فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الوكالة في قضاء الديون

( بابُُ الوَكَالَةِ فِي قَضاءِ الدُّيُونِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الْوكَالَة فِي قَضَاء الدُّيُون.



[ قــ :2211 ... غــ :2306 ]
- حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَة بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رجُلاً أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَقَاضاهُ فأغْلَظَ فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعُوهُ فإنَّ لِصاحِبِ الحَقِّ مقَالاً ثُمَّ قَالَ أعْطُوهُ سِنّا مِثْلَ سِنِّهِ قالُوا يَا رسولَ الله لاَ نَجِدُ إلاَّ أمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ فَقَالَ أعْطُوهُ فإنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أحْسَنَكُمْ قَضاءً.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( أَعْطوهُ سنا) ، لِأَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِعْطَاء السن وكَالَة فِي قَضَاء دينه، وَهَذَا الحَدِيث هُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الَّذِي قبله، لكنه من وَجه آخر، وَبَينهمَا بعض تفَاوت فِي الْمَتْن بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان، وَأخرجه هُنَاكَ: عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان عَن سَلمَة، وَهَهُنَا أخرجه: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَأبي أَيُّوب الواشحي الْبَصْرِيّ، قَاضِي مَكَّة عَن شُعْبَة ابْن الْحجَّاج إِلَى آخِره.

قَوْله: ( يتقاضاه) ، جملَة وَقعت حَالا.
قَوْله: ( فَأَغْلَظ) ، يحْتَمل أَن يكون المُرَاد من الإغلاظ التَّشْدِيد فِي الْمُطَالبَة من غير كَلَام يَقْتَضِي الْكفْر، أَو كَانَ المتقاضي كَافِرًا.
قَوْله: ( فهمَّ بِهِ أَصْحَابه) أَي: قصدوه ليؤذوه بِاللِّسَانِ أَو بِالْيَدِ أَو غير ذَلِك.
قَوْله: ( دَعوه) أَي: أتركوه وَلَا تتعرضوا لَهُ، وَهَذَا من غَايَة حلمه وَحسن خلقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( فَإِن لصَاحب الْحق مقَالا) ، يَعْنِي: صولة الطّلب وَقُوَّة الْحجَّة، لَكِن على من يمطل أَو يسيء الْمُعَامَلَة، وَأما من أنصف من نَفسه فبذل مَا عِنْده وَاعْتذر عَمَّا لَيْسَ عِنْده فَلَا تجوز الاستطالة عَلَيْهِ بِحَال.
قَوْله: ( إلاَّ مثل) ، تَقْدِيره: لَا نجد سنا إلاَّ سنا أمثل، أَي: أفضل من سنه،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: من آذَى السُّلْطَان بجفاء وَشبهه فَإِن لأَصْحَابه أَن يعاقبوه وينكروا عَلَيْهِ وَإِن لم يَأْمُرهُم السُّلْطَان بذلك.


(بابٌُ إِذا وهَبَ شَيْئا لوكِيلٍ أوْ شَفِيعِ قَوْمٍ جازَ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إِذا وهب أحد شَيْئا لوكيل، بِالتَّنْوِينِ أَي: لوكيل قوم، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى قوم الْمَذْكُور من قبيل قَوْله: بَين ذراعي وجبهة الْأسد، وَالتَّقْدِير: بَين ذراعي الْأسد وجبهته.
قَوْله: (أَو شَفِيع قوم) ، عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير: أَو وهب شَيْئا لشفيع قوم.
قَوْله: (جَازَ) ، جَوَاب الشَّرْط.

لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِوَفْدِ هَوَازِنَ حِينَ سألُوهُ المَغَانِمَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَصِيبيي لَكُمْ
هَذَا تَعْلِيل للتَّرْجَمَة بَيَانه أَن وَفد هوَازن كَانُوا رسلًا أَتَوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا وكلاء وشفعاء فِي رد سَبْيهمْ الَّذِي سباه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الْمَغَانِم، فَقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفاعتهم، فَرد إِلَيْهِم نصِيبه من السَّبي، وتوضيح ذَلِك فِيمَا ذكره مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحنين، فَلَمَّا أصَاب من هوَازن مَا أصَاب من أَمْوَالهم وسباياهم أدركهم وَفد هوَازن بالجعرانة، وَقد أَسْلمُوا، فَقَالُوا يَا رَسُول الله أمنن علينا منَّ الله عَلَيْك.
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نِسَاؤُكُمْ وأبناؤكم أحب إِلَيْكُم أم أَمْوَالكُم؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله خيرتنا بَين أحسابنا وَأَمْوَالنَا، بل أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا أحب إِلَيْنَا.
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما مَا كَانَ لي ولبني عبد الْمطلب فَهُوَ لكم، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَمَا كَانَ لنا فَهُوَ لرَسُول الله،.

     وَقَالَ ت الْأَنْصَار: وَمَا كَانَ لنا فَهُوَ لرَسُول الله، فَردُّوا إِلَى النَّاس نِسَاءَهُمْ وأبناءهم، وَكَانَت قسْمَة غَنَائِم هوَازن قبل دُخُوله، عَلَيْهِ السَّلَام، مَكَّة مُعْتَمِرًا من الْجِعِرَّانَة.
قَالَ إِبْنِ اسحاق: لما انْصَرف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الطَّائِف وَنزل الْجِعِرَّانَة فِيمَن مَعَه من النَّاس، وَمَعَهُ من هوَازن سبي كثير، وَقد قَالَ لَهُ رجل من أَصْحَابه يَوْم ظعن من ثَقِيف: يَا رَسُول الله! أدع عَلَيْهِم.
فَقَالَ: أللهم إهدِ ثقيفا وإيت بهم.
قَالَ: ثمَّ أَتَاهُ وَفد هوَازن بالجعرانة.
وَكَانَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سبي هوَازن سِتَّة آلَاف من الذَّرَارِي وَالنِّسَاء، وَمن الْإِبِل وَالشَّاة مَا لَا يدْرِي عدته.
.

     وَقَالَ  غَيره: وَكَانَت عدَّة الْإِبِل أَرْبَعَة وَعشْرين ألف بعير، وَالْغنم أَكثر من أَرْبَعِينَ ألف شَاة، وَمن الْفضة أَرْبَعَة آلَاف أُوقِيَّة.
وَالْمَقْصُود أَن النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد إِلَيْهِم سَبْيهمْ، فَعِنْدَ ابْن إِسْحَاق: قبل الْقِسْمَة، وَعند غَيره بعْدهَا.
وَكَانَت غَزْوَة هوَازن يَوْم حنين بعد الْفَتْح فِي خَامِس من شَوَّال سنة ثَمَان، وحنين وَاد بَينه وَبَين مَكَّة ثَلَاثَة أَمْيَال، وهوازن فِي قيس غيلَان وَفِي خُزَاعَة، فَفِي قيس غيلَان: هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن قيس غيلَان، وَفِي خُزَاعَة: هوَازن بن أسلم بن أقْصَى، وهوازن هَذَا بطن، وَفِي هوَازن قيس غيلَان بطُون كَثِيرَة.
.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد: هوَازن ضرب من الطُّيُور،.

     وَقَالَ  غَيره: هُوَ جمع هوزن، وَقيل: الهوزون السراب ووزنه: فوعل.
قلت: هَذَا يدل على أَن الْوَاو زَائِدَة، مثل وَاو جَهورِي الصَّوْت، أَي: شَدِيد عَال.



