فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ

رقم الحديث 1811 حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا أَوْ قَالَ: إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ.


( ما يكره من الكلام بغير ذكر الله)

( مالك عن زيد بن أسلم) الفقيه العمري ( عن عبد الله بن عمر) وأسقطه يحيى قال أبو عمر ما أظنه أرسله غيره وقد وصله القعنبي وابن وهب وابن القاسم وابن بكير وابن نافع والتنيسي وغيرهم وهو الصواب ( أنه قال قدم رجلان من) جهة ( المشرق) وكان سكنى بني تميم في جهة العراق وهي في شرق المدينة قال ابن عبد البر هما الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم باتفاق العلماء كذا في التمهيد ونقله السيوطي عنه بلفظ يقال إنهما الزبرقان وعمرو وفي فتح الباري لم أقف على تسمية الرجلين صريحًا وزعم جماعة أنهما الزبرقان بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة وعمرو بن الأهتم لما رواه البيهقي وغيره عن ابن عباس قال جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم ففخر الزبرقان فقال يا رسول الله أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب لديهم أمنعهم من الظلم وآخذ لهم حقوقهم وهذا أي عمرو يعلم ذلك فقال عمرو إنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في أدنيه فقال الزبرقان والله لقد علم مني أكثر مما قال وما منعه إلا الحسد فقال عمرو أنا أحسدك والله إنك لئيم الخال حديث المال أحمق الوالد مضيع في العشيرة والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الأخرى لكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعًا فقال صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرًا وأخرجه الطبراني عن أبي بكرة قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقدم عليه وفد تميم فذكر نحوه وهذا لا يلزم منه أن يكونا هما المراد بحديث ابن عمر فإن المتكلم إنما هو عمرو وحده وكان كلامه في مراجعة الزبرقان فلا يصح نسبة الخطبة إليهما إلا على طريق التجوز ( فخطبا فعجب الناس) منهما لبيانهما ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرًا) يعني أن منه لنوعًا يحل من العقول والقلوب في التمويه محل السحر فإن الساحر بسحره يزين الباطل في عين المسحور حتى يراه حقًا فكذا المتكلم بمهارته في البيان وتقلبه في البلاغة وترصيف النظم يسلب عقل السامع ويشغله عن التفكر فيه والتدبر حتى يخيل إليه الباطل حقًا والحق باطلاً فتستمال به القلوب كما تستمال بالسحر فشبه به تشبيهًا بليغًا بحذف الأداة قال التوربشتي وأصله إن بعض البيان كالسحر لكنه جعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعًا والفرع أصلاً ( أو قال إن بعض البيان لسحر) شك الراوي في اللفظ المروي وإن اتحد المعنى فإن من للتبعيض قال الباجي وابن عبد البر قال قوم هذا خرج مخرج الذم لأنه أطلق عليه سحر أو هو مذموم وإلى هذا ذهبت طائفة من أصحاب مالك محتجين بأنه أدخله فيما يكره من الكلام وقال قوم خرج مخرج المدح لأن الله امتن به على عبادة خلق الإنسان علمه البيان وكان صلى الله عليه وسلم أبلغ الناس وأفضلهم بيانًا قال هؤلاء وإنما جعله سحرًا لتعلقه بالنفس وميلها إليه وقال ابن العربي وغيره حمله على الأول صحيح لكن لا يمنع حمله على المعنى الثاني إذا كان في تزيين الحق وقال ابن بطال أكثر ما يقال ليس ذمًا للبيان كله ولا مدحًا لأنه أتى بمن التي للتبعيض قال وكيف نذمه وقد امتن الله به فقال { { خلق الإنسان علمه البيان } } قال الحافظ والذي يظهر أن المراد به في الآية ما يقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان لا خصوص ما نحن فيه وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني نعم الإفراط في كل شيء مذموم وخير الأمور أوساطها قال الخطابي وابن التين البيان نوعان أحدهما ما يقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان والآخر ما دخلته صنعة تحسين اللفظ بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم وهذا الذي يشبه بالسحر لأنه صرف الشيء عن حقيقته روى أن رجلاً طلب إلى عمر بن عبد العزيز حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها فاستمال قلبه بالكلام فأنجزها له ثم قال هذا هو السحر الحلال قال ابن عبد البر وقد سار هذا الحديث سير المثل في الناس إذا سمعوا كلامًا يعجبهم قالوا إن من البيان لسحرًا وربما قالوا السحر الحلال ومنهم أخذ القائل

