فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الْعَمَلِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ

رقم الحديث 35 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ قَدْ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ.


( مَالِكٍ عَنْ عَمْرِو) بفتح العين ( بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ) بكسر الزاي من بني مازن بن النجار الأنصاري ( عَنْ أَبِيهِ) يحيى بن عمارة بضم العين وخفة الميم ابن أبي حسن واسمه تميم بن عمرو الأنصاري المدني من ثقات التابعين ولأبي حسن صحبة وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر، وقال أبو نعيم: فيه نظر.

( أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ) بن كعب الأنصاري المازني أبي محمد صحابي شهير روى صفة الوضوء وعدة أحاديث وشهد بدرًا وما بعدها فيما جزم به أبو أحمد الحاكم وابن منده وأخرجه الحاكم في المستدرك.

وقال ابن عبد البر: شهد أحدًا وغيرها ولم يشهد بدرًا ويقال إنه الذي قتل مسيلمة الكذاب واستشهد يوم الحرة سنة ثلاث وستين وسمي سفيان بن عيينة جده عبد ربه فغلطه الحفاظ المتقدمون والمتأخرون لأنهما صحابيان متغايران أحدهما جده عاصم وهو راوي هذا الحديث والآخر جده عبد ربه راوي حديث الأذان وقد قيل لا يعرف له سواه.

وممن نص على غلط ابن عيينة البخاري وقد اختلف رواة الموطأ في تعيين السائل ففي رواية يحيى كما ترى أنه يحيى بن عمارة ووافقه القعنبي والشافعي.
وفي رواية معن بن عيسى القزاز ومحمد بن الحسن عن عمرو عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد وكذا ساقه سحنون في المدونة ورواه أبو مصعب وأكثر رواة الموطأ أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد بإبهام السائل وللبخاري من طريق وهيب قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد وجمع الحافظ بأنه اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى بن عمارة فسألوه عن صفة الوضوء وتولى السؤال منهم له عمرو بن أبي حسن فحيث نسب السؤال إليه كان على الحقيقة.

ويؤيده رواية البخاري عن سليمان بن بلال حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان عمي - يعني عمرو بن أبي حسن - يكثر الوضوء فقال لعبد الله بن زيد أخبرني فذكره وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه الأكبر وكان حاضرًا وحيث نسب السؤال ليحيى بن عمارة فعلى المجاز أيضًا لكونه ناقل الحديث وقد حضر السؤال، ويؤيده رواية الإسماعيلي عن خالد الواسطي عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: قلنا لعبد الله فإنه يشعر بكونهم اتفقوا على سؤاله لكن متوليه منهم عمرو بن أبي حسن، ويزيد ذلك وضوحًا رواية أبي نعيم في المستخرج عن الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمه عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء فقلت لعبد الله بن يزيد ( وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ) قال ابن عبد البر: كذا لجميع رواة الموطأ وانفرد به مالك ولم يتابعه عليه أحد فلم يقل أحد أن عبد الله بن زيد جد عمرو.

قال ابن دقيق العيد: هذا وهم قبيح من يحيى بن يحيى أو غيره وأعجب منه أن ابن وضاح سئل عنه وكان من الأئمة في الحديث والفقه فقال: هو جده لأمه ورحم الله من انتهى إلى ما سمع ووقف دون ما لم يعلم وكيف جاز هذا على ابن وضاح والصواب في المدونة التي كان يقريها ويرويها عن سحنون وهي بين يديه ينظر فيها كل حين قال وصواب الحديث مالك عن عمرو بن يحيى عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد وهذا الرجل هو عمارة بن أبي حسن وهو جد عمرو بن يحيى.

وقال الحافظ: الضمير راجع للرجل القائل الثابت في أكثر الروايات فإن كان أبو حسن فهو جد عمرو حقيقة أو ابنه عمرو فمجاز لأنه عم أبيه يحيى فسماه جدًا لأنه في منزلته ووهم من زعم أن ضمير وهو لعبد الله بن زيد لأنه ليس جدًا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازًا، وقول صاحب الكمال ومن تبعه إن عمرو بن يحيى ابن بنت عبد الله بن زيد غلط توهمه من هذه الرواية.
وقد ذكر ابن سعد أن أم عمرو حميدة بنت محمد بن إياس بن البكير وقال غيره هي أم النعمان بنت أبي حبة.

( وَكَانَ) عبد الله بن زيد ( مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .
قال ابن عبد البر: رواه سفيان بن عيينة عن عمرو فقال فيه عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه وأخطأ فيه إنما هو عبد الله بن زيد بن عاصم وهما صحابيان متغايران وهم إسماعيل بن إسحاق فيهما فجعلهما واحدًا والغلط لا يسلم منه أحد وإذا كان ابن عيينة مع جلالته غلط في ذلك فإسماعيل أين يقع منه إلا أن المتأخرين أوسع علمًا وأقل عذرًا.

( هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي) أي أرني قال الحافظ وفيه ملاطفة الطالب للشيخ وكأنه أراد الإراءة بالفعل ليكون أبلغ في التعليم وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون نسي ذلك لبعد العهد ( كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ) للصلاة ( فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ نَعَمْ) أستطيع ( فَدَعَا بِوَضُوءٍ) بفتح الواو ما يتوضأ به.
وللبخاري عن ابن يوسف عن مالك فدعا بماء.
وله من وجه آخر فدعا بتور من ماء بفوقية مفتوحة قدح أو إناء يشرب منه أو الطست أو شبه الطست أو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة.
وله من طريق آخر عن عبد الله بن زيد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له في تور من صفر بضم المهملة وقد تكسر صنف من جيد النحاس ويسمى أيضًا الشبه بفتح المعجمة والموحدة سمي بذلك لأنه يشبه الذهب والتور المذكور هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد إذ سئل عن صفة الوضوء فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها.

( فَأَفْرَغَ) أي صب يقال أفرغ وفرغ لغتان حكاهما في المحكم ( عَلَى يَدِهِ) زاد أبو مصعب ويحيى بن بكير اليمني.
وفي رواية ابن وضاح بالتثنية فالتقدير على إحدى يديه أو المراد باليد جنسها فيتفق الروايتان معنى ( فَغَسَلَ يَدَيْهِ) بالتثنية لجمهور رواة الموطأ ولعبد الله بن يوسف عن مالك يده بالإفراد على الجنس فيتفق الروايتان.
وقد رواه وهيب وسليمان بن بلال عند البخاري والدراوردي عند أبي نعيم يديه بالتثنية ( مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) قال الحافظ: كذا لمالك وعند هؤلاء وكذا خالد بن عبد الله عند مسلم ثلاثًا وهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد.

وقد ذكر مسلم عن وهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو بن يحيى إملاء فتأكد ترجيح روايته ولا يحمل على واقعتين لاتحاد المخرج والأصل عدم التعدد وفيه غسل اليد قبل إدخالها الإناء ولو كان على غير نوم ومثله في حديث عثمان، والمراد باليدين هنا الكفان لا غير.

( ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ) كذا ليحيى ولأبي مصعب بدله واستنشق فأطلق الاستنثار على الاستنشاق لأنه يستلزمه بلا عكس.
وفي رواية وهيب فمضمض واستنشق واستنثر فجمع بين الثلاثة قاله الحافظ.
وقال النووي الذي عليه جمهور أهل اللغة وغيرهم أن الاستنشاق غير الاستنثار مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف وهو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق وهو إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه خلافًا لقول ابن الأعرابي وابن قتيبة أنهما بمعنى واحد ( ثَلَاثًا) زاد وهيب بثلاث غرفات وفيه استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة.
وفي رواية خالد بن عبد الله مضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثًا وهو صريح في الجمع في كل مرة بخلاف رواية وهيب فيطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية قاله ابن دقيق العيد.

( ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا) لم تختلف الروايات في ذلك ويلزم من استدل بالحديث على وجوب تعميم الرأس بالمسح يعني كمالك وتبعه البخاري أن يستدل به على وجوب الترتيب للإتيان بقوله ثم في الجميع لأن كلا الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل كذا قال الحافظ ولا يلزم ذلك لأن إسقاط الباء في قوله مسح رأسه مع كونها في الآية ظاهر في وجوب مسح جميعه ولا سيما وقد أكده في رواية بلفظ كله بخلاف لفظ ثم لا يفيد وجوب الترتيب بل يتحقق بالسنة، وإلا لزم أن التثليث ونحوه واجب لأنه مجمل في الآية أيضًا.

( ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) بالتكرار لئلا يتوهم أن المرتين لكلتا اليدين.
قال الولي العراقي المنقول في علم العربية أن أسماء الأعداد والمصادر والأجناس إذا كررت كان المراد حصولها مكررة لا التأكيد اللفظي فإنه قليل الفائدة لا يحسن حيث يكون للكلام محمل غيره مثال ذلك جاء القوم اثنين اثنين أو رجلاً رجلا وضربته ضربًا ضربًا أي اثنين بعد اثنين ورجلاً بعد رجل وضربًا بعد ضرب قال وهذا منه أي غسلهما مرتين بعد مرتين أي أفرد كل واحدة منهما بالغسل مرتين.

وقال الحافظ لم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين.
ولمسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وفيه وغسل يده اليمنى ثلاثًا ثم الأخرى ثلاثًا فيحمل على أنه وضوء آخر لاختلاف مخرج الحديثين.

( إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ) تثنية مرفق بكسر الميم وفتح الفاء وبفتح الميم وكسر الفاء لغتان مشهورتان وهو العظم الناتئ في آخر الذراع سمي به لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه.
وذهب جمهور العلماء إلى دخولهما في غسل اليدين لأن إلى في الآية بمعنى مع كقوله تعالى: { { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } } ورد بأنه خلاف الظاهر.
وأجيب: بأن القرينة دلت عليه وهي أن ما بعد إلى من جنس ما قبلها.

وقال ابن القصار: اليد يتناولها الاسم إلى الإبط لحديث عمار أنه تيمم إلى الإبط وهو من أهل اللغة فلما جاء قوله تعالى: { { إِلَى الْمَرَافِقِ } } بقي المرفق مغسولاً مع الذراعين بحق الاسم انتهى فإلى هنا حد للمتروك لا للمغسول.

