فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ

رقم الحديث 1627 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى قَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ، وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحاج) بفتح الفوقية والمهملة وشد الجيم أصله تحاجج بجيمين أدغمت أولاهما في الأخرى ( آدم وموسى) أي ذكر كل منهما حجته قال القابسي وابن عبد البر التقت أرواحهما في السماء أول ما مات موسى فتحاجا قال عياض ويحتمل أن الله أحياهما فاجتمعا فتحاجا بأشخاصهما كما جاء في الإسراء وقيل كان هذا في حياة موسى وأنه سأل الله أن يريه آدم فأجابه ذكر ابن جرير في ذلك أثرًا أن موسى قال رب أبونا آدم الذي أخرجنا وأخرج نفسه من الجنة أرنيه فأراه إياه ( فحج آدم) بالرفع فاعل ( موسى) في محل نصب مفعول أي غلبه بالحجة ( قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس) قال الباجي أي عرضتهم للإغواء لما كنت سبب خروجهم من الجنة وقال عياض أي أنت السبب في إخراجهم وتعريضهم لإغواء الشيطان ( وأخرجتهم من الجنة) دار النعيم والخلود إلى دار البؤس والفناء وفيه أن الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة التي يسكنها المؤمنون في الآخرة فيرد قول المبتدعة أنها غيرها قال الأبي كأن موسى جوز الولادة في الجنة مع أنها مشقة لأنها إنما هي مشقة في الدنيا وقد قيل في هابيل أنه من حمل الجنة وذكر الغزالي عن أبي سعيد مرفوعًا أن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهي ويكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعًا احتج آدم وموسى فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة وفي رواية أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض ( فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء) قال عياض عام يراد به الخصوص أي مما علمك ويحتمل مما علمه البشر ( واصطفاه) اختاره ( على الناس) أهل زمانه ( برسالته) بالإفراد وقرئت الآية به وبالجمع وفي رواية للصحيحين اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده وفي أخرى اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ( قال نعم قال أفتلومني على أمر قد قدر) بشد الدال مبني للمجهول ( علي قبل أن أخلق) فحجه بذلك بأن ألزمه أن ما صدر منه لم يكن هو مستقلاً به متمكنًا من تركه بل كان قدرًا من الله لا بد من إمضائه أي أن الله أثبته في علمه قبل كوني وحكم بأنه كائن لا محالة فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر الله من وراء الأستار وهذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب وإنما كانت في العالم العلوي على أحد الأقوال عند ملتقى الأرواح واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف أما بعدها فأمره إلى الله لا سيما وقد وقع ذلك بعد أن تاب الله عليه فلذا عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق فالتائب لا يلام على ما تيب عليه منه لا سيما إذا انتقل عن دار التكليف وفي رواية للشيخين أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة وفي حديث أبي سعيد عند البزار أتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض وجمع بحمل المقيدة بالأربعين على ما يتعلق بالكتابة والأخرى على ما يتعلق بالعلم قال المازري الأربعين مثل خلقه تاريخ محدود وقضاء الله الكائنات وإرادته أزلي فيجب حمل الأربعين على أنه أظهر قضاءه بذلك للملائكة أو فعل فعلاً ما أضاف إليه هذا التاريخ والأظهر أن المراد بقدر كتبه في التوراة ألا تراه قال في الطريق الآخر فكم وجدت الله كتبه في التوراة من قبل أن أخلق قال بأربعين فإن قيل معنى التحاج ذكر كل واحد من المتناظرين حجته ولا بد من بيان ما تقع به المحاجة وهو هنا اللوم فموسى أثبته وآدم نفاه ولا شك أن آدم احتج بشيء سبق به القدر وأما موسى فإنما ذكر الدعوى ولم يذكر حجة أجاب الأبي بأن قوله في تلك الطريق أنت أبونا حجة لأن الأب محل الشفقة وهي تمنع من وقوع ما يضر بالولد وقال ابن العربي والباجي ليس ما سبق من القضاء والقدر يرفع الملامة عن البشر ولكن معناه قدر علي وتبت منه والتائب لا يلام وقيل إنما غلبه لأن آدم أبوه ولم يشرع للابن لوم الأب قال المازري وهذا بعيد من سياق الحديث وقيل لأن موسى كان قد علم من التوراة أن الله جعل تلك الأكلة سببًا لهبوطه إلى الأرض وسكناه بها ونشر ذريته فيها وتكليفهم ليرتب الثواب والعقاب عليهم وإذا علم ذلك فلا بد من الخروج وقد فعل سببه ففيم اللوم وقيل إنما غلبه لأن ترتيب اللوم على الذم ليس أمرًا عقليًا لا ينفك وإنما هو أمر شرعي يجوز أن يرتفع فإذا تاب الله على آدم وغفر له فقد رفع عنه اللوم فمن لام فيه محجوج مغلوب بالشرع وقيل لما تاب الله عليه لم يجب لومه على المخالفة ومباحثها إنما هي على السبب الذي دعاه إلى ذلك ولم يكن عند آدم سبب إلا قضاء الله وقدره ولذا قال المصطفى فحج آدم موسى ولذا قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله وذكر فضائله أي كما قضى تعالى لك بذلك ونفذه فيك كذلك قضى علي فيما فعلت ونفذه في وهذا الحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن زيد بن أبي أنيسة) قيل واسمه أيضًا زيد الجزري أبو أسامة أصله من الكوفة ثم سكن الرهاء ثقة متفق على الاحتجاج به وله أفراد مات سنة تسع عشرة ومائة وقيل سنة أربع وقيل سنة خمس وعشرين ومائة له مرفوعًا في الموطأ هذا الحديث الواحد ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب) العدوي المدني ثقة من رجال الجميع ( أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء ثقة روى له أصحاب السنن والثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض ( أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ) أي حين { { أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } } بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار { { ذرياتهم } } بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم نسلاً بعد نسل كنجوما يتوالدون كالذر بنعمان بفتح النون يوم عرفة ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً { { وأشهدهم على أنفسهم } } قال { { ألست بربكم قالوا بلى } } أنت ربنا { { شهدنا } } بذلك والإشهادا { { أن } } لا ( يقولوا) بالياء والتاء { { يوم القيامة إنا كنا عن هذا } } الإشهاد { { غافلين } } لا نعرفه ( فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها) أي الآية ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه) قال الباجي أجمع أهل السنة على أن يده صفة وليست بجارحة كجوارح المخلوقين لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقال ابن العربي عبر بالمسح عن تعلق القدرة بظهر آدم وكل معنى يتعلق به قدرة الخالق ويعبر عنه بفعل المخلوق ما لم يكن دناءة وقال عياض اختلف في اليد وما في معناها من الجوارح التي وردت ويستحيل نسبتها إلى الله تعالى فذهب كثير من السلف إلى أنه يجب صرفها عن ظاهرها المحال ولا تتأول ويصرف علمها إلى الله وهي من المتشابه وتأولها الأشعري وناس من أصحابه على أنها صفات لا نعلمها وتأولها قوم على ما تقتضيه اللغة واليد في اللغة تطلق على القدرة والنعمة فكذلك هنا ( فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة) وهم السعداء وحرمتها على غيرهم ( وبعمل أهل الجنة) أي الطاعات ( يعملون) أي أنه تعالى ييسر لهم أعمال الطاعات ويهونها عليهم ( ثم مسح ظهره فاستخرج) أي أخرج ( منه ذرية وقال خلقت هؤلاء) وهم الأشقياء ( للنار وبعمل أهل النار يعملون) لأنهم ميسرون لذلك وجعل كليهما معًا في دار الدنيا فوقع الابتداء والامتحان بسبب الاختلاط وجعلها دار تكليف فبعث إليهم الرسل لبيان ما كلفهم به من الأقوال والأفعال والأخلاق وأمرهم بجهاد الأشقياء فقامت الحرب على ساق فإذا كان يوم المعاد ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله في دارهم والخبيث وأهله في دارهم فينعم هؤلاء بطيبهم ويعذب هؤلاء بخبثهم لانكشاف الحقائق ( فقال رجل) يحتمل أنه عمران بن حصين كما في مسند مسدد بن مسرهد في نحو هذا الحديث وأنه سراقة بن مالك كما في مسلم في نحوه ( يا رسول الله ففيم العمل) أي إذا سبق العلم بذلك فلا حاجة إلى عمل لأنه سيصير إلى ما قدر له ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة) فيهونه عليه ( حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة) عوضًا عن عمله الصالح بمحض رحمته ( وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) وإنما الأعمال بالخواتيم كما في الحديث الآخر وفيه أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم في أصلاب آبائهم بل وهم وآباؤهم وأصول أكوانهم في العدم فعلى العبد أن يدأب في صالح الأعمال فإنها أمارة إلى مآل أمره غالبًا قال الخطابي قول هذا الصحابي مطالبة بأمر يوجب تعطيل العبودية فلم يرخص له صلى الله عليه وسلم لأن إخبار الرسول عن سابق الكتاب إخبار عن غيب علم الله فيهم وهو حجة عليهم فرام أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن ههنا أمرين محكمين لا يبطل أحدهما بالآخر باطن وهو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية وظاهر وهو السمة اللازمة في حق العبودية وهي أمارة ومخيلة غير مفيدة حقيقة العلم ويشبه أن يكون والله أعلم إنما عوملوا بهذه المعاملة وتعبدوا بها ليتعلق خوفهم ورجاؤهم بالباطن وذلك من صفة الإيمان وبين صلى الله عليه وسلم أن كلاً ميسر لما خلق له وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل وهذه الأمور في حكم الظاهر ومن وراء ذلك حكم الله وهو الحكيم الخبير لا يسأل عما يفعل واطلب نظيره من الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ومن الأجل المنصوب مع المعاجلة بالطلب المأذون فيها انتهى وهذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من طريق مالك به وصححه الحاكم وهو من التفسير المرفوع وشواهده كثيرة كحديث الصحيحين عن عمران بن حصين قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له وتناقض ابن عبد البر فقال أولاً حديث منقطع لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر وبينهما نعيم بن ربيعة ثم أخرجه من طريق النسائي وغيره عن أبي عبد الرحيم عن زيد عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم بن ربيعة قال كنت عند عمر فسأله رجل عن هذه الآية فذكر الحديث ثم قال زيادة من زاد نعيمًا ليست بحجة لأن الذين لم يذكروه أحفظ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن انتهى فحيث لم تقبل فهي من المزيد في متصل الأسانيد فيناقض قوله أولاً منقطع بينهما نعيم وأما قوله وبالجملة فإسناده ليس بالقائم فمسلم ونعيم غير معروفين بحمل العلم لكن صح معناه من وجوه كثيرة عن عمر وغيره فإن هذا ليس بعلة قادحة ( مالك أنه بلغه) مر أن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة وقد أخرجه ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تركت فيكم بعد وفاتي أمرين) وفي رواية الحاكم شيئين ( لن تضلوا ما مسكتم) بفتح الميم والسين أي أخذتم وتعلقتم واعتصمتم ( بهما