فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الصَّلَاةِ فِي رَمَضَانَ

رقم الحديث 253 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ.
ثُمَّ صَلَّى اللَّيْلَةَ الْقَابِلَةَ، فَكَثُرَ النَّاسُ.
ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ، إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.


التَّرْغِيبِ فِي الصَّلَاةِ فِي رَمَضَانَ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) الزهري ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام ( عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى) صلاة الليل ( فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ) من ليالي رمضان، وفي رواية عمرة عن عائشة عند البخاري أنه صلى في حجرته، وليس المراد بها بيته بل الحصير التي كان يحتجر بها بالليل في المسجد فيجعلها على باب بيت عائشة فيصلي فيه ويجلس عليه، وقد جاء ذلك مبينًا من طريق سعيد المقبري عن أبي سلمة عن عائشة كان يحتجر حصيرًا بالليل فيصلي عليه ويبسطه بالنهار فيجلس عليه.
رواه البخاري في اللباس، ولأحمد من رواية محمد بن إبراهيم عن عائشة: فأمرني أن أنصب له حصيرًا على باب حجرتي ففعلت فخرج الحديث.

قال النووي: معنى يحتجر يحوط موضعًا من المسجد بحصير يستره ليصلي فيه ولا يمر بين يديه مار ليتوفر خشوعه ويتفرغ قلبه، وتعقبه الكرماني: بأن لفظ الحديث لا يدل على أن احتجاره كان في المسجد ولو كان كذلك لزم أن يكون تاركًا للأفضل الذي أمر الناس به بقوله: صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ثم أجاب: بأنه صح أنه كان في المسجد فهو إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصه، أو أن سبب كون صلاة التطوّع في البيت أفضل عدم شوبه بالرياء غالبًا، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن الرياء في بيته وفي غير بيته.

( فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى اللَّيْلَةَ الْقَابِلَةَ) وللبخاري من هذا الطريق من القابلة ولبعض رواته من القابل بالتذكير أي الوقت، ولأحمد من رواية معمر عن ابن شهاب من الليلة المقبلة ( فَكَثُرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ) بالشك في رواية مالك، ولمسلم من رواية يونس عن ابن شهاب: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا معه فأصبح الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، ولأحمد من رواية معمر عن الزهري: امتلأ المسجد حتى اغتص بأهله، وله من طريق سفيان بن حسين عنه فلما كانت الرابعة غص المسجد بأهله.

( فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زاد في رواية أحمد عن ابن جريج عن ابن شهاب حتى سمعت ناسًا منهم يقولون الصلاة.
وفي رواية سفيان بن حسين فقالوا: ما شأنه، وفي حديث زيد بن ثابت ففقدوا صوته وظنوا أنه قد تأخر فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، وفي لفظ عن زيد فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب رواهما البخاري.

قال ابن عبد البر مفسرًا هذه الليالي المذكورات في حديث عائشة بما رواه النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا ألا ندرك الفلاح وكان يسمون به السحور أخرجه النسائي.

وأما عدد ما صلى ففي حديث ضعيف عن ابن عباس أنه صلى عشرين ركعة والوتر أخرجه ابن أبي شيبة.
وروى ابن حبان عن جابر أنه صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر وهذا أصح.

وقال الحافظ: لم أر في شيء من طرقه أي حديث عائشة بيان عدد صلاته في تلك الليالي، لكن روى ابن خزيمة وابن حبان عن جابر: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات ثم أوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله الحديث.
فإن كانت القصة واحدة احتمل أن جابرًا ممن جاء في الليلة الثانية فلذا اقتصر على وصف ليلتين، وما في مسلم عن أنس كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه فجاء رجل فقام حتى كنا رهطًا فلما أحس بنا تجوّز ثم دخل رجل الحديث.
فالظاهر أن هذا كان في قصة أخرى.

( فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ) من حرصكم على الصلاة معي، وفي رواية للبخاري: فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد: فإنه لم يخف عليّ مكانكم، وفي مسلم: شأنكم ( وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) صلاة الليل فتعجزوا عنها كما في رواية يونس عند مسلم ونحوه في رواية عقيل عند البخاري أي تشق عليكم فتتركوها مع القدرة عليها، وليس المراد العجز الكلي لأنه يسقط التكليف من أصله.