وقال الزمخشري: لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقًا فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فقوله تعالى: { { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } } دليل عدم دخوله النهي عن الوصال وقول القائل حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل الدخول كون الكلام مسوقًا لحفظ جميع القرآن وقوله تعالى: { { إِلَى الْمَرَافِقِ } } لا دليل فيه على أحد الأمرين قال فأخذ العلماء بالاحتياط ووقف زفر مع المتيقن.

قال الحافظ: ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم ففي الدارقطني بإسناد حسن عن عثمان فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين، وفيه عن جابر بإسناد ضعيف كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، وفي البزار والطبراني عن ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعًا: ثم يغسل ذراعيه حتى يجاوز المرفق وفي الطحاوي والطبراني عن ابن عباد عن أبيه مرفوعًا: ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا.

قال إسحاق بن راهويه: إلى في الآية تحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع فبينت السنة أنها بمعنى مع وقد قال الشافعي لا أعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع قبله وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده ولم يثبت ذلك عن مالك صريحًا وإنما حكى عنه أشهب كلامًا محتملاً.

( ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ) زاد ابن الطباع كله ولأبي مصعب برأسه.
قال القرطبي: الباء للتعدية فيجوز حذفها وإثباتها لذلك يقال مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه، وقيل إنما دخلت الباء لتفيد معنى بديعًا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به والمسح لا يقتضي ممسوحًا به فلو قيل رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارًا من غير شيء على الرأس فدخلت الباء لتفيد ممسوحًا به وهو الماء فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء وذلك فصيح في اللغة على وجهين إما على القلب كما أنشد سيبويه:

كنواح ريش حمامة نجدية
ومسحت باللثتين عصف الإثمد

واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في معناه كقوله:

مثل القنافذ هذا جون قد بلغت
نجران أو بلغت سوآتهم هجر

انتهى.
وأخرج ابن خزيمة عن إسحاق بن عيسى بن الطباع قال: سألت مالكًا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه أيجزيه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله فإن كان لفظ الآية محتملاً مسح الكل فالباء زائدة أو البعض فتبعيضية فقد تبين بفعله صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول ولم ينقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته رواه مسلم.

قال علماؤنا: ولعل ذلك كان لعذر بدليل أنه لم يكتف بمسح الناصية حتى مسح على العمامة إذ لو لم يكن مسح كل الرأس واجبًا ما مسح على العمامة واحتجاج المخالف بما صح عن ابن عمر من الاكتفاء بمسح بعض الرأس ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك لا ينهض إذ المختلف فيه لا يجب إنكاره وقول ابن عمر لم يرفعه فهو رأي له فلا يعارض المرفوع.

( بِيَدَيْهِ) بالتثنية ( فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ) قال عياض قيل معناه أقبل إلى جهة قفاه ورجع كما فسر بعده، وقيل المراد أدبر وأقبل والواو لا تعطي رتبة قال وهذا أولى ويعضده رواية وهيب في البخاري فأدبر بهما وأقبل، وفي مسلم مسح رأسه كله وما أقبل وما أدبر وصدغيه ( بَدَأَ) أي ابتدأ ( بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ) بفتح الدال مشددة ويجوز كسرها والتخفيف وكذا مؤخر ( ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ) بالقصر.
وحكى مده وهو قليل مؤخر العنق وفي المحكم وراء العنق يذكر ويؤنث ( ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ) ليستوعب جهتي الشعر بالمسح والمشهور عند من أوجب التعميم أن الأولى واجبة والثانية سنة وجملة قوله بدأ إلخ عطف بيان لقوله فأقبل بهما وأدبر ومن ثم لم تدخل الواو على بدأ.

قال الحافظ: والظاهر أنه من الحديث وليس مدرجًا من كلام مالك ففيه حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه لظاهر قوله أقبل وأدبر ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب.

وفي رواية للبخاري فأدبر بيديه وأقبل فلم يكن في ظاهره حجة لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه ومخرج الطريقين متحد فهما بمعنى واحد، وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم فيحمل قوله أقبل على أنه من تسمية الفعل بابتدائه أي بدأ بقبل الرأس انتهى.

وقال ابن عبد البر: روى ابن عيينة هذا الحديث فذكر فيه مسح الرأس مرتين وهو خطأ لم يذكره أحد غيره قال وأظنه تأوله على أن الإقبال مرة والإدبار أخرى.

( ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) إلى الكعبين كما في رواية وهيب عند البخاري والبحث فيه كالبحث في إلى المرفقين، والمشهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم من كل رجل.
وحكى محمد عن أبي حنيفة وابن القاسم عن مالك أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك والأول هو الصحيح الذي تعرفه أهل اللغة وقد أكثروا من الرد على الثاني، ومن أوضح الأدلة فيه حديث النعمان بن بشير الصحيح في صفة الصف في الصلاة فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه هذا.

وقال القرطبي: لم يجئ في حديث عبد الله بن زيد للأذنين ذكر ويمكن أن ذلك لأن اسم الرأس يعمهما، ورده الولي العراقي بأن الحاكم والبيهقي رويا من حديثه وصححاه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه، والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم من طريق معن كلاهما عن مالك به.

( مالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بكسر الزاي وبالنون واسمه عبد الله بن ذكوان وكنيته أبو عبد الله وأبو الزناد لقب وكان يغضب منه لما فيه من معنى ملازم النار لكنه اشتهر به لجودة ذهنه وحدة فهمه كأنه نار موقدة.

( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ) أي إذا شرع في الوضوء ( أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ) ماء كما في رواية القعنبي وابن بكير وأكثر الرواة وكذا ثبت في رواية سفيان عن أبي الزناد عند مسلم وسقط من رواية يحيى وكذا من رواية الأكثر في البخاري.
قال أبو عمر: لأنه مفهوم من الخطاب فإن المجعول في أنفه إذا توضأ إنما هو ماء ولذا قال ( ثُمَّ لِيَنْثِرْ) بكسر المثلثة بعد النون الساكنة على المشهور وحكي ضمها قاله النووي.

وفي الصحيح: ثم لينتثر بزيادة تاء، وفي النسائي ثم ليستنثر بزيادة سين وتاء كذا قال السيوطي.
وفي فتح الباري قوله لينتثر كذا لأبي ذر والأصيلي بوزن يفتعل ولغيرهما ثم لينثر بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة والروايتان لأصحاب الموطأ أيضًا.

قال الفراء: يقال نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة وهي طرف الأنف في الطهارة انتهى.
فما أوهمه كلام السيوطي من أنه لم يرو في الموطأ ولا في البخاري إلا بواحدة فيه نظر.

وقال عياض: هو من النثر وهو الطرح وهو هنا طرح الماء الذي تنشق منه قبل ليخرج ما تعلق به من قذر الأنف.

وقال ابن الأثير: نثر ينثر بالكسر إذا امتخط واستنثر استفعل منه أي استنشق الماء ثم استخرج ما في الأنف ولم يذكر مالك عددًا وقد زاد سفيان عن أبي الزناد وترًا رواه مسلم.

( وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ) أي استعمل الجمار وهي الحجارة الصغار في الاستجمار، وحمله بعضهم على استعمال البخور فإنه يقال فيه تجمر واستجمر حكاه ابن حبيب عن ابن عمر ولا يصح، وابن عبد البر عن مالك.
وروى ابن خزيمة عنه خلافه واستدل به بعض من نفى وجوب الاستنجاء للإتيان فيه بحرف الشرط ولا دلالة فيه وإنما مقتضاه التخيير بين الاستنجاء بالماء أو بالأحجار قاله في الفتح.

وفي الإكمال قال الهروي: الاستجمار المسح بالجمار وهي الأحجار الصغار ومنه سميت حجارة الرمي، وقال ابن القصار: يجوز أنه أخذ من الاستجمار بالبخور الذي تطيب به الرائحة وهذا يزيل الرائحة القبيحة، واختلف قول مالك وغيره في معنى الاستجمار في الحديث فقيل هذا وقيل المراد به في البخور أن يأخذ منه ثلاث قطع أو يأخذ ثلاث مرات يستعمل واحدة بعد أخرى قال والأول أظهر انتهى.

وقال النووي: إنه الصحيح المعروف.
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ) اسمه عائذ الله بعين مهملة وتحتية وذال معجمة ابن عبد الله ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وسمع كبار الصحابة.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء، وقال مكحول: ما رأيت أعلم منه مات سنة ثمانين.

( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ) بأن يخرج ما في أنفه بعد الاستنشاق لما فيه من تنقية مجرى النفس الذي به تلاوة القرآن وبإزالة ما فيه من الثقل تصح مخارج الحروف وفيه طرد الشيطان لما رواه البخاري ومسلم: إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثًا فإن الشيطان يبيت على خيشومه أي أعلى أنفه ونومه عليه حقيقة أو استعارة لأن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان فهو على عادة العرب في نسبة المستخبث والمستبشع إلى الشيطان أو ذلك عبارة عن تكسيله عن القيام إلى الصلاة ولا مانع من حمله على الحقيقة وحمل مبيته لعموم النائمين أو مخصوص بمن لم يفعل ما يحترس به في منامه كقراءة آية الكرسي الأقرب الثاني.

قال الحافظ: وظاهر الأمر فيه الوجوب فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به كأحمد وإسحاق وغيرهما أن يقول به في الاستنثار وهو ظاهر كلام صاحب المغني من الحنابلة وأن مشروعية الاستنشاق إنما تحصل بالاستنثار.

وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار وفيه تعقب على من نقل الإجماع على عدم وجوبه، واستدل الجمهور على أن الأمر فيه للندب بقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: توضأ كما أمرك الله حسنه الترمذي وصححه الحاكم فأحاله على الآية وليس فيها استنشاق ولا استنثار وتعقب باحتمال أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء فقد أمر الله باتباع نبيه ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة وهذا يرد على من لم يوجب المضمضة أيضًا.
وقد ثبت الأمر بها في سنن أبي داود بإسناد صحيح.

وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافًا في أن تاركه لا يعيد وهذا دليل فقهي فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عطاء وثبت عنه أنه رجع عن الإعادة انتهى.

( وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ) ندبًا لزيادة أبي داود وابن ماجه بإسناد حسن من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة وداود ومن وافقهم في أن الإيتار مستحب فقط لا شرط، ولا يخالفه حديث سلمان عند مسلم مرفوعًا لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار لحمله على الكمال، وكذا أمره صلى الله عليه وسلم لابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار لأنه شرط كما قال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث لتصريحه في هذه الرواية بأن الأمر ليس للوجوب وبه حصل الجمع بين الأدلة وحمله على الزائد على الثلاثة إن لم تنق تحكم.
وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى عن مالك به، وتابعه يونس عن الزهري عند البخاري ومسلم.