كتاب الله) بالنصب بدل من أمرين ( وسنة نبيه) فإنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ولا هدي إلا منهما والعصمة والنجاة لمن مسك بهما واعتصم بحبلهما وهما العرفان الواضح والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما والمبطل إذا خلاهما فوجوب الرجوع إليهما معلوم من الدين ضرورة لكن القرآن يحصل العلم القطعي يقينًا وفي السنة تفصيل معروف وهذا الحديث أخرجه الحاكم عن أبي هريرة قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال تركت فيكم شيئين كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ( مالك عن زياد بن سعد) بسكون العين ابن عبد الرحمن الخراساني نشأ بها ثم نزل مكة ثم اليمن ثقة ثبت قال ابن عيينة كان أثبت أصحاب الزهري قال مالك ثقة سكن مكة وقدم علينا المدينة وله هيبة وصلاح وكذا وثقه أحمد و ابن معين وغيرهما ( عن عمرو) بفتح العين ( ابن مسلم) الجندي بفتح الجيم والنون اليماني صدوق له أوهام ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الثقة الثبت الفقيه الفاضل يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( أنه قال أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر) أي جميع الأمور إنما هي بتقدير الله تعالى في الأزل فما قدر لا بد من وقوعه أو المراد كل المخلوقات بتقدير محكم وهو تعلق الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب ( قال طاوس وسمعت عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) قال عياض رويناه بالخفض عطفًا على شيء والرفع عطفًا على كل وقد تكون حتى جارة وهو أحد معانيها والعجز يحتمل أنه على ظاهره وهو عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف فيه حتى يخرج وقته ويحتمل أن يريد به عمل الطاعات ويحتمل أمر الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط في تحصيل المطلوب قال وإدخال مالك وغيره هذا الحديث في كتاب القدر يدل على أن المراد به هنا ما قدر الله سبحانه وقضى به وأراده من خلقه انتهى وهو وجيه لكن تعقب الأبي تفسير العجز بعدم القدرة يصيره عدمًا وهو عند المتكلمين صفة ثبوتية يمتنع معها وقوع الفعل الممكن ورجح الطيبي أن حتى حرف جر بمعنى إلى نحو { { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } } لأن المعنى يقتضي الغاية إذ المراد أن أفعال العباد واكتسابهم كلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الموصل صاحبه إلى البغية والعجز الذي يتأخر به عن دركها قال القرطبي ومعنى الحديث ما من شيء يقع في الوجود إلا وسبق علمه به وتعلقت به إرادته ولذا أتى بكل التي هي للعموم وعقبها بحتى التي هي للغاية وإنما عبر بالعجز والكيس ليبين أن أفعالنا وإن كانت مرادة لنا فهي لا تقع إلا بإرادة الله كما قال تعالى { { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } } وقال الطيبي قوبل الكيس بالعجز على المعنى لأن المعنى المقابل الحقيقي للكيس البلادة وللعجز القوة وفائدة هذا الأسلوب تقييد كل من اللفظين بما يضاد الآخر يعني حتى الكيس والقوة والبلادة والعجز عن قدر الله فهو رد على من يثبت القدرة لغيره تعالى مطلقًا ويقول أفعال العباد مسندة إلى قدرة العبد واختياره لأن مصدر الفعل الداعية ومنشؤها القلب الموصوف بالكياسة والبلادة ثم القوة والضعف ومكانهما الأعضاء والجوارح فإذا كان بقضاء الله وقدره فأي شيء يخرج عنهما ( أو) قال ( الكيس) بفتح الكاف وسكون التحتية ومهملة النشاط والحذق والظرافة أو كمال العقل أو شدة معرفة الأمور أو تمييز ما فيه الضرر من النفع ( والعجز) التقصير عما يجب فعله أو عن الطاعة أو أعم والمراد أن الراوي شك هل أخر الكيس أو قدمه والمعنى واحد قال أبو عمر فإن صح أن الشك من ابن عمر أو من دونه ففيه مراعاة الألفاظ على رتبتها وأظنه من ورع ابن عمر والذي عليه العلماء جواز الرواية بالمعنى للعارف بالمعاني وأخرجه مسلم عن عبد الأعلى بن حماد وقتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن زياد بن سعد) المذكور آنفًا ( عن عمرو) بفتح العين ( بن دينار) المكي ثقة ثبت مات سنة ست وعشرين ومائة ( أنه قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته) وهو خليفة ( إن الله هو الهادي) الذي يبين الرشد من الغي وألهم طرق المصالح الدينية كل مكلف والدنيوية كل حي ( والفاتن) بمعنى المضل الوارد في أسمائه ولكن هذا وارد أيضًا عن صحابي فهو توقيف إذ لا يقال بالرأي وفي التنزيل { { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } }{ { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء } } وأخرج أبو عمر عن عطاء بن أبي رباح كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال أرأيت من حرمني الهدى وأورثني الضلالة والردى أتراه أحسن إلي أو ظلمني فقال ابن عباس إذا كان الهدى شيئًا كان لك عنده فمنعك فقد ظلمك وإن كان الهدى له يؤتيه من يشاء فما ظلمك شيئًا ولا تجالسني بعد وبهذا أجاب ربيعة غيلان القدري لما سأله وإنما أخذه من قول ابن عباس ( مالك عن عمه أبي سهيل) بضم السين وفتح الهاء واسمه نافع ( ابن مالك) بن أبي عامر الأصبحي ( قال كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز) أمير المؤمنين ( فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية فقلت أرى أن تستتيبهم) تطلب منهم التوبة عن القول بالقدر ( فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف) أي قتلتهم به ( فقال عمر بن عبد العزيز وذلك رأيي) فيهم ( قال مالك وذلك رأيي) دفعًا لفسادهم وقطعًا لبدعتهم لا للكفر.


رقم الحديث 1628 وحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } } فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُدْخِلُهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ بِهِ النَّارَ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحاج) بفتح الفوقية والمهملة وشد الجيم أصله تحاجج بجيمين أدغمت أولاهما في الأخرى ( آدم وموسى) أي ذكر كل منهما حجته قال القابسي وابن عبد البر التقت أرواحهما في السماء أول ما مات موسى فتحاجا قال عياض ويحتمل أن الله أحياهما فاجتمعا فتحاجا بأشخاصهما كما جاء في الإسراء وقيل كان هذا في حياة موسى وأنه سأل الله أن يريه آدم فأجابه ذكر ابن جرير في ذلك أثرًا أن موسى قال رب أبونا آدم الذي أخرجنا وأخرج نفسه من الجنة أرنيه فأراه إياه ( فحج آدم) بالرفع فاعل ( موسى) في محل نصب مفعول أي غلبه بالحجة ( قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس) قال الباجي أي عرضتهم للإغواء لما كنت سبب خروجهم من الجنة وقال عياض أي أنت السبب في إخراجهم وتعريضهم لإغواء الشيطان ( وأخرجتهم من الجنة) دار النعيم والخلود إلى دار البؤس والفناء وفيه أن الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة التي يسكنها المؤمنون في الآخرة فيرد قول المبتدعة أنها غيرها قال الأبي كأن موسى جوز الولادة في الجنة مع أنها مشقة لأنها إنما هي مشقة في الدنيا وقد قيل في هابيل أنه من حمل الجنة وذكر الغزالي عن أبي سعيد مرفوعًا أن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهي ويكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعًا احتج آدم وموسى فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة وفي رواية أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض ( فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء) قال عياض عام يراد به الخصوص أي مما علمك ويحتمل مما علمه البشر ( واصطفاه) اختاره ( على الناس) أهل زمانه ( برسالته) بالإفراد وقرئت الآية به وبالجمع وفي رواية للصحيحين اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده وفي أخرى اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ( قال نعم قال أفتلومني على أمر قد قدر) بشد الدال مبني للمجهول ( علي قبل أن أخلق) فحجه بذلك بأن ألزمه أن ما صدر منه لم يكن هو مستقلاً به متمكنًا من تركه بل كان قدرًا من الله لا بد من إمضائه أي أن الله أثبته في علمه قبل كوني وحكم بأنه كائن لا محالة فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر الله من وراء الأستار وهذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب وإنما كانت في العالم العلوي على أحد الأقوال عند ملتقى الأرواح واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف أما بعدها فأمره إلى الله لا سيما وقد وقع ذلك بعد أن تاب الله عليه فلذا عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق فالتائب لا يلام على ما تيب عليه منه لا سيما إذا انتقل عن دار التكليف وفي رواية للشيخين أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة وفي حديث أبي سعيد عند البزار أتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض وجمع بحمل المقيدة بالأربعين على ما يتعلق بالكتابة والأخرى على ما يتعلق بالعلم قال المازري الأربعين مثل خلقه تاريخ محدود وقضاء الله الكائنات وإرادته أزلي فيجب حمل الأربعين على أنه أظهر قضاءه بذلك للملائكة أو فعل فعلاً ما أضاف إليه هذا التاريخ والأظهر أن المراد بقدر كتبه في التوراة ألا تراه قال في الطريق الآخر فكم وجدت الله كتبه في التوراة من قبل أن أخلق قال بأربعين فإن قيل معنى التحاج ذكر كل واحد من المتناظرين حجته ولا بد من بيان ما تقع به المحاجة وهو هنا اللوم فموسى أثبته وآدم نفاه ولا شك أن آدم احتج بشيء سبق به القدر وأما موسى فإنما ذكر الدعوى ولم يذكر حجة أجاب الأبي بأن قوله في تلك الطريق أنت أبونا حجة لأن الأب محل الشفقة وهي تمنع من وقوع ما يضر بالولد وقال ابن العربي والباجي ليس ما سبق من القضاء والقدر يرفع الملامة عن البشر ولكن معناه قدر علي وتبت منه والتائب لا يلام وقيل إنما غلبه لأن آدم أبوه ولم يشرع للابن لوم الأب قال المازري وهذا بعيد من سياق الحديث وقيل لأن موسى كان قد علم من التوراة أن الله جعل تلك الأكلة سببًا لهبوطه إلى الأرض وسكناه بها ونشر ذريته فيها وتكليفهم ليرتب الثواب والعقاب عليهم وإذا علم ذلك فلا بد من الخروج وقد فعل سببه ففيم اللوم وقيل إنما غلبه لأن ترتيب اللوم على الذم ليس أمرًا عقليًا لا ينفك وإنما هو أمر شرعي يجوز أن يرتفع فإذا تاب الله على آدم وغفر له فقد رفع عنه اللوم فمن لام فيه محجوج مغلوب بالشرع وقيل لما تاب الله عليه لم يجب لومه على المخالفة ومباحثها إنما هي على السبب الذي دعاه إلى ذلك ولم يكن عند آدم سبب إلا قضاء الله وقدره ولذا قال المصطفى فحج آدم موسى ولذا قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله وذكر فضائله أي كما قضى تعالى لك بذلك ونفذه فيك كذلك قضى علي فيما فعلت ونفذه في وهذا الحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن زيد بن أبي أنيسة) قيل واسمه أيضًا زيد الجزري أبو أسامة أصله من الكوفة ثم سكن الرهاء ثقة متفق على الاحتجاج به وله أفراد مات سنة تسع عشرة ومائة وقيل سنة أربع وقيل سنة خمس وعشرين ومائة له مرفوعًا في الموطأ هذا الحديث الواحد ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب) العدوي المدني ثقة من رجال الجميع ( أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء ثقة روى له أصحاب السنن والثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض ( أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ) أي حين { { أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } } بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار { { ذرياتهم } } بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم نسلاً بعد نسل كنجوما يتوالدون كالذر بنعمان بفتح النون يوم عرفة ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً { { وأشهدهم على أنفسهم } } قال { { ألست بربكم قالوا بلى } } أنت ربنا { { شهدنا } } بذلك والإشهادا { { أن } } لا ( يقولوا) بالياء والتاء { { يوم القيامة إنا كنا عن هذا } } الإشهاد { { غافلين } } لا نعرفه ( فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها) أي الآية ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه) قال الباجي أجمع أهل السنة على أن يده صفة وليست بجارحة كجوارح المخلوقين لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقال ابن العربي عبر بالمسح عن تعلق القدرة بظهر آدم وكل معنى يتعلق به قدرة الخالق ويعبر عنه بفعل المخلوق ما لم يكن دناءة وقال عياض اختلف في اليد وما في معناها من الجوارح التي وردت ويستحيل نسبتها إلى الله تعالى فذهب كثير من السلف إلى أنه يجب صرفها عن ظاهرها المحال ولا تتأول ويصرف علمها إلى الله وهي من المتشابه وتأولها الأشعري وناس من أصحابه على أنها صفات لا نعلمها وتأولها قوم على ما تقتضيه اللغة واليد في اللغة تطلق على القدرة والنعمة فكذلك هنا ( فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة) وهم السعداء وحرمتها على غيرهم ( وبعمل أهل الجنة) أي الطاعات ( يعملون) أي أنه تعالى ييسر لهم أعمال الطاعات ويهونها عليهم ( ثم مسح ظهره فاستخرج) أي أخرج ( منه ذرية وقال خلقت هؤلاء) وهم الأشقياء ( للنار وبعمل أهل النار يعملون) لأنهم ميسرون لذلك وجعل كليهما معًا في دار الدنيا فوقع الابتداء والامتحان بسبب الاختلاط وجعلها دار تكليف فبعث إليهم الرسل لبيان ما كلفهم به من الأقوال والأفعال والأخلاق وأمرهم بجهاد الأشقياء فقامت الحرب على ساق فإذا كان يوم المعاد ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله في دارهم والخبيث وأهله في دارهم فينعم هؤلاء بطيبهم ويعذب هؤلاء بخبثهم لانكشاف الحقائق ( فقال رجل) يحتمل أنه عمران بن حصين كما في مسند مسدد بن مسرهد في نحو هذا الحديث وأنه سراقة بن مالك كما في مسلم في نحوه ( يا رسول الله ففيم العمل) أي إذا سبق العلم بذلك فلا حاجة إلى عمل لأنه سيصير إلى ما قدر له ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة) فيهونه عليه ( حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة) عوضًا عن عمله الصالح بمحض رحمته ( وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) وإنما الأعمال بالخواتيم كما في الحديث الآخر وفيه أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم في أصلاب آبائهم بل وهم وآباؤهم وأصول أكوانهم في العدم فعلى العبد أن يدأب في صالح الأعمال فإنها أمارة إلى مآل أمره غالبًا قال الخطابي قول هذا الصحابي مطالبة بأمر يوجب تعطيل العبودية فلم يرخص له صلى الله عليه وسلم لأن إخبار الرسول عن سابق الكتاب إخبار عن غيب علم الله فيهم وهو حجة عليهم فرام أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن ههنا أمرين محكمين لا يبطل أحدهما بالآخر باطن وهو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية وظاهر وهو السمة اللازمة في حق العبودية وهي أمارة ومخيلة غير مفيدة حقيقة العلم ويشبه أن يكون والله أعلم إنما عوملوا بهذه المعاملة وتعبدوا بها ليتعلق خوفهم ورجاؤهم بالباطن وذلك من صفة الإيمان وبين صلى الله عليه وسلم أن كلاً ميسر لما خلق له وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل وهذه الأمور في حكم الظاهر ومن وراء ذلك حكم الله وهو الحكيم الخبير لا يسأل عما يفعل واطلب نظيره من الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ومن الأجل المنصوب مع المعاجلة بالطلب المأذون فيها انتهى وهذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من طريق مالك به وصححه الحاكم وهو من التفسير المرفوع وشواهده كثيرة كحديث الصحيحين عن عمران بن حصين قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له وتناقض ابن عبد البر فقال أولاً حديث منقطع لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر وبينهما نعيم بن ربيعة ثم أخرجه من طريق النسائي وغيره عن أبي عبد الرحيم عن زيد عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم بن ربيعة قال كنت عند عمر فسأله رجل عن هذه الآية فذكر الحديث ثم قال زيادة من زاد نعيمًا ليست بحجة لأن الذين لم يذكروه أحفظ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن انتهى فحيث لم تقبل فهي من المزيد في متصل الأسانيد فيناقض قوله أولاً منقطع بينهما نعيم وأما قوله وبالجملة فإسناده ليس بالقائم فمسلم ونعيم غير معروفين بحمل العلم لكن صح معناه من وجوه كثيرة عن عمر وغيره فإن هذا ليس بعلة قادحة ( مالك أنه بلغه) مر أن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة وقد أخرجه ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تركت فيكم بعد وفاتي أمرين) وفي رواية الحاكم شيئين ( لن تضلوا ما مسكتم) بفتح الميم والسين أي أخذتم وتعلقتم واعتصمتم ( بهما كتاب الله) بالنصب بدل من أمرين ( وسنة نبيه) فإنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ولا هدي إلا منهما والعصمة والنجاة لمن مسك بهما واعتصم بحبلهما وهما العرفان الواضح والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما والمبطل إذا خلاهما فوجوب الرجوع إليهما معلوم من الدين ضرورة لكن القرآن يحصل العلم القطعي يقينًا وفي السنة تفصيل معروف وهذا الحديث أخرجه الحاكم عن أبي هريرة قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال تركت فيكم شيئين كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ( مالك عن زياد بن سعد) بسكون العين ابن عبد الرحمن الخراساني نشأ بها ثم نزل مكة ثم اليمن ثقة ثبت قال ابن عيينة كان أثبت أصحاب الزهري قال مالك ثقة سكن مكة وقدم علينا المدينة وله هيبة وصلاح وكذا وثقه أحمد و ابن معين وغيرهما ( عن عمرو) بفتح العين ( ابن مسلم) الجندي بفتح الجيم والنون اليماني صدوق له أوهام ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الثقة الثبت الفقيه الفاضل يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( أنه قال أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر) أي جميع الأمور إنما هي بتقدير الله تعالى في الأزل فما قدر لا بد من وقوعه أو المراد كل المخلوقات بتقدير محكم وهو تعلق الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب ( قال طاوس وسمعت عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) قال عياض رويناه بالخفض عطفًا على شيء والرفع عطفًا على كل وقد تكون حتى جارة وهو أحد معانيها والعجز يحتمل أنه على ظاهره وهو عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف فيه حتى يخرج وقته ويحتمل أن يريد به عمل الطاعات ويحتمل أمر الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط في تحصيل المطلوب قال وإدخال مالك وغيره هذا الحديث في كتاب القدر يدل على أن المراد به هنا ما قدر الله سبحانه وقضى به وأراده من خلقه انتهى وهو وجيه لكن تعقب الأبي تفسير العجز بعدم القدرة يصيره عدمًا وهو عند المتكلمين صفة ثبوتية يمتنع معها وقوع الفعل الممكن ورجح الطيبي أن حتى حرف جر بمعنى إلى نحو { { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } } لأن المعنى يقتضي الغاية إذ المراد أن أفعال العباد واكتسابهم كلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الموصل صاحبه إلى البغية والعجز الذي يتأخر به عن دركها قال القرطبي ومعنى الحديث ما من شيء يقع في الوجود إلا وسبق علمه به وتعلقت به إرادته ولذا أتى بكل التي هي للعموم وعقبها بحتى التي هي للغاية وإنما عبر بالعجز والكيس ليبين أن أفعالنا وإن كانت مرادة لنا فهي لا تقع إلا بإرادة الله كما قال تعالى { { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } } وقال الطيبي قوبل الكيس بالعجز على المعنى لأن المعنى المقابل الحقيقي للكيس البلادة وللعجز القوة وفائدة هذا الأسلوب تقييد كل من اللفظين بما يضاد الآخر يعني حتى الكيس والقوة والبلادة والعجز عن قدر الله فهو رد على من يثبت القدرة لغيره تعالى مطلقًا ويقول أفعال العباد مسندة إلى قدرة العبد واختياره لأن مصدر الفعل الداعية ومنشؤها القلب الموصوف بالكياسة والبلادة ثم القوة والضعف ومكانهما الأعضاء والجوارح فإذا كان بقضاء الله وقدره فأي شيء يخرج عنهما ( أو) قال ( الكيس) بفتح الكاف وسكون التحتية ومهملة النشاط والحذق والظرافة أو كمال العقل أو شدة معرفة الأمور أو تمييز ما فيه الضرر من النفع ( والعجز) التقصير عما يجب فعله أو عن الطاعة أو أعم والمراد أن الراوي شك هل أخر الكيس أو قدمه والمعنى واحد قال أبو عمر فإن صح أن الشك من ابن عمر أو من دونه ففيه مراعاة الألفاظ على رتبتها وأظنه من ورع ابن عمر والذي عليه العلماء جواز الرواية بالمعنى للعارف بالمعاني وأخرجه مسلم عن عبد الأعلى بن حماد وقتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن زياد بن سعد) المذكور آنفًا ( عن عمرو) بفتح العين ( بن دينار) المكي ثقة ثبت مات سنة ست وعشرين ومائة ( أنه قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته) وهو خليفة ( إن الله هو الهادي) الذي يبين الرشد من الغي وألهم طرق المصالح الدينية كل مكلف والدنيوية كل حي ( والفاتن) بمعنى المضل الوارد في أسمائه ولكن هذا وارد أيضًا عن صحابي فهو توقيف إذ لا يقال بالرأي وفي التنزيل { { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } }{ { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء } } وأخرج أبو عمر عن عطاء بن أبي رباح كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال أرأيت من حرمني الهدى وأورثني الضلالة والردى أتراه أحسن إلي أو ظلمني فقال ابن عباس إذا كان الهدى شيئًا كان لك عنده فمنعك فقد ظلمك وإن كان الهدى له يؤتيه من يشاء فما ظلمك شيئًا ولا تجالسني بعد وبهذا أجاب ربيعة غيلان القدري لما سأله وإنما أخذه من قول ابن عباس ( مالك عن عمه أبي سهيل) بضم السين وفتح الهاء واسمه نافع ( ابن مالك) بن أبي عامر الأصبحي ( قال كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز) أمير المؤمنين ( فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية فقلت أرى أن تستتيبهم) تطلب منهم التوبة عن القول بالقدر ( فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف) أي قتلتهم به ( فقال عمر بن عبد العزيز وذلك رأيي) فيهم ( قال مالك وذلك رأيي) دفعًا لفسادهم وقطعًا لبدعتهم لا للكفر.