وقد استشكلت هذه الخشية مع قوله سبحانه: هنّ خمس وهنّ خمسون لا يبدّل القول لديّ، فإذا أمن التبديل كيف يخاف من الزيادة، وأجاب الخطابي: بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم وأفعاله الشرعية يجب على الأمّة الاقتداء به فيها عند المواظبة فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب بطريق الأمر بالاقتداء به لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر فيجب عليه ولا يلزم زيادة فرض في أصل الشرع، وباحتمال أن الله لما فرض الصلاة خمسين ثم حط معظمها بشفاعة نبيه، فإذا عادت الأمّة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم لم ينكر أن يثبت ذلك فرضًا كما التزم ناس الرهبانية من قبل أنفسهم ثم عاب الله التقصير فيها بقوله: { { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } } فخشي صلى الله عليه وسلم أن يكون سبيلهم سبيل أولئك فقطع العمل شفقة عليهم انتهى.

وتبعه جماعة من الشراح وهو مبني على وجوب قيام الليل ووجوب الاقتداء بأفعاله في كل شيء وفي كل من الأمرين نزاع.
وجواب الكرماني بأن حديث الإسراء يدل على أن المراد الأمن من نقص شيء ولم يتعرّض للزيادة فيه نظر لأن ذكر المضعف بقوله: هنّ خمس وهنّ خمسون إشارة إلى عدم الزيادة أيضًا لأن التضعيف لا ينقص عن العشر ودفع بعضهم في أصل السؤال بأن الزمان قابل للنسخ فلا مانع من خشية الافتراض فيه نظر لأن قوله: لا يبدل القول لديّ خبر ولا يدخله النسخ على الراجح، وليس كقوله مثلاً: صوموا الدهر أبدًا فإنه يجوز فيه النسخ.

وقال الباجي: قال القاضي أبو بكر: يحتمل أن يكون أوحى الله إليه أنه إن واصل الصلاة معهم فرضها عليهم، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن ذلك سيفرض عليهم لما جرت عادته بأن ما داوم عليه على وجه الاجتماع من القرب فرض على أمته، ويحتمل أن يريد بذلك أنه خاف أن يظنّ أحد من أمّته بعده إذا داوم عليها وجوبها وإلى الثالث نحا القرطبي فقال: قوله أن يفرض عليكم أي تظنونه فرضًا فيجب على من ظن ذلك كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو حرمته فيجب عليه العمل به، وقيل كان حكمه صلى الله عليه وسلم إذا واظب على شيء من الأعمال واقتدى الناس به فيه أنه يفرض عليهم اهـ.
ولا يخفى بعده فقد واظب على رواتب الفرائض وتابعه أصحابه ولم تفرض.

وقال ابن بطال: يحتمل أن هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم لما كان قيام الليل فرضًا عليه دون أمّته فخشي إن خرج إليهم والتزموه معه أن يسوّى بينهم وبينه في حكمه لأن أصل الشرع المساواة بين النبي وأمّته في العبادة، ويحتمل أنه خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها فيعصي تاركها بترك اتباعه صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: وحديث هنّ خمس وهنّ خمسون لا يبدّل القول لديّ يدفع في صدور هذه الأجوبة كلها، وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة سواها.
أحدها: أنه خاف جعل التهجد في المسجد جماعة شرطًا في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقًا عليهم من اشتراطه وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم.
ثانيها: أنه خاف افتراضه كفاية لا عينًا فلا يكون زائدًا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها.
ثالثها: أنه خاف فرض قيام رمضان خاصة كما قال: ( وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ) .