( قَالَ يَحْيَى) بن يحيى الليثي ( سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْثِرُ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ) في الست مرات ( إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أي يجوز وإن كان الأفضل خلافه.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ) الصديق شقيق عائشة تأخر إسلامه إلى قبيل الفتح وشهد اليمامة والفتوح.
قال في الإصابة قال ابن سعد وغير واحد: مات سنة ثلاث وخمسين وقال يحيى بن بكير: سنة أربع، وقيل خمس، وقيل ست.
حكاها أبو نعيم وقال أبو زرعة الدمشقي: سنة تسع.
وقال ابن حبان: سنة ثمان.
وقال البخاري: مات قبل عائشة وبعد سعد انتهى.

وهذا الحديث يؤيده مع لحظ المشهور في وفاة سعد وهو صادق حتى بالسنة التي مات فيها سعد وهذا البلاغ يحتمل أن يكون بلغ الإمام من تلميذه ابن وهب أو من مخرمة فقد رواه مسلم من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه، ومن طريق ابن وهب أيضًا عن حيوة عن محمد بن عبد الرحمن كلاهما عن سالم مولى شداد قال دخلت على عائشة يوم توفي سعد ( فَدَخَلَ) عبد الرحمن بن أبي بكر ( عَلَى عَائِشَةَ) أخته ( زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري أحد العشرة وأول من رمي بسهم في سبيل الله ومناقبه كثيرة مات بالعقيق سنة خمس وخمسين على المشهور ( فَدَعَا بِوَضُوءٍ) أي بما يتوضأ به ( فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ) بفتح الهمزة من الإسباغ وهو إبلاغه مواضعه وإيفاء كل عضو حقه وكأنها رأت منه تقصيرًا أو خشيت عليه ذلك ( فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَيْلٌ) قال النووي: أي هلكة وخيبة، وقال الحافظ: اختلف في معناه على أقوال أظهرها ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد مرفوعًا ويل واد في جهنم ( لِلْأَعْقَابِ) جمع عقب بكسر القاف وسكونها وهو مؤخر القدم ( مِنَ النَّارِ) .

قال البغوي: معناه لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها وقيل أراد أن العقب يختص بالعقاب إذا قصر في غسلها زاد عياض فإن مواضع الوضوء لا تمسها النار كما في أثر السجود أنه محرم على النار ويلحق بالأعقاب ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها وإنما خصت بالذكر لصورة السبب كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم عنا في سفرة فأدركنا وقد أرهقتنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثًا رواه الشيخان: ورواه أحمد والدارقطني والطبراني والحاكم عن عبد الله بن الحارث مرفوعًا: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار.

قال ابن عبد البر: وهذا الحديث ورد عن جماعة من الصحابة وأصحها من جهة الإسناد ثلاثة حديث أبي هريرة وابن عمرو يعني وهما في الصحيحين وحديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وقد رأيت من رواه ثم حديث عائشة فهو مدني حسن انتهى.

وقد أخرجه مسلم في الصحيح كما علم وفيه: أن غسل الرجلين واجب إذ لو أجزأ المسح لما توعد بالنار فلا عبرة بقول الشيعة الواجب المسح لظاهر قوله { { وَأَرْجُلَكُمْ } } بالخفض ورد بأنه على المجاورة.

وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه غسل رجليه وهو المبين لأمر الله وقال في حديث عمرو بن عبسة عند ابن خزيمة وغيره مطولاً ثم يغسل قدميه كما أمره الله ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا علي وابن عباس وأنس وثبت عنهم الرجوع عن ذلك.
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين رواه سعد بن منصور وادعى الطحاوي وابن حزم أن المسح منسوخ.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَحْلَاءَ) بفتح الطاء وسكون الحاء المهملة ممدود المدني التيمي مولاهم أخي يعقوب روى عن أبيه وعثمان المذكور وعنه مالك والدراوردي وآخرون، وذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من التابعين ( عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عثمان بن عبيد الله التيمي المدني ثقة روى له البخاري وأبو داود والترمذي ( أَنَّ أَبَاهُ) عبد الرحمن بن عثمان التيمي صحابي قتل مع ابن الزبير وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة ( حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) يقول ( يَتَوَضَّأُ) أي يتطهر ( بِالْمَاءِ لِمَا تَحْتَ إِزَارِهِ) كناية عن موضع الاستنجاء تأدبًا أي إنه بالماء أفضل منه بالحجر وبينت السنة أن الجمع بينهما أفضل.

روى ابن خزيمة والبزار عن عويم بن ساعدة أنه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: إن الله قد أثنى عليكم في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟.
قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا.
وفي حديث البزار فقالوا: نتبع الحجارة بالماء.
فقال: هو ذاك فعليكموه وكأن الإمام أراد بذكر أثر عمر هذا الرد على من كره الاستنجاء بالماء.

روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إذن لا يزال في يدي نتن.

وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء وعن ابن الزبير ما كنا نفعله.

وفي البخاري عن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء يعني يستنجي به.
وللإسماعيلي معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النبي صلى الله عليه وسلم ولمسلم فخرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وقد استنجى بالماء، وللبخاري أيضًا عن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به، ولابن خزيمة عن جرير أنه صلى الله عليه وسلم دخل الغيضة فقضى حاجته فأتاه جرير بإداوة من ماء فاستنجى بها وللترمذي وقال حسن صحيح، عن عائشة أنها قالت: مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر البول والغائط فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله فلعل نقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء لا يصح عنه إذ هو نجم السنن مع أنه خلاف معروف مذهبه أن الماء أفضل وأفضل منه الجمع بينه وبين الحجر، وقول ابن حبيب: يمنع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم ضعيف.

( سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَوَضَّأَ فَنَسِيَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ أَوْ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ وَجْهَهُ) ما حكمه؟ ( فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي غَسَلَ وَجْهَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ فَلْيُمَضْمِضْ) فاه ( وَلَا يُعِدْ غَسْلَ وَجْهِهِ) لأن ترتيب السنن مع الفرائض مستحب وقد فات.
( وَأَمَّا الَّذِي غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ فَلْيَغْسِلْ وَجْهَهُ ثُمَّ لْيُعِدْ) على وجه السنية ( غَسْلَ ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يَكُونَ غَسْلُهُمَا بَعْدَ وَجْهِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَكَانِهِ أَوْ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ) أي بقربه فإن بعد بأن جفت أعضاؤه أعاد المنكس وحده فيغسل وجهه ولا يعيد غسل ذراعيه وسواء فعل ذلك عمدًا أو سهوًا لأن ترتيب الفرائض سنة والنسيان إنما وقع في السؤال.

( وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْثِرَ حَتَّى صَلَّى قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ) لأنهما من سنن الوضوء فما على تاركهما ولو عمدًا إعادة وقيد النسيان إنما وقع في السؤال ( وَلْيُمَضْمِضْ وَيَسْتَنْثِرْ مَا يَسْتَقْبِلُ) بكسر الباء من الصلوات ( إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ) بهذا الوضوء وإلا فلا إعادة.



رقم الحديث 98 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، بَدَأَ بِغَسْلِ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ، فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ.


( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) بالهمز وعوام الحديث يبدلونها ياء ( أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) بنص { { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } } وهل هن أمهات المؤمنات أيضًا؟ قولان مرجحان.
( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ) أي شرع في الغسل أو أراد أن يغتسل ( مِنَ الْجَنَابَةِ) أي لأجلها فمن سببية ( بَدَأَ بِغَسْلِ يَدَيْهِ) .

قال الحافظ: يحتمل للتنظيف من مستقذر ويقويه حديث ميمونة، ويحتمل أنه الغسل المشروع عند القيام من النوم ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام قبل أن يدخلهما في الإناء رواه الشافعي والترمذي، وزاد أيضًا ثم يغسل فرجه، وكذا لمسلم من رواية أبي معاوية وأبي داود من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام وهي زيادة جليلة لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل.

( ثُمَّ تَوَضَّأَ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ) احترازًا عن الوضوء اللغوي وهو غسل اليدين، وظاهره أنه يتوضأ وضوءًا كاملاً وهو مذهب مالك والشافعي.

قال الفاكهاني: وهو المشهور وقيل يؤخر غسل قدميه إلى بعد الغسل لحديث ميمونة، وقيل إن كان موضعه وسخًا أخر وإلاّ فلا.

وقال الحنفية: إن كان في مستنقع أخر وإلا فلا، وظاهره أيضًا مشروعية التكرار ثلاثًا وهو كذلك، لكن قال عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار، وقد قال بعض شيوخنا: إن التكرار في الغسل لا فضيلة فيه، ورده الحافظ بأنه ورد من طريق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من طريق أبي سلمة عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة الحديث وفيه: ثم تمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، وتعقبه الأبي أيضًا بأن إحالتها على وضوء الصلاة يقتضي التثليث، ولا يلزم من أنه لا فضيلة في عمل الغسل أن لا يكون في وضوئه، ومن شيوخنا من كان يفتي سائله بالتكرار، وقيل معنى التشبيه أنه يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته وعليه فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها وليحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى.

قال ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه ليس عليه أن يعيد غسل أعضاء الوضوء في غسله لأنه قد غسلها في وضوئه وإنما بدأ بتلك الأعضاء خاصة للسنة لأنه ليس في الغسل رتبة، وكذا قال ابن بطال.
قال الحافظ: وهو مردود فقد ذهب أبو ثور وداود وجماعة إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث اهـ.

وأورد ابن دقيق العيد أن الحديث يدل على أن هذه الأعضاء مغسولة عن الجنابة إذ لو كانت للوضوء لم يصح التشبيه لعدم المغايرة، وأجاب بحصول المغايرة من حيث أنه شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة المعتاد المنفرد بنفسه في غير الغسل، وبأن وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية فشبه هذا الفرد الواقع في الخارج بتلك الصورة المعهودة في الذهن.

( ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا) أي أصابعه التي أدخلها في الإناء ( أُصُولَ شَعَرِهِ) أي شعر رأسه لرواية حماد بن سلمة عن هشام عند البيهقي يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر ثم يغسل شق رأسه الأيسر كذلك.

وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله أصول شعره وإما بالقياس على شعر الرأس، وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به، ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقًا إلا إن كان الشعر ملبدًا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله، وفي رواية مسلم: ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، وللترمذي والنسائي من طريق ابن عيينة ثم يشرب شعره الماء.

( ثُمَّ يَصُبُّ) ذكرته بلفظ المضارع وما قبله بلفظ الماضي وهو الأصل لإرادة استحضار صورة الحال للسامعين ( عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ بِيَدَيْهِ) بفتح الراء جمع غرفة على المشهور في جمع القلة والأصل في مميز الثلاثة أن يكون من جموع القلة، ووقع لرواة البخاري غرف جمع كثرة إما لقيامه مقام جمع القلة أو بناء على قول الكوفيين أنه جمع قلة كعشر سور وثماني حجج والتثليث خاص بالرأس كما هو مدلول رأسه وهو المشهور عند المالكية.
قال القرطبي: وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية ابن القاسم عن عائشة أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس.

( ثُمَّ يُفِيضُ) أي يسيل ( الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ) أي بدنه، وقد يكنى بالجلد عن البدن قاله الرافعي، واحتج به من لم يشترط الدلك لأن الإفاضة الإسالة.
وقال المازري: لا حجة فيه لأن فاض بمعنى غسل فالخلاف فيه قائم.
( كُلِّهِ) أكده دلالة على أنه عم جميع بدنه بالغسل بعدما تقدم دفعًا لتوهم إطلاقه على أكثره تجوزًا ففيه استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه وهو ظاهر قولها كما يتوضأ للصلاة وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه.

ولمسلم من رواية أبي معاوية عن هشام فقال في آخره: ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام.
قال البيهقي هي غريبة صحيحة.
قال الحافظ: لكن لها شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة بلفظ: فإذا فرغ غسل رجليه رواه أبو داود، فإما أن يحمل قولها كما يتوضأ للصلاة على أكثره وهو ما سوى الرجلين أو يحمل على ظاهره.
ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء، ويحتمل أن قوله ثم غسل رجليه أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق حديث الباب.

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود والترمذي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به، وتابعه أبو معاوية وجرير وعلي بن مسهر وابن نمير ووكيع كلهم عن هشام عند مسلم قائلاً وليس في حديثهم غسل الرجلين إلا في حديث أبي معاوية يعني فروايته شاذة كما علم، ثم الشذوذ إنما هو في حديث عائشة هذا وإلا فهو ثابت في حديث ميمونة في الصحيحين، وجمع بينهما بأنه فعل عند كل منهما ما حدثت به فبحسب اختلاف الحالين اختلف نظر العلماء كما تقدم، والله أعلم.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام كذا رواه أكثر أصحاب الزهري عنه وخالفهم إبراهيم بن سعد فرواه عنه عن القاسم بن محمد أخرجه النسائي ورجح أبو زرعة الأوّل، ويحتمل أن للزهري فيه شيخين فإن الحديث محفوظ عن القاسم وعروة من طرق أخرى.

( عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ) زاد ابن أبي ذئب واحد من قدح وكذا في رواية سفيان كلاهما عن ابن شهاب، وللحاكم من رواية هشام عن عروة من تور من شبه، وكذا قال ابن التين كان هذا الإناء من شبه بفتح المعجمة والموحدة ( هُوَ الْفَرَقُ) بفتحتين عند جميع الرواة وهو الصحيح إلا يحيى فرواه بسكون الراء قاله الباجي.
وقال النووي: الفتح أفصح وأشهر، وزعم الباجي أنه الصواب وليس كما قال بل هما لغتان.

قال الحافظ: لعل مستند الباجي قول ثعلب وغيره الفرق بالفتح في كلام العرب والمحدثون يسكنونه حكاه الأزهري، وقد حكى الإسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما من أهل اللغة اهـ.

والظاهر أن قول الباجي هو الصحيح يعني في الرواية لكن يحيى انفرد بالإسكان دون سائر الرواة لا من حيث اللغة، وأما مقداره في الرواية فلمسلم قال سفيان، يعني ابن عيينة: الفرق ثلاثة آصع.
قال النووي: وكذا قال الجماهير وقيل صاعان، لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع وأنه ستة عشر رطلاً.
ولعله يريد اتفاق اللغويين وإلا فقد قال بعض الفقهاء: إنه ثمانية أرطال، ويؤكد كونه ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ قدر ستة أقساط والقسط بكسر القاف ونصف صاع باتفاق أهل اللغة، واتفقوا على أنه ستة عشر رطلاً.
وحكى ابن الأثير أنه بالفتح ستة عشر وبالإسكان مائة وعشرون رطلاً وهو غريب.

( مِنَ الْجَنَابَةِ) أي بسبب الجنابة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي كلاهما عن مالك به، وتابعه ابن أبي ذئب عند البخاري وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد عند مسلم ثلاثتهم عن الزهري به بزيادة: وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ) أي بسببها ( بَدَأَ فَأَفْرَغَ) أي صب الماء ( عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَغَسَلَهَا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ) بشماله ( ثُمَّ مَضْمَضَ) بيمينه ( وَاسْتَنْثَرَ) بشماله بعدما استنشق بيمينه.
وفي رواية محمد بن الحسن مضمض واستنشق بيمينه وهما سنتان في الغسل عند مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: واجبتان في الغسل لا الوضوء، وأحمد واجبان فيهما ( ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَنَضَحَ) أي رش الماء ( فِي عَيْنَيْهِ) .

قال ابن عبد البر: لم يتابع ابن عمر على النضح في العينين أحد قال: وله شذائذ شذ فيها حمله عليها الورع قال وفي أكثر الموطآت سئل مالك عن ذلك فقال ليس عليه العمل، وحديث أبي هريرة مرفوعًا: أشربوا أعينكم من الماء عند الوضوء رواه أبو يعلى وابن عدي.
قال الزين العراقي: سنده ضعيف، بل قال ابن الصلاح وتبعه النووي: لم نجد له أصلاً أي يعتد به.

( ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى) مع المرفقين ( ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ) تفسير لاغتسل، وفي رواية محمد بن الحسن ثم غسل رأسه وأفاض الماء على جلده.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ) وبلاغاته صحيحة.
قال سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد قوي ( أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ غُسْلِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَالَتْ: لِتَحْفِنْ) بكسر الفاء ( عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ) بفتح الفاء مثل سجدة وسجدات والفعل كضرب وهي ملء اليدين من الماء ( وَلْتَضْغَثْ) بإسكان الضاد وفتح الغين المعجمة من باب نضغ ومثلثة.
قال ابن الأثير: الضغث معالجة شعر الرأس باليد عند الغسل كأنها تخلط بعضه ببعض ليدخل فيه الغسول والماء ( رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا) .

قال مالك: ليداخله الماء ويصل إلى بشرة الرأس لأن الغرض استيعاب البشرة بالغسل نقله الباجي.
وقال ابن عبد البر: قال مالك: اغتسال المرأة من الحيض كاغتسالها من الجنابة ولا تنقض رأسها قال وفي قولها إنكار قول من رأى نقض ضفائر رأسها عند غسلها لأن الذي عليها بل شعرها وإيصال الماء إلى أصوله، وقد أنكرت عائشة على عبد الله بن عمرو بن العاص أمره النساء أن ينقضن رؤوسهنّ عند الغسل وقالت: ما كنت أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث غرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت أم سلمة: يا رسول الله أنقض رأسي عند الغسل؟ قال: يكفيك أن تصبي على رأسك ثلاث غرفات.



رقم الحديث 99 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ هُوَ الْفَرَقُ مِنَ الْجَنَابَةِ.


( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) بالهمز وعوام الحديث يبدلونها ياء ( أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) بنص { { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } } وهل هن أمهات المؤمنات أيضًا؟ قولان مرجحان.
( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ) أي شرع في الغسل أو أراد أن يغتسل ( مِنَ الْجَنَابَةِ) أي لأجلها فمن سببية ( بَدَأَ بِغَسْلِ يَدَيْهِ) .

قال الحافظ: يحتمل للتنظيف من مستقذر ويقويه حديث ميمونة، ويحتمل أنه الغسل المشروع عند القيام من النوم ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام قبل أن يدخلهما في الإناء رواه الشافعي والترمذي، وزاد أيضًا ثم يغسل فرجه، وكذا لمسلم من رواية أبي معاوية وأبي داود من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام وهي زيادة جليلة لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل.

( ثُمَّ تَوَضَّأَ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ) احترازًا عن الوضوء اللغوي وهو غسل اليدين، وظاهره أنه يتوضأ وضوءًا كاملاً وهو مذهب مالك والشافعي.

قال الفاكهاني: وهو المشهور وقيل يؤخر غسل قدميه إلى بعد الغسل لحديث ميمونة، وقيل إن كان موضعه وسخًا أخر وإلاّ فلا.

وقال الحنفية: إن كان في مستنقع أخر وإلا فلا، وظاهره أيضًا مشروعية التكرار ثلاثًا وهو كذلك، لكن قال عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار، وقد قال بعض شيوخنا: إن التكرار في الغسل لا فضيلة فيه، ورده الحافظ بأنه ورد من طريق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من طريق أبي سلمة عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة الحديث وفيه: ثم تمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، وتعقبه الأبي أيضًا بأن إحالتها على وضوء الصلاة يقتضي التثليث، ولا يلزم من أنه لا فضيلة في عمل الغسل أن لا يكون في وضوئه، ومن شيوخنا من كان يفتي سائله بالتكرار، وقيل معنى التشبيه أنه يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته وعليه فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها وليحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى.

قال ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه ليس عليه أن يعيد غسل أعضاء الوضوء في غسله لأنه قد غسلها في وضوئه وإنما بدأ بتلك الأعضاء خاصة للسنة لأنه ليس في الغسل رتبة، وكذا قال ابن بطال.
قال الحافظ: وهو مردود فقد ذهب أبو ثور وداود وجماعة إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث اهـ.

وأورد ابن دقيق العيد أن الحديث يدل على أن هذه الأعضاء مغسولة عن الجنابة إذ لو كانت للوضوء لم يصح التشبيه لعدم المغايرة، وأجاب بحصول المغايرة من حيث أنه شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة المعتاد المنفرد بنفسه في غير الغسل، وبأن وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية فشبه هذا الفرد الواقع في الخارج بتلك الصورة المعهودة في الذهن.

( ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا) أي أصابعه التي أدخلها في الإناء ( أُصُولَ شَعَرِهِ) أي شعر رأسه لرواية حماد بن سلمة عن هشام عند البيهقي يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر ثم يغسل شق رأسه الأيسر كذلك.

وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله أصول شعره وإما بالقياس على شعر الرأس، وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به، ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقًا إلا إن كان الشعر ملبدًا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله، وفي رواية مسلم: ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، وللترمذي والنسائي من طريق ابن عيينة ثم يشرب شعره الماء.

( ثُمَّ يَصُبُّ) ذكرته بلفظ المضارع وما قبله بلفظ الماضي وهو الأصل لإرادة استحضار صورة الحال للسامعين ( عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ بِيَدَيْهِ) بفتح الراء جمع غرفة على المشهور في جمع القلة والأصل في مميز الثلاثة أن يكون من جموع القلة، ووقع لرواة البخاري غرف جمع كثرة إما لقيامه مقام جمع القلة أو بناء على قول الكوفيين أنه جمع قلة كعشر سور وثماني حجج والتثليث خاص بالرأس كما هو مدلول رأسه وهو المشهور عند المالكية.
قال القرطبي: وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية ابن القاسم عن عائشة أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس.

( ثُمَّ يُفِيضُ) أي يسيل ( الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ) أي بدنه، وقد يكنى بالجلد عن البدن قاله الرافعي، واحتج به من لم يشترط الدلك لأن الإفاضة الإسالة.
وقال المازري: لا حجة فيه لأن فاض بمعنى غسل فالخلاف فيه قائم.
( كُلِّهِ) أكده دلالة على أنه عم جميع بدنه بالغسل بعدما تقدم دفعًا لتوهم إطلاقه على أكثره تجوزًا ففيه استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه وهو ظاهر قولها كما يتوضأ للصلاة وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه.

ولمسلم من رواية أبي معاوية عن هشام فقال في آخره: ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام.
قال البيهقي هي غريبة صحيحة.
قال الحافظ: لكن لها شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة بلفظ: فإذا فرغ غسل رجليه رواه أبو داود، فإما أن يحمل قولها كما يتوضأ للصلاة على أكثره وهو ما سوى الرجلين أو يحمل على ظاهره.
ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء، ويحتمل أن قوله ثم غسل رجليه أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق حديث الباب.

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود والترمذي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به، وتابعه أبو معاوية وجرير وعلي بن مسهر وابن نمير ووكيع كلهم عن هشام عند مسلم قائلاً وليس في حديثهم غسل الرجلين إلا في حديث أبي معاوية يعني فروايته شاذة كما علم، ثم الشذوذ إنما هو في حديث عائشة هذا وإلا فهو ثابت في حديث ميمونة في الصحيحين، وجمع بينهما بأنه فعل عند كل منهما ما حدثت به فبحسب اختلاف الحالين اختلف نظر العلماء كما تقدم، والله أعلم.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام كذا رواه أكثر أصحاب الزهري عنه وخالفهم إبراهيم بن سعد فرواه عنه عن القاسم بن محمد أخرجه النسائي ورجح أبو زرعة الأوّل، ويحتمل أن للزهري فيه شيخين فإن الحديث محفوظ عن القاسم وعروة من طرق أخرى.

( عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ) زاد ابن أبي ذئب واحد من قدح وكذا في رواية سفيان كلاهما عن ابن شهاب، وللحاكم من رواية هشام عن عروة من تور من شبه، وكذا قال ابن التين كان هذا الإناء من شبه بفتح المعجمة والموحدة ( هُوَ الْفَرَقُ) بفتحتين عند جميع الرواة وهو الصحيح إلا يحيى فرواه بسكون الراء قاله الباجي.
وقال النووي: الفتح أفصح وأشهر، وزعم الباجي أنه الصواب وليس كما قال بل هما لغتان.

قال الحافظ: لعل مستند الباجي قول ثعلب وغيره الفرق بالفتح في كلام العرب والمحدثون يسكنونه حكاه الأزهري، وقد حكى الإسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما من أهل اللغة اهـ.

والظاهر أن قول الباجي هو الصحيح يعني في الرواية لكن يحيى انفرد بالإسكان دون سائر الرواة لا من حيث اللغة، وأما مقداره في الرواية فلمسلم قال سفيان، يعني ابن عيينة: الفرق ثلاثة آصع.
قال النووي: وكذا قال الجماهير وقيل صاعان، لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع وأنه ستة عشر رطلاً.
ولعله يريد اتفاق اللغويين وإلا فقد قال بعض الفقهاء: إنه ثمانية أرطال، ويؤكد كونه ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ قدر ستة أقساط والقسط بكسر القاف ونصف صاع باتفاق أهل اللغة، واتفقوا على أنه ستة عشر رطلاً.
وحكى ابن الأثير أنه بالفتح ستة عشر وبالإسكان مائة وعشرون رطلاً وهو غريب.

( مِنَ الْجَنَابَةِ) أي بسبب الجنابة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي كلاهما عن مالك به، وتابعه ابن أبي ذئب عند البخاري وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد عند مسلم ثلاثتهم عن الزهري به بزيادة: وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ) أي بسببها ( بَدَأَ فَأَفْرَغَ) أي صب الماء ( عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَغَسَلَهَا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ) بشماله ( ثُمَّ مَضْمَضَ) بيمينه ( وَاسْتَنْثَرَ) بشماله بعدما استنشق بيمينه.
وفي رواية محمد بن الحسن مضمض واستنشق بيمينه وهما سنتان في الغسل عند مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: واجبتان في الغسل لا الوضوء، وأحمد واجبان فيهما ( ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَنَضَحَ) أي رش الماء ( فِي عَيْنَيْهِ) .

قال ابن عبد البر: لم يتابع ابن عمر على النضح في العينين أحد قال: وله شذائذ شذ فيها حمله عليها الورع قال وفي أكثر الموطآت سئل مالك عن ذلك فقال ليس عليه العمل، وحديث أبي هريرة مرفوعًا: أشربوا أعينكم من الماء عند الوضوء رواه أبو يعلى وابن عدي.
قال الزين العراقي: سنده ضعيف، بل قال ابن الصلاح وتبعه النووي: لم نجد له أصلاً أي يعتد به.

( ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى) مع المرفقين ( ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ) تفسير لاغتسل، وفي رواية محمد بن الحسن ثم غسل رأسه وأفاض الماء على جلده.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ) وبلاغاته صحيحة.
قال سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد قوي ( أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ غُسْلِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَالَتْ: لِتَحْفِنْ) بكسر الفاء ( عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ) بفتح الفاء مثل سجدة وسجدات والفعل كضرب وهي ملء اليدين من الماء ( وَلْتَضْغَثْ) بإسكان الضاد وفتح الغين المعجمة من باب نضغ ومثلثة.
قال ابن الأثير: الضغث معالجة شعر الرأس باليد عند الغسل كأنها تخلط بعضه ببعض ليدخل فيه الغسول والماء ( رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا) .

قال مالك: ليداخله الماء ويصل إلى بشرة الرأس لأن الغرض استيعاب البشرة بالغسل نقله الباجي.
وقال ابن عبد البر: قال مالك: اغتسال المرأة من الحيض كاغتسالها من الجنابة ولا تنقض رأسها قال وفي قولها إنكار قول من رأى نقض ضفائر رأسها عند غسلها لأن الذي عليها بل شعرها وإيصال الماء إلى أصوله، وقد أنكرت عائشة على عبد الله بن عمرو بن العاص أمره النساء أن ينقضن رؤوسهنّ عند الغسل وقالت: ما كنت أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث غرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت أم سلمة: يا رسول الله أنقض رأسي عند الغسل؟ قال: يكفيك أن تصبي على رأسك ثلاث غرفات.



رقم الحديث 100 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، بَدَأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى، فَغَسَلَهَا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ.
ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، وَنَضَحَ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْيُسْرَى.
ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ.
ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ.


( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) بالهمز وعوام الحديث يبدلونها ياء ( أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) بنص { { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } } وهل هن أمهات المؤمنات أيضًا؟ قولان مرجحان.
( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ) أي شرع في الغسل أو أراد أن يغتسل ( مِنَ الْجَنَابَةِ) أي لأجلها فمن سببية ( بَدَأَ بِغَسْلِ يَدَيْهِ) .

قال الحافظ: يحتمل للتنظيف من مستقذر ويقويه حديث ميمونة، ويحتمل أنه الغسل المشروع عند القيام من النوم ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام قبل أن يدخلهما في الإناء رواه الشافعي والترمذي، وزاد أيضًا ثم يغسل فرجه، وكذا لمسلم من رواية أبي معاوية وأبي داود من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام وهي زيادة جليلة لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل.

( ثُمَّ تَوَضَّأَ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ) احترازًا عن الوضوء اللغوي وهو غسل اليدين، وظاهره أنه يتوضأ وضوءًا كاملاً وهو مذهب مالك والشافعي.

قال الفاكهاني: وهو المشهور وقيل يؤخر غسل قدميه إلى بعد الغسل لحديث ميمونة، وقيل إن كان موضعه وسخًا أخر وإلاّ فلا.

وقال الحنفية: إن كان في مستنقع أخر وإلا فلا، وظاهره أيضًا مشروعية التكرار ثلاثًا وهو كذلك، لكن قال عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار، وقد قال بعض شيوخنا: إن التكرار في الغسل لا فضيلة فيه، ورده الحافظ بأنه ورد من طريق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من طريق أبي سلمة عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة الحديث وفيه: ثم تمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، وتعقبه الأبي أيضًا بأن إحالتها على وضوء الصلاة يقتضي التثليث، ولا يلزم من أنه لا فضيلة في عمل الغسل أن لا يكون في وضوئه، ومن شيوخنا من كان يفتي سائله بالتكرار، وقيل معنى التشبيه أنه يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته وعليه فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها وليحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى.

قال ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه ليس عليه أن يعيد غسل أعضاء الوضوء في غسله لأنه قد غسلها في وضوئه وإنما بدأ بتلك الأعضاء خاصة للسنة لأنه ليس في الغسل رتبة، وكذا قال ابن بطال.
قال الحافظ: وهو مردود فقد ذهب أبو ثور وداود وجماعة إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث اهـ.