وحديثها السحر الحلال لو أنه
لم يجر قتل المسلم المتحرز

إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز

شرك العقول ونزهة ما مثلها
للسامعين وعقلة المستوفز

رواه البخاري في الطب عن عبد الله بن يوسف عن مالك به موصولاً وتابعه سفيان بن عيينة عن زيد عن ابن عمر عنده في النكاح ورواه أبو داود في الأدب والترمذي في البر ( مالك أنه بلغه أن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يقول لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو) بالنصب ( قلوبكم) فلا ينفعها عظة ولا يثبت فيها حكمة ( فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون) ذلك وهذا قد جاء مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تكثر الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي رواه الترمذي عن ابن عمر ( ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب) جمع رب ( و) لكن ( انظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد) يخافون اطلاع ساداتهم على ذنوبهم فيحذرون منها ( فإنما الناس مبتلى) بالذنوب ( ومعافى) منها ( فارحموا أهل البلاء) بنحو الدعاء برفعه عنهم وعدم النظر إلى ذنوبهم وهتكهم بها عظوهم بلين ورفق ( واحمدوا الله على العافية) ليديم ذلك عليكم ( مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت ترسل إلى أهلها بعد العتمة) بفتح المهملة والفوقية العشاء ( فتقول ألا تريحون الكتاب) الملائكة الكرام من كتب الكلام الذي لا ثواب فيه قال أبو عبد الملك أرادت بذلك والله أعلم أصحاب الشمال لأنها كارهة لأعمال ابن آدم السيئة فإذا تركها فقد أراحها من كراهتها وأما الملائكة الذين عن اليمين فهم يسرون بعمل ابن آدم الصالح فلا تعود الإراحة عليهم.



رقم الحديث 1811 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخْبَأَةٍ، فَلُبِطَ سَهْلٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِي سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ؟ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَتَّهِمُونَ لَهُ أَحَدًا؟ قَالُوا: نَتَّهِمُ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ،.

     وَقَالَ : عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، أَلَّا بَرَّكْتَ اغْتَسِلْ لَهُ، فَغَسَلَ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.


( الوضوء من العين)

( مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف) بضم المهملة مصغر الأنصاري الثقة ( أنه سمع أباه) أبا أمامة واسمه أسعد سماه النبي صلى الله عليه وسلم باسم جده أبي أمه وكناه بكنيته لما ولد قبل الوفاة النبوية بسنتين ومات سنة مائة ( يقول اغتسل أبي) سهل بن حنيف البدري وظاهره الإرسال لكنه محمول على أن أبا أمامة سمع ذلك من أبيه ففي بعض طرقه عن أبي أمامة حدثني أبي أنه اغتسل ( بالخرار) بفتح المعجمة والراء الأولى الشديدة موضع قرب الجحفة قاله ابن الأثير وغيره وقال ابن عبد البر موضع بالمدينة وقيل من أوديتها انتهى ويؤيد الأول أن في بعض طرق الحديث حتى إذا كان بشعب الخرار من الجحفة ( فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة) بن كعب بن مالك العنزي بسكون النون حليف الخطاب أسلم قديمًا وهاجر وشهد بدرًا مات ليالي قتل عثمان ( ينظر) إليه ( قال) أبو أمامة ( وكان سهل رجلاً أبيض حسن) مليح ( الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء) أي بكر ( قال فوعك سهل مكانه واشتد) قوي ( وعكه) أي ألمه وفي الطريق الثاني فلبط أي صرع فكأنه صرع من شدة الوعك ( فأتي) بضم الهمزة ( رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر) بالبناء للمفعول ( أن سهلاً وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله) لعدم استطاعته بشدة الوعك ( فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر بن ربيعة) أي نظره إليه وقوله ما ذكر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية فدعا عامرًا فتغيظ عليه فقال ( علام) بمعنى لم وفيه معنى الإنكار ( يقتل أحدكم أخاه) في الدين زاد في بعض طرقه وهو غني عن قتله ( ألا) بالفتح والتشديد بمعنى هلا وبها جاء في بعض طرقه ( بركت) أي قلت بارك الله فيك فإن ذلك يبطل المعنى الذي يخاف من العين ويذهب تأثيره قال الباجي وقال ابن عبد البر يقول تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه فيجب على كل من أعجبه شيء أن يبارك فإذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة انتهى وروى ابن السني عن سعيد بن حكيم قال كان صلى الله عليه وسلم إذا خاف أن يصيب شيئًا بعينه قال اللهم بارك فيه ولا تضره وأخرج البزار وابن السني عن أنس رفعه من رأى شيئًا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره ( إن العين حق) أي الإصابة بها شيء ثابت في الوجود مقضي به في الوضع الإلهي لا شبهة في تأثيره في النفوس والأموال قال القرطبي هذا قول عامة الأمة ومذهب أهل السنة وأنكره قوم مبتدعة وهم محجوجون بما يشاهد منه في الوجود فكم من رجل أدخلته العين القبر وكم من جمل أدخلته القدر لكن بمشيئة الله سبحانه ولا يلتفت إلى معرض عن الشرع والعقل يتمسك باستبعاد لا أصل له فإنا نشاهد من خواص الأحجار وتأثير السحر ما يقضي منه العجب ويحقق أن ذلك فعل بسبب كل سبب انتهى ( توضأ له) الوضوء المذكور في الطريق التالية المعبر عنه باغتسل ليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء وغيره كما يأتي بيانه والأمر للوجوب قال المازري والصحيح عندي للوجوب ويبعد الخلاف فيه إذا خشي على المعين الهلاك وكان وضوء العائن مما جرت العادة بالبرء به أو كان الشرع أخبر به خبرًا عامًا ولم يمكن زوال الهلاك إلا بوضوء العائن فإنه يصير من باب من تعين عليه إحياء نفس مشرفة على الهلاك وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر فهذا أولى وبهذا التقرير يرتفع الخلاف ( فتوضأ له عامر) على الصفة الآتية في الطريق بعده ثم صب على سهل ( فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس) أي شدة لزوال وعكه الذي صرعه وفيه إباحة النظر إلى المغتسل ما لم تكن عورة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لعامر لم نظرت إليه إنما لامه على ترك التبريك قال ابن عبد البر وقد يستحب العلماء أن لا ينظر الإنسان إلى المغتسل خوف أن يرى عورته وإن من الطبع البشري الإعجاب بالشيء الحسن والحسد عليه وهذا لا يملكه المرء من نفسه فلذا لم يعاتب عامرًا عليه بل على ترك التبريك الذي في وسعه وأن العين قد تقتل وتوبيخ من كان منه أو بسببه سوء وإن كان الناس كلهم تحت القدر السابق بذلك كالقاتل يقتل وإن كان المقتول يموت بأجله وأن العين إنما تعدو إذا لم يبرك فيجب على كل من أعجبه شيء أن يبارك انتهى ملخصًا وقال القرطبي لو أتلف العائن شيئًا ضمنه ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرًا وأما عندنا فيقتل قتل بسحره أم لا لأنه كالزنديق وقال النووي لا يقتل العائن ولا دية ولا كفارة لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال مما لا انضباط له كيف ولم يقع منه فعل أصلاً وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة وأيضًا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص ولا يتعين ذلك المكروه في إزالة الحياة فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين قال الحافظ ولا يعكر عليه إلا الحكم بقتل الساحر فإنه في معناه والفرق بينهما عسر ونقل ابن بطال عن بعض العلماء أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس ويأمره بلزوم بيته وإن كان فقيرًا رزقه ما يكفيه ويكف أذاه عن الناس فإن ضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد لئلا يؤذي المسلمين ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر والعلماء بعده الاختلاط بالناس ومن ضرر المؤذيات من المواشي الذي يؤمر بإبعادها إلى حيث لا يتأذى بها أحد قال عياض وهذا الذي قاله هذا القائل صحيح متعين ولا يعرف عن غيره تصريح بخلافه ( مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه قال رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف) ظاهره الإرسال لكنه سمع ذلك من والده ففي رواية ابن أبي شيبة عن شبابة عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي أمامة عن أبيه أن عامر أمر به وهو ( يغتسل) ولأحمد والنسائي وصححه ابن حبان من وجه آخر عن الزهري عن أبي أمامة أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحوًا ما حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة ( فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة) بضم الميم وخاء معجمة وموحدة والهمز وهي المخدرة المكنونة التي لا تراها العيون ولا تبرز للشمس فتغيرها يعني أن جلد سهل كجلد المخبأة إعجابًا بحسنه قال عبد الله بن قيس الرقيات