رقم الحديث 1630 وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ.
قَالَ طَاوُسٌ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ، أَوِ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحاج) بفتح الفوقية والمهملة وشد الجيم أصله تحاجج بجيمين أدغمت أولاهما في الأخرى ( آدم وموسى) أي ذكر كل منهما حجته قال القابسي وابن عبد البر التقت أرواحهما في السماء أول ما مات موسى فتحاجا قال عياض ويحتمل أن الله أحياهما فاجتمعا فتحاجا بأشخاصهما كما جاء في الإسراء وقيل كان هذا في حياة موسى وأنه سأل الله أن يريه آدم فأجابه ذكر ابن جرير في ذلك أثرًا أن موسى قال رب أبونا آدم الذي أخرجنا وأخرج نفسه من الجنة أرنيه فأراه إياه ( فحج آدم) بالرفع فاعل ( موسى) في محل نصب مفعول أي غلبه بالحجة ( قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس) قال الباجي أي عرضتهم للإغواء لما كنت سبب خروجهم من الجنة وقال عياض أي أنت السبب في إخراجهم وتعريضهم لإغواء الشيطان ( وأخرجتهم من الجنة) دار النعيم والخلود إلى دار البؤس والفناء وفيه أن الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة التي يسكنها المؤمنون في الآخرة فيرد قول المبتدعة أنها غيرها قال الأبي كأن موسى جوز الولادة في الجنة مع أنها مشقة لأنها إنما هي مشقة في الدنيا وقد قيل في هابيل أنه من حمل الجنة وذكر الغزالي عن أبي سعيد مرفوعًا أن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهي ويكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعًا احتج آدم وموسى فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة وفي رواية أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض ( فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء) قال عياض عام يراد به الخصوص أي مما علمك ويحتمل مما علمه البشر ( واصطفاه) اختاره ( على الناس) أهل زمانه ( برسالته) بالإفراد وقرئت الآية به وبالجمع وفي رواية للصحيحين اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده وفي أخرى اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ( قال نعم قال أفتلومني على أمر قد قدر) بشد الدال مبني للمجهول ( علي قبل أن أخلق) فحجه بذلك بأن ألزمه أن ما صدر منه لم يكن هو مستقلاً به متمكنًا من تركه بل كان قدرًا من الله لا بد من إمضائه أي أن الله أثبته في علمه قبل كوني وحكم بأنه كائن لا محالة فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر الله من وراء الأستار وهذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب وإنما كانت في العالم العلوي على أحد الأقوال عند ملتقى الأرواح واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف أما بعدها فأمره إلى الله لا سيما وقد وقع ذلك بعد أن تاب الله عليه فلذا عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق فالتائب لا يلام على ما تيب عليه منه لا سيما إذا انتقل عن دار التكليف وفي رواية للشيخين أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة وفي حديث أبي سعيد عند البزار أتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض وجمع بحمل المقيدة بالأربعين على ما يتعلق بالكتابة والأخرى على ما يتعلق بالعلم قال المازري الأربعين مثل خلقه تاريخ محدود وقضاء الله الكائنات وإرادته أزلي فيجب حمل الأربعين على أنه أظهر قضاءه بذلك للملائكة أو فعل فعلاً ما أضاف إليه هذا التاريخ والأظهر أن المراد بقدر كتبه في التوراة ألا تراه قال في الطريق الآخر فكم وجدت الله كتبه في التوراة من قبل أن أخلق قال بأربعين فإن قيل معنى التحاج ذكر كل واحد من المتناظرين حجته ولا بد من بيان ما تقع به المحاجة وهو هنا اللوم فموسى أثبته وآدم نفاه ولا شك أن آدم احتج بشيء سبق به القدر وأما موسى فإنما ذكر الدعوى ولم يذكر حجة أجاب الأبي بأن قوله في تلك الطريق أنت أبونا حجة لأن الأب محل الشفقة وهي تمنع من وقوع ما يضر بالولد وقال ابن العربي والباجي ليس ما سبق من القضاء والقدر يرفع الملامة عن البشر ولكن معناه قدر علي وتبت منه والتائب لا يلام وقيل إنما غلبه لأن آدم أبوه ولم يشرع للابن لوم الأب قال المازري وهذا بعيد من سياق الحديث وقيل لأن موسى كان قد علم من التوراة أن الله جعل تلك الأكلة سببًا لهبوطه إلى الأرض وسكناه بها ونشر ذريته فيها وتكليفهم ليرتب الثواب والعقاب عليهم وإذا علم ذلك فلا بد من الخروج وقد فعل سببه ففيم اللوم وقيل إنما غلبه لأن ترتيب اللوم على الذم ليس أمرًا عقليًا لا ينفك وإنما هو أمر شرعي يجوز أن يرتفع فإذا تاب الله على آدم وغفر له فقد رفع عنه اللوم فمن لام فيه محجوج مغلوب بالشرع وقيل لما تاب الله عليه لم يجب لومه على المخالفة ومباحثها إنما هي على السبب الذي دعاه إلى ذلك ولم يكن عند آدم سبب إلا قضاء الله وقدره ولذا قال المصطفى فحج آدم موسى ولذا قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله وذكر فضائله أي كما قضى تعالى لك بذلك ونفذه فيك كذلك قضى علي فيما فعلت ونفذه في وهذا الحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن زيد بن أبي أنيسة) قيل واسمه أيضًا زيد الجزري أبو أسامة أصله من الكوفة ثم سكن الرهاء ثقة متفق على الاحتجاج به وله أفراد مات سنة تسع عشرة ومائة وقيل سنة أربع وقيل سنة خمس وعشرين ومائة له مرفوعًا في الموطأ هذا الحديث الواحد ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب) العدوي المدني ثقة من رجال الجميع ( أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء ثقة روى له أصحاب السنن والثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض ( أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ) أي حين { { أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } } بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار { { ذرياتهم } } بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم نسلاً بعد نسل كنجوما يتوالدون كالذر بنعمان بفتح النون يوم عرفة ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً { { وأشهدهم على أنفسهم } } قال { { ألست بربكم قالوا بلى } } أنت ربنا { { شهدنا } } بذلك والإشهادا { { أن } } لا ( يقولوا) بالياء والتاء { { يوم القيامة إنا كنا عن هذا } } الإشهاد { { غافلين } } لا نعرفه ( فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها) أي الآية ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه) قال الباجي أجمع أهل السنة على أن يده صفة وليست بجارحة كجوارح المخلوقين لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقال ابن العربي عبر بالمسح عن تعلق القدرة بظهر آدم وكل معنى يتعلق به قدرة الخالق ويعبر عنه بفعل المخلوق ما لم يكن دناءة وقال عياض اختلف في اليد وما في معناها من الجوارح التي وردت ويستحيل نسبتها إلى الله تعالى فذهب كثير من السلف إلى أنه يجب صرفها عن ظاهرها المحال ولا تتأول ويصرف علمها إلى الله وهي من المتشابه وتأولها الأشعري وناس من أصحابه على أنها صفات لا نعلمها وتأولها قوم على ما تقتضيه اللغة واليد في اللغة تطلق على القدرة والنعمة فكذلك هنا ( فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة) وهم السعداء وحرمتها على غيرهم ( وبعمل أهل الجنة) أي الطاعات ( يعملون) أي أنه تعالى ييسر لهم أعمال الطاعات ويهونها عليهم ( ثم مسح ظهره فاستخرج) أي أخرج ( منه ذرية وقال خلقت هؤلاء) وهم الأشقياء ( للنار وبعمل أهل النار يعملون) لأنهم ميسرون لذلك وجعل كليهما معًا في دار الدنيا فوقع الابتداء والامتحان بسبب الاختلاط وجعلها دار تكليف فبعث إليهم الرسل لبيان ما كلفهم به من الأقوال والأفعال والأخلاق وأمرهم بجهاد الأشقياء فقامت الحرب على ساق فإذا كان يوم المعاد ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله في دارهم والخبيث وأهله في دارهم فينعم هؤلاء بطيبهم ويعذب هؤلاء بخبثهم لانكشاف الحقائق ( فقال رجل) يحتمل أنه عمران بن حصين كما في مسند مسدد بن مسرهد في نحو هذا الحديث وأنه سراقة بن مالك كما في مسلم في نحوه ( يا رسول الله ففيم العمل) أي إذا سبق العلم بذلك فلا حاجة إلى عمل لأنه سيصير إلى ما قدر له ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة) فيهونه عليه ( حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة) عوضًا عن عمله الصالح بمحض رحمته ( وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) وإنما الأعمال بالخواتيم كما في الحديث الآخر وفيه أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم في أصلاب آبائهم بل وهم وآباؤهم وأصول أكوانهم في العدم فعلى العبد أن يدأب في صالح الأعمال فإنها أمارة إلى مآل أمره غالبًا قال الخطابي قول هذا الصحابي مطالبة بأمر يوجب تعطيل العبودية فلم يرخص له صلى الله عليه وسلم لأن إخبار الرسول عن سابق الكتاب إخبار عن غيب علم الله فيهم وهو حجة عليهم فرام أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن ههنا أمرين محكمين لا يبطل أحدهما بالآخر باطن وهو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية وظاهر وهو السمة اللازمة في حق العبودية وهي أمارة ومخيلة غير مفيدة حقيقة العلم ويشبه أن يكون والله أعلم إنما عوملوا بهذه المعاملة وتعبدوا بها ليتعلق خوفهم ورجاؤهم بالباطن وذلك من صفة الإيمان وبين صلى الله عليه وسلم أن كلاً ميسر لما خلق له وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل وهذه الأمور في حكم الظاهر ومن وراء ذلك حكم الله وهو الحكيم الخبير لا يسأل عما يفعل واطلب نظيره من الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ومن الأجل المنصوب مع المعاجلة بالطلب المأذون فيها انتهى وهذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من طريق مالك به وصححه الحاكم وهو من التفسير المرفوع وشواهده كثيرة كحديث الصحيحين عن عمران بن حصين قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له وتناقض ابن عبد البر فقال أولاً حديث منقطع لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر وبينهما نعيم بن ربيعة ثم أخرجه من طريق النسائي وغيره عن أبي عبد الرحيم عن زيد عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم بن ربيعة قال كنت عند عمر فسأله رجل عن هذه الآية فذكر الحديث ثم قال زيادة من زاد نعيمًا ليست بحجة لأن الذين لم يذكروه أحفظ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن انتهى فحيث لم تقبل فهي من المزيد في متصل الأسانيد فيناقض قوله أولاً منقطع بينهما نعيم وأما قوله وبالجملة فإسناده ليس بالقائم فمسلم ونعيم غير معروفين بحمل العلم لكن صح معناه من وجوه كثيرة عن عمر وغيره فإن هذا ليس بعلة قادحة ( مالك أنه بلغه) مر أن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة وقد أخرجه ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تركت فيكم بعد وفاتي أمرين) وفي رواية الحاكم شيئين ( لن تضلوا ما مسكتم) بفتح الميم والسين أي أخذتم وتعلقتم واعتصمتم ( بهما كتاب الله) بالنصب بدل من أمرين ( وسنة نبيه) فإنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ولا هدي إلا منهما والعصمة والنجاة لمن مسك بهما واعتصم بحبلهما وهما العرفان الواضح والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما والمبطل إذا خلاهما فوجوب الرجوع إليهما معلوم من الدين ضرورة لكن القرآن يحصل العلم القطعي يقينًا وفي السنة تفصيل معروف وهذا الحديث أخرجه الحاكم عن أبي هريرة قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال تركت فيكم شيئين كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ( مالك عن زياد بن سعد) بسكون العين ابن عبد الرحمن الخراساني نشأ بها ثم نزل مكة ثم اليمن ثقة ثبت قال ابن عيينة كان أثبت أصحاب الزهري قال مالك ثقة سكن مكة وقدم علينا المدينة وله هيبة وصلاح وكذا وثقه أحمد و ابن معين وغيرهما ( عن عمرو) بفتح العين ( ابن مسلم) الجندي بفتح الجيم والنون اليماني صدوق له أوهام ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الثقة الثبت الفقيه الفاضل يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( أنه قال أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر) أي جميع الأمور إنما هي بتقدير الله تعالى في الأزل فما قدر لا بد من وقوعه أو المراد كل المخلوقات بتقدير محكم وهو تعلق الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب ( قال طاوس وسمعت عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) قال عياض رويناه بالخفض عطفًا على شيء والرفع عطفًا على كل وقد تكون حتى جارة وهو أحد معانيها والعجز يحتمل أنه على ظاهره وهو عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف فيه حتى يخرج وقته ويحتمل أن يريد به عمل الطاعات ويحتمل أمر الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط في تحصيل المطلوب قال وإدخال مالك وغيره هذا الحديث في كتاب القدر يدل على أن المراد به هنا ما قدر الله سبحانه وقضى به وأراده من خلقه انتهى وهو وجيه لكن تعقب الأبي تفسير العجز بعدم القدرة يصيره عدمًا وهو عند المتكلمين صفة ثبوتية يمتنع معها وقوع الفعل الممكن ورجح الطيبي أن حتى حرف جر بمعنى إلى نحو { { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } } لأن المعنى يقتضي الغاية إذ المراد أن أفعال العباد واكتسابهم كلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الموصل صاحبه إلى البغية والعجز الذي يتأخر به عن دركها قال القرطبي ومعنى الحديث ما من شيء يقع في الوجود إلا وسبق علمه به وتعلقت به إرادته ولذا أتى بكل التي هي للعموم وعقبها بحتى التي هي للغاية وإنما عبر بالعجز والكيس ليبين أن أفعالنا وإن كانت مرادة لنا فهي لا تقع إلا بإرادة الله كما قال تعالى { { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } } وقال الطيبي قوبل الكيس بالعجز على المعنى لأن المعنى المقابل الحقيقي للكيس البلادة وللعجز القوة وفائدة هذا الأسلوب تقييد كل من اللفظين بما يضاد الآخر يعني حتى الكيس والقوة والبلادة والعجز عن قدر الله فهو رد على من يثبت القدرة لغيره تعالى مطلقًا ويقول أفعال العباد مسندة إلى قدرة العبد واختياره لأن مصدر الفعل الداعية ومنشؤها القلب الموصوف بالكياسة والبلادة ثم القوة والضعف ومكانهما الأعضاء والجوارح فإذا كان بقضاء الله وقدره فأي شيء يخرج عنهما ( أو) قال ( الكيس) بفتح الكاف وسكون التحتية ومهملة النشاط والحذق والظرافة أو كمال العقل أو شدة معرفة الأمور أو تمييز ما فيه الضرر من النفع ( والعجز) التقصير عما يجب فعله أو عن الطاعة أو أعم والمراد أن الراوي شك هل أخر الكيس أو قدمه والمعنى واحد قال أبو عمر فإن صح أن الشك من ابن عمر أو من دونه ففيه مراعاة الألفاظ على رتبتها وأظنه من ورع ابن عمر والذي عليه العلماء جواز الرواية بالمعنى للعارف بالمعاني وأخرجه مسلم عن عبد الأعلى بن حماد وقتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن زياد بن سعد) المذكور آنفًا ( عن عمرو) بفتح العين ( بن دينار) المكي ثقة ثبت مات سنة ست وعشرين ومائة ( أنه قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته) وهو خليفة ( إن الله هو الهادي) الذي يبين الرشد من الغي وألهم طرق المصالح الدينية كل مكلف والدنيوية كل حي ( والفاتن) بمعنى المضل الوارد في أسمائه ولكن هذا وارد أيضًا عن صحابي فهو توقيف إذ لا يقال بالرأي وفي التنزيل { { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } }{ { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء } } وأخرج أبو عمر عن عطاء بن أبي رباح كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال أرأيت من حرمني الهدى وأورثني الضلالة والردى أتراه أحسن إلي أو ظلمني فقال ابن عباس إذا كان الهدى شيئًا كان لك عنده فمنعك فقد ظلمك وإن كان الهدى له يؤتيه من يشاء فما ظلمك شيئًا ولا تجالسني بعد وبهذا أجاب ربيعة غيلان القدري لما سأله وإنما أخذه من قول ابن عباس ( مالك عن عمه أبي سهيل) بضم السين وفتح الهاء واسمه نافع ( ابن مالك) بن أبي عامر الأصبحي ( قال كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز) أمير المؤمنين ( فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية فقلت أرى أن تستتيبهم) تطلب منهم التوبة عن القول بالقدر ( فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف) أي قتلتهم به ( فقال عمر بن عبد العزيز وذلك رأيي) فيهم ( قال مالك وذلك رأيي) دفعًا لفسادهم وقطعًا لبدعتهم لا للكفر.