وفي رواية سفيان بن حسين: خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر فعلى هذا يرتفع الإشكال لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة فلا يكون ذلك قدرًا زائدًا على الخمس.
قال: وأقوى هذه الثلاثة في نظري الأوّل، وفي الحديث ندب قيام الليل ولا سيما في رمضان جماعة لأن الخشية المذكورة أمنت بعده، ولذا جمعهم عمر كما في الحديث التالي وفيه: أن الكبير إذا فعل شيئًا خلاف ما اعتاده أتباعه أن يذكر لهم عذره وحكمه وشفقته صلى الله عليه وسلم على أمّته ورأفته بهم، وترك بعض المصالح لخوف المفسدة وتقديم أهم المصلحتين وجواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة، وفيه نظر لأن نفي النية لم ينقل ولم يطلع عليه بالظن وترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صليت جماعة.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهري، ورواه عقيل ويونس وشعيب وغيرهم عن الزهري عن حميد بدل أبي سلمة، وصح عند البخاري الطريقان فأخرجهما على الولاء، وأخرجه النسائي من طريق جويرية عن مالك عن ابن شهاب عن حميد وأبي سلمة جميعًا.

( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَغِّبُ) بضم أوله وفتح الراء وشدّ الغين المعجمة المكسورة ( فِي قِيَامِ رَمَضَانَ) أي صلاة التراويح قاله النووي، وقال غيره: بل مطلق الصلاة الحاصل بها قيام الليل كالتهجد سرًا، وأغرب الكرماني في قوله اتفقوا على أنّ المراد بقيام رمضان صلاة التراويح ( مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِعَزِيمَةٍ) أي من غير أن يوجبه بل أمر ندب وترغيب وفسره بصيغة تقتضي الترغيب والندب دون الإيجاب بقوله: ( فَيَقُولُ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ) قال ابن عبد البر: أجمع رواة الموطأ على لفظ قام، ولذا أدخله مالك في قيام رمضان ويصحح ذلك أي يقوّيه قوله: كان يرغب في قيام رمضان، وتابع مالكًا عليه معمر ويونس وأبو أويس كلهم عن ابن شهاب بلفظ: قام.
ورواه ابن عيينة وحده عن الزهري بلفظ: من صام رمضان أي بالصاد من الصيام، وكذا رواه محمد بن عمرو ويحيى بن أبي كثير ويحيى بن سعيد الأنصاري ثلاثتهم عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: من صام رمضان.
ورواه عقيل عن الزهري بلفظ: من صام رمضان وقامه اهـ.

والظاهر أنه كان عند ابن شهاب باللفظين عن أبي سلمة فتارة يرويه بلفظ قام وتارة بلفظ صام، لأنّ الرواة المذكورين عن ابن شهاب كلهم حفاظ، ويقوي ذلك رواية عقيل عنه الجمع بينهما ( إِيمَانًا) تصديقًا بأنه حق معتقدًا أفضليته ( وَاحْتِسَابًا) طلبًا لثواب الآخرة لا لرياء ونحوه مما يخالف الإخلاص طيب النفس به غير مستثقل لقيامه ولا مستطيل له ونصبهما على المصدر أو الحال ( غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) أي ذنبه المتقدّم كله فمن للبيان لا للتبعيض أي الصغائر لا الكبائر كما قطع به إمام الحرمين والفقهاء، وعزاه عياض لأهل السنة، وجزم ابن المنذر بأنه يتناولهما.
وقال الحافظ: أنه ظاهر الحديث.

وقال ابن عبد البر: اختلف فيه العلماء فقال قوم يدخل فيه الكبائر وقال آخرون لا تدخل فيه إلا أن يقصد التوبة والندم ذاكرًا لها.
وقال بعضهم: يجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة، وزاد حامد بن يحيى عن سفيان بن عيينة عن الزهري بإسناده في هذا الحديث: وما تأخر رواه ابن عبد البر وقال: هي زيادة منكرة في حديث الزهري، ودفعه الحافظ بأنه تابعه على الزيادة قتيبة بن سعيد عن سفيان عند النسائي في السنن الكبرى والحسين المروزي في كتاب الصيام له، وهشام بن عمار في فوائده، ويوسف الحاجي في فوائده كلهم عن ابن عيينة.
ووردت أيضًا عند أحمد من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة وعن ثابت عن الحسن كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووردت أيضًا من رواية مالك نفسه أخرجها أبو عبد الله الجرجاني في أماليه من طريق بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري ولم يتابع بحرًا على ذلك أحد من أصحاب ابن وهب ولا من أصحاب مالك ولا يونس سوى ما قدّمناه، وقد ورد في غفران ما تقدّم وما تأخر عدّة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد.

