فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الْعَفْوِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ

رقم الحديث 1601 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ أَدْرَكَ مَنْ يَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، يَقُولُونَ: فِي الرَّجُلِ إِذَا أَوْصَى أَنْ يُعْفَى عَنْ قَاتِلِهِ، إِذَا قَتَلَ عَمْدًا: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ.
وَأَنَّهُ أَوْلَى بِدَمِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
قَالَ مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يَعْفُو عَنْ قَتْلِ الْعَمْدِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ، وَيَجِبَ لَهُ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ عَقْلٌ يَلْزَمُهُ.
إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَفَا عَنْهُ اشْتَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ.
قَالَ مَالِكٌ: فِي الْقَاتِلِ عَمْدًا إِذَا عُفِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَيُسْجَنُ سَنَةً.
قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ عَمْدًا وَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ، الْبَيِّنَةُ.
وَلِلْمَقْتُولِ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَعَفَا الْبَنُونَ وَأَبَى الْبَنَاتُ أَنْ يَعْفُونَ، فَعَفْوُ الْبَنِينَ جَائِزٌ عَلَى الْبَنَاتِ، وَلَا أَمْرَ لِلْبَنَاتِ مَعَ الْبَنِينَ فِي الْقِيَامِ بِالدَّمِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ.


( العفو في قتل العمد)

( مالك أنه أدرك من يرضى) بفتح أوله وضمه أي من يرضى هو وغيره ( من أهل العلم يقولون) جمع على معنى من ( في الرجل إذا أوصى أن يعفو عن قاتله إذا قتل عمدًا أن ذلك جائز له وأنه أولى) أحق ( بدمه من غيره من أوليائه من بعده) وقد جاء في الحديث من عفا عن قاتله دخل الجنة ( مالك في الرجل يعفو عن قتل العمد بعد أن يستحقه ويجب) يثبت ( له) بإنفاذ مقتله ( أنه ليس على القاتل عقل) دية ( يلزمه إلا أن يكون الذي عفا عنه اشترط ذلك عند عفوه عنه) فيلزمه ( والقاتل عمدًا إذا عفي عنه يجلد مائة ويسجن سنة) كاملة ( وإذا قتل الرجل عمدًا أو قامت على ذلك البينة وللمقتول بنون وبنات فعفا البنون وأبى البنات أن يعفون فعفو البنين جائز) ماض ( على البنات ولا أمر للبنات مع البنين في القيام بالدم والعفو عنه) إنما الأمر للبنين.



رقم الحديث 1601 حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، مِنْ مِنًى أَنَاخَ بِالْأَبْطَحِ ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً بَطْحَاءَ ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهَا رِدَاءَهُ.
وَاسْتَلْقَى.
ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ، وَلَا مُفَرِّطٍ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَخَطَبَ النَّاسَ.
فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ.
وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ.
وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ.
إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا.
وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى.
ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ.
أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ.
فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا.
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَتَبْتُهَا -الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ- فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا.
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَمَا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: .

     قَوْلُهُ  الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ يَعْنِي: الثَّيِّبَ وَالثَّيِّبَةَ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ.


(ما جاء في الرجم)

(مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال جاءت اليهود) من خيبر وذكر ابن العربي عن الطبري عن المفسرين منهم كعب بن الأشرف وكعب بن الأسعد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وشاس بن قيس ويوسف بن عازوراء (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) في ذي القعدة سنة أربع (فذكروا له أن رجلاً منهم) لم يعرف الحافظ اسمه وفتحت أن لسدها مسد المفعول (وامرأة) اسمها بسرة بضم الموحدة وسكون المهملة كما ذكره ابن العربي في أحكام القرآن (زنيا) ومنهم صفة رجلاً وصفة امرأة محذوفة أي منهم لدلالة السابق عليه ويجوز أن يتعلق منهم بحال من ضمير من رجل وامرأة في زنيا والتقدير أن رجلاً وامرأة زنيا في حالة كونهما من اليهود وذكر أبو داود سبب مجيئهم من طريق الزهري سمعت رجلاً من مزينة ممن يتبع العلم وكان عند سعيد بن المسيب يحدث عن