فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِي الْغَضَبِ

رقم الحديث 1644 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ، وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَغْضَبْ.


( ما جاء في الغضب)

( مالك عن ابن شهاب عن حميد) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف) مرسلاً عند الأكثر وصله مطرف عن مالك عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة وأخرجه البخاري والترمذي عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو جارية بجيم وتحتية ابن قدامة بقاف مضمومة التيمي عم الأحنف بن قيس كما رواه ابن أبي شيبة وأحمد والحاكم من حديثه ووقع مثل سؤاله لأبي الدرداء عند الطبراني وغيره قال قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب ولك الجنة ولسفيان بن عبد الله الثقفي قلت يا نبي الله قل لي قولاً أنتفع به وأقلل قال لا تغضب رواه الطبراني ولعبد الله بن عمر عند أحمد وأبي يعلى ولعثمان بن أبي العاصي عند غيرهم فالظاهر كما قال الولي العراقي أن السائل عن ذلك تعدد ( فقال يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن) أنتفع بهن في معيشتي ( ولا تكثر علي فأنسى) وفي رواية قل في الإسلام قولاً وأقلل لعلي أعقله ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تغضب) قال ابن عبد البر أراد والله أعلم علمني ما ينفعني بكلمات قليلة لئلا أنسى إن أكثرت علي ولو أراد علمني كلمات من الذكر ما أجابه بهذا الكلام القليل الألفاظ الجامع للمعاني الكثيرة والفوائد الجليلة ومن كظم غيظه ورد غضبه أخزى شيطانه وسلمت له مروءته ودينه قال علماؤنا إنما نهاه عما علم أنه هواه لأن المرء إذا ترك ما يشتهي كان أجدر أن يترك ما لا يشتهي وخصوصًا الغضب فإن ملك نفسه عنده كان شهيدًا وإذا ملكها عند الغضب كان أحرى أن يملكها عن الكبر والحسد وأخواتهما وقال الباجي جمع له صلى الله عليه وسلم الخير في لفظ واحد لأن الغضب يفسد كثيرًا من الدين والدنيا لما يصدر عنه من قول أو فعل ومعنى لا تغضب لا تمض على ما يحملك غضبك عليه وامتنع وكف عنه وأما نفس الغضب فلا يملك الإنسان دفعه وإنما يدفع ما يدعوه إليه وكذا قال ابن حبان أراد لا تعمل بعد الغضب شيئًا مما ينشأ عنه لا أنه نهاه عن شيء جبل عليه وقال الخطابي أي اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه لأن نفس الغضب مطبوع في الإنسان لا يمكن إخراجه من جبلته قال الباجي وإنما أراد منعه من الغضب في معاني دنياه ومعاملاته وأما فيما يعود إلى القيام بالحق فقد يجب كالقيام على أهل الباطل والإنكار عليهم بما يجوز وقد يندب وهو الغضب على المخطئ كغضبه صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل عن ضالة الإبل ولما شكى إليه معاذ أنه يطول في الصلاة وقال بعضهم قد اشتملت هذه الكلمة اللطيفة وهي من بدائع جوامع كلمه التي خص بها صلى الله عليه وسلم على ما لا يحصى بالعد من الحكم واستحباب المصالح والنعم ودرء المفاسد والنقم وذلك أن الله خلق الغضب من النار وجعله غريزة في الإنسان مهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم لأن البشرة تحكي لون ما وراءها وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه وإن غضب مما فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب فيصفر اللون حزنًا وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر فيترتب على الغضب تغير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال على غير ترتيب واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته وتغير الباطن وقبحه أشد لأنه يولد حقد القلب والحسد وإضمار السوء ومزيد الشماتة وهجر المسلم ومصارمته والإعراض عنه والاستهزاء والسخرية ومنع الحقوق بل أول شيء يقبح منه باطنه وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه هذا كله أثره في الجسد وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل ويندم قائله عند سكون غضبه ويظهر أثره أيضًا في الفعل بالضرب والقتل فإن فات بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوبه ويلطم خده وربما سقط صريعًا وربما أغمي عليه وربما كسر الآنية وضرب من لا جريمة له فيه وللغضب دواء مانع ورافع فالمانع ذكر فضل الحلم وما جاء في كظم الغيظ من