واستشكل بأنّ المغفرة تستدعي سبق ذنب والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر؟ وأجيب: بأن ذنوبهم تقع مغفورة، وقيل هو كناية عن حفظ الله إياهم في المستقبل عن الذنوب كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وعورض الأخير بورود النقل بخلافه فقد شهد مسطح بدرًا ووقع منه في عائشة ما وقع كما في الصحيح وقصة نعيمان مشهورة.

( قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ) أي ترك الجماعة في صلاة التراويح، وفي رواية ابن أبي ذئب عن الزهري ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس على القيام رواه أحمد، وأدرج معمر قول ابن شهاب في نفس الخبر رواه الترمذي.

وما رواه ابن وهب عن أبي هريرة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الناس يصلون في ناحية المسجد فقال: ما هذا؟ فقيل: ناس يصلي بهم أبيّ بن كعب.
فقال: أصابوا ونعم ما صنعوا.
ذكره ابن عبد البر ففيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبيّ بن كعب قاله الحافظ.

وقال الباجي: هذا مرسل من ابن شهاب، ومعناه أن حال الناس على ما كانوا عليه في زمنه صلى الله عليه وسلم من ترك الناس والندب إلى القيام وأن لا يجتمعوا على إمام يصلي بهم خشية أن يفرض عليهم، ويصح أن يكونوا لا يصلون إلا في بيوتهم وأن يصلي الواحد منهم في المسجد، ويصح أن يكونوا لم يجتمعوا على إمام واحد ولكنهم كانوا يصلون أوزاعًا متفرقين.

( ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ) الصديق رضي الله عنه ( وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) بنصب صدرًا عطف على خبر كان، وفي نسخة بالخفض عطف على خلافة.
قال ابن عبد البر: اختلف رواة مالك في إسناد هذا الحديث فرواه يحيى بن يحيى متصلاً هكذا، وتابعه يحيى بن بكير وسعيد بن عفير وعبد الرزاق وابن القاسم ومعن وعثمان بن عمر عن مالك به.

ورواه القعنبي وأبو مصعب ومطرف وابن نافع وابن وهب والأكثر عن مالك مرسلاً لم يذكروا أبا هريرة، وقد رواه موصولاً أصحاب ابن شهاب وتابع ابن شهاب على وصله يحيى بن أبي كثير ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة فتبين بذلك صحة رواية يحيى ومن تابعه دون رواية من أرسله وأنهم لم يقيموا الحديث ولم يتقنوه إذ أرسلوه وهو متصل صحيح قال: وعند القعنبي ومطرف والشافعي وابن نافع وابن بكر وأبي مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن حميد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه.
هكذا رووه في الموطأ ليس فيه أن رسول الله كان يرغب في رمضان من غير أن يأمر بعزيمة كما في حديث أبي سلمة وليس عند يحيى أصلاً رواية حميد، وعند الشافعي رواية حميد لا أبي سلمة.

وذكر البخاري رواية حميد من حديث مالك أي فقال: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك، وكذا مسلم قال: ثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك فذكراه.
قال: وقد رواه جويرية بن أسماء عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة، وحميد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وتابعه ابن وهب على ذلك في رواية أحمد بن صالح وهو أثبت الناس في ابن وهب، ثم أسنده ابن عبد البر من طريقه.

وحاصله أن لابن شهاب فيه شيخين أبا سلمة حدثه تامًا به وحميد حدثه مختصرًا، فكان الزهري يحدث به على الوجهين، ثم مالك بعده حدث به بالوجهين أيضًا، فمن رواته من روى حديث أبي سلمة، ومنهم من روى حديث حميد، ومنهم من جمع بينهما وهو جويرية وابن وهب لكن ذكر ما اتفقا عليه وهو لفظ الحديث دون القصة ودون قوله كان يرغب إلخ... وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه وصحح الطريقين، والله أعلم.



