ من أَيْن علم أَنه أَمر بذلك؟ سَوَاء كَانَ فِي قَرْيَة أَو مَدِينَة؟ فَإِن قَالَ: رُزَيْق كَانَ عَاملا على أَرض يعملها، وَكَانَ فِيهَا جمَاعَة من السودَان وَغَيرهم، وَلَيْسَ هَذَا إلاّ قَرْيَة، فَلَا يتم بِهِ استدلاله أَيْضا، لِأَن الْموضع الْمَذْكُور صَار حكمه حكم الْمَدِينَة بِوُجُود الْمُتَوَلِي عَلَيْهِم من جِهَة الإِمَام، وَقد قُلْنَا فِيمَا مضى: إِن الإِمَام إِذا بعث إِلَى قَرْيَة نَائِبا لإِقَامَة الْأَحْكَام تصير مصرا، على أَن إِمَامه لَا يرى قَول الصَّحَابِيّ حجَّة، فَكيف بقول التَّابِعِيّ؟
الرَّابِع: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن الرجلَيْن إِذا حكما رجلا بَينهمَا نقد حكمه إِذا أصَاب.

الْخَامِس: قَالَ الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ عَن بَعضهم: إِنَّه اسْتدلَّ بِهِ على سُقُوط الْقطع عَن الْمَرْأَة إِذا سرقت من مَال زَوجهَا، وَعَن العَبْد إِذا سرق من مَال سَيّده إِلَّا فِيمَا حجبهما عَنهُ، وَلم يكن لَهما فِيهِ تصرف.
وَالله أعلم.