رقم الحديث 1631 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي وَالْفَاتِنُ.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحاج) بفتح الفوقية والمهملة وشد الجيم أصله تحاجج بجيمين أدغمت أولاهما في الأخرى ( آدم وموسى) أي ذكر كل منهما حجته قال القابسي وابن عبد البر التقت أرواحهما في السماء أول ما مات موسى فتحاجا قال عياض ويحتمل أن الله أحياهما فاجتمعا فتحاجا بأشخاصهما كما جاء في الإسراء وقيل كان هذا في حياة موسى وأنه سأل الله أن يريه آدم فأجابه ذكر ابن جرير في ذلك أثرًا أن موسى قال رب أبونا آدم الذي أخرجنا وأخرج نفسه من الجنة أرنيه فأراه إياه ( فحج آدم) بالرفع فاعل ( موسى) في محل نصب مفعول أي غلبه بالحجة ( قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس) قال الباجي أي عرضتهم للإغواء لما كنت سبب خروجهم من الجنة وقال عياض أي أنت السبب في إخراجهم وتعريضهم لإغواء الشيطان ( وأخرجتهم من الجنة) دار النعيم والخلود إلى دار البؤس والفناء وفيه أن الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة التي يسكنها المؤمنون في الآخرة فيرد قول المبتدعة أنها غيرها قال الأبي كأن موسى جوز الولادة في الجنة مع أنها مشقة لأنها إنما هي مشقة في الدنيا وقد قيل في هابيل أنه من حمل الجنة وذكر الغزالي عن أبي سعيد مرفوعًا أن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهي ويكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعًا احتج آدم وموسى فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة وفي رواية أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض ( فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء) قال عياض عام يراد به الخصوص أي مما علمك ويحتمل مما علمه البشر ( واصطفاه) اختاره ( على الناس) أهل زمانه ( برسالته) بالإفراد وقرئت الآية به وبالجمع وفي رواية للصحيحين اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده وفي أخرى اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ( قال نعم قال أفتلومني على أمر قد قدر) بشد الدال مبني للمجهول ( علي قبل أن أخلق) فحجه بذلك بأن ألزمه أن ما صدر منه لم يكن هو مستقلاً به متمكنًا من تركه بل كان قدرًا من الله لا بد من إمضائه أي أن الله أثبته في علمه قبل كوني وحكم بأنه كائن لا محالة فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر الله من وراء الأستار وهذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب وإنما كانت في العالم العلوي على أحد الأقوال عند ملتقى الأرواح واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف أما بعدها فأمره إلى الله لا سيما وقد وقع ذلك بعد أن تاب الله عليه فلذا عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق فالتائب لا يلام على ما تيب عليه منه لا سيما إذا انتقل عن دار التكليف وفي رواية للشيخين أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة وفي حديث أبي سعيد عند البزار أتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض وجمع بحمل المقيدة بالأربعين على ما يتعلق بالكتابة والأخرى على ما يتعلق بالعلم قال المازري الأربعين مثل خلقه تاريخ محدود وقضاء الله الكائنات وإرادته أزلي فيجب حمل الأربعين على أنه أظهر قضاءه بذلك للملائكة أو فعل فعلاً ما أضاف إليه هذا التاريخ والأظهر أن المراد بقدر كتبه في التوراة ألا تراه قال في الطريق الآخر فكم وجدت الله كتبه في التوراة من قبل أن أخلق قال بأربعين فإن قيل معنى التحاج ذكر كل واحد من المتناظرين حجته ولا بد من بيان ما تقع به المحاجة وهو هنا اللوم فموسى أثبته وآدم نفاه ولا شك أن آدم احتج بشيء سبق به القدر وأما موسى فإنما ذكر الدعوى ولم يذكر حجة أجاب الأبي بأن قوله في تلك الطريق أنت أبونا حجة لأن الأب محل الشفقة وهي تمنع من وقوع ما يضر بالولد وقال ابن العربي والباجي ليس ما سبق من القضاء والقدر يرفع الملامة عن البشر ولكن معناه قدر علي وتبت منه والتائب لا يلام وقيل إنما غلبه لأن آدم أبوه ولم يشرع للابن لوم الأب قال المازري وهذا بعيد من سياق الحديث وقيل لأن موسى كان قد علم من التوراة أن الله جعل تلك الأكلة سببًا لهبوطه إلى الأرض وسكناه بها ونشر ذريته فيها وتكليفهم ليرتب الثواب والعقاب عليهم وإذا علم ذلك فلا بد من الخروج وقد فعل سببه ففيم اللوم وقيل إنما غلبه لأن ترتيب اللوم على الذم ليس أمرًا عقليًا لا ينفك وإنما هو أمر شرعي يجوز أن يرتفع فإذا تاب الله على آدم وغفر له فقد رفع عنه اللوم فمن لام فيه محجوج مغلوب بالشرع وقيل لما تاب الله عليه لم يجب لومه على المخالفة ومباحثها إنما هي على السبب الذي دعاه إلى ذلك ولم يكن عند آدم سبب إلا قضاء الله وقدره ولذا قال المصطفى فحج آدم موسى ولذا قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله وذكر فضائله أي كما قضى تعالى لك بذلك ونفذه فيك كذلك قضى علي فيما فعلت ونفذه في وهذا الحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن زيد بن أبي أنيسة) قيل واسمه أيضًا زيد الجزري أبو أسامة أصله من الكوفة ثم سكن الرهاء ثقة متفق على الاحتجاج به وله أفراد مات سنة تسع عشرة ومائة وقيل سنة أربع وقيل سنة خمس وعشرين ومائة له مرفوعًا في الموطأ هذا الحديث الواحد ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب) العدوي المدني ثقة من رجال الجميع ( أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء ثقة روى له أصحاب السنن والثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض ( أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ) أي حين { { أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } } بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار { { ذرياتهم } } بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم نسلاً بعد نسل كنجوما يتوالدون كالذر بنعمان بفتح النون يوم عرفة ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً { { وأشهدهم على أنفسهم } } قال { { ألست بربكم قالوا بلى } } أنت ربنا { { شهدنا } } بذلك والإشهادا { { أن } } لا ( يقولوا) بالياء والتاء { { يوم القيامة إنا كنا عن هذا } } الإشهاد { { غافلين } } لا نعرفه ( فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها) أي الآية ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه) قال الباجي أجمع أهل السنة على أن يده صفة وليست بجارحة كجوارح المخلوقين لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقال ابن العربي عبر بالمسح عن تعلق القدرة بظهر آدم وكل معنى يتعلق به قدرة الخالق ويعبر عنه بفعل المخلوق ما لم يكن دناءة وقال عياض اختلف في اليد وما في معناها من الجوارح التي وردت ويستحيل نسبتها إلى الله تعالى فذهب كثير من السلف إلى أنه يجب صرفها عن ظاهرها المحال ولا تتأول ويصرف علمها إلى الله وهي من المتشابه وتأولها الأشعري وناس من أصحابه على أنها صفات لا نعلمها وتأولها قوم على ما تقتضيه اللغة واليد في اللغة تطلق على القدرة والنعمة فكذلك هنا ( فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة) وهم السعداء وحرمتها على غيرهم ( وبعمل أهل الجنة) أي الطاعات ( يعملون) أي أنه تعالى ييسر لهم أعمال الطاعات ويهونها عليهم ( ثم مسح ظهره فاستخرج) أي أخرج ( منه ذرية وقال خلقت هؤلاء) وهم الأشقياء ( للنار وبعمل أهل النار يعملون) لأنهم ميسرون لذلك وجعل كليهما معًا في دار الدنيا فوقع الابتداء والامتحان بسبب الاختلاط وجعلها دار تكليف فبعث إليهم الرسل لبيان ما كلفهم به من الأقوال والأفعال والأخلاق وأمرهم بجهاد الأشقياء فقامت الحرب على ساق فإذا كان يوم المعاد ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله في دارهم والخبيث وأهله في دارهم فينعم هؤلاء بطيبهم ويعذب هؤلاء بخبثهم لانكشاف الحقائق ( فقال رجل) يحتمل أنه عمران بن حصين كما في مسند مسدد بن مسرهد في نحو هذا الحديث وأنه سراقة بن مالك كما في مسلم في نحوه ( يا رسول الله ففيم العمل) أي إذا سبق العلم بذلك فلا حاجة إلى عمل لأنه سيصير إلى ما قدر له ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة) فيهونه عليه ( حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة) عوضًا عن عمله الصالح بمحض رحمته ( وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) وإنما الأعمال بالخواتيم كما في الحديث الآخر وفيه أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم في أصلاب آبائهم بل وهم وآباؤهم وأصول أكوانهم في العدم فعلى العبد أن يدأب في صالح الأعمال فإنها أمارة إلى مآل أمره غالبًا قال الخطابي قول هذا الصحابي مطالبة بأمر يوجب تعطيل العبودية فلم يرخص له صلى الله عليه وسلم لأن إخبار الرسول عن سابق الكتاب إخبار عن غيب علم الله فيهم وهو حجة عليهم فرام أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن ههنا أمرين محكمين لا يبطل أحدهما بالآخر باطن وهو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية وظاهر وهو السمة اللازمة في حق العبودية وهي أمارة ومخيلة غير مفيدة حقيقة العلم ويشبه أن يكون والله أعلم إنما عوملوا بهذه المعاملة وتعبدوا بها ليتعلق خوفهم ورجاؤهم بالباطن وذلك من صفة الإيمان وبين صلى الله عليه وسلم أن كلاً ميسر لما خلق له وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل وهذه الأمور في حكم الظاهر ومن وراء ذلك حكم الله وهو الحكيم الخبير لا يسأل عما يفعل واطلب نظيره من الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ومن الأجل المنصوب مع المعاجلة بالطلب المأذون فيها انتهى وهذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من طريق مالك به وصححه الحاكم وهو من التفسير المرفوع وشواهده كثيرة كحديث الصحيحين عن عمران بن حصين قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له وتناقض ابن عبد البر فقال أولاً حديث منقطع لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر وبينهما نعيم بن ربيعة ثم أخرجه من طريق النسائي وغيره عن أبي عبد الرحيم عن زيد عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم بن ربيعة قال كنت عند عمر فسأله رجل عن هذه الآية فذكر الحديث ثم قال زيادة من زاد نعيمًا ليست بحجة لأن الذين لم يذكروه أحفظ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن انتهى فحيث لم تقبل فهي من المزيد في متصل الأسانيد فيناقض قوله أولاً منقطع بينهما نعيم وأما قوله وبالجملة فإسناده ليس بالقائم فمسلم ونعيم غير معروفين بحمل العلم لكن صح معناه من وجوه كثيرة عن عمر وغيره فإن هذا ليس بعلة قادحة ( مالك أنه بلغه) مر أن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة وقد أخرجه ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تركت فيكم بعد وفاتي أمرين) وفي رواية الحاكم شيئين ( لن تضلوا ما مسكتم) بفتح الميم والسين أي أخذتم وتعلقتم واعتصمتم ( بهما كتاب الله) بالنصب بدل من أمرين ( وسنة نبيه) فإنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ولا هدي إلا منهما