رقم الحديث 254 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.


التَّرْغِيبِ فِي الصَّلَاةِ فِي رَمَضَانَ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ) الزهري ( عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام ( عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى) صلاة الليل ( فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ) من ليالي رمضان، وفي رواية عمرة عن عائشة عند البخاري أنه صلى في حجرته، وليس المراد بها بيته بل الحصير التي كان يحتجر بها بالليل في المسجد فيجعلها على باب بيت عائشة فيصلي فيه ويجلس عليه، وقد جاء ذلك مبينًا من طريق سعيد المقبري عن أبي سلمة عن عائشة كان يحتجر حصيرًا بالليل فيصلي عليه ويبسطه بالنهار فيجلس عليه.
رواه البخاري في اللباس، ولأحمد من رواية محمد بن إبراهيم عن عائشة: فأمرني أن أنصب له حصيرًا على باب حجرتي ففعلت فخرج الحديث.

قال النووي: معنى يحتجر يحوط موضعًا من المسجد بحصير يستره ليصلي فيه ولا يمر بين يديه مار ليتوفر خشوعه ويتفرغ قلبه، وتعقبه الكرماني: بأن لفظ الحديث لا يدل على أن احتجاره كان في المسجد ولو كان كذلك لزم أن يكون تاركًا للأفضل الذي أمر الناس به بقوله: صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ثم أجاب: بأنه صح أنه كان في المسجد فهو إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصه، أو أن سبب كون صلاة التطوّع في البيت أفضل عدم شوبه بالرياء غالبًا، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن الرياء في بيته وفي غير بيته.

( فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى اللَّيْلَةَ الْقَابِلَةَ) وللبخاري من هذا الطريق من القابلة ولبعض رواته من القابل بالتذكير أي الوقت، ولأحمد من رواية معمر عن ابن شهاب من الليلة المقبلة ( فَكَثُرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ) بالشك في رواية مالك، ولمسلم من رواية يونس عن ابن شهاب: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا معه فأصبح الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، ولأحمد من رواية معمر عن الزهري: امتلأ المسجد حتى اغتص بأهله، وله من طريق سفيان بن حسين عنه فلما كانت الرابعة غص المسجد بأهله.

( فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زاد في رواية أحمد عن ابن جريج عن ابن شهاب حتى سمعت ناسًا منهم يقولون الصلاة.
وفي رواية سفيان بن حسين فقالوا: ما شأنه، وفي حديث زيد بن ثابت ففقدوا صوته وظنوا أنه قد تأخر فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، وفي لفظ عن زيد فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب رواهما البخاري.

قال ابن عبد البر مفسرًا هذه الليالي المذكورات في حديث عائشة بما رواه النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا ألا ندرك الفلاح وكان يسمون به السحور أخرجه النسائي.

وأما عدد ما صلى ففي حديث ضعيف عن ابن عباس أنه صلى عشرين ركعة والوتر أخرجه ابن أبي شيبة.
وروى ابن حبان عن جابر أنه صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر وهذا أصح.

وقال الحافظ: لم أر في شيء من طرقه أي حديث عائشة بيان عدد صلاته في تلك الليالي، لكن روى ابن خزيمة وابن حبان عن جابر: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات ثم أوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله الحديث.
فإن كانت القصة واحدة احتمل أن جابرًا ممن جاء في الليلة الثانية فلذا اقتصر على وصف ليلتين، وما في مسلم عن أنس كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه فجاء رجل فقام حتى كنا رهطًا فلما أحس بنا تجوّز ثم دخل رجل الحديث.
فالظاهر أن هذا كان في قصة أخرى.

( فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ) من حرصكم على الصلاة معي، وفي رواية للبخاري: فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد: فإنه لم يخف عليّ مكانكم، وفي مسلم: شأنكم ( وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) صلاة الليل فتعجزوا عنها كما في رواية يونس عند مسلم ونحوه في رواية عقيل عند البخاري أي تشق عليكم فتتركوها مع القدرة عليها، وليس المراد العجز الكلي لأنه يسقط التكليف من أصله.