أبي هريرة قال زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك قال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا (فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة) ما مبتدأ من أسماء الاستفهام وتجدون جملة في محل الخبر والمبتدأ والخبر معمول للقول والتقدير أي شيء تجدونه في التوراة فيتعلق حرف الجر بمفعول ثان لوجد (في شأن الرجم) أي في حكمه وهذا السؤال ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم وإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم الموافق لحكم الإسلام إقامة للحجة عليهم وإظهارًا لما كتبوه وبدلوه من حكم التوراة فأرادوا تعطيل نصها ففضحهم الله وذلك إما بوحي من الله تعالى إليه أنه موجود في التوراة لم يغير وإما بإخبار من أسلم منهم كعبد الله بن سلام (فقالوا نفضحهم) بفتح النون والضاد المعجمة بينهما فاء ساكنة من الفضيحة أي نكشف (مساوئهم) ونبينها للناس (ويجلدون) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًا للمفعول أي نجد أن نفضحهم ويجلدون فهو معمول على الحكاية لنجد المقدر أي زعموا أن ذلك في التوراة وهم كاذبون ويحتمل أن يكون ذلك مما فسروا به التوراة ويكون مقطوعًا عن الجواب أي الحكم عندنا أن نفضحهم ويجلدون فيكون خبر مبتدأ محذوف بتقدير أن وإنما بني أحد الفعلين للفاعل والآخر للمفعول إشارة إلى أن الفضيحة موكلة إليهم وإلى اجتهادهم بكشف (مساوئهم) وفي رواية أيوب عن نافع عند البخاري فقالوا نسخم وجوههما ونخزيهما وفي رواية عبيد الله عن نافع قالوا تسود وجوههما ونحمهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما (فقال عبد الله بن سلام) بخفة اللام الإسرائيلي الحبر من ذرية يوسف بن يعقوب حليف الخزرج له أحاديث وفضل وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة مات سنة ثلاث وأربعين (كذبتم إن فيها الرجم) على الزاني المحصن وفي رواية للشيخين فقال عبد الله بن سلام ادعهم يا رسول الله بالتوراة فأتى بها وفي رواية أيوب قال أي النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (فأتوا) بفتح الهمزة والفوقية (بالتوراة فنشروها) أي فتحوها وبسطوها زاد في رواية أيوب فقالوا لرجل ممن يرضون يا أعور اقرأ (فوضع أحدهم) هو عبد الله بن صورياء اليهودي الأعور (يده على آية الرجم ثم قرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك) عنها (فرفع يده فإذا فيها آية الرجم) وفي رواية للشيخين فإذا آية الرجم تحت يده وبينها في حديث أبي هريرة ولفظه المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها رواه أبو داود وعنده من حديث جابر إنا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما زاد البزار من هذا الوجه فإن وجدوا الرجل مع المرأة في بيت أو في ثوبها أو على بطنها فهي ريبة وفيها عقوبة (فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم) زاد في رواية أيوب ولكنا نكاتمه بيننا وفي رواية البزار قال يعني النبي صلى الله عليه وسلم فما منعكم أن ترجموهما قالوا ذهب سلطاننا فكرهنا القتل زاد في حديث البراء نجد الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ولأبي داود عن جابر فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل المرود في المكحلة (فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما) زاد في رواية للشيخين عند البلاط وهو مكان بين السوق والمسجد النبوي (فقال عبد الله بن عمر فرأيت الرجل يحني) بفتح الياء وإسكان المهملة وكسر النون قال ابن عبد البر كذا رواه أكثر شيوخنا عن يحيى وقال بعضهم عنه بالجيم والصواب فيه عند أهل العلم يجنأ بالجيم والهمزة أي يميل (على المرأة) والرؤية بصرية فيحني في موضع الحال وعلى المرأة متعلق بها (يقيها الحجارة) أي حجارة الرمي فأل عهدية والجملة بدل من يحني أو حال أخرى (مالك معنى يحني يكب) بضم الياء وكسر الكاف أي يميل (عليها حتى تقع الحجارة عليه) دونها من حبه لها قال ابن الأثير في حرف الجيم يقال أجنى يجنى إجناء وجنا على الشيء يجنو إذا أكب عليه وقيل هو مهموز وقيل الأصل فيه الهمزة من جنأ إذا مال عليه وعطف ثم خفف وهو لغية في اجنأ ولو روي بالحاء المهملة بمعنى أكب عليه لكان أشبه وقال في حرف الحاء قال الخطابي الذي جاء في السنن يجني بالجيم والمحفوظ بالحاء أي يكب عليها يقال حنا يحنو حنوًا ومر أن أبا عمر صوب رواية الجيم والهمزة وقال ابن دقيق العيد أنه الراجح في الرواية وظاهر الحديث أن الإسلام ليس شرطًا في الإحصان وبه قال الشافعي وأحمد وقال المالكية وأكثر الحنفية أنه شرط فلا يرجم كافر وأجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة تنفيذًا للحكم عليهم بما في كتابهم وليس هو من حكم الإسلام في شيء وهو فعل وقع في واقعة حال عينية محتملة لا دلالة فيها على العموم في كل كافر وأخرجه البخاري في المحاربين عن إسماعيل وقبله في علامات النبوة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الحدود من طريق ابن وهب كلهم عن مالك به