والعصمة والنجاة لمن مسك بهما واعتصم بحبلهما وهما العرفان الواضح والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما والمبطل إذا خلاهما فوجوب الرجوع إليهما معلوم من الدين ضرورة لكن القرآن يحصل العلم القطعي يقينًا وفي السنة تفصيل معروف وهذا الحديث أخرجه الحاكم عن أبي هريرة قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال تركت فيكم شيئين كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ( مالك عن زياد بن سعد) بسكون العين ابن عبد الرحمن الخراساني نشأ بها ثم نزل مكة ثم اليمن ثقة ثبت قال ابن عيينة كان أثبت أصحاب الزهري قال مالك ثقة سكن مكة وقدم علينا المدينة وله هيبة وصلاح وكذا وثقه أحمد و ابن معين وغيرهما ( عن عمرو) بفتح العين ( ابن مسلم) الجندي بفتح الجيم والنون اليماني صدوق له أوهام ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الثقة الثبت الفقيه الفاضل يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( أنه قال أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر) أي جميع الأمور إنما هي بتقدير الله تعالى في الأزل فما قدر لا بد من وقوعه أو المراد كل المخلوقات بتقدير محكم وهو تعلق الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب ( قال طاوس وسمعت عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) قال عياض رويناه بالخفض عطفًا على شيء والرفع عطفًا على كل وقد تكون حتى جارة وهو أحد معانيها والعجز يحتمل أنه على ظاهره وهو عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف فيه حتى يخرج وقته ويحتمل أن يريد به عمل الطاعات ويحتمل أمر الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط في تحصيل المطلوب قال وإدخال مالك وغيره هذا الحديث في كتاب القدر يدل على أن المراد به هنا ما قدر الله سبحانه وقضى به وأراده من خلقه انتهى وهو وجيه لكن تعقب الأبي تفسير العجز بعدم القدرة يصيره عدمًا وهو عند المتكلمين صفة ثبوتية يمتنع معها وقوع الفعل الممكن ورجح الطيبي أن حتى حرف جر بمعنى إلى نحو { { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } } لأن المعنى يقتضي الغاية إذ المراد أن أفعال العباد واكتسابهم كلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الموصل صاحبه إلى البغية والعجز الذي يتأخر به عن دركها قال القرطبي ومعنى الحديث ما من شيء يقع في الوجود إلا وسبق علمه به وتعلقت به إرادته ولذا أتى بكل التي هي للعموم وعقبها بحتى التي هي للغاية وإنما عبر بالعجز والكيس ليبين أن أفعالنا وإن كانت مرادة لنا فهي لا تقع إلا بإرادة الله كما قال تعالى { { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } } وقال الطيبي قوبل الكيس بالعجز على المعنى لأن المعنى المقابل الحقيقي للكيس البلادة وللعجز القوة وفائدة هذا الأسلوب تقييد كل من اللفظين بما يضاد الآخر يعني حتى الكيس والقوة والبلادة والعجز عن قدر الله فهو رد على من يثبت القدرة لغيره تعالى مطلقًا ويقول أفعال العباد مسندة إلى قدرة العبد واختياره لأن مصدر الفعل الداعية ومنشؤها القلب الموصوف بالكياسة والبلادة ثم القوة والضعف ومكانهما الأعضاء والجوارح فإذا كان بقضاء الله وقدره فأي شيء يخرج عنهما ( أو) قال ( الكيس) بفتح الكاف وسكون التحتية ومهملة النشاط والحذق والظرافة أو كمال العقل أو شدة معرفة الأمور أو تمييز ما فيه الضرر من النفع ( والعجز) التقصير عما يجب فعله أو عن الطاعة أو أعم والمراد أن الراوي شك هل أخر الكيس أو قدمه والمعنى واحد قال أبو عمر فإن صح أن الشك من ابن عمر أو من دونه ففيه مراعاة الألفاظ على رتبتها وأظنه من ورع ابن عمر والذي عليه العلماء جواز الرواية بالمعنى للعارف بالمعاني وأخرجه مسلم عن عبد الأعلى بن حماد وقتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن زياد بن سعد) المذكور آنفًا ( عن عمرو) بفتح العين ( بن دينار) المكي ثقة ثبت مات سنة ست وعشرين ومائة ( أنه قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته) وهو خليفة ( إن الله هو الهادي) الذي يبين الرشد من الغي وألهم طرق المصالح الدينية كل مكلف والدنيوية كل حي ( والفاتن) بمعنى المضل الوارد في أسمائه ولكن هذا وارد أيضًا عن صحابي فهو توقيف إذ لا يقال بالرأي وفي التنزيل { { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } }{ { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء } } وأخرج أبو عمر عن عطاء بن أبي رباح كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال أرأيت من حرمني الهدى وأورثني الضلالة والردى أتراه أحسن إلي أو ظلمني فقال ابن عباس إذا كان الهدى شيئًا كان لك عنده فمنعك فقد ظلمك وإن كان الهدى له يؤتيه من يشاء فما ظلمك شيئًا ولا تجالسني بعد وبهذا أجاب ربيعة غيلان القدري لما سأله وإنما أخذه من قول ابن عباس ( مالك عن عمه أبي سهيل) بضم السين وفتح الهاء واسمه نافع ( ابن مالك) بن أبي عامر الأصبحي ( قال كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز) أمير المؤمنين ( فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية فقلت أرى أن تستتيبهم) تطلب منهم التوبة عن القول بالقدر ( فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف) أي قتلتهم به ( فقال عمر بن عبد العزيز وذلك رأيي) فيهم ( قال مالك وذلك رأيي) دفعًا لفسادهم وقطعًا لبدعتهم لا للكفر.


رقم الحديث 1632 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: مَا رَأْيُكَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ؟ فَقُلْتُ: رَأْيِي أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا عَرَضْتَهُمْ عَلَى السَّيْفِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَذَلِكَ رَأْيِي قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ رَأْيِي.


( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحاج) بفتح الفوقية والمهملة وشد الجيم أصله تحاجج بجيمين أدغمت أولاهما في الأخرى ( آدم وموسى) أي ذكر كل منهما حجته قال القابسي وابن عبد البر التقت أرواحهما في السماء أول ما مات موسى فتحاجا قال عياض ويحتمل أن الله أحياهما فاجتمعا فتحاجا بأشخاصهما كما جاء في الإسراء وقيل كان هذا في حياة موسى وأنه سأل الله أن يريه آدم فأجابه ذكر ابن جرير في ذلك أثرًا أن موسى قال رب أبونا آدم الذي أخرجنا وأخرج نفسه من الجنة أرنيه فأراه إياه ( فحج آدم) بالرفع فاعل ( موسى) في محل نصب مفعول أي غلبه بالحجة ( قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس) قال الباجي أي عرضتهم للإغواء لما كنت سبب خروجهم من الجنة وقال عياض أي أنت السبب في إخراجهم وتعريضهم لإغواء الشيطان ( وأخرجتهم من الجنة) دار النعيم والخلود إلى دار البؤس والفناء وفيه أن الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة التي يسكنها المؤمنون في الآخرة فيرد قول المبتدعة أنها غيرها قال الأبي كأن موسى جوز الولادة في الجنة مع أنها مشقة لأنها إنما هي مشقة في الدنيا وقد قيل في هابيل أنه من حمل الجنة وذكر الغزالي عن أبي سعيد مرفوعًا أن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهي ويكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعًا احتج آدم وموسى فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة وفي رواية أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض ( فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء) قال عياض عام يراد به الخصوص أي مما علمك ويحتمل مما علمه البشر ( واصطفاه) اختاره ( على الناس) أهل زمانه ( برسالته) بالإفراد وقرئت الآية به وبالجمع وفي رواية للصحيحين اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده وفي أخرى اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ( قال نعم قال أفتلومني على أمر قد قدر) بشد الدال مبني للمجهول ( علي قبل أن أخلق) فحجه بذلك بأن ألزمه أن ما صدر منه لم يكن هو مستقلاً به متمكنًا من تركه بل كان قدرًا من الله لا بد من إمضائه أي أن الله أثبته في علمه قبل كوني وحكم بأنه كائن لا محالة فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر الله من وراء الأستار وهذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب وإنما كانت في العالم العلوي على أحد الأقوال عند ملتقى الأرواح واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف أما بعدها فأمره إلى الله لا سيما وقد وقع ذلك بعد أن تاب الله عليه فلذا عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق فالتائب لا يلام على ما تيب عليه منه لا سيما إذا انتقل عن دار التكليف وفي رواية للشيخين أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة وفي حديث أبي سعيد عند البزار أتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض وجمع بحمل المقيدة بالأربعين على ما يتعلق بالكتابة والأخرى على ما يتعلق بالعلم قال المازري الأربعين مثل خلقه تاريخ محدود وقضاء الله الكائنات وإرادته أزلي فيجب حمل الأربعين على أنه أظهر قضاءه بذلك للملائكة أو فعل فعلاً ما أضاف إليه هذا التاريخ والأظهر أن المراد بقدر كتبه في التوراة ألا تراه قال في الطريق الآخر فكم وجدت الله كتبه في التوراة من قبل أن أخلق قال بأربعين فإن قيل معنى التحاج ذكر كل واحد من المتناظرين حجته ولا بد من بيان ما تقع به المحاجة وهو هنا اللوم فموسى أثبته وآدم نفاه ولا شك أن آدم احتج بشيء سبق به القدر وأما موسى فإنما ذكر الدعوى ولم يذكر حجة أجاب الأبي بأن قوله في تلك الطريق أنت أبونا حجة لأن الأب محل الشفقة وهي تمنع من وقوع ما يضر بالولد وقال ابن العربي والباجي ليس ما سبق من القضاء والقدر يرفع الملامة عن البشر ولكن معناه قدر علي وتبت منه والتائب لا يلام وقيل إنما غلبه لأن آدم أبوه ولم يشرع للابن لوم الأب قال المازري وهذا بعيد من سياق الحديث وقيل لأن موسى كان قد علم من التوراة أن الله جعل تلك الأكلة سببًا لهبوطه إلى الأرض وسكناه بها ونشر ذريته فيها وتكليفهم ليرتب الثواب والعقاب عليهم وإذا علم ذلك فلا بد من الخروج وقد فعل سببه ففيم اللوم وقيل إنما غلبه لأن ترتيب اللوم على الذم ليس أمرًا عقليًا لا ينفك وإنما هو أمر شرعي يجوز أن يرتفع فإذا تاب الله على آدم وغفر له فقد رفع عنه اللوم فمن لام فيه محجوج مغلوب بالشرع وقيل لما تاب الله عليه لم يجب لومه على المخالفة ومباحثها إنما هي على السبب الذي دعاه إلى ذلك ولم يكن عند آدم سبب إلا قضاء الله وقدره ولذا قال المصطفى فحج آدم موسى ولذا قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله وذكر فضائله أي كما قضى تعالى لك بذلك ونفذه فيك كذلك قضى علي فيما فعلت ونفذه في وهذا الحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن زيد بن أبي أنيسة) قيل واسمه أيضًا زيد الجزري أبو أسامة أصله من الكوفة ثم سكن الرهاء ثقة متفق على الاحتجاج به وله أفراد مات سنة تسع عشرة ومائة وقيل سنة أربع وقيل سنة خمس وعشرين ومائة له مرفوعًا في الموطأ هذا الحديث الواحد ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب) العدوي المدني