فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب تحاج آدم وموسى عند الله

(بابٌُ تَحاجَّ آدَمُ ومُوسَى عَلَيْهِما السَّلامُ، عِنْدَ الله عَزَّ وجَلَّ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ تحاج آدم ومُوسَى.
قَوْله: (تحاج) ، فعل ماضٍ من المحاججة وَأَصله: تحاجج، بجيمين فادغمت إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى.
قَوْله: (عِنْد الله) ، قيل: يَعْنِي: فِي يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: فِي الدُّنْيَا.

قلت: اللَّفْظ أَعم من ذَلِك وَقد روى أَحْمد من طَرِيق يزِيد بن هُرْمُز عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: احْتج آدم ومُوسَى عِنْد ربهما، والعندية عندية اخْتِصَاص وتشريف لَا عندية مَكَان.



[ قــ :6268 ... غــ :6614 ]
- حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدّثنا سُفْيانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍ وعنْ طاوُوسٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (احْتَجَّ آدَمُ ومُوسَى) فَقَالَ لهُ مُوسَى: يَا آدَمُ { أنْتَ أبُونا خَيَّبْتَنا وأخْرَجْتَنا مِنَ الجَنَّة، قَالَ لهُ آدَمُ: يَا مُوسَى} اصْطَفاكَ الله بكَلاَمِهِ وخَطّ لَكَ بِيَدِهِ، أتَلُومُنِي عَلَى أمْرٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي بأرْبَعِينَ سَنَة؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوَسَى، فحَجَّ آدَمُ مُوسَى)
ثَلاَثاً.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسفاين هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْقدر أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَغَيره.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد وَأحمد بن صَالح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن هِشَام بن عمار وَغَيره.

قَوْله: (حفظناه من عَمْرو) وَفِي (مُسْند الْحميدِي) : عَن سُفْيَان حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار، وَفِيه التَّأْكِيد لصِحَّة رِوَايَته.
قَوْله: (احْتج) أَي: تحاج وتناظر، وَفِي رِوَايَة همام وَمَالك: تحاج، كَمَا فِي التَّرْجَمَة، وَهِي أوضح، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب عِنْد البُخَارِيّ وَيحيى بن آدم: حج آدم مُوسَى وَعَلَيْهِمَا (شرح الطَّيِّبِيّ) فَقَالَ: معنى قَوْله: (حج آدم مُوسَى) غَلبه بِالْحجَّةِ.
وَقَوله: بعد ذَلِك (قَالَ مُوسَى: يَا آدم أَنْت)
إِلَى آخِره، توضيح لذَلِك وَتَفْسِير لما أجمل.
وَقَوله فِي آخِره (فحج آدم ومُوسَى) تَقْرِير لما سبق وتأكيد لَهُ.
قَوْله: (أَنْت أَبونَا) وَفِي رِوَايَة ابْن أبي كثير: أَنْت أَبُو النَّاس، وَفِي رِوَايَة الشّعبِيّ: أَنْت آدم أَبُو الْبشر.
قَوْله: (خيبتنا) أَي: أوقعتنا فِي الخيبة وَهِي الحرمان.
قَوْله: (وأخرجتنا من الْجنَّة) وَهِي دَار الْجَزَاء فِي الْآخِرَة وَهِي مخلوقة قبل آدم.
قَوْله: (وَخط لَك بِيَدِهِ) من المتشابهات فإمَّا أَن يُفَوض إِلَى الله تَعَالَى، وَإِمَّا أَن يؤول بِالْقُدْرَةِ، وَالْغَرَض مِنْهُ كِتَابَة أَلْوَاح التَّوْرَاة.
قَوْله: (على أَمر قدره الله) ويروى: قدر الله، بِدُونِ الضَّمِير، وَهِي رِوَايَة السَّرخسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَالْمرَاد بالتقدير هُنَا الْكِتَابَة فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَو فِي صحف التَّوْرَاة، وإلاَّ فتقدير الله أزلي.
قَوْله: (بِأَرْبَعِينَ سنة) قَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالأربعين سنة مَا بَين قَوْله تَعَالَى: { إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} (الْبَقَرَة: 03) إِلَى نفخ الرّوح فِي آدم، وَقيل: ابْتِدَاء الْمدَّة وَقت الْكِتَابَة فِي الألواح وَآخِرهَا ابْتِدَاء خلق آدم.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: المعلومات كلهَا قد أحَاط بهَا علم الله الْقَدِيم قبل وجود الْمَخْلُوقَات كلهَا.
وَلَكِن كتَابَتهَا وَقعت فِي أَوْقَات مُتَفَاوِتَة، وَقد ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) : إِن الله قدر الْمَقَادِير قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة، فَيجوز أَن تكون قصَّة آدم بخصوصها كتبت قبل خلقه بِأَرْبَعِينَ سنة، وَيجوز أَن يكون ذَلِك الْقدر مُدَّة لبثه طيناً إِلَى أَن نفخت فِيهِ الرّوح، فقد ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) : أَن بَين تَصْوِيره طيناً وَنفخ الرّوح فِيهِ كَانَ مُدَّة أَرْبَعِينَ سننة، وَلَا يُخَالف ذَلِك كِتَابَة الْمَقَادِير عُمُوما قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة.
فَإِن قلت: وَقع فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أتلومني على أَمر قدره لله عَليّ قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ .

قلت: تحمل مُدَّة الْأَرْبَعين سنة على مَا يتَعَلَّق بِالْكِتَابَةِ، وَيحمل الآخر على مَا يتَعَلَّق بِالْعلمِ.
قَوْله: (فحج آدم مُوسَى) ، آدم مَرْفُوع بِلَا خلاف وشذ بعض النَّاس فقرأه بِالنّصب على أَن آدم الْمَفْعُول ومُوسَى فِي مَحل الرّفْع على أَنه الْفَاعِل، نَقله الْحَافِظ أَبُو بكر بن الْخَاصَّة عَن مَسْعُود بن نَاصِر السجْزِي الْحَافِظ، قَالَ: سمعته يقْرَأ: فحج آدم، بِالنّصب قَالَ: وَكَانَ قدرياً.
وَقد روى أَحْمد من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (فحجه آدم) ، وَهَذَا يقطع الْإِشْكَال فَإِن رُوَاته أَئِمَّة حفاظ، وَالزهْرِيّ من كبار الْفُقَهَاء الْحفاظ، وَمعنى: فحج أَي: غَلبه بِالْحجَّةِ، يُقَال: حاججت فلَانا فحججته مثل خاصمته فَخَصمته،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: إِنَّا حجه آدم فِي رفع اللوم إِذْ لَيْسَ لأحد من الْآدَمِيّين أَن يلوم أحدا بِهِ.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّك تعلم أَنه مُقَدّر فَلَا تلمني، وَأَيْضًا اللوم شَرْعِي لَا عَقْلِي، وَإِذا تَابَ الله عَلَيْهِ وَغفر لَهُ ذَنبه زَالَ عَنهُ اللوم فَمن لامه كَانَ محجوجاً.
قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي قَالَ: حج آدم مُوسَى ثَلَاث مَرَّات، وَفِي حَدِيث رَوَاهُ عَمْرو بن أبي عَمْرو عَن الْأَعْرَج.
(لقد حج آدم مُوسَى، لقد حج آدم مُوسَى، لقد آدم حج مُوسَى) .

فَإِن قلت: مَتى كَانَ ملاقاة آدم ومُوسَى؟ .

قلت: قيل يحْتَمل أَن يكون فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَحْيَا الله لَهُ آدم معْجزَة لَهُ فَكَلمهُ أَو كشف لَهُ عَن قَبره فتحدثا، أَو أرَاهُ الله روحه كَمَا أرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة الْمِعْرَاج أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، أَو أرَاهُ الله فِي الْمَنَام رُؤْيا، ورؤيا الْأَنْبِيَاء وَحي، أَو كَانَ ذَلِك بعد وَفَاة مُوسَى فَالْتَقَيَا فِي البرزخ أول مَا مَاتَ مُوسَى فالتقت أرواحهما فِي السَّمَاء، وَبِذَلِك جزم ابْن عبد الْبر والقابسي، أَو أَن ذَلِك لم يَقع، وَإِنَّمَا يَقع بعد فِي الْآخِرَة، وَالتَّعْبِير عَنهُ بِلَفْظ الْمَاضِي لِأَنَّهُ مُحَقّق الْوُقُوع فَكَأَنَّهُ قد وَقع.
فَإِن قلت: لم خص مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، بِالذكر؟ .

قلت: ليكونه أول نَبِي بعث بالتكاليف الشَّدِيدَة.
فَإِن قلت: مَا وَجه وُقُوع الْغَلَبَة لآدَم، عَلَيْهِ السَّلَام؟ .

قلت: لِأَنَّهُ لَيْسَ لمخلوق أَن يلوم مخلوقاً فِي وُقُوع مَا قدر عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذن من الله، فَيكون الشَّارِع هُوَ اللائم، فَلَمَّا أَخذ مُوسَى فِي لومه من غير أَن يُؤذن لَهُ فِي ذَلِك عَارضه بِالْقدرِ.
فأسكنه، وَقيل: إِن الَّذِي فعله آدم اجْتمع فِيهِ الْقدر وَالْكَسْب وَالتَّوْبَة تمحو أثر الْكسْب، وَقد كَانَ الله تَابَ عَلَيْهِ فَلم يبْق إلاَّ الْقدر، وَالْقدر لَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ لوم فعل الله، وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل.
وَقيل: إِن آدم أَب ومُوسَى ابْن وَلَيْسَ للِابْن أَن يلوم أَبَاهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ.
فَإِن قلت: فالعاصي الْيَوْم لَو قَالَ: هَذِه الْمعْصِيَة قدرت عَليّ، فَيَنْبَغِي أَن يسْقط عَنهُ اللوم.

قلت: هُوَ بَاقٍ فِي دَار التَّكْلِيف، وَفِي لومه زجر لَهُ وَلغيره عَنْهَا، وَأما آدم فميت خَارج عَن هَذِه الدَّار، فَلم يكن فِي القَوْل فَائِدَة سوى التخجيل وَنَحْوه.

قَالَ سُفْيانُ: حدّثنا أبُو الزِّنادِ عَنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
.
مِثْلَهُ.

أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَذَا مَوْصُول وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله: حفظناه من عَمْرو وَفِي رِوَايَة الْحميدِي قَالَ: وَحدثنَا أَبُو الزِّنَاد، بِإِثْبَات الْوَاو، وَهِي أظهر فِي المُرَاد، وَقيل: أَخطَأ من زعم أَن هَذَا الطَّرِيق مُعَلّق، وَقد أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ مُنْفَردا بعد أَن سَاق طَرِيق طَاوُوس عَن جمَاعَة عَن سُفْيَان، فَقَالَ: أخبرنيه الْقَاسِم يَعْنِي ابْن زَكَرِيَّا حَدثنَا إِسْحَاق بن حَاتِم العلاف حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو مثله، سَوَاء، وَزَاد: قَالَ: وحَدثني سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد بِهِ.