الفضل وما ورد في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد وخوف الله كما حكي عن بعض الملوك أنه كتب ورقة فيها ارحم من في الأرض يرحمك من السماء ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء ويل لحاكم الأرض من حاكم السماء اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب ثم دفعها إلى وزيره فقال إذا غضبت فادفعها إلي فجعل الوزير كلما غضب الملك دفعها إليه فينظر فيها فيسكن غضبه والرافع للغضب نحو المذكور عن هذا الملك والاستعاذة من الشيطان ويتوضأ كما جاء في حديث وإن غضب وهو قائم قعد أو وهو قاعد اضطجع كما في حديث والقصد أن يبعد عن هيئة الوثوب ولا يسرع إلى الانتقام ما أمكن حسبما لمادة المبادرة وأقوى الأشياء في دفعه استحضار التوحيد الحقيقي التام وأنه لا فاعل في الوجود إلا الله وكل فاعل غيره فهو آلة فمن توجه إليه مكروه من جهة غيره فاستحضر أنه تعالى لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه إما على الخالق وهو جرأة تنافي العبودية أو على المخلوق وهو إشراك ينافي التوحيد ولذا قال أنس خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله ولكن يقول قدر الله وما شاء فعل ولو قدر لكان ما ذاك إلا لكمال معرفته بأنه لا فاعل ولا معطي ولا مانع ولا نافع ولا ضار إلا الله وما سواه آلة للفعل كالسيف للضارب فالفاعل هو الله وحده وله آلات كبرى وصغرى ووسطى فالكبرى من له قصد واختيار كالإنسان الضارب بالعصا والصغرى ما لا قصد له ولا اختيار كالعصا المضروب بها والوسطى ما لا قصد له ولا عقل كالدابة ترفس وبهذا يظهر سر أمر صلى الله عليه وسلم لمن غضب أن يستعيذ من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به أمكنه استحضار ما ذكر وإن استمر الشيطان متمكنا من الوسوسة لم يمكنه استحضار شيء من ذلك والله المستعان ( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس الشديد) أي القوي ( بالصرعة) بضم الصاد المهملة وفتح الراء أي الذي يكثر منه صرع الناس قال الباجي ولم يرد نفي الشدة عنه فإنه يعلم بالضرورة شدته وإنما أراد أنه ليس بالنهاية في الشدة وأشد منه الذي يملك نفسه عند الغضب أو أراد أنها شدة ليس لها كبير منفعة وإنما الشدة التي ينتفع بها شدة الذي يملك نفسه عند الغضب كقولهم لا كريم إلا يوسف لم يرد به نفي الكرم عن غيره وإنما أريد إثبات مزية له في الكرم وكذا لا سيف إلا ذو الفقار ولا شجاع إلا علي انتهى فالنفي للمبالغة أي ليس القوي الذي يصرع أبطال الرجال ويلقيهم إلى الأرض بقوة ( إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) بأن لا يفعل موجبات الغضب فإنه إذا ملكها كان هو الشديد الكامل لأنه قهر أكبر أعدائه إذ من عداها أذاه دونها لأنها موجبة لعقوبة الله وأقلها أشد من عقوبات الدنيا وقهر شر خصومه لخبر أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك وهذا من الألفاظ التي نقلت عن موضوعها اللغوي لضرب من المجاز والتوسع وهو من فصيح الكلام وبليغه لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ وقد ثارت عليه شدة من الغضب فقهرها بحلمه وصرعها بثباته وعدم عمله بمقتضى الغضب كان كالصرعة الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه والهاء للمبالغة في الصفة وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم والفتح كهمزة ولمزة وحفظة وضحكة وخدعة والصرعة بسكون الراء بالعكس وهو من يصرعه غيره كثيرًا وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم والسكون كهمزة وما بعده قال ابن التين ضبطنا الصرعة بفتح الراء وقرأه بعضهم بسكونها وليس بشيء لأنه عكس المطلوب قال وضبط أيضًا في بعض الكتب بفتح الصاد وليس بشيء وفي مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا ما تعدون الصرعة فيكم قالوا الذي لا تصرعه الرجال وعند البزار بإسناد حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال ما هذا فقالوا فلان ما يصارع أحدًا إلا صرعه قال أفلا أدلكم على ما هو أشد منه رجل كلمه رجل وكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه وعند ابن حبان مرفوعًا ليس الشديد من غلب الناس إنما الشديد من غلب نفسه وحديث الباب أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وعبد الأعلى بن حماد ثلاثتهم عن مالك به.