[ قــ :11 ... غــ :308 ]
- حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهابٍ قالَ وزَعَمَ عُرْوَةُ أنَّ مرْوَانَ بنَ الحَكَمِ والمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ قَالَ أخْبَرَاهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قامَ حِينَ جاءَهُ وَفد هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فسَألُوهُ أنْ يَرُدَّ إلَيْهِم أمْوَالَهُمْ وسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أصْدَقهُ فاخْتَارُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمَّا السَّبْيَ وإمَّا المَالَ وقَدْ كُنْتُ اسْتَأنَيْتُ بِكُمْ وقَدْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشَرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ فلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيْرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إلاَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قالُوا قالُوا فَإنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فقامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المُسْلِمِينِ فأثْنَى عَلى الله بِما هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ إخْوَانَكُمْ هؤُلاءِ قَدْ جاؤُنا تَائِبِينَ وإنِّي قَدْ رَأيْتُ أنْ أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يُطَيِّبَ بِذَلكَ فَلْيَفْعَلْ ومنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يَكونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ أوَّلِ مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُمْ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّا لاَ نَدْرِي منْ أذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأذَنْ فارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إلَيْنَا عُرَفَاءَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرُوهُ أنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وأذِنُوا ...

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِيهِ (إِنِّي أردْت أَن أرد إِلَيْهِم سَبْيهمْ) الحَدِيث ... وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن وَفد هوَازن كَانُوا وكلاء وشفعاء فِي رد سَبْيهمْ، فَهَذَا يُطَابق التَّرْجَمَة.

ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: سعيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ سعيد بن كثير بن عفير أَبُو عُثْمَان.
الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد.
الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
السَّادِس: مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ الْأمَوِي، قَالَ الْوَاقِدِيّ: إِنَّه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يحفظ عَنهُ شَيْئا، وَتُوفِّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين.
السَّابِع: الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وَفِي آخِره رَاء: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَالرَّاء وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة بَينهمَا: ابْن نَوْفَل الزُّهْرِيّ، سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة التَّثْنِيَة فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع الرَّابِع هُوَ قَوْله: زعم، لِأَن زعم هَهُنَا بِمَعْنى: قَالَ: قَالَ الْكرْمَانِي: والزعم يسْتَعْمل فِي القَوْل الْمُحَقق.
وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى جده وَأَنه وَاللَّيْث مصريان وَأَن عقيلاً أيلي والبقية مدنيون وَأَن مَرْوَان من أَفْرَاده.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْخمس وَفِي الْمَغَازِي عَن سعيد بن عفير وَفِي الْعتْق وَالْهِبَة عَن سعيد بن أبي مَرْيَم وَفِي الْهِبَة والمغازي أَيْضا عَن يحيى بن بكير.
وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْأَحْكَام عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن سعيد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن هَارُون بن مُوسَى بِقصَّة العرفاء مختصرة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَفد هوَازن) ، الْوَفْد هم الْقَوْم يَجْتَمعُونَ ويريدون الْبِلَاد، واحدهم وَافد، وَكَذَلِكَ الَّذين يقصدون الْأُمَرَاء لزيارة واسترفاد وانتجاع وَغير ذَلِك، تَقول: وَفد يفد فَهُوَ وَافد، وأوفدته فوفد، وأوفد على الشَّيْء فَهُوَ موفد إِذا أشرف، وهوازن مر تَفْسِيره عَن قريب.
قَوْله: (مُسلمين) حَال.
قَوْله: (أحب الحَدِيث) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: أصدقة.
قَوْله: (اسْتَأْنَيْت بهم) أَي: انتظرت بهم وتربصت، يُقَال: أنيت وتأنيت واستأنيت، وَيُقَال للمتمكث فِي الْأَمر: مستأنِ، ويروى: فقد كنت اسْتَأْنَيْت بكم.
قَوْله: (فَلَمَّا تبين لَهُم) ، أَي: فحين ظهر لَهُم.
وَقَوله: (أَن رَسُول الله) ، فِي مَحل الرّفْع فَاعل، تبين، قَوْله: (حِين قفل من الطَّائِف) ، أَي: حِين رَجَعَ، وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما فتح مَكَّة فِي رَمَضَان لعشر بَقينَ مِنْهُ سنة ثَمَان، ثمَّ خرج إِلَى هوَازن فِي خَامِس شَوَّال لغزوهم، وَجرى مَا جرى، وَهزمَ الله تَعَالَى أعداءه، ثمَّ سَار إِلَى الطَّائِف حِين فرغ من حنين، وَهِي غَزْوَة هوَازن يَوْم حنين، وَنزل قَرِيبا من الطَّائِف، فَضرب بِهِ عسكره.
.