ثقة من رجال الجميع ( أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء ثقة روى له أصحاب السنن والثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض ( أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ) أي حين { { أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } } بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار { { ذرياتهم } } بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم نسلاً بعد نسل كنجوما يتوالدون كالذر بنعمان بفتح النون يوم عرفة ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً { { وأشهدهم على أنفسهم } } قال { { ألست بربكم قالوا بلى } } أنت ربنا { { شهدنا } } بذلك والإشهادا { { أن } } لا ( يقولوا) بالياء والتاء { { يوم القيامة إنا كنا عن هذا } } الإشهاد { { غافلين } } لا نعرفه ( فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها) أي الآية ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه) قال الباجي أجمع أهل السنة على أن يده صفة وليست بجارحة كجوارح المخلوقين لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وقال ابن العربي عبر بالمسح عن تعلق القدرة بظهر آدم وكل معنى يتعلق به قدرة الخالق ويعبر عنه بفعل المخلوق ما لم يكن دناءة وقال عياض اختلف في اليد وما في معناها من الجوارح التي وردت ويستحيل نسبتها إلى الله تعالى فذهب كثير من السلف إلى أنه يجب صرفها عن ظاهرها المحال ولا تتأول ويصرف علمها إلى الله وهي من المتشابه وتأولها الأشعري وناس من أصحابه على أنها صفات لا نعلمها وتأولها قوم على ما تقتضيه اللغة واليد في اللغة تطلق على القدرة والنعمة فكذلك هنا ( فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة) وهم السعداء وحرمتها على غيرهم ( وبعمل أهل الجنة) أي الطاعات ( يعملون) أي أنه تعالى ييسر لهم أعمال الطاعات ويهونها عليهم ( ثم مسح ظهره فاستخرج) أي أخرج ( منه ذرية وقال خلقت هؤلاء) وهم الأشقياء ( للنار وبعمل أهل النار يعملون) لأنهم ميسرون لذلك وجعل كليهما معًا في دار الدنيا فوقع الابتداء والامتحان بسبب الاختلاط وجعلها دار تكليف فبعث إليهم الرسل لبيان ما كلفهم به من الأقوال والأفعال والأخلاق وأمرهم بجهاد الأشقياء فقامت الحرب على ساق فإذا كان يوم المعاد ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله في دارهم والخبيث وأهله في دارهم فينعم هؤلاء بطيبهم ويعذب هؤلاء بخبثهم لانكشاف الحقائق ( فقال رجل) يحتمل أنه عمران بن حصين كما في مسند مسدد بن مسرهد في نحو هذا الحديث وأنه سراقة بن مالك كما في مسلم في نحوه ( يا رسول الله ففيم العمل) أي إذا سبق العلم بذلك فلا حاجة إلى عمل لأنه سيصير إلى ما قدر له ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة) فيهونه عليه ( حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة) عوضًا عن عمله الصالح بمحض رحمته ( وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) وإنما الأعمال بالخواتيم كما في الحديث الآخر وفيه أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم في أصلاب آبائهم بل وهم وآباؤهم وأصول أكوانهم في العدم فعلى العبد أن يدأب في صالح الأعمال فإنها أمارة إلى مآل أمره غالبًا قال الخطابي قول هذا الصحابي مطالبة بأمر يوجب تعطيل العبودية فلم يرخص له صلى الله عليه وسلم لأن إخبار الرسول عن سابق الكتاب إخبار عن غيب علم الله فيهم وهو حجة عليهم فرام أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن ههنا أمرين محكمين لا يبطل أحدهما بالآخر باطن وهو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية وظاهر وهو السمة اللازمة في حق العبودية وهي أمارة ومخيلة غير مفيدة حقيقة العلم ويشبه أن يكون والله أعلم إنما عوملوا بهذه المعاملة وتعبدوا بها ليتعلق خوفهم ورجاؤهم بالباطن وذلك من صفة الإيمان وبين صلى الله عليه وسلم أن كلاً ميسر لما خلق له وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل وهذه الأمور في حكم الظاهر ومن وراء ذلك حكم الله وهو الحكيم الخبير لا يسأل عما يفعل واطلب نظيره من الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ومن الأجل المنصوب مع المعاجلة بالطلب المأذون فيها انتهى وهذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من طريق مالك به وصححه الحاكم وهو من التفسير المرفوع وشواهده كثيرة كحديث الصحيحين عن عمران بن حصين قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له وتناقض ابن عبد البر فقال أولاً حديث منقطع لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر وبينهما نعيم بن ربيعة ثم أخرجه من طريق النسائي وغيره عن أبي عبد الرحيم عن زيد عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم بن ربيعة قال كنت عند عمر فسأله رجل عن هذه الآية فذكر الحديث ثم قال زيادة من زاد نعيمًا ليست بحجة لأن الذين لم يذكروه أحفظ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن انتهى فحيث لم تقبل فهي من المزيد في متصل الأسانيد فيناقض قوله أولاً منقطع بينهما نعيم وأما قوله وبالجملة فإسناده ليس بالقائم فمسلم ونعيم غير معروفين بحمل العلم لكن صح معناه من وجوه كثيرة عن عمر وغيره فإن هذا ليس بعلة قادحة ( مالك أنه بلغه) مر أن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة وقد أخرجه ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تركت فيكم بعد وفاتي أمرين) وفي رواية الحاكم شيئين ( لن تضلوا ما مسكتم) بفتح الميم والسين أي أخذتم وتعلقتم واعتصمتم ( بهما كتاب الله) بالنصب بدل من أمرين ( وسنة نبيه) فإنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ولا هدي إلا منهما والعصمة والنجاة لمن مسك بهما واعتصم بحبلهما وهما العرفان الواضح والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما والمبطل إذا خلاهما فوجوب الرجوع إليهما معلوم من الدين ضرورة لكن القرآن يحصل العلم القطعي يقينًا وفي السنة تفصيل معروف وهذا الحديث أخرجه الحاكم عن أبي هريرة قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال تركت فيكم شيئين كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ( مالك عن زياد بن سعد) بسكون العين ابن عبد الرحمن الخراساني نشأ بها ثم نزل مكة ثم اليمن ثقة ثبت قال ابن عيينة كان أثبت أصحاب الزهري قال مالك ثقة سكن مكة وقدم علينا المدينة وله هيبة وصلاح وكذا وثقه أحمد و ابن معين وغيرهما ( عن عمرو) بفتح العين ( ابن مسلم) الجندي بفتح الجيم والنون اليماني صدوق له أوهام ( عن طاوس) بن كيسان ( اليماني) الثقة الثبت الفقيه الفاضل يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( أنه قال أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر) أي جميع الأمور إنما هي بتقدير الله تعالى في الأزل فما قدر لا بد من وقوعه أو المراد كل المخلوقات بتقدير محكم وهو تعلق الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب ( قال طاوس وسمعت عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) قال عياض رويناه بالخفض عطفًا على شيء والرفع عطفًا على كل وقد تكون حتى جارة وهو أحد معانيها والعجز يحتمل أنه على ظاهره وهو عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف فيه حتى يخرج وقته ويحتمل أن يريد به عمل الطاعات ويحتمل أمر الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط في تحصيل المطلوب قال وإدخال مالك وغيره هذا الحديث في كتاب القدر يدل على أن المراد به هنا ما قدر الله سبحانه وقضى به وأراده من خلقه انتهى وهو وجيه لكن تعقب الأبي تفسير العجز بعدم القدرة يصيره عدمًا وهو عند المتكلمين صفة ثبوتية يمتنع معها وقوع الفعل الممكن ورجح الطيبي أن حتى حرف جر بمعنى إلى نحو { { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } } لأن المعنى يقتضي الغاية إذ المراد أن أفعال العباد واكتسابهم كلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الموصل صاحبه إلى البغية والعجز الذي يتأخر به عن دركها قال القرطبي ومعنى الحديث ما من شيء يقع في الوجود إلا وسبق علمه به وتعلقت به إرادته ولذا أتى بكل التي هي للعموم وعقبها بحتى التي هي للغاية وإنما عبر بالعجز والكيس ليبين أن أفعالنا وإن كانت مرادة لنا فهي لا تقع إلا بإرادة الله كما قال تعالى { { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ } } وقال الطيبي قوبل الكيس بالعجز على المعنى لأن المعنى المقابل الحقيقي للكيس البلادة وللعجز القوة وفائدة هذا الأسلوب تقييد كل من اللفظين بما يضاد الآخر يعني حتى الكيس والقوة والبلادة والعجز عن قدر الله فهو رد على من يثبت القدرة لغيره تعالى مطلقًا ويقول أفعال العباد مسندة إلى قدرة العبد واختياره لأن مصدر الفعل الداعية ومنشؤها القلب الموصوف بالكياسة والبلادة ثم القوة والضعف ومكانهما الأعضاء والجوارح فإذا كان بقضاء الله وقدره فأي شيء يخرج عنهما ( أو) قال ( الكيس) بفتح الكاف وسكون التحتية ومهملة النشاط والحذق والظرافة أو كمال العقل أو شدة معرفة الأمور أو تمييز ما فيه الضرر من النفع ( والعجز) التقصير عما يجب فعله أو عن الطاعة أو أعم والمراد أن الراوي شك هل أخر الكيس أو قدمه والمعنى واحد قال أبو عمر فإن صح أن الشك من ابن عمر أو من دونه ففيه مراعاة الألفاظ على رتبتها وأظنه من ورع ابن عمر والذي عليه العلماء جواز الرواية بالمعنى للعارف بالمعاني وأخرجه مسلم عن عبد الأعلى بن حماد وقتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ( مالك عن زياد بن سعد) المذكور آنفًا ( عن عمرو) بفتح العين ( بن دينار) المكي ثقة ثبت مات سنة ست وعشرين ومائة ( أنه قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته) وهو خليفة ( إن الله هو الهادي) الذي يبين الرشد من الغي وألهم طرق المصالح الدينية كل مكلف والدنيوية كل حي ( والفاتن) بمعنى المضل الوارد في أسمائه ولكن هذا وارد أيضًا عن صحابي فهو توقيف إذ لا يقال بالرأي وفي التنزيل { { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } }{ { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء } } وأخرج أبو عمر عن عطاء بن أبي رباح كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال أرأيت من حرمني الهدى وأورثني الضلالة والردى أتراه أحسن إلي أو ظلمني فقال ابن عباس إذا كان الهدى شيئًا كان لك عنده فمنعك فقد ظلمك وإن كان الهدى له يؤتيه من يشاء فما ظلمك شيئًا ولا تجالسني بعد وبهذا أجاب ربيعة غيلان القدري لما سأله وإنما أخذه من قول ابن عباس ( مالك عن عمه أبي سهيل) بضم السين وفتح الهاء واسمه نافع ( ابن مالك) بن أبي عامر الأصبحي ( قال كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز) أمير المؤمنين ( فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية فقلت أرى أن تستتيبهم) تطلب منهم التوبة عن القول بالقدر ( فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف) أي قتلتهم به ( فقال عمر بن عبد العزيز وذلك رأيي) فيهم ( قال مالك وذلك رأيي) دفعًا لفسادهم وقطعًا لبدعتهم لا للكفر.