فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ

رقم الحديث 806 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ.
فَنَحَرُوا الْهَدْيَ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ.
وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ
ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا، وَلَا يَعُودُوا لِشَيْءٍ.


( ما جاء فيمن أحصر بعدو)

أي منع يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي مثل صده وأصده

( مالك من حبس بعدو فحال بينه وبين البيت فإنه يحل من كل شيء) من ممنوعات الإحرام ( وينحر هديه ويحلق رأسه حيث حبس) أي في أي موضع فلا يلزمه إذا أحصر في الحل أن يبعث بهديه إلى الحرم ( وليس عليه قضاء) لما