وقد استشكلت هذه الخشية مع قوله سبحانه: هنّ خمس وهنّ خمسون لا يبدّل القول لديّ، فإذا أمن التبديل كيف يخاف من الزيادة، وأجاب الخطابي: بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم وأفعاله الشرعية يجب على الأمّة الاقتداء به فيها عند المواظبة فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب بطريق الأمر بالاقتداء به لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر فيجب عليه ولا يلزم زيادة فرض في أصل الشرع، وباحتمال أن الله لما فرض الصلاة خمسين ثم حط معظمها بشفاعة نبيه، فإذا عادت الأمّة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم لم ينكر أن يثبت ذلك فرضًا كما التزم ناس الرهبانية من قبل أنفسهم ثم عاب الله التقصير فيها بقوله: { { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } } فخشي صلى الله عليه وسلم أن يكون سبيلهم سبيل أولئك فقطع العمل شفقة عليهم انتهى.

وتبعه جماعة من الشراح وهو مبني على وجوب قيام الليل ووجوب الاقتداء بأفعاله في كل شيء وفي كل من الأمرين نزاع.
وجواب الكرماني بأن حديث الإسراء يدل على أن المراد الأمن من نقص شيء ولم يتعرّض للزيادة فيه نظر لأن ذكر المضعف بقوله: هنّ خمس وهنّ خمسون إشارة إلى عدم الزيادة أيضًا لأن التضعيف لا ينقص عن العشر ودفع بعضهم في أصل السؤال بأن الزمان قابل للنسخ فلا مانع من خشية الافتراض فيه نظر لأن قوله: لا يبدل القول لديّ خبر ولا يدخله النسخ على الراجح، وليس كقوله مثلاً: صوموا الدهر أبدًا فإنه يجوز فيه النسخ.

وقال الباجي: قال القاضي أبو بكر: يحتمل أن يكون أوحى الله إليه أنه إن واصل الصلاة معهم فرضها عليهم، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن ذلك سيفرض عليهم لما جرت عادته بأن ما داوم عليه على وجه الاجتماع من القرب فرض على أمته، ويحتمل أن يريد بذلك أنه خاف أن يظنّ أحد من أمّته بعده إذا داوم عليها وجوبها وإلى الثالث نحا القرطبي فقال: قوله أن يفرض عليكم أي تظنونه فرضًا فيجب على من ظن ذلك كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو حرمته فيجب عليه العمل به، وقيل كان حكمه صلى الله عليه وسلم إذا واظب على شيء من الأعمال واقتدى الناس به فيه أنه يفرض عليهم اهـ.
ولا يخفى بعده فقد واظب على رواتب الفرائض وتابعه أصحابه ولم تفرض.

وقال ابن بطال: يحتمل أن هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم لما كان قيام الليل فرضًا عليه دون أمّته فخشي إن خرج إليهم والتزموه معه أن يسوّى بينهم وبينه في حكمه لأن أصل الشرع المساواة بين النبي وأمّته في العبادة، ويحتمل أنه خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها فيعصي تاركها بترك اتباعه صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: وحديث هنّ خمس وهنّ خمسون لا يبدّل القول لديّ يدفع في صدور هذه الأجوبة كلها، وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة سواها.
أحدها: أنه خاف جعل التهجد في المسجد جماعة شرطًا في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقًا عليهم من اشتراطه وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم.
ثانيها: أنه خاف افتراضه كفاية لا عينًا فلا يكون زائدًا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها.
ثالثها: أنه خاف فرض قيام رمضان خاصة كما قال: ( وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ) .