     وَقَالَ  ابْن إِسْحَاق: حاصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الطَّائِف ثَلَاثِينَ لَيْلَة ثمَّ انْصَرف عَنْهُم لتأخر الْفَتْح إِلَى الْعَام الْقَابِل، وَلما انْصَرف عَن الطَّائِف نزل على الْجِعِرَّانَة فِيمَن مَعَه من النَّاس وَلما نزل على الْجِعِرَّانَة انْتظر وَفد هوَازن بضع عشرَة لَيْلَة، وَهُوَ معنى قَوْله فِي الحَدِيث: (انتظرهم بضع عشرَة لَيْلَة حِين قفل من الطَّائِف) ، ثمَّ جرى مَا ذكر فِي الحَدِيث.
قَوْله: (أَن يطيب) من الثلاثي من طَابَ يطيب وَمن بابُُ أطاب يطيب، وَمن بابُُ التفعيل من طيب يطيب.
قَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي يرد السَّبي مجَّانا بِرِضا نَفسه وَطيب قلبه.
وَفِي (التَّوْضِيح) : أَرَادَ أَن يطيب أنفسهم، لأهل هوَازن، بِمَا أَخذ مِنْهُم من الْعِيَال لرفع الشحناء والعداوة وَلَا تبقى إحْنَة الْغَلَبَة لَهُم فِي انتزاع السَّبي مِنْهُم فِي قُلُوبهم، فيولد ذَلِك اخْتِلَاف الْكَلِمَة.
قلت: الْمَعْنى على كَونه من الثلاثي: أَن يطيب نَفسه بذلك أَي: يدْفع السَّبي إلهم فَلْيفْعَل، وَهُوَ جَوَاب: من المتضمنة معنى الشَّرْط، فَلذَلِك حصلت فِيهِ الْفَاء، وَالْفِعْل هُنَا لَازم وعَلى كَونه من بابُُ الإفعال أَو التفعيل يكون الْفِعْل مُتَعَدِّيا وَالْمَفْعُول محذوفا تَقْدِيره: أَن يطيب نَفسه بذلك، بِضَم الْيَاء وَكسر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء، وَأَن يطيب، بِضَم الْيَاء وَفتح الطَّاء وَتَشْديد الْيَاء.
قَوْله: (على حَظه) أَي: على نصِيبه من السَّبي.
قَوْله: (مَا يفِيء الله) من: أَفَاء يفِيء من بابُُ: أفعل يفعل من الْفَيْء، وَهُوَ مَا يحصل للْمُسلمين من أَمْوَال الْكفَّار من غير حَرْب وَلَا جِهَاد، وأصل الْفَيْء: الرُّجُوع.
يُقَال: فَاء يفِيء فيئة وفيوا كَأَنَّهُ كَانَ فِي الأَصْل لَهُم فَرجع إِلَيْهِم، وَمِنْه قيل للظل الَّذِي بعد الزَّوَال: فَيْء، لِأَنَّهُ يرجع من جَانب الغرب إِلَى جَانب الشرق.
قَوْله: (قد طيبنَا ذَلِك لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: لأَجله، ويروى: يَا رَسُول الله.
قَوْله: (حَتَّى يرفع إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ) العرفاء جمع عريف، وَهُوَ الَّذِي يعرف أَمر الْقَوْم وأحوالهم، وَهُوَ النَّقِيب وَهُوَ دون الرئيس.
وَفِي (التَّلْوِيح) : العريف: الْقيم بِأَمْر الْقَبِيلَة والمحلة يَلِي أَمرهم وَيعرف الْأَمِير حَالهم، وَهُوَ مُبَالغَة فِي اسْم من يعرف الْجند وَنَحْوهم، فعيل بِمَعْنى فَاعل، والعرافة عمله وَهُوَ النَّقِيب، وَقيل: النَّقِيب فَوق العريف وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (حَتَّى يرجع إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ) للتقصي عَن أصل الشَّيْء فِي استطابة النُّفُوس، ويروى: حَتَّى يرفعوا إِلَيْنَا، على لُغَة أكلوني البراغيث.
قَوْله: (أَخْبرُوهُ) أَي: وَأخْبر عُرَفَاؤُهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم قد طيبُوا ذَلِك وأذنوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يرد السَّبي إِلَيْهِم.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الْغَنِيمَة إِنَّمَا يملكهَا الغانمون بِالْقِسْمَةِ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، واستفيد ذَلِك من انْتِظَاره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: دَلِيل أَيْضا على استرقاق الْعَرَب وتملكهم كالعجم، إلاَّ أَن الْأَفْضَل عتقهم للترحم ومراعاتها، كَمَا فعل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي خِلَافَته، حِين ملك الْمُرْتَدين، وَهُوَ على وَجه النّدب لَا على الْوُجُوب.
وَفِيه: أَن الْعِوَض إِلَى أجل مَجْهُول جَائِز، قَالَه ابْن التِّين: قَالَ: إِذْ لَا يدْرِي مَتى يفِيء الله عَلَيْهِم.
قَالَ:.