رقم الحديث 1645 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ.


( ما جاء في الغضب)

( مالك عن ابن شهاب عن حميد) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف) مرسلاً عند الأكثر وصله مطرف عن مالك عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة وأخرجه البخاري والترمذي عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو جارية بجيم وتحتية ابن قدامة بقاف مضمومة التيمي عم الأحنف بن قيس كما رواه ابن أبي شيبة وأحمد والحاكم من حديثه ووقع مثل سؤاله لأبي الدرداء عند الطبراني وغيره قال قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب ولك الجنة ولسفيان بن عبد الله الثقفي قلت يا نبي الله قل لي قولاً أنتفع به وأقلل قال لا تغضب رواه الطبراني ولعبد الله بن عمر عند أحمد وأبي يعلى ولعثمان بن أبي العاصي عند غيرهم فالظاهر كما قال الولي العراقي أن السائل عن ذلك تعدد ( فقال يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن) أنتفع بهن في معيشتي ( ولا تكثر علي فأنسى) وفي رواية قل في الإسلام قولاً وأقلل لعلي أعقله ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تغضب) قال ابن عبد البر أراد والله أعلم علمني ما ينفعني بكلمات قليلة لئلا أنسى إن أكثرت علي ولو أراد علمني كلمات من الذكر ما أجابه بهذا الكلام القليل الألفاظ الجامع للمعاني الكثيرة والفوائد الجليلة ومن كظم غيظه ورد غضبه أخزى شيطانه وسلمت له مروءته ودينه قال علماؤنا إنما نهاه عما علم أنه هواه لأن المرء إذا ترك ما يشتهي كان أجدر أن يترك ما لا يشتهي وخصوصًا الغضب فإن ملك نفسه عنده كان شهيدًا وإذا ملكها عند الغضب كان أحرى أن يملكها عن الكبر والحسد وأخواتهما وقال الباجي جمع له صلى الله عليه وسلم الخير في لفظ واحد لأن الغضب يفسد كثيرًا من الدين والدنيا لما يصدر عنه من قول أو فعل ومعنى لا تغضب لا تمض على ما يحملك غضبك عليه وامتنع وكف عنه وأما نفس الغضب فلا يملك الإنسان دفعه وإنما يدفع ما يدعوه إليه وكذا قال ابن حبان أراد لا تعمل بعد الغضب شيئًا مما ينشأ عنه لا أنه نهاه عن شيء جبل عليه وقال الخطابي أي اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه لأن نفس الغضب مطبوع في الإنسان لا يمكن إخراجه من جبلته قال الباجي وإنما أراد منعه من الغضب في معاني دنياه ومعاملاته وأما فيما يعود إلى القيام بالحق فقد يجب كالقيام على أهل الباطل والإنكار عليهم بما يجوز وقد يندب وهو الغضب على المخطئ كغضبه صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل عن ضالة الإبل ولما شكى إليه معاذ أنه يطول في الصلاة وقال بعضهم قد اشتملت هذه الكلمة اللطيفة وهي من بدائع جوامع كلمه التي خص بها صلى الله عليه وسلم على ما لا يحصى بالعد من الحكم واستحباب المصالح والنعم ودرء المفاسد والنقم وذلك أن الله خلق الغضب من النار وجعله غريزة في الإنسان مهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم لأن البشرة تحكي لون ما وراءها وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه وإن غضب مما فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب فيصفر اللون حزنًا وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر فيترتب على الغضب تغير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال على غير ترتيب واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته وتغير الباطن وقبحه أشد لأنه يولد حقد القلب والحسد وإضمار السوء ومزيد الشماتة وهجر المسلم ومصارمته والإعراض عنه والاستهزاء والسخرية ومنع الحقوق بل أول شيء يقبح منه باطنه وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه هذا كله أثره في الجسد وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحي منه العاقل ويندم قائله عند سكون غضبه ويظهر أثره أيضًا في الفعل بالضرب والقتل فإن فات بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوبه ويلطم خده وربما سقط صريعًا وربما أغمي عليه وربما كسر الآنية وضرب من لا جريمة له فيه وللغضب دواء مانع ورافع فالمانع ذكر فضل الحلم وما جاء في كظم الغيظ من الفضل وما ورد في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد وخوف الله كما حكي عن بعض الملوك أنه كتب ورقة فيها ارحم من في الأرض يرحمك من السماء ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء ويل لحاكم الأرض من حاكم السماء اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب ثم دفعها إلى وزيره فقال إذا غضبت فادفعها إلي فجعل الوزير كلما غضب الملك دفعها إليه فينظر فيها فيسكن غضبه والرافع للغضب نحو المذكور عن هذا الملك والاستعاذة من الشيطان ويتوضأ كما جاء في حديث وإن غضب وهو قائم قعد أو وهو قاعد اضطجع كما في حديث والقصد أن يبعد عن هيئة الوثوب ولا يسرع إلى الانتقام ما أمكن حسبما لمادة المبادرة وأقوى الأشياء في دفعه استحضار التوحيد الحقيقي التام وأنه لا فاعل في الوجود إلا الله وكل فاعل غيره فهو آلة فمن توجه إليه مكروه من جهة غيره فاستحضر أنه تعالى لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه إما على الخالق وهو جرأة تنافي العبودية أو على المخلوق وهو إشراك ينافي التوحيد ولذا قال أنس خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله ولكن يقول قدر الله وما شاء فعل ولو قدر لكان ما ذاك إلا لكمال معرفته بأنه لا فاعل ولا معطي ولا مانع ولا نافع ولا ضار إلا الله وما سواه آلة للفعل كالسيف للضارب فالفاعل هو الله وحده وله آلات كبرى وصغرى ووسطى فالكبرى من له قصد واختيار كالإنسان الضارب بالعصا والصغرى ما لا قصد له ولا اختيار كالعصا المضروب بها والوسطى ما لا قصد له ولا عقل كالدابة ترفس وبهذا يظهر سر أمر صلى الله عليه وسلم لمن غضب أن يستعيذ من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به أمكنه استحضار ما ذكر وإن استمر الشيطان متمكنا من الوسوسة لم يمكنه استحضار شيء من ذلك والله المستعان ( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس الشديد) أي القوي ( بالصرعة) بضم الصاد المهملة وفتح الراء أي الذي يكثر منه صرع الناس قال الباجي ولم يرد نفي الشدة عنه فإنه يعلم بالضرورة شدته وإنما أراد أنه ليس بالنهاية في الشدة وأشد منه الذي يملك نفسه عند الغضب أو أراد أنها شدة ليس لها كبير منفعة وإنما الشدة التي ينتفع بها شدة الذي يملك نفسه عند الغضب كقولهم لا كريم إلا يوسف لم يرد به نفي الكرم عن غيره وإنما أريد إثبات مزية له في الكرم وكذا لا سيف إلا ذو الفقار ولا شجاع إلا علي انتهى فالنفي للمبالغة أي ليس القوي الذي يصرع أبطال الرجال ويلقيهم إلى الأرض بقوة ( إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) بأن لا يفعل موجبات الغضب فإنه إذا ملكها كان هو الشديد الكامل لأنه قهر أكبر أعدائه إذ من عداها أذاه دونها لأنها موجبة لعقوبة الله وأقلها أشد من عقوبات الدنيا وقهر شر خصومه لخبر أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك وهذا من الألفاظ التي نقلت عن موضوعها اللغوي لضرب من المجاز والتوسع وهو من فصيح الكلام وبليغه لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ وقد ثارت عليه شدة من الغضب فقهرها بحلمه وصرعها بثباته وعدم عمله بمقتضى الغضب كان كالصرعة الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه والهاء للمبالغة في الصفة وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم والفتح كهمزة ولمزة وحفظة وضحكة وخدعة والصرعة بسكون الراء بالعكس وهو من يصرعه غيره كثيرًا وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم والسكون كهمزة وما بعده قال ابن التين ضبطنا الصرعة بفتح الراء وقرأه بعضهم بسكونها وليس بشيء لأنه عكس المطلوب قال وضبط أيضًا في بعض الكتب بفتح الصاد وليس بشيء وفي مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا ما تعدون الصرعة فيكم قالوا الذي لا تصرعه الرجال وعند البزار بإسناد حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال ما هذا فقالوا فلان ما يصارع أحدًا إلا صرعه قال أفلا أدلكم على ما هو أشد منه رجل كلمه رجل وكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه وعند ابن حبان مرفوعًا ليس الشديد من غلب الناس إنما الشديد من غلب نفسه وحديث الباب أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وعبد الأعلى بن حماد ثلاثتهم عن مالك به.