فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الرُّخْصَةِ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ

رقم الحديث 464 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلَا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَقَدِ ارْتَقَيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكَ مِنِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ قَالَ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ.
قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي الَّذِي يَسْجُدُ وَلَا يَرْتَفِعُ عَلَى الْأَرْضِ يَسْجُدُ وَهُوَ لَاصِقٌ بِالْأَرْضِ.


( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ( عن عمه واسع بن حبان) والثلاثة مدنيون أنصاريون تابعيون لكن قيل لواسع رؤية فلذا ذكر في الصحابة وأبوه حبان بن منقذ بن عمرو له ولأبيه صحبة ( عن عبد الله بن عمر أنه) أي ابن عمر كما في مسلم فزعم عود الضمير على واسع وهم ( كان يقول إن أناسًا) كأبي أيوب وأبي هريرة ومعقل الأسدي وغيرهم ممن يرى بعموم النهي في استقبال القبلة واستدبارها ( يقولون إذا قعدت على حاجتك) كناية عن التبرز ونحوه وذكر القعود لأنه الغالب وإلا فحال القيام كذلك ( فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس) بفتح فسكون فكسر مخففًا وبضم الميم وفتح القاف وشدّ الدال مفتوحة وبيت نصب عطفًا على القبلة والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع.

( قال عبد الله) ليس جوابًا لواسع لأنّ ابن عمر أورد القول الأول منكرًا له ثم بين سبب إنكاره بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا وقع في رواية التنيسي فقال بفاء السببية فكان عليه أن يقول لقد ارتقيت إلخ لكن الراوي عنه واسع أراد التأكيد بإعادة قوله قال عبد الله ( لقد ارتقيت) أي صعدت واللام جواب قسم محذوف ( على ظهر بيت لنا) وفي رواية يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد على ظهر بيتنا وفي رواية عبيد الله بن عمر عن يحيى على ظهر بيت حفصة كما في البخاري أي أخته كما في مسلم، ولابن خزيمة دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت، وجمع الحافظ بأنه حيث أضافه إليه مجازًا لأنها أخته وحيث أضافه إليها باعتبار أنه البيت الذي أسكنها النبي صلى الله عليه وسلم فيه واستمرّ في يدها إلى أن ماتت فورث عنها وحيث أضافه إلى نفسه كأنه باعتبار ما آل إليه الحال لأنه ورث حفصة دون إخوته لأنها شقيقته ولم تترك من يحجبه عن الاستيعاب.

( فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين) بفتح اللام وكسر الموحدة وفتح النون تثنية لبنة وهي ما يصنع من الطين أو غيره للبناء قبل أن يحرق ( مستقبل بيت المقدس لحاجته) أي لأجل حاجته أو وقت حاجته ولابن خزيمة فأشرفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على خلائه، وفي رواية له فرأيته يقضي حاجته محجوبًا عليه بلبنتين، وللحكيم الترمذي بسند صحيح فرأيته في كنيف وهو بفتح الكاف وكسر النون فتحتية ففاء وانتفى بهذا إيراد من قال ممن يرى الجواز مطلقًا يحتمل أنه رآه في الفضاء وكونه على لبنتين لا يدل على البناء لاحتمال أنه جلس عليهما ليرتفع عن الأرض بهما، ويردّ هذا الاحتمال أيضًا أنّ ابن عمر كان يرى المنع في الاستقبال في الفضاء إلا بساتر كما رواه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به، ولم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة وإنما صعد السطح لضرورة له كما في رواية للبخاري ارتقيت لبعض حاجتي فحانت منه التفاتة كما في رواية البيهقي من طريق نافع عنه فلما اتفقت له رؤيته في تلك الحالة بلا قصد أحب أن لا يخلى ذلك من فائدة فحفظ هذا الحكم الشرعي وكأنه إنما رآه من جهة ظهره حتى ساغ له تأمّل الكيفية المذكورة من غير محذور ودل على ذلك شدّة حرصه على تتبع أحواله صلى الله عليه وسلم ليتبعها وكذا كان رضي الله عنه.

( ثم قال) ابن عمر ( لعلك) الخطاب لواسع وغلط من زعم أنه مرفوع ( من الذين يصلون على أوراكهم قال) واسع ( قلت لا أدري والله) أنا منهم أم لا ( قال مالك) مفسرًا لقوله يصلون إلخ ( يعني الذي يسجد ولا يرتفع على الأرض يسجد وهو لاصق بالأرض) وهو خلاف هيئة السجود المشروعة وهي مجافاة بطنه عن وركيه والتجنح تجنحًا وسطًا.

واستشكل ذكر ابن عمر لهذا مع المسألة السابقة.
وأجاب الكرماني: باحتمال أنه أراد أن الذي خاطبه لا يعرف السنة إذ لو عرفها لعرف الفرق بين الفضاء وغيره، أو الفرق بين استقبال الكعبة وبيت المقدس وكني عمن لا يعرف السنة بالذي يصلي على وركيه لأن فاعل ذلك لا يكون إلا جاهلاً بالسنة.

قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلف وليس في السياق أنّ واسعًا سأل ابن عمر عن المسألة الأولى حتى ينسبه إلى عدم معرفتها ثم الحصر مردود لأنه قد يسجد على وركيه من يعلم سنن الخلاء والذي يظهر في المناسبة ما دل عليه سياق مسلم فأوّله عنده عن واسع قال: كنت أصلي في المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقي الأيسر فقال عبد الله يقول ناس فذكر الحديث، وكان ابن عمر رأى منه في حال سجوده شيئًا لم يتحققه عنده فقدّمها على ذلك للأمر المظنون ولا بعد أن يكون قريب عهد بقول من نقل عنهم ما نقل، فأحب أن يعرفه هذا الحكم لينقله عنه على أنه لا يمتنع إبداء مناسبة بين هاتين المسألتين بخصوصهما فإن لإحداهما بالأخرى تعلقًا بأن يقال: لعل الذي كان يسجد وهو لاصق بطنه بوركيه كان يظن امتناع استقبال القبلة بفرجه في كل حال وأحوال الصلاة أربعة قيام وركوع وسجود وقعود وانضمام الفرج فيها بين الوركين ممكن إلا إذا جاء في السجود، فرأى أن في الإلصاق ضمًا للفرج ففعله ابتداعًا وتنطعًا.
والسنة بخلاف ذلك والستر بالثياب كاف في ذلك كما أن الجدار كاف في كونه حائلاً بين العورة والقبلة إن قلنا إن مثار النهي الاستقبال بالعورة، فلما حدّث ابن عمر التابعي بالحكم الأوّل أشار له بالحكم الثاني منبهًا له على ما ظنه منه في تلك الصلاة التي رآه صلاها وقول واسع لا أدري يدل على أنه لا شعور عنده بشيء مما ظنه به، ولذا لم يغلظ له ابن عمر في الزجر، وفي حديث ابن عمر دلالة على جواز استدبار القبلة في الأبنية وحديث جابر على جواز استقبالها.

وقد رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وغيرهم عن جابر كان صلى الله عليه وسلم نهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة والحق أنه ليس بناسخ لحديث النهي خلافًا لزاعمه، بل محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه لأن ذلك هو المعهود من حاله صلى الله عليه وسلم لمبالغته في الستر ورؤية جابر وابن عمر له كانت بلا قصد ودعوى أن ذلك خصوصية لا دليل عليه إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولولا حديث جابر لكان حديث أبي أيوب لا يخص من عمومه بحديث ابن عمر إلا الاستدبار فقط ولا يصح إلحاق الاستقبال به.

وقد تمسك به قوم فقالوا: يجوز الاستدبار دون الاستقبال وبالفرق بين البنيان والصحراء مطلقًا قال الجمهور ومالك والشافعي وإسحاق وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة وقال قوم بالتحريم مطلقًا وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد وأبي ثور، ورجحه من المالكية ابن العربي ومن الظاهرية ابن حزم وحجتهم أن النهي مقدم على الإباحة ولم يصححوا حديث جابر، وقال قوم بالجواز مطلقًا وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود لأن الأحاديث تعارضت فرجع إلى أصل الإباحة وقيل يجوز الاستدبار في البنيان فقط لحديث ابن عمر، وبه قال أبو يوسف وقيل يحرم مطلقًا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس لحديث معقل الأسدي نهى صلى الله عليه وسلم أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط رواه أبو داود وغيره وهو ضعيف وعلى تقدير صحته فالمراد به أهل المدينة، ومن على سمتها لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة فالعلة استدبارها لا استقباله وقيل يختص التحريم بأهل المدينة ومن على سمتها فأما من قبلته في المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقًا لعموم قوله شرقوا أو غربوا انتهى.

قال الباجي: أدخل مالك حديث ابن عمر في الرخصة في استقبال القبلة وإنما فيه رأيته يستقبل بيت المقدس فيحتمل أن يريد الاستقبال والاستدبار فإذا استقبل بالمدينة بيت المقدس فقد استدبر مكة فراعى مالك المعنى دون اللفظ، ويحتمل أن تكون القبلة في الترجمة بيت المقدس لأنها كانت قبلة فإن نسخت الصلاة إليها فسائر أحكامها وحرمها باقية على ما كانت قبل النسخ وقد روي النهي عن استقبالها وإن كان إسناده ضعيفًا فيحتمل أن معناه ما تقدم ويحتمل أن ينهى عن استقباله حين كان قبلة ثم نهى عن استقباله على ما تقتضيه الأدلة انتهى.

وحديث الباب رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد نحوه عند مسلم.