وفي رواية سفيان بن حسين: خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر فعلى هذا يرتفع الإشكال لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة فلا يكون ذلك قدرًا زائدًا على الخمس.
قال: وأقوى هذه الثلاثة في نظري الأوّل، وفي الحديث ندب قيام الليل ولا سيما في رمضان جماعة لأن الخشية المذكورة أمنت بعده، ولذا جمعهم عمر كما في الحديث التالي وفيه: أن الكبير إذا فعل شيئًا خلاف ما اعتاده أتباعه أن يذكر لهم عذره وحكمه وشفقته صلى الله عليه وسلم على أمّته ورأفته بهم، وترك بعض المصالح لخوف المفسدة وتقديم أهم المصلحتين وجواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة، وفيه نظر لأن نفي النية لم ينقل ولم يطلع عليه بالظن وترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صليت جماعة.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهري، ورواه عقيل ويونس وشعيب وغيرهم عن الزهري عن حميد بدل أبي سلمة، وصح عند البخاري الطريقان فأخرجهما على الولاء، وأخرجه النسائي من طريق جويرية عن مالك عن ابن شهاب عن حميد وأبي سلمة جميعًا.

( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرَغِّبُ) بضم أوله وفتح الراء وشدّ الغين المعجمة المكسورة ( فِي قِيَامِ رَمَضَانَ) أي صلاة التراويح قاله النووي، وقال غيره: بل مطلق الصلاة الحاصل بها قيام الليل كالتهجد سرًا، وأغرب الكرماني في قوله اتفقوا على أنّ المراد بقيام رمضان صلاة التراويح ( مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِعَزِيمَةٍ) أي من غير أن يوجبه بل أمر ندب وترغيب وفسره بصيغة تقتضي الترغيب والندب دون الإيجاب بقوله: ( فَيَقُولُ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ) قال ابن عبد البر: أجمع رواة الموطأ على لفظ قام، ولذا أدخله مالك في قيام رمضان ويصحح ذلك أي يقوّيه قوله: كان يرغب في قيام رمضان، وتابع مالكًا عليه معمر ويونس وأبو أويس كلهم عن ابن شهاب بلفظ: قام.
ورواه ابن عيينة وحده عن الزهري بلفظ: من صام رمضان أي بالصاد من الصيام، وكذا رواه محمد بن عمرو ويحيى بن أبي كثير ويحيى بن سعيد الأنصاري ثلاثتهم عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: من صام رمضان.
ورواه عقيل عن الزهري بلفظ: من صام رمضان وقامه اهـ.

والظاهر أنه كان عند ابن شهاب باللفظين عن أبي سلمة فتارة يرويه بلفظ قام وتارة بلفظ صام، لأنّ الرواة المذكورين عن ابن شهاب كلهم حفاظ، ويقوي ذلك رواية عقيل عنه الجمع بينهما ( إِيمَانًا) تصديقًا بأنه حق معتقدًا أفضليته ( وَاحْتِسَابًا) طلبًا لثواب الآخرة لا لرياء ونحوه مما يخالف الإخلاص طيب النفس به غير مستثقل لقيامه ولا مستطيل له ونصبهما على المصدر أو الحال ( غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) أي ذنبه المتقدّم كله فمن للبيان لا للتبعيض أي الصغائر لا الكبائر كما قطع به إمام الحرمين والفقهاء، وعزاه عياض لأهل السنة، وجزم ابن المنذر بأنه يتناولهما.
وقال الحافظ: أنه ظاهر الحديث.

وقال ابن عبد البر: اختلف فيه العلماء فقال قوم يدخل فيه الكبائر وقال آخرون لا تدخل فيه إلا أن يقصد التوبة والندم ذاكرًا لها.
وقال بعضهم: يجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة، وزاد حامد بن يحيى عن سفيان بن عيينة عن الزهري بإسناده في هذا الحديث: وما تأخر رواه ابن عبد البر وقال: هي زيادة منكرة في حديث الزهري، ودفعه الحافظ بأنه تابعه على الزيادة قتيبة بن سعيد عن سفيان عند النسائي في السنن الكبرى والحسين المروزي في كتاب الصيام له، وهشام بن عمار في فوائده، ويوسف الحاجي في فوائده كلهم عن ابن عيينة.
ووردت أيضًا عند أحمد من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة وعن ثابت عن الحسن كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووردت أيضًا من رواية مالك نفسه أخرجها أبو عبد الله الجرجاني في أماليه من طريق بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري ولم يتابع بحرًا على ذلك أحد من أصحاب ابن وهب ولا من أصحاب مالك ولا يونس سوى ما قدّمناه، وقد ورد في غفران ما تقدّم وما تأخر عدّة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد.