وأورد ابن دقيق العيد أن الحديث يدل على أن هذه الأعضاء مغسولة عن الجنابة إذ لو كانت للوضوء لم يصح التشبيه لعدم المغايرة، وأجاب بحصول المغايرة من حيث أنه شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة المعتاد المنفرد بنفسه في غير الغسل، وبأن وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية فشبه هذا الفرد الواقع في الخارج بتلك الصورة المعهودة في الذهن.

( ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا) أي أصابعه التي أدخلها في الإناء ( أُصُولَ شَعَرِهِ) أي شعر رأسه لرواية حماد بن سلمة عن هشام عند البيهقي يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر ثم يغسل شق رأسه الأيسر كذلك.

وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله أصول شعره وإما بالقياس على شعر الرأس، وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به، ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقًا إلا إن كان الشعر ملبدًا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله، وفي رواية مسلم: ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، وللترمذي والنسائي من طريق ابن عيينة ثم يشرب شعره الماء.

( ثُمَّ يَصُبُّ) ذكرته بلفظ المضارع وما قبله بلفظ الماضي وهو الأصل لإرادة استحضار صورة الحال للسامعين ( عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ بِيَدَيْهِ) بفتح الراء جمع غرفة على المشهور في جمع القلة والأصل في مميز الثلاثة أن يكون من جموع القلة، ووقع لرواة البخاري غرف جمع كثرة إما لقيامه مقام جمع القلة أو بناء على قول الكوفيين أنه جمع قلة كعشر سور وثماني حجج والتثليث خاص بالرأس كما هو مدلول رأسه وهو المشهور عند المالكية.
قال القرطبي: وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية ابن القاسم عن عائشة أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس.

( ثُمَّ يُفِيضُ) أي يسيل ( الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ) أي بدنه، وقد يكنى بالجلد عن البدن قاله الرافعي، واحتج به من لم يشترط الدلك لأن الإفاضة الإسالة.
وقال المازري: لا حجة فيه لأن فاض بمعنى غسل فالخلاف فيه قائم.
( كُلِّهِ) أكده دلالة على أنه عم جميع بدنه بالغسل بعدما تقدم دفعًا لتوهم إطلاقه على أكثره تجوزًا ففيه استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه وهو ظاهر قولها كما يتوضأ للصلاة وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه.

ولمسلم من رواية أبي معاوية عن هشام فقال في آخره: ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام.
قال البيهقي هي غريبة صحيحة.
قال الحافظ: لكن لها شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة بلفظ: فإذا فرغ غسل رجليه رواه أبو داود، فإما أن يحمل قولها كما يتوضأ للصلاة على أكثره وهو ما سوى الرجلين أو يحمل على ظاهره.
ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء، ويحتمل أن قوله ثم غسل رجليه أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق حديث الباب.

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود والترمذي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به، وتابعه أبو معاوية وجرير وعلي بن مسهر وابن نمير ووكيع كلهم عن هشام عند مسلم قائلاً وليس في حديثهم غسل الرجلين إلا في حديث أبي معاوية يعني فروايته شاذة كما علم، ثم الشذوذ إنما هو في حديث عائشة هذا وإلا فهو ثابت في حديث ميمونة في الصحيحين، وجمع بينهما بأنه فعل عند كل منهما ما حدثت به فبحسب اختلاف الحالين اختلف نظر العلماء كما تقدم، والله أعلم.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام كذا رواه أكثر أصحاب الزهري عنه وخالفهم إبراهيم بن سعد فرواه عنه عن القاسم بن محمد أخرجه النسائي ورجح أبو زرعة الأوّل، ويحتمل أن للزهري فيه شيخين فإن الحديث محفوظ عن القاسم وعروة من طرق أخرى.

( عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ) زاد ابن أبي ذئب واحد من قدح وكذا في رواية سفيان كلاهما عن ابن شهاب، وللحاكم من رواية هشام عن عروة من تور من شبه، وكذا قال ابن التين كان هذا الإناء من شبه بفتح المعجمة والموحدة ( هُوَ الْفَرَقُ) بفتحتين عند جميع الرواة وهو الصحيح إلا يحيى فرواه بسكون الراء قاله الباجي.
وقال النووي: الفتح أفصح وأشهر، وزعم الباجي أنه الصواب وليس كما قال بل هما لغتان.

قال الحافظ: لعل مستند الباجي قول ثعلب وغيره الفرق بالفتح في كلام العرب والمحدثون يسكنونه حكاه الأزهري، وقد حكى الإسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما من أهل اللغة اهـ.

والظاهر أن قول الباجي هو الصحيح يعني في الرواية لكن يحيى انفرد بالإسكان دون سائر الرواة لا من حيث اللغة، وأما مقداره في الرواية فلمسلم قال سفيان، يعني ابن عيينة: الفرق ثلاثة آصع.
قال النووي: وكذا قال الجماهير وقيل صاعان، لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع وأنه ستة عشر رطلاً.
ولعله يريد اتفاق اللغويين وإلا فقد قال بعض الفقهاء: إنه ثمانية أرطال، ويؤكد كونه ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ قدر ستة أقساط والقسط بكسر القاف ونصف صاع باتفاق أهل اللغة، واتفقوا على أنه ستة عشر رطلاً.
وحكى ابن الأثير أنه بالفتح ستة عشر وبالإسكان مائة وعشرون رطلاً وهو غريب.

( مِنَ الْجَنَابَةِ) أي بسبب الجنابة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي كلاهما عن مالك به، وتابعه ابن أبي ذئب عند البخاري وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد عند مسلم ثلاثتهم عن الزهري به بزيادة: وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ) أي بسببها ( بَدَأَ فَأَفْرَغَ) أي صب الماء ( عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَغَسَلَهَا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ) بشماله ( ثُمَّ مَضْمَضَ) بيمينه ( وَاسْتَنْثَرَ) بشماله بعدما استنشق بيمينه.
وفي رواية محمد بن الحسن مضمض واستنشق بيمينه وهما سنتان في الغسل عند مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: واجبتان في الغسل لا الوضوء، وأحمد واجبان فيهما ( ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَنَضَحَ) أي رش الماء ( فِي عَيْنَيْهِ) .

قال ابن عبد البر: لم يتابع ابن عمر على النضح في العينين أحد قال: وله شذائذ شذ فيها حمله عليها الورع قال وفي أكثر الموطآت سئل مالك عن ذلك فقال ليس عليه العمل، وحديث أبي هريرة مرفوعًا: أشربوا أعينكم من الماء عند الوضوء رواه أبو يعلى وابن عدي.
قال الزين العراقي: سنده ضعيف، بل قال ابن الصلاح وتبعه النووي: لم نجد له أصلاً أي يعتد به.

( ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى) مع المرفقين ( ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ) تفسير لاغتسل، وفي رواية محمد بن الحسن ثم غسل رأسه وأفاض الماء على جلده.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ) وبلاغاته صحيحة.
قال سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد قوي ( أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ غُسْلِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَالَتْ: لِتَحْفِنْ) بكسر الفاء ( عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ) بفتح الفاء مثل سجدة وسجدات والفعل كضرب وهي ملء اليدين من الماء ( وَلْتَضْغَثْ) بإسكان الضاد وفتح الغين المعجمة من باب نضغ ومثلثة.
قال ابن الأثير: الضغث معالجة شعر الرأس باليد عند الغسل كأنها تخلط بعضه ببعض ليدخل فيه الغسول والماء ( رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا) .

قال مالك: ليداخله الماء ويصل إلى بشرة الرأس لأن الغرض استيعاب البشرة بالغسل نقله الباجي.
وقال ابن عبد البر: قال مالك: اغتسال المرأة من الحيض كاغتسالها من الجنابة ولا تنقض رأسها قال وفي قولها إنكار قول من رأى نقض ضفائر رأسها عند غسلها لأن الذي عليها بل شعرها وإيصال الماء إلى أصوله، وقد أنكرت عائشة على عبد الله بن عمرو بن العاص أمره النساء أن ينقضن رؤوسهنّ عند الغسل وقالت: ما كنت أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث غرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت أم سلمة: يا رسول الله أنقض رأسي عند الغسل؟ قال: يكفيك أن تصبي على رأسك ثلاث غرفات.



رقم الحديث 101 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ غُسْلِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالَتْ: لِتَحْفِنْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ مِنَ الْمَاءِ، وَلْتَضْغَثْ رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا.


( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) بالهمز وعوام الحديث يبدلونها ياء ( أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) بنص { { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } } وهل هن أمهات المؤمنات أيضًا؟ قولان مرجحان.
( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ) أي شرع في الغسل أو أراد أن يغتسل ( مِنَ الْجَنَابَةِ) أي لأجلها فمن سببية ( بَدَأَ بِغَسْلِ يَدَيْهِ) .

قال الحافظ: يحتمل للتنظيف من مستقذر ويقويه حديث ميمونة، ويحتمل أنه الغسل المشروع عند القيام من النوم ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام قبل أن يدخلهما في الإناء رواه الشافعي والترمذي، وزاد أيضًا ثم يغسل فرجه، وكذا لمسلم من رواية أبي معاوية وأبي داود من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام وهي زيادة جليلة لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل.

( ثُمَّ تَوَضَّأَ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ) احترازًا عن الوضوء اللغوي وهو غسل اليدين، وظاهره أنه يتوضأ وضوءًا كاملاً وهو مذهب مالك والشافعي.

قال الفاكهاني: وهو المشهور وقيل يؤخر غسل قدميه إلى بعد الغسل لحديث ميمونة، وقيل إن كان موضعه وسخًا أخر وإلاّ فلا.

وقال الحنفية: إن كان في مستنقع أخر وإلا فلا، وظاهره أيضًا مشروعية التكرار ثلاثًا وهو كذلك، لكن قال عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار، وقد قال بعض شيوخنا: إن التكرار في الغسل لا فضيلة فيه، ورده الحافظ بأنه ورد من طريق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من طريق أبي سلمة عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة الحديث وفيه: ثم تمضمض ثلاثًا واستنشق ثلاثًا، وتعقبه الأبي أيضًا بأن إحالتها على وضوء الصلاة يقتضي التثليث، ولا يلزم من أنه لا فضيلة في عمل الغسل أن لا يكون في وضوئه، ومن شيوخنا من كان يفتي سائله بالتكرار، وقيل معنى التشبيه أنه يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته وعليه فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفًا لها وليحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى.