وتابعه أيوب وعبيد الله وغيرهما عن نافع وتابعه عبد الله بن دينار عن ابن عمر بنحوه في الصحيحين وغيرهما وله طرق عندهم (مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن سعيد بن المسيب) مرسل باتفاق الرواة عن مالك وتابعه طائفة على إرساله عن يحيى بن سعيد ورواه الزهري فاختلف عليه فيه فرواه يونس عنه عن أبي سلمة عن جابر وشعيب وعقيل عنه عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي هريرة ورواه مالك عن ابن شهاب مرسلاً كما يأتي قريبًا قاله ابن عبد البر وهو موصول في الصحيحين وغيرهما من طرق عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة (أن رجلاً من أسلم) هو ماعز بن مالك كما صرح به في كثير من طرق الحديث واتفق عليه الحفاظ (جاء إلى أبي بكر الصديق) عبد الله بن عثمان رضي الله عنه (فقال إن الآخر زنى) قال ابن عبد البر الرواية بكسر الخاء وهو الصواب ومعناه الرذل الدنيء زنى كأنه يدعو على نفسه ويعيبها بما نزل به من مواقعة الزنا قال أبو عبيد ومن هذا قولهم السؤال أخر كسب الرجل أي أرذل كسب الرجل وقال الأخفش كنى عن نفسه بكسر الخاء وهذا إنما يكون لمن حدث عن نفسه بقبيح فكره أن ينسب ذلك إلى نفسه انتهى وقال النووي الأخر بهمزة مقصورة وخاء مكسورة ومعناه الأرذل والأبعد والأدنى وقيل اللئيم وقيل الشقي وكله متقارب ومراده نفسه فحقرها وعابها بما فعل (فقال له أبو بكر هل ذكرت هذا لأحد غيري) وفي رواية لأحد قبلي (فقال لا فقال له أبو بكر) لما جبل عليه من الرأفة بالأمة وفي الحديث أرأف أمتي بأمتي أبو بكر (فتب إلى الله) بالندم على ما فعلت والعزم على عدم العود والاستغفار (واستتر بستر الله) الذي أسبله عليك إذ لو شاء لأظهره للناس وفضحك فلا تظهر أنت ما ستره عليك (فإن الله يقبل التوبة عن عباده) أي منهم (فلم تقرره) بضم الفوقية وإسكان القاف وكسر الراء الأولى أي لم تمكنه (نفسه) من الثبوت على ما قال أبو بكر لما علم من رأفته وشفقته وماعز رضي الله عنه حصل له شدة خوف من ذنبه (حتى أتى عمر بن الخطاب) لما علم من صلابته في الدين وفي الحديث وأشدهم في أمر الله عمر (فقال له مثل ما قال لأبي بكر فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر) لأنه وإن كان شديدًا في أمر الله لكنه عالم بأن الإنسان مطلوب بالستر على نفسه فهو من جملة أمر الله (فلم تقرره نفسه) لشدة إشفاقه (حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو في المسجد فناداه (فقال إن الأخر) بهمزة مقصورة وخاء مكسورة أي الرذل الدنيء (زنى قال سعيد) بن المسيب (فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعند البخاري من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي هريرة فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فجاء لشق وجهه الذي أعرض عنه فقال إني زنيت (حتى إذا أكثر عليه) بالمرة الرابعة ففي حديث أبي هريرة المذكور فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه صلى الله عليه وسلم فقال أبك جنون قال لا فقال أحصنت قال نعم ولا ينافي سؤاله عن ذلك قوله (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال أيشتكي) مرضًا أذهب عقله (أم به جنة) بكسر الجيم أي جنون لأنه سأله أولاً ثم بعث إلى أهله لأنه استنكر ما وقع منه إذ مثل ذلك لا يقع من صحيح عاقل (فقالوا يا رسول الله والله إنه لصحيح) في العقل والبدن (فقال صلى الله عليه وسلم أبكر) هو (أم ثيب) أي تزوج زوجة ودخل بها وأصابها بعقد صحيح ووطء مباح (فقالوا بل ثيب يا رسول الله فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم) زاد في الصحيح عن جابر فرجمناه بالمصلى فكنت فيمن رجمه فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات قال في المقدمة والذي أدركه لما هرب فقتله عبد الله بن أنيس وقال ابن جريج عمر حكاه الحاكم عنه وكان أبو بكر الصديق رأس الذين رجموه ذكره ابن سعد انتهى فتقرب إلى الله أولاً بنصحه بأمره بالتوبة والستر فلما ثبت على الإقرار تقرب ثانيًا إلى الله فكان رأس من رجمه واحتج الحنفية والحنابلة بظاهره في اشتراط الإقرار أربع مرات وإنه لا يكتفي بما دونها قياسًا على الشهود وأجاب المالكية والشافعية في عدم اشتراط ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يقل أربع مرات وبحديث الغامدية إذ لم ينقل أنه تكرر إقرارها وإنما كرر على ماعز لأنه شك في عقله ولذا قال أبك جنون وقال لأهله أيشتكي أم به جنة فإن الإنسان غالبًا لا يصر على إقرار ما يقتضي هلاكه من غير سؤال مع أن له طريقًا إلى سقوط الإثم بالتوبة ولذا سأل أهله مبالغة في تحقيق حاله وصيانة دم المسلم فيبنى عليه الأمر لا على مجرد إقراره بعدم الجنون فإنه لو كان مجنونًا لم يفد قوله أنه ليس به جنون لأن إقرار المجنون غير معتبر قال ابن عبد البر وفيه أن المجنون المعتوه لا حد عليه وهو إجماع وأن إظهار الإنسان ما يأتيه من الفواحش جنون لا يفعله إلا المجانين وأنه ليس من شأن ذوي العقول كشف ذلك والاعتراف به عند السلطان وغيره وإنما من شأنهم الستر