ذكرتني المخبآت لدى الحجر
ينازعنني سجوف الحجال

ومر في رواية محمد عن أبيه أبي أمامة ولا جلد عذراء بدل مخبأة فكأنه جمع بين اللفظين فقال عذراء مخبأة فاقتصر كل راء على ما سمعه منه أو إحداهما بالمعنى لكن لا شك أن مخبأة أخص ( فلبط) بضم اللام وكسر الموحدة وطاء مهملة أي صرع وسقط إلى الأرض ( بسهل) يقال منه لبط به يلبط لبطًا وقال ابن وهب لبط وعك وكأنه فسره بالرواية السابقة جمعًا بينهما لاتحاد القصة ولا يتعين لجواز أن سقوطه من شدة وعكه كما قدمته وهذا أولى إبقاء للفظين على حقيقتهما زاد ابن أبي ذئب عن الزهري حتى ما يعقل لشدة الوجع ( فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له يا رسول الله هل لك في سهل بن حنيف والله ما يرفع رأسه) من شدة الوعك والصرع ( فقال هل تتهمون له أحدًا) عانه ( قالوا نتهم عامر بن ربيعة) وكأنهم لما قالوا ذلك ذهب صلى الله عليه وسلم إلى سهل لتثبت الخبر منه كما قال في الحديث السابق فأتاه رسول الله فأخبره سهل ولم يذكر في الطريق السابقة أنه قال لهم هل تتهمون إلخ ففي كل من الطريقين اختصار ( قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن ربيعة فتغيظ عليه وقال علام) أي لم ( يقتل أحدكم أخاه) أي يكون سببًا في قتله بالعين ( ألا) وفي رواية هلا ( بركت) أي دعوت له بالبركة وللنسائي وابن ماجه من وجه آخر عن أبي أمامة إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ومثله عند ابن السني عن عامر بن ربيعة ( اغتسل له) وجوبًا لأن الأمر حقيقته الوجوب ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينفعه ولا يضره لا سيما إذا كان بسببه وكان هو الجاني عليه فواجب على العائن الغسل عنه قاله ابن عبد البر ( فغسل عامر وجهه ويديه) وفي رواية بدل هذا وظاهر كفيه ( ومرفقيه) زاد في رواية وغسل صدره ( وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره) هي الحقو تجعل من تحت الإزار في طرفه ثم يشد عليه الإزرة قاله ابن وهب عن مالك ونحوه قول ابن حبيب هي الطرف المتدلي الذي يضعه المؤتزر أولاً على حقوه الأيمن وقال الأخفش هي الجانب الأيسر من الإزار الذي تعطفه إلى يمينك ثم يشد الإزار قاله ابن عبد البر وقال المازري ظن بعضهم أنه كناية عن الفرج والجمهور أنه الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن وقال عياض المراد بداخلة الإزار ما يلي الجسد من المئزر وقيل موضعه من الجسد وقيل مذاكيره كما يقال عفيف الإزار أي الفرج وقيل وركه إذ هو معقد الإزار ( في قدح) زاد في رواية قال وحسبته قال وأمر فحسا منه حسوات ( ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ليس به بأس) لزوال علته قال الزهري هذا من العلم يغتسل العائن في قدح من ماء يدخل يده فيه فيمضمض ويمجه في القدح ويغسل وجهه فيه ثم يصب بيده اليسرى على كفه اليمنى ثم باليمنى على كفه اليسرى ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفق يده اليمنى ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى ثم يغسل قدمه اليمنى ثم يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين ثم يأخذ داخلة إزاره فيصب على رأسه صبة واحدة ولا يضع القدح حتى يفرغ هكذا رواه ابن أبي ذئب عن الزهري عند ابن أبي شيبة وهو أحسن ما فسر به لأن الزهري راوي الحديث وزاد ابن حبيب في قول الزهري هذا يصب من خلفه صبة واحدة يجري على جسده ولا يوضع القدح في الأرض ويغسل أطرافه المذكورة كلها وداخلة الإزار في القدح قاله في التمهيد زاد في الإكمال أن الزهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه علماؤنا ومضى به العمل قال وجاء عن ابن شهاب من رواية عقيل مثله إلا أن فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة وفيه في غسل القدمين أنه لا يغسل جميعهما وإنما قال ثم يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه واليسرى كذلك انتهى وهو أقرب لقول الحديث وأطراف رجليه وهذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة أما عند الإصابة به وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى دفعه بقوله ألا بركت قال المازري وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات فلا يرد لكونه لا يعقل معناه وقال ابن العربي إن توقف فيه متشرع قلنا الله ورسوله أعلم وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة أو متفلسف فالرد عليه أظهر لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها بمعنى لا يدرك ويسمون ما هذا سبيله الخواص وقال ابن القيم هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربًا غير معتقد وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصية فما الذي ينكره جهلتهم من الخواص الشرعية هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تلقاها العقول الصحيحة فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها وهذا علاج النفس الغضبية بوضع اليد على بدن الغضبان فيسكن فكان أثر تلك العين كشعلة نار وقعت على جسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة المنفوذ فيها ولا شيء أرق من المعاين فكان في غسلها إبطال لعملها ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصًا وفيه أيضًا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذًا فتطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء انتهى وفي الحديث أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال وأنه من النشرة النافعة وأن العين تكون مع الإعجاب بغير حسد ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح وأن الذي يعجبه الشيء يبادر إلى الدعاء لمن أعجبه بالبركة ويكون ذلك رقية منه وأن الماء المستعمل طاهر وأن الإصابة بالعين قد تقتل وفي القصاص خلاف تقدم بين المالكية والشافعية.