     وَقَالَ  بَعضهم: يُمكن أَن يُقَاس عَلَيْهِ من أكره على بيع مَاله فِي حق عَلَيْهِ، قَالَ ابْن بطال: فِيهِ بيع الْمُكْره فِي الْحق جَائِز، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حكم دبر السَّبي، قَالَ: من أحب أَن يكون على حَظه وَلم يَجْعَل لَهُم الْخِيَار فِي إمْسَاك السَّبي أصلا وَإِنَّمَا خَيرهمْ فِي أَن يعوضهم من غَنَائِم أخر، وَلم يخيرهم فِي أَعْيَان السَّبي، لِأَنَّهُ قَالَ لَهُم بعد أَن رد أهلهم: وَإِنَّمَا خَيرهمْ فِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لِئَلَّا تجحف بِالْمُسْلِمين فِي مغانمهم.
وَفِيه: أَنه يجوز للامام إِذا جَاءَهُ أهل الْحَرْب مُسلمين بعد أَن غنم أَمْوَالهم وأهليهم أَن يرد عَلَيْهِم إِذا رأى فِي ذَلِك مصلحَة.
وَفِيه: اتِّخَاذ العرفاء.
وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد.
وَفِيه: من رأى قبُول إِقْرَار الْوَكِيل على مُوكله، لِأَن العرفاء كَانُوا كالوكلاء فِيمَا أقِيمُوا لَهُ من أَمرهم، فَلَمَّا سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مقَالَة العرفاء أنفذ ذَلِك وَلم يسألهم عَمَّا قَالُوهُ، وَكَانَ فِي ذَلِك تَحْرِيم فروج السبايا على من كَانَت حلت لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو يُوسُف،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: إِقْرَار الْوَكِيل جَائِز عِنْد الْحَاكِم، وَلَا يجوز عِنْد غَيره،.

     وَقَالَ  مَالك: لَا يقبل إِقْرَاره وَلَا إِنْكَاره إلاَّ أَن يَجْعَل ذَلِك إِلَيْهِ مُوكله.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَا يقبل إِقْرَاره عَلَيْهِ، وَالله أعلم.