على أنفسهم والتوبة وكما يلزمهم الستر على غيرهم يلزمهم الستر على أنفسهم وإن حد الثيب غير حد البكر ولا خلاف فيه لكن قليل من العلماء رأى على الثيب الجلد والرجم معًا روي ذلك عن علي وعبادة وتعلق به داود وأصحابه والجمهور أنه يرجم ولا يجلد وقال الخوارج والمعتزلة لا رجم مطلقًا وإنما الحد الجلد لثيب أو بكر وهو خلاف إجماع أهل الحق والسنة (مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال بلغني) لا خلاف في إسناده في الموطأ كما ترى وهو يستند من طرق صحاح قاله ابن عبد البر ثم أخرجه من طريق النسائي عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يحيى بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن ابن هزال عن أبيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم) بفتح فسكون قبيلة قال فيها المصطفى أسلم سالمها الله (يقال له) أي اسمه (هزال) بفتح الهاء والزاي المنقوطة الشديدة ابن يزيد الصحابي وفي رواية النسائي أن هزالاً كانت له جارية وأن ماعزًا وقع عليها فقال له هزال انطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعسى أن ينزل فيك قرآن فانطلق فأخبره فأمر به فرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرًا لك) من أمرك له بإخباري لما في الستر على المسلم من الثواب الجزيل المذكور في كثير من الأحاديث (قال يحيى بن سعيد فحدثت بهذا الحديث في مجلس فيه يزيد) بياء قبل الزاي (ابن نعيم) بضم النون (ابن هزال الأسلمي) تابعي صغير ثقة مقبول وروايته عن جده مرسلة وأما أبوه نعيم فصحابي نزل المدينة ما له راوٍ إلا ابنه يزيد (فقال يزيد هزال جدي وهذا الحديث حق) أي صدق لا محالة (مالك عن ابن شهاب أنه أخبره) مرسلاً وقد رواه الشيخان من طريق عقيل وشعيب عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة ومن طريق يونس ومعمر عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر (أن رجلاً) هو ماعز بن مالك الأسلمي باتفاق وبه صرح في كثير من طرق الحديث (اعترف على نفسه بالزنا على عهد) أي زمن (رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد على نفسه أربع مرات) فأعرض عنه ثلاثة ثم قال له بعد الرابعة أبك جنون ثم قال لأهله أيشتكي أم به جنة قال القرطبي لما ظهر عليه من الحال الذي يشبه حال المجنون وذلك أنه دخل منتفش الشعر ليس عليه رداء يقول زنيت فطهرني كما في مسلم عن جابر بن سمرة واسم المرأة التي زنى بها فاطمة فتاة هزال وقيل منيرة وفي طبقات ابن سعد اسمها مهيرة وفي مسلم عن بريدة جاء ماعز فقال يا رسول الله طهرني فقال ويحك أرجع فاستغفر الله وتب إليه فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني فقال مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال صلى الله عليه وسلم فيم أطهرك قال من الزنا فسأل أبه جنون فأخبر أنه ليس بمجنون فقال أشرب خمرًا فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر فقال صلى الله عليه وسلم أزنيت قال نعم (فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم) زاد في حديث جابر بالمصلى فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا وفي مسلم عن بريدة فكان الناس فيه فريقين قائل يقول هلك لقد أحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده ثم قال اقتلني بالحجارة فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال استغفروا لماعز بن مالك فقالوا غفر الله لماعز بن مالك فقال صلى الله عليه وسلم لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم وفي النسائي عن أبي هريرة مرفوعًا لقد رأيته بين أنهار الجنة ينغمس يعني يتنعم ولأحمد عن أبي ذر رفعه قد غفر الله له وأدخله الجنة وفي هذا منقبة عظيمة لماعز رضي الله عنه كحديث الباب لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه مع توبته ليتم تطهيره ولم يرجع عن إقراره مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضي موته فجاهد نفسه على ذلك وقوي عليها وفي الصحيح عن ابن عباس لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال لا يا رسول الله قال أنكتها لا يكني قال فعند ذلك أمر برجمه (قال ابن شهاب فمن أجل ذلك يؤخذ الرجل باعترافه على نفسه) بالزنا أو بغيره حيث كان مكلفًا غير محجور عليه (مالك عن يعقوب بن زيد بن طلحة) القرشي التيمي أبي يوسف الصدوق المدني قاضيها (عن أبيه زيد بن طلحة) التيمي تابعي صغير أرسل هذا الحديث فظنه الحاكم صحابيًا وقال إن مالكًا هو الحاكم في حديث المدنيين وتعقبه في الإصابة فقال ليس كما ظن فليس لزيد ولا لأبيه ولا لجده صحبة فهو زيد بن طلحة بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة كما نسبه القعنبي وغيره من رواية الموطأ وجده مشهور في التابعين (عن) جده (عبد الله) بفتح العين ابن عبيد الله بضمها (ابن أبي مليكة) بالتصغير ابن عبد الله بن جدعان ويقال اسم أبي مليكة زهير التيمي المدني أدرك ثلاثين من الصحابة ثقة فقيه مات سنة سبع عشرة ومائة (أنه أخبره) قال ابن عبد