قال ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه ليس عليه أن يعيد غسل أعضاء الوضوء في غسله لأنه قد غسلها في وضوئه وإنما بدأ بتلك الأعضاء خاصة للسنة لأنه ليس في الغسل رتبة، وكذا قال ابن بطال.
قال الحافظ: وهو مردود فقد ذهب أبو ثور وداود وجماعة إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث اهـ.

وأورد ابن دقيق العيد أن الحديث يدل على أن هذه الأعضاء مغسولة عن الجنابة إذ لو كانت للوضوء لم يصح التشبيه لعدم المغايرة، وأجاب بحصول المغايرة من حيث أنه شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة المعتاد المنفرد بنفسه في غير الغسل، وبأن وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية فشبه هذا الفرد الواقع في الخارج بتلك الصورة المعهودة في الذهن.

( ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا) أي أصابعه التي أدخلها في الإناء ( أُصُولَ شَعَرِهِ) أي شعر رأسه لرواية حماد بن سلمة عن هشام عند البيهقي يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر ثم يغسل شق رأسه الأيسر كذلك.

وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله أصول شعره وإما بالقياس على شعر الرأس، وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به، ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقًا إلا إن كان الشعر ملبدًا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله، وفي رواية مسلم: ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، وللترمذي والنسائي من طريق ابن عيينة ثم يشرب شعره الماء.

( ثُمَّ يَصُبُّ) ذكرته بلفظ المضارع وما قبله بلفظ الماضي وهو الأصل لإرادة استحضار صورة الحال للسامعين ( عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ بِيَدَيْهِ) بفتح الراء جمع غرفة على المشهور في جمع القلة والأصل في مميز الثلاثة أن يكون من جموع القلة، ووقع لرواة البخاري غرف جمع كثرة إما لقيامه مقام جمع القلة أو بناء على قول الكوفيين أنه جمع قلة كعشر سور وثماني حجج والتثليث خاص بالرأس كما هو مدلول رأسه وهو المشهور عند المالكية.
قال القرطبي: وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية ابن القاسم عن عائشة أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس.

( ثُمَّ يُفِيضُ) أي يسيل ( الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ) أي بدنه، وقد يكنى بالجلد عن البدن قاله الرافعي، واحتج به من لم يشترط الدلك لأن الإفاضة الإسالة.
وقال المازري: لا حجة فيه لأن فاض بمعنى غسل فالخلاف فيه قائم.
( كُلِّهِ) أكده دلالة على أنه عم جميع بدنه بالغسل بعدما تقدم دفعًا لتوهم إطلاقه على أكثره تجوزًا ففيه استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه وهو ظاهر قولها كما يتوضأ للصلاة وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه.

ولمسلم من رواية أبي معاوية عن هشام فقال في آخره: ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام.
قال البيهقي هي غريبة صحيحة.
قال الحافظ: لكن لها شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة بلفظ: فإذا فرغ غسل رجليه رواه أبو داود، فإما أن يحمل قولها كما يتوضأ للصلاة على أكثره وهو ما سوى الرجلين أو يحمل على ظاهره.
ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء، ويحتمل أن قوله ثم غسل رجليه أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق حديث الباب.

ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، وأبو داود والترمذي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به، وتابعه أبو معاوية وجرير وعلي بن مسهر وابن نمير ووكيع كلهم عن هشام عند مسلم قائلاً وليس في حديثهم غسل الرجلين إلا في حديث أبي معاوية يعني فروايته شاذة كما علم، ثم الشذوذ إنما هو في حديث عائشة هذا وإلا فهو ثابت في حديث ميمونة في الصحيحين، وجمع بينهما بأنه فعل عند كل منهما ما حدثت به فبحسب اختلاف الحالين اختلف نظر العلماء كما تقدم، والله أعلم.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوام كذا رواه أكثر أصحاب الزهري عنه وخالفهم إبراهيم بن سعد فرواه عنه عن القاسم بن محمد أخرجه النسائي ورجح أبو زرعة الأوّل، ويحتمل أن للزهري فيه شيخين فإن الحديث محفوظ عن القاسم وعروة من طرق أخرى.

( عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إِنَاءٍ) زاد ابن أبي ذئب واحد من قدح وكذا في رواية سفيان كلاهما عن ابن شهاب، وللحاكم من رواية هشام عن عروة من تور من شبه، وكذا قال ابن التين كان هذا الإناء من شبه بفتح المعجمة والموحدة ( هُوَ الْفَرَقُ) بفتحتين عند جميع الرواة وهو الصحيح إلا يحيى فرواه بسكون الراء قاله الباجي.
وقال النووي: الفتح أفصح وأشهر، وزعم الباجي أنه الصواب وليس كما قال بل هما لغتان.

قال الحافظ: لعل مستند الباجي قول ثعلب وغيره الفرق بالفتح في كلام العرب والمحدثون يسكنونه حكاه الأزهري، وقد حكى الإسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما من أهل اللغة اهـ.

والظاهر أن قول الباجي هو الصحيح يعني في الرواية لكن يحيى انفرد بالإسكان دون سائر الرواة لا من حيث اللغة، وأما مقداره في الرواية فلمسلم قال سفيان، يعني ابن عيينة: الفرق ثلاثة آصع.
قال النووي: وكذا قال الجماهير وقيل صاعان، لكن نقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع وأنه ستة عشر رطلاً.
ولعله يريد اتفاق اللغويين وإلا فقد قال بعض الفقهاء: إنه ثمانية أرطال، ويؤكد كونه ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ قدر ستة أقساط والقسط بكسر القاف ونصف صاع باتفاق أهل اللغة، واتفقوا على أنه ستة عشر رطلاً.
وحكى ابن الأثير أنه بالفتح ستة عشر وبالإسكان مائة وعشرون رطلاً وهو غريب.

( مِنَ الْجَنَابَةِ) أي بسبب الجنابة.
وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي كلاهما عن مالك به، وتابعه ابن أبي ذئب عند البخاري وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد عند مسلم ثلاثتهم عن الزهري به بزيادة: وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ) أي بسببها ( بَدَأَ فَأَفْرَغَ) أي صب الماء ( عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَغَسَلَهَا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ) بشماله ( ثُمَّ مَضْمَضَ) بيمينه ( وَاسْتَنْثَرَ) بشماله بعدما استنشق بيمينه.
وفي رواية محمد بن الحسن مضمض واستنشق بيمينه وهما سنتان في الغسل عند مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: واجبتان في الغسل لا الوضوء، وأحمد واجبان فيهما ( ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَنَضَحَ) أي رش الماء ( فِي عَيْنَيْهِ) .

قال ابن عبد البر: لم يتابع ابن عمر على النضح في العينين أحد قال: وله شذائذ شذ فيها حمله عليها الورع قال وفي أكثر الموطآت سئل مالك عن ذلك فقال ليس عليه العمل، وحديث أبي هريرة مرفوعًا: أشربوا أعينكم من الماء عند الوضوء رواه أبو يعلى وابن عدي.
قال الزين العراقي: سنده ضعيف، بل قال ابن الصلاح وتبعه النووي: لم نجد له أصلاً أي يعتد به.

( ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى) مع المرفقين ( ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ) تفسير لاغتسل، وفي رواية محمد بن الحسن ثم غسل رأسه وأفاض الماء على جلده.

( مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ) وبلاغاته صحيحة.
قال سفيان: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد قوي ( أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ غُسْلِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَالَتْ: لِتَحْفِنْ) بكسر الفاء ( عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ) بفتح الفاء مثل سجدة وسجدات والفعل كضرب وهي ملء اليدين من الماء ( وَلْتَضْغَثْ) بإسكان الضاد وفتح الغين المعجمة من باب نضغ ومثلثة.
قال ابن الأثير: الضغث معالجة شعر الرأس باليد عند الغسل كأنها تخلط بعضه ببعض ليدخل فيه الغسول والماء ( رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا) .

قال مالك: ليداخله الماء ويصل إلى بشرة الرأس لأن الغرض استيعاب البشرة بالغسل نقله الباجي.
وقال ابن عبد البر: قال مالك: اغتسال المرأة من الحيض كاغتسالها من الجنابة ولا تنقض رأسها قال وفي قولها إنكار قول من رأى نقض ضفائر رأسها عند غسلها لأن الذي عليها بل شعرها وإيصال الماء إلى أصوله، وقد أنكرت عائشة على عبد الله بن عمرو بن العاص أمره النساء أن ينقضن رؤوسهنّ عند الغسل وقالت: ما كنت أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث غرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت أم سلمة: يا رسول الله أنقض رأسي عند الغسل؟ قال: يكفيك أن تصبي على رأسك ثلاث غرفات.



رقم الحديث 101 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ فَقَالَتْ: هَلْ تَدْرِي مَا مَثَلُكَ يَا أَبَا سَلَمَةَ مَثَلُ الْفَرُّوجِ يَسْمَعُ الدِّيَكَةَ تَصْرُخُ فَيَصْرُخُ مَعَهَا إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ.


( مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ) أي موضع القطع من الذكر ( الْخِتَانَ) أي موضعه من فرج الأنثى وهو مشاكلة لأنه إنما يسمى خفاضًا لغة كقوله صلى الله عليه وسلم اخفضي ( فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ) وإن لم ينزل، والمراد بالمس والالتقاء في خبر إذا التقى المجاوزة كرواية الترمذي بلفظ: إذا جاوز، وليس المراد حقيقة المس لأنه لا يتصور عند غيبة الحشفة فلو وقع مس بلا إيلاج لم يجب الغسل بالإجماع.
وصدر الإمام بهذا الخبر إشارة لدفع ما رواه زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان إذا جامع الرجل فلم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال زيد: فسألت عن ذلك عليًا والزبير وطلحة وأبي بن كعب فأمروه بذلك رواه الشيخان واللفظ للبخاري وللإسماعيلي فقالوا بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أحمد: حديث معلول لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف هذا الحديث، وقال علي بن المديني: إنه شاذ.