واستشكل بأنّ المغفرة تستدعي سبق ذنب والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر؟ وأجيب: بأن ذنوبهم تقع مغفورة، وقيل هو كناية عن حفظ الله إياهم في المستقبل عن الذنوب كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وعورض الأخير بورود النقل بخلافه فقد شهد مسطح بدرًا ووقع منه في عائشة ما وقع كما في الصحيح وقصة نعيمان مشهورة.

( قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ) أي ترك الجماعة في صلاة التراويح، وفي رواية ابن أبي ذئب عن الزهري ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس على القيام رواه أحمد، وأدرج معمر قول ابن شهاب في نفس الخبر رواه الترمذي.

وما رواه ابن وهب عن أبي هريرة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الناس يصلون في ناحية المسجد فقال: ما هذا؟ فقيل: ناس يصلي بهم أبيّ بن كعب.
فقال: أصابوا ونعم ما صنعوا.
ذكره ابن عبد البر ففيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبيّ بن كعب قاله الحافظ.

وقال الباجي: هذا مرسل من ابن شهاب، ومعناه أن حال الناس على ما كانوا عليه في زمنه صلى الله عليه وسلم من ترك الناس والندب إلى القيام وأن لا يجتمعوا على إمام يصلي بهم خشية أن يفرض عليهم، ويصح أن يكونوا لا يصلون إلا في بيوتهم وأن يصلي الواحد منهم في المسجد، ويصح أن يكونوا لم يجتمعوا على إمام واحد ولكنهم كانوا يصلون أوزاعًا متفرقين.

( ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ) الصديق رضي الله عنه ( وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) بنصب صدرًا عطف على خبر كان، وفي نسخة بالخفض عطف على خلافة.
قال ابن عبد البر: اختلف رواة مالك في إسناد هذا الحديث فرواه يحيى بن يحيى متصلاً هكذا، وتابعه يحيى بن بكير وسعيد بن عفير وعبد الرزاق وابن القاسم ومعن وعثمان بن عمر عن مالك به.

ورواه القعنبي وأبو مصعب ومطرف وابن نافع وابن وهب والأكثر عن مالك مرسلاً لم يذكروا أبا هريرة، وقد رواه موصولاً أصحاب ابن شهاب وتابع ابن شهاب على وصله يحيى بن أبي كثير ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة فتبين بذلك صحة رواية يحيى ومن تابعه دون رواية من أرسله وأنهم لم يقيموا الحديث ولم يتقنوه إذ أرسلوه وهو متصل صحيح قال: وعند القعنبي ومطرف والشافعي وابن نافع وابن بكر وأبي مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن حميد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه.
هكذا رووه في الموطأ ليس فيه أن رسول الله كان يرغب في رمضان من غير أن يأمر بعزيمة كما في حديث أبي سلمة وليس عند يحيى أصلاً رواية حميد، وعند الشافعي رواية حميد لا أبي سلمة.

وذكر البخاري رواية حميد من حديث مالك أي فقال: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك، وكذا مسلم قال: ثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك فذكراه.
قال: وقد رواه جويرية بن أسماء عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة، وحميد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وتابعه ابن وهب على ذلك في رواية أحمد بن صالح وهو أثبت الناس في ابن وهب، ثم أسنده ابن عبد البر من طريقه.

وحاصله أن لابن شهاب فيه شيخين أبا سلمة حدثه تامًا به وحميد حدثه مختصرًا، فكان الزهري يحدث به على الوجهين، ثم مالك بعده حدث به بالوجهين أيضًا، فمن رواته من روى حديث أبي سلمة، ومنهم من روى حديث حميد، ومنهم من جمع بينهما وهو جويرية وابن وهب لكن ذكر ما اتفقا عليه وهو لفظ الحديث دون القصة ودون قوله كان يرغب إلخ... وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه وصحح الطريقين، والله أعلم.