البر هكذا قال يحيى فجعل الحديث لعبد الله بن أبي مليكة مرسلاً عنه وقال القعنبي وابن القاسم وابن بكير مالك عن يعقوب بن زيد عن أبيه زيد بن طلحة بن عبد الله بن أبي مليكة فجعلوا الحديث لزيد بن طلحة مرسلاً وهذا هو الصواب وكذا رواه ابن وهب عن مالك ثم قال وأخبرني ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان عن محمود بن لبيد الأنصاري وروي مرسلاً من وجوه كثيرة وصح بمعناه عن بريدة وعمران بن حصين (أن امرأة) من غامد كما في مسلم من حديث بريدة وله ولأبي داود من حديث عمران من جهينة ولا تنافي فغامد بغين معجمة فألف فميم مكسورة فدال مهملة بطن من جهينة وروى ابن منده بسند ضعيف عن عائشة سمعت سبيعة القرشية قالت يا رسول الله إني زنيت فأقم علي حد الله الحديث بنحو حديث الغامدية المذكور فإن صح فيكون ذلك وقع لهما معًا (جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنها زنت) وفي مسلم عن بريدة فقالت يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال وما ذاك قالت إنها حبلى من الزنا (وهي حامل) من الزنا كما في مسلم عن عمران وبريدة (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهبي حتى تضعي) حملك لمنع رجم الحبلى لأنه يلزم عليه قتل الولد بلا جناية وفي مسلم عن بريدة فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت وفيه عن عمران فدعا نبي الله وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها (فلما وضعت جاءته) وفي حديث بريدة فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت هذا قد ولدته (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهبي حتى ترضعيه) وفي مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد وضعت الغامدية فقال إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال إلي رضاعه يا نبي الله قال فرجمها وفيه أيضًا عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ولا تنافي بين الروايتين لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم لم يرض قول الرجل إلي رضاعه لأن أمه أرفق به في رضاعه فدفعه إليها حتى فطمته ويكون التعقيب في قوله في الأولى فرجمها نحو تزوج زيد فولد له هكذا ظهر لي ثم رأيت النووي قال الروايتان صحيحتان والثانية صريحة لا يمكن تأويلها بخلاف الأولى فيتعين تأويلها على وفق الثانية بأن قول الرجل إلي رضاعه إنما قاله بعد الفطام وأراد به كفالته وتربيته وسماه رضاعًا مجازًا انتهى ولعل ما قلته أقرب لإبقاء الرضاع على حقيقته ولا ينافيه التعقيب لأنه في كل شيء بحسبه (فلما أرضعته جاءته فقال اذهبي فاستودعيه) اجعليه عند من يحفظه (قال فاستودعته) لا ينافي رواية مسلم فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين لاحتمال أنها لما استودعته وأخبرته بذلك أحضره بالصبي ودفعه إليه ليكون أشد توثقًا في حفظه من مزيد رأفته صلى الله عليه وسلم على خلق الله (ثم جاءته فأمر بها فرجمت) وفي مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضخ الدم على وجه خالد فسبها فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلى عليها فدفنت وفي مسلم أيضًا عن عمران ثم صلى عليها فقال له عمر تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت قال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها وهذه الرواية صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليها وأما الأولى فقال عياض هي بفتح الصاد واللام عند جماهير رواة مسلم وعند الطبراني بضم الصاد قال وكذا رواه ابن أبي شيبة وأبو داود وفي رواية لأبي داود ثم أمرهم أن يصلوا عليها انتهى وقد يجمع بأنه أمرهم أولاً ثم قبل الصلاة صلى عليها لما علم توبتها (مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله) بفتحها (ابن عتبة) بضمها وإسكان الفوقية ابن مسعود (عن أبي هريرة) عمرو بن عامر أو عبد الرحمن بن صخر قولان مرجحان من نحو ثلاثين قولاً في اسمه واسم أبيه (وزيد بن خالد الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء (أنهما أخبراه أن رجلين) لم يعرف الحافظ اسمهما (اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله اقض) احكم (بيننا بكتاب الله) وفي رواية للشيخين فقام رجل من الأعراب فقال أنشدك الله ألا قضيت بيننا بكتاب الله (وقال الآخر) بفتح الخاء (وهو أفقههما) قال الحافظ زين الدين العراقي يحتمل أن الراوي كان عارفًا بهما قبل أن يتحاكما فوصف الثاني بأنه أفقه من الأول مطلقًا ويحتمل في هذه القصة الخاصة لحسن أدبه في استئذانه أولاً وترك رفع صوته إن كان الأول رفعه (أجل) بفتح الهمزة والجيم وخفة اللام أي نعم (يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله) إنما سألا ذلك وهما يعلمان أنه لا يحكم إلا بحكم الله ليحكم بينهما بالحكم الصرف لا بالتصالح والترغيب فيما هو الأرفق بهما أو أمرهما بالصلح إذ للحاكم أن يفعل ذلك (وائذن لي) في (أن أتكلم قال تكلم فقال إن ابني) لم يعرف الحافظ اسمه (كان عسيفًا) بفتح العين