قال ابن عبد البر: ومحال أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم إسقاط الغسل من التقاء الختانين ثم يفتوا بإيجابه.
وأجاب الحافظ وغيره: بأن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده وحفظ رواته وليس هو فردًا ولا يقدح فيه إفتاؤهم بخلافه لأنه ثبت عندهم ناسخه فذهبوا إليه فكم من حديث منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية.

وقد ذهب الجمهور إلى نسخه بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل.
رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه: وبحديث عائشة نحوه مرفوعًا في مسلم وغيره، وروى أحمد والشافعي والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن حبان وصححه عن عائشة مرفوعًا: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، وبما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أوّل الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد.
صححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما.

قال الحافظ: على أن حديث الغسل وإن لم ينزل أرجح لأنه بالمنطوق من حديث الماء من الماء لأنه بالمفهوم أو بالمنطوق أيضًا لكن ذاك أصرح منه.

وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس أنه حمل حديث الماء من الماء على صورة مخصوصة وهي ما يقع في المنام من رؤية الجماع وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض اهـ.

ونحوه قول ابن عبد البر: حديث الماء من الماء لا حجة فيه لأنه لا يدفع أن يكون الماء من التقاء الختانين ولا خلاف أن الماء من الماء.
وقال ابن عباس: إنما الماء من الماء في الاحتلام يريد لأنه لا يجب في الاحتلام على من رأى أنه يجامع ولم ينزل غسل وهذا لا خلاف فيه اهـ.

وفيه عندي وقفة ففي مسلم عن أبي سعيد خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين إلى قبا حتى إذا كنا في بني سالم وقف صلى الله عليه وسلم على باب عتبان فصرخ به فخرج يجر إزاره فقال صلى الله عليه وسلم: أعجلنا الرجل فقال عتبان يا رسول الله أرأيت الرجل يعجل عن امرأته ولم يمن ماذا عليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنما الماء من الماء ومعلوم أن صورة السبب قطعية الدخول، وقد أتى الحديث بأداة الحصر جوابًا عن سؤال من أولج ولم يمن فلا يصح قولهما إنه لا يدفع كونه من التقاء الختانين وهو أيضًا متأكد لحمله على رؤيا المنام فالصواب أنه منسوخ، ولذا عقب مسلم هذا الحديث بما رواه عن العلاء بن الشخير قال: كان صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضًا كما ينسخ القرآن بعضه بعضًا والله أعلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) بالنون والضاد المعجمة سالم بن أبي أمية ( مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بضم العين ( عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ فَقَالَتْ) تلاطفه أو تعاتبه ( هَلْ تَدْرِي مَا مَثَلُكَ يَا أَبَا سَلَمَةَ) فكأنه قال لا قالت مثلك ( مَثَلُ الْفَرُّوجِ) قال المجد: كتنور ويضم كسبوح فرخ الدجاج ( يَسْمَعُ الدِّيَكَةَ) بزنة عنبة جمع ديك ويجمع أيضًا على ديوك ذكر الدجاج ( تَصْرُخُ) بضم الراء تصيح ( فَيَصْرُخُ مَعَهَا) .

قال ابن عبد البر: عاتبته بهذا الكلام لأنه قلد فيه من لا علم له به لأنها كانت أعلم به لمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان أبو سلمة لا يغتسل من التقاء الختانين لروايته عن أبي سعيد حديث الماء من الماء فلذلك نفرته عنه.
وقال الباجي: يحتمل أنه كان في زمن الصبا قبل البلوغ يسأل عن مسائل الجماع وهو لا يعرفه إلا بالسماع كالفروج يصرخ لسماع الديكة وإن لم يبلغ حد الصراخ، ويحتمل أنه لم يبلغ مبلغ الكلام في العلم لكنه يسمع الرجال يتكلمون فيه فيتكلم معهم.

( إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ) .
وهذا رواه الإمام أحمد والترمذي من وجه آخر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وأخرجه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة وعن رافع بن خديج والشيرازي في الألقاب عن معاذ بن جبل كلهم مرفوعًا به.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) بن قيس الأنصاري ولقيس صحبة ( عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) ابن حزن التابعي الكبير ولأبيه وجده صحبة ( أَنَّ أَبَا مُوسَى) عبد الله بن قيس ( الْأَشْعَرِيَّ) الصحابي المشهور ( أَتَى عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: لَقَدْ شَقَّ) صعب ( عَلَيَّ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ إِنِّي لَأُعْظِمُ) أفخم وأكبر ( أَنْ أَسْتَقْبِلَكِ) أواجهك ( بِهِ) لكونه مما يستحيى من ذكره للنساء ( فَقَالَتْ مَا هُوَ؟) فإنه لا حياء في الدين ثم آنسته بقولها ( مَا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ فَسَلْنِي عَنْهُ) زادت في مسلم فإنما أنا أمك ( فَقَالَ:) أبو موسى ( الرَّجُلُ يُصِيبُ أَهْلَهُ) يجامع حليلته ( ثُمَّ يُكْسِلُ وَلَا يُنْزِلُ) بضم الياء وكسر السين من أكسل أو بفتح الياء والسين من كسل من باب فرح يفرح.

قال ابن الأثير: أكسل الرجل إذا جامع ثم أدركه فتور فلم ينزل ومعناه صار ذا كسل، وفي كتاب العين كسل الفحل إذا فتر عن الضراب، وفي القاموس: الكسل التثاقل عن الشيء والفتور فيه كسل كفرح إلى أن قال وأكسله الأمر.

( فَقَالَتْ: إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ) قال ابن عبد البر: هذا وإن لم ترفعه ظاهرًا يدخل في المرفوع بالمعنى والنظر لأنه محال أن ترى عائشة نفسها في رأيها حجة على الصحابة المختلفين فيه ومحال أن يسلم أبو موسى لها قولها من رأيها، وقد خالفها صحابة برأيهم وكل واحد ليس بحجة على صاحبه في الرأي فلم يبق إلا أن أبا موسى علم أن ما احتجت به كان من النبي صلى الله عليه وسلم.

( فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: لَا أَسْأَلُ عَنْ هَذَا أَحَدًا بَعْدَكِ أَبَدًا) وتقدم أنه ورد عنها مرفوعًا بهذا اللفظ في الترمذي وأحمد، وأخرج مسلم عن أبي موسى قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار فقال الأنصار: لا يجب الغسل إلا من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل.
قال أبو موسى: فأنا أشفيكم في ذلك فقمت فاستأذنت على عائشة فأذن لي فقلت لها: يا أماه أو يا أم المؤمنين إني أسألك عن شيء وإني استحييتك.
فقالت: لا تستح أن تسأل عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك.
قلت: ما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل.

وأخرج أيضًا من رواية أم كلثوم عن عائشة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل وعائشة جالسة فقال صلى الله عليه وسلم: إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ) الحميري المدني ( مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) صدوق روى له مسلم والنسائي ( أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ) بفتح اللام وكسر الموحدة ابن عقبة بن رافع ( الْأَنْصَارِيَّ) الأوسي الأشهلي أبا نعيم المدني صحابي صغير وجل روايته عن الصحابة مات سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وله تسع وتسعون سنة.

( سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) أحد كتاب الوحي ( عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ وَلَا يُنْزِلُ فَقَالَ زَيْدٌ يَغْتَسِلُ فَقَالَ لَهُ مَحْمُودٌ إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَانَ لَا يَرَى الْغُسْلَ فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ نَزَعَ) بنون وزاي كف وأقلع ورجع ( عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ) .
وفي رجوعه دليل على أنه صح عنده أنه منسوخ ولولا ذلك لما رجع عنه.

قال ابن عبد البر: ومر أن أبيًا روى الأمر بالاغتسال عن المصطفى، وروى ابن أبي شيبة والطبراني بإسناد حسن عن رفاعة بن رافع قال: كنت عند عمر فقيل له إن زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد بأنه لا غسل على من يجامع ولم ينزل فقال عمر: علي به فأتي به فقال: يا عدو نفسه أو بلغ من أمرك أن تفتي برأيك؟ قال: ما فعلت يا أمير المؤمنين وإنما حدثني عمومتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أي عمومتك؟ قال: أبي بن كعب وأبو أيوب ورفاعة فالتفت عمر إلي وقال: ما تقول؟ قلت: كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع عمر الناس فاتفقوا على أن الماء لا يكون إلا من الماء إلا علي ومعاذ فقالا: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل.
فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر فقال علي لعمر: سل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حفصة فقالت لا أعلم، فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فتحطم عمر أي تغيظ وقال: لا أوتي بأحد فعله ولم يغتسل إلا أنهكته عقوبة، فلعل إفتاء زيد لمحمود بن لبيد بقوله يغتسل كان بعد هذه القصة إلا أنه يشكل عليها ما صح عن أبي بن كعب أن الماء من الماء رخصة كان رخص بها النبي صلى الله عليه وسلم أول الإسلام، ثم أمر بالاغتسال كما مر إلا أن يقال لم يكن حاضرًا مع الناس الذين جمعهم عمر أو كان حاضرًا وخشي على زيد لأنه سمع منه الرخصة ولم يسمع منه النسخ، فأراد أبي أن يشتهر النسخ لعلمه بأن عمر يبحث عن ذلك ويستثبته، والله أعلم.

( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ) .
ومرّ أن أربعًا من الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وذكر الشافعي أن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق حقيقة على الجماع وإن لم ينزل فإن كل من خوطب بأن فلانًا أجنب من فلانة عقل أنه أصابها وإن لم ينزل قال: ولا خلاف أن الزنا الذي يجب له الحد هو الجماع وإن لم ينزل.

وقال الطحاوي: أجمع المهاجرون والخلفاء الأربع على أن ما أوجب الجلد والرجم أوجب الغسل وعليه عامة الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء الأمصار.
وقال ابن العربي: إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم إلا داود ولا عبرة بخلافه، وتعقب بقول الخطابي قال بنفيه جماعة من الصحابة فسمى بعضهم قال ومن التابعين الأعمش اهـ.

وثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن في سنن أبي داود بإسناد صحيح، وعن هشام بن عروة، ورواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، وروي أيضًا عن عطاء لا تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى أغتسل من أجل اختلاف الناس لآخذ بالعروة الوثقى.

قال الشافعي: حديث الماء من الماء ثابت لكنه منسوخ وخالفنا بعض الحجازيين فقالوا لا يجب حتى ينزل اهـ.
فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهورًا بين التابعين ومن بعدهم لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب، والله أعلم.