فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من اغبرت قدماه في سبيل الله

(بابُُ منِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبيلِ الله)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من اغبرت قدماه واغبرار الْقَدَمَيْنِ عبارَة عَن الاقتحام فِي المعارك لقِتَال الْكفَّار، وَلَا شكّ أَن الْغُبَار يثور فِي المعركة حَال مصادمة الرِّجَال ويعم سَائِر الْأَعْضَاء، وَلَكِن تَخْصِيص الْقَدَمَيْنِ بِالذكر لِكَوْنِهِمَا عُمْدَة فِي سَائِر الحركات.

وقَوْلِ الله تَعَالَى { مَا كانَ لأهْلِ المَدِينَةِ} إِلَى قَوْلِهِ { إنَّ الله لاَ يُضِيعُ أجْرَ الْمُحْسِنينَ} (التَّوْبَة: 021) .


وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: من اغبرت أَي: وَفِي بَيَان قَول الله عز وَجل: { مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم عَن نَفسه، ذَلِك بِأَنَّهُم لَا يصيبهم ظمأ وَلَا نصب وَلَا مَخْمَصَة فِي سَبِيل الله، وَلَا يطأون موطأ يغِيظ الْكفَّار وَلَا ينالون من عَدو نيلاً إلاَّ كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} .

     وَقَالَ  ابْن بطال: مُنَاسبَة الْآيَة للتَّرْجَمَة أَنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ فِي الْآيَة) : { وَلَا يطأون موطأ يغِيظ الْكفَّار} (التَّوْبَة: 021) .
وَفِي الْآيَة: { إلاَّ كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح} (التَّوْبَة: 021) .
قَالَ: فسر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَمَل الصَّالح أَن النَّار لَا تمس من عمل بذلك.
قَالَ: وَالْمرَاد بسبيل الله جَمِيع طاعاته.
وَقيل: مُطَابقَة الْآيَة من جِهَة أَن الله أثابهم بخطواتهم وَإِن لم يباشروا قتالاً، وَكَذَلِكَ دلّ الحَدِيث على: أَن من اغبرت قدمه فِي سَبِيل الله حرمه الله على النَّار، سَوَاء بَاشر قتالاً أم لَا.
وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) : عَاتب الله تَعَالَى المتخلفين عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك من أهل الْمَدِينَة وَمن حولهَا من أَحيَاء الْعَرَب، وَنفى رغبتهم بِأَنْفسِهِم عَن مواساته فِيمَا حصل من الْمَشَقَّة، فَإِنَّهُم نَقَصُوا أنفسهم من الْأجر، لِأَنَّهُ لَا يصيبهم ظمأ وَهُوَ الْعَطش وَلَا نصب، وَهُوَ التَّعَب وَلَا مَخْمَصَة وَهِي المجاعة، وَلَا يطأن موطئاً يغِيظ الْكفَّار أَي: لَا ينزلون منزلا يرهب عدوهم، وَلَا ينالون مِنْهُ ظفراً وَغَلَبَة عَلَيْهِ، إِلَّا كتب الله لَهُم بِهَذِهِ الْأَعْمَال الَّتِي لَيست دَاخِلَة تَحت قدرهم، وَإِنَّمَا هِيَ ناشئة عَن أفعالهم أعمالاً صَالِحَة وثواباً جزيلاً إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { إِنَّا لَا نضيع أجر من أحسن عملا} (الْكَهْف: 03) .
وَفِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ ظَاهر قَوْله: { مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة} (الْكَهْف: 03) .
خبر وَمَعْنَاهُ أَمر، والأعراب سكان الْبَوَادِي: مزينة وجهينة وَأَشْجَع وَأسلم وغفار، أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا غزا،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: كتب لَهُم بِكُل روعة تنالهم فِي سَبِيل الله سبعين ألف حَسَنَة.
.

     وَقَالَ  قَتَادَة: هَذَا خَاص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا غزا بِنَفسِهِ فَلَيْسَ لأحد أَن يتَخَلَّف عَنهُ إلاَّ بِعُذْر، فَأَما غَيره من الْأَئِمَّة والولاة، فَمن شَاءَ أَن يتَخَلَّف تخلف.
.

     وَقَالَ  الْوَلِيد بن مُسلم: سَمِعت الْأَوْزَاعِيّ، وَابْن الْمُبَارك والفزاري وَابْن جَابر وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز يَقُولُونَ فِي هَذِه الْآيَة: إِنَّهَا لأوّل هَذِه الْأمة وَآخِرهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن زيد: كَانَ هَذَا وَأهل الْإِسْلَام قَلِيل، فَلَمَّا كَثُرُوا نسخهَا الله عز وَجل، وأباح التَّخَلُّف لمن شَاءَ، فَقَالَ: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة) ،.

     وَقَالَ  النّحاس: ذهب غَيره أَنه لَيْسَ هُنَا نَاسخ وَلَا مَنْسُوخ، وَأَن الْآيَة الأولى توجب إِذا نفر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو احْتِيجَ إِلَى الْمُسلمين واستنفروا لم يسع أحد التَّخَلُّف، وَإِذا بعث النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَرِيَّة خلفت طَائِفَة.



[ قــ :2683 ... غــ :2811 ]
- حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّدُ بنُ الْمُبَارَكِ قَالَ حدَّثنا يَحيى ابنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثني يَزِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ أخْبرَنا عبَايَةُ بنُ رافِعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ أَخْبرنِي أَبُو عَبْسٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ جَبْرٍ أنَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا اغْبَرَّتْ قَدَما عَبْدٍ فِي سَبيلِ الله فَتَمَسَّهُ النَّارُ.

(انْظُر الحَدِيث 709) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب صَلَاة الْجُمُعَة فِي: بابُُ الْمَشْي إِلَى الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن يزِيد بن أبي مَرْيَم عَن عبابُة بن رِفَاعَة، قَالَ: أدركني أَبُو عبس، وَأَنا أذهب إِلَى الْجُمُعَة فَقَالَ: سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من اغبرت قدماه فِي سَبِيل الله حرمه الله على النَّار.
وَأَبُو عبس كنية: عبد الرَّحْمَن ابْن جبر بن عَمْرو بن زيد الْأنْصَارِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَإِسْحَاق هُوَ ابْن مَنْصُور، قَالَ الجياني: نسبه الْأصيلِيّ إِلَى ابْن مَنْصُور، وَيزِيد بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وعباية، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، وَرِفَاعَة بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْفَاء ابْن رَافع بِالْفَاءِ وبالعين الْمُهْملَة وَأَبُو عبس بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره سين مُهْملَة وجبر بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون البارء الْمُوَحدَة.
قَوْله: (من اغبرت) ، كَذَا هُوَ على الأَصْل فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي (مَا اغبرتا) ، وَهِي لُغَة.