وكسر السين المهملتين وإسكان التحتية وبالفاء أي أجيرًا (على هذا) أي عنده أو على بمعنى اللام (فزنى بامرأته) لم يعرف الحافظ اسمها (فأخبرني) بالإفراد قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن القاسم وهو الصواب وللقعنبي فأخبروني أي بالجمع وفي رواية عمرو بن شعيب فسألت من لا يعلم فأخبرني (أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة) متعلق بافتديت ومن للبدل نحو أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة أي افتديت بمائة شاة بدل الرجم (وبجارية لي) وفي رواية وجارية بلا موحدة (ثم إني سألت أهل العلم) قال الحافظ لم أقف على أسمائهم ولا على عددهم (فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام) بالإضافة فيهما لأنه بكر (وأخبروني إنما الرجم على امرأته) لأنها محصنة (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما) بالتخفيف (والذي نفسي بيده) أقسم تأكيدًا (لأقضين بينكما بكتاب الله) أي القرآن على ظاهره المنسوخ لفظه الثابت حكمه ويدل له قول عمر الآتي الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنا قد قرأناها وقد أجمعوا على أن من القرآن ما نسخ حكمه وثبت خطه وعكسه في القياس مثله أو إشارة إلى قوله تعالى { { أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } } وفسر النبي صلى الله عليه وسلم السبيل برجم المحصن رواه مسلم أو المعنى بحكم الله وقضائه كقوله تعالى { { كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } } أي حكمه فيكم وقضاؤه عليكم وما قضى به صلى الله عليه وسلم هو حكم الله { { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } } و { { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } } فلما أمر باتباعه وطاعته جاز أن يقال لكل حُكم حَكم به حكم الله وقضاؤه إذ ليس في القرآن أن من زنى وافتدى يرد فداؤه ولا أن عليه نفي سنة مع الجلد ولا أن على الثيب الرجم وقد أقسم أن يقضي بينهما بكتاب الله وهو صادق وقال (أما غنمك وجاريتك فرد عليك) أي مردود من إطلاق المصدر على المفعول نحو نسج اليمن أي منسوجه ولذا كان بلفظ واحد للجمع والواحد (وجلد ابنه مائة) أي أمر من يجلده فجلده (وغربه عامًا) عن وطنه وهذا يتضمن أن ابنه كان بكرًا وأنه اعترف بالزنا فإن إقرار الأب عليه لا يقبل وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه كما في رواية أخرى أن ابني هذا وسكوته على ما نسبه إليه وفي النسائي عن عمرو بن شعيب عن الزهري كان ابني أجيرًا لامرأة هذا وابني لم يحصن فصرح بأنه بكر وفيه تغريب البكر الزاني خلافًا لقول أبي حنيفة لا يغرب لأنه زيادة على النص والزيادة عليه بخبر الواحد نسخ فلا يجوز وأجيب بأن الزيادة ليست بنسخ إذ حكم النص باقٍ وهو الجلد والتغريب بالسنة (وأمر أنيسًا) بضم الهمزة مصغر (الأسلمي) جزم ابن حبان وابن عبد البر بأنه أنيس بن الضحاك وفيه نظر والظاهر في نقدي أنه غيره وقال ابن السكن لا أدري من هو ولم أجد له رواية غير ما ذكر في هذا الحديث ويقال هو أنيس بن الضحاك وقال غيره يقال هو أنيس بن أبي مرثد وهو خطأ لأنه غنوي وهذا أسلمي كذا في الإصابة وقال في المقدمة أنيس هو ابن الضحاك نقله ابن الأثير عن الأكثرين ويؤيده قوله في الحديث الأسلمي ووهم ابن التين في قوله أنه أنس بن مالك ولكنه صغر انتهى فإنه خص الأسلمي قصدًا إلى أنه لا يؤمر في القبيلة إلا رجل منهم لنفورهم عن حكم غيرهم وكانت المرأة أسلمية (أن يأتي امرأة الآخر) ليعلمها أن الرجل قذفها بابنه فلها عليه حد القذف فتطالبه أو تعفو عنه (فإن اعترفت) بأنه زنى بها (رجمها فاعترفت فرجمها) أنيس لأنه حكمه في ذلك لكن في رواية الليث عن الزهري فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت وهو ظاهر في أن أنيسًا إنما كان رسولاً ليسمع إقرارها فقط وأن تنفيذ الحكم إنما كان منه صلى الله عليه وسلم ويشكل كونه اكتفى بشاهد واحد وأجيب بأن رواية مالك أولى لما تقرر من ضبطه وخصوصًا في حديث الزهري فإنه أعرف الناس به فالظاهر أن أنيسًا كان حاكمًا ولئن سلم أنه رسول فليس في الحديث نص على انفراده بالشهادة فيحتمل أن غيره شهد عليها وقال القاضي عياض يحتمل أن ذلك ثبت عنده صلى الله عليه وسلم بشهادة هذين الرجلين قال الحافظ والذي تقبل شهادته من الثلاثة والد العسيف فقط وأما العسيف والزوج فلا وغفل بعض من تبع عياضًا فقال لا بد من هذا الحمل وإلا لزم الاكتفاء بشاهد واحد في الإقرار بالزنا ولا قائل به ويمكن الانفصال عن هذا بأن أنيسًا بعث حاكمًا فاستوفى شروط الحكم ثم استأذنه صلى الله عليه وسلم في رجمها فأذن له قال المهلب فيه حجة لمالك في جواز إنفاذ الحاكم رجلاً واحدًا في الإعذار وفي أن يتخذ واحدًا يثق به يكشف له عن حال الشهود في السر كما يجوز له قبول الواحد فيما طريقه الخبر لا الشهادة انتهى وفيه أن الصحابة كانوا يفتون في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي بلده وذكر ابن سعد من حديث سهل بن أبي حثمة إن الذين كانوا يفتون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعن ابن عمر كان أبو بكر وعمر يفتيان في زمنه صلى الله عليه وسلم وعن حراش الأسلمي كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في زمنه صلى الله عليه وسلم وفيه أن الحد لا يقبل الفداء وهو مجمع عليه في الزنا والسرقة والشرب والحرابة واختلف في القذف والصحيح أنه كغيره وإرسال الإمام إلى المرأة ليسألها عما رميت به وقد صحح النووي وجوبه وهو ظاهر مذهبنا واحتج له ببعث أنيس لكن تعقب بأنه فعل في واقعة حال لا دلالة فيه على الوجوب لاحتمال أن سبب البعث ما وقع بين زوجها وبين والد العسيف من الخصام والمصالحة على الحد واشتهار القصة حتى صرح والد العسيف بما صرح به ولم ينكر عليه زوجها فالإرسال إلى هذه يختص بمن كان على مثلها من التهمة القوية بالفجور (قال مالك والعسيف الأجير) وزنا ومعنى لأنه يعسف الطرق أي يسلكها مترددًا في الاشتغال والجمع عسفاء بزنة أجراء وفيه أن الأولى بالقضاء الخليفة العالم بوجوه القضاء وأن المدعي أولى بالقول والطالب أحق بالتقدم بالكلام وإن بدأ المطلوب ورد الباطل وأنه لا يدخل بقبضه في ملكه ولا يصححه له وعليه رده وأنه لا جلد مع الرجم وقاله الجمهور خلافًا للظاهرية وبعض السلف لحديث مسلم عن عبادة مرفوعًا خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة وأجيب بأنه منسوخ لأنه صلى الله عليه وسلم رجم جماعة ولم يجلدهم ورجم أبو بكر وعمر وعثمان ولم يجلدوا وما روي عن علي في شرافة الهمدانية جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله فمنقطع لا حجة فيه كما قال ابن عبد البر وغيره وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه الليث وابن أبي ذئب وابن عيينة وصالح بن كيسان وابن جريج ويحيى بن سعيد وغيرهم في الصحيحين وغيرهما كلهم عن ابن شهاب بنحوه (مالك عن سهيل) بضم المهملة مصغر (ابن أبي صالح عن أبيه) ذكوان السمان (عن أبي هريرة أن سعد بن عبادة) الأنصاري الجواد المشهور سيد الخزرج (قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم) لما نزلت { { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } } الآية (أرأيت لو أني وجدت مع امرأتي رجلاً) وفي رواية لو وجدت لكاعًا يعني امرأته قد تفخذها رجل (أأمهله) بفتح همزة الاستفهام وضم الثانية (حتى آتي بأربعة شهداء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم) زاد في رواية قال كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك قال صلى الله عليه وسلم اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني وفيه قطع الذريعة عن سفك الدم بمجرد الدعوى والنهي عن إقامة حد بغير سلطان ولا شهود وهو وجه إدخاله في كتاب الحدود ومر بسنده ومتنه في كتاب القضاء (مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله) بفتحها (ابن عتبة) بضمها (ابن مسعود) أحد الفقهاء (عن عبد الله بن عباس أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول) على المنبر النبوي (الرجم في كتاب الله حق) ثابت الحكم منسوخ اللفظ وللبخاري من طريق صالح بن كيسان عن الزهري بإسناده المذكور إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم (على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن) بضم الهمزة أي تزوج ووطئ مباحًا وكان بالغًا عاقلاً (إذا أقيمت البينة) بالزنا (أو كان الحبل) بفتح الحاء المهملة والموحدة أي وجدت المرأة حبلى (أو) كان (الاعتراف) الإقرار بالزنا والاستمرار عليه وهذا مختصر من خطبة لعمر طويلة قالها في آخر عمره رضي الله عنه رواها البخاري بتمامها من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب بإسناده المذكور (مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن سليمان بن يسار) بتحتية ومهملة خفيفة (عن أبي واقد) بالقاف (الليثي) الصحابي قيل اسمه الحارث بن مالك وقيل ابن عوف وقيل اسمه عون بن الحارث مات سنة ثمان وستين وهو ابن خمس وثمانين على الصحيح (أن عمر بن الخطاب أتاه رجل) لم يسم (وهو بالشام) لما قدمها في خلافته (فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلاً فبعث عمر بن الخطاب أبا واقد الليثي) الصحابي المذكور (إلى امرأته يسألها عن ذلك) أي عن قذف زوجها لها (فأتاها وعندها نسوة حولها) جملة حالية (فذكر لها الذي قال زوجها لعمر بن الخطاب) من رميها بالزنا (وأخبرها) أبو واقد (أنها لا تؤخذ بقوله) بل إن كذبته لاعن وإلا حد (وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع) بفوقية فنون ساكنة فزاي منقوطة أي ترجع (فأبت أن تنزع) ترجع عن الاعتراف بالزنا (وتمت) اشتدت وصلبت وفي نسخة وهي أظهر وثبتت بمثلثة من الثبوت (على الاعتراف) بالزنا (فأمر بها عمر فرجمت) لثبوتها على الاعتراف وعدم رجوعها عنه (مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول لما صدر عمر بن الخطاب رحمه الله) رواية سعيد عن عمر تجري مجرى المتصل لأنه رآه وقد صحح بعض العلماء سماعه منه قاله أبو عمر (من منى) في آخر حجاته سنة ثلاث وعشرين (أناخ) راحلته (بالأبطح) أي المحصب (ثم كوّم) بشد الواو أي جمع (كومة) بفتح الكاف وضمها أي قطعة (بطحاء) أي صغار الحصى أي جمعها وجعل لها رأسًا (ثم طرح) ألقى (عليها رداءه واستلقى) على ظهره (ثم مد) رفع (يديه إلى السماء) لأنها قبلة الدعاء (فقال اللهم كبرت) بكسر الموحدة (سني) أي عمري فهي مؤنثة (وضعفت قوتي) بسبب كبر سني (وانتشرت) كثرت وتفرقت (رعيتي) التي أقوم بتدبيرها وسياستها (فاقبضني) توفني (إليك) حال كوني (غير مضيع) لما أمرتني به (ولا مفرط) متهاون به (ثم قدم المدينة فخطب الناس) وللبخاري عن ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلنا بالرواح إلى أن قال فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي (فقال أيها الناس قد سنت) بضم السين وفتح النون الثقيلة وسكون الفوقية (لكم السنن) جمع سنة (وفرضت لكم الفرائض) بالبناء للمفعول فيهما للعلم بالفاعل (وتركتم) بالبناء للمفعول أيضًا (على) الطريق (الواضحة) الظاهرة التي لا تخفى (إلا أن تضلوا بالناس يمينًا وشمالاً) عن تلك الطريق الواضحة لهوى أنفسكم (وضرب بإحدى يديه على الأخرى) أسفًا وتعجبًا ممن يقع منه ضلال بعد هذا البيان البالغ (ثم قال إياكم) أحذركم (أن تهلكوا عن آية الرجم أن) بفتح الهمزة (يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله) إنما فيه حد واحد وهو الجلد وفي حديث ابن عباس عن عمر أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها (فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أمر برجم من أحصن ماعز والغامدية واليهودي واليهودية (ورجمنا) بعده (والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها) قال الزركشي في البرهان ظاهره أن كتابتها جائزة وإنما منعه قول الناس والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة لأن هذا شأن المكتوب قال وقد يقال لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ولم يعرج على مقالة الناس لأنها لا تصلح مانعًا وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة انتهى والذي يظهر أنه ليس مراد عمر هذا الظاهر وإنما مراده المبالغة والحث على العمل بالرجم لأن معنى الآية باقٍ وإن نسخ لفظها إذ لا يسع مثل عمر مع مزيد فقهه تجويز كتبها مع نسخ لفظها فلا إشكال وضمير كتبتها لآية الرجم وهي (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) بهمزة قطع أي جزمًا (فإنا قد قرأناها) ثم نسخ لفظها وبقي حكمها بدليل أنه صلى الله عليه وسلم رجم ورجمنا بعده فلم ينكر علينا وفي حديث ابن عباس عن عمر وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله (قال مالك قال يحيى بن سعيد قال سعيد بن المسيب فما انسلخ) أي مضى (ذو الحجة) الشهر الذي خطب فيه هذه الخطبة (حتى قُتل عمر رحمه الله) ورضي عنه شهيدًا بيد فيروز النصراني عبد المغيرة بن شعبة (مالك قوله الشيخ والشيخة يعني الثيب والثيبة) أي المحصن والمحصنة وإن كانا شابين لا حقيقة الشيخ وهو من طعن في السن بدليل قوله (فارجموهما البتة) فإن الرجم لا يختص بالشيخ والشيخة وإنما المدار على الإحصان لقوله صلى الله عليه وسلم لماعز أحصنت قال نعم ولقوله عليه السلام لأهل ماعز أبكر أم ثيب فقالوا بل ثيب كما مر (مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان أتي) بضم أوله (بامرأة) تزوجت (قد ولدت في ستة أشهر) من زواجها (فأمر بها أن ترجم) لأن الغالب الكثير أن الحمل تسعة أشهر (فقال له علي بن أبي طالب ليس ذلك) الرجم (عليها إن الله تعالى يقول في كتابه { { وحمله وفصاله } } من الرضاع { { ثلاثون شهرًا } } ستة أقل مدة الحمل والباقي أكثر مدة الرضاع وقال { { والوالدات يرضعن أولادهن حولين } } عامين { { كاملين } } صفة مؤكدة ذلك { { لمن أراد أن يتم الرضاعة } } فالحمل يكون ستة أشهر كما أفادته الآيتان (فلا رجم عليها فبعث عثمان في أثرها) بكسر الهمزة وإسكان المثلثة (فوجدها قد رجمت) وروى ابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال تزوج رجل منا امرأة فولدت له تمامًا لستة أشهر فانطلق إلى عثمان فأمر برجمها فقال له علي أما سمعت الله يقول { { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً } } وقال { { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } } فلم نجد بقي إلا ستة أشهر فقال عثمان والله ما فطنت لهذا وروى عبد الرزاق في المصنف عن أبي الأسود الدؤلي قال رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر فسأل عنها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال علي ألا ترى أنه يقول { { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً } } وقال وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ فكان الحمل ههنا ستة أشهر فتركها عمر فلعل عثمان رضي الله عنه لم يحضر هذه القصة في زمن عمر ولم يبلغه (مالك أنه سأل ابن شهاب عن الذي يعمل عمل قوم لوط) أي يأتي الذكر في الدبر (فقال ابن شهاب عليه الرجم أحصن ولم يحصن) ولو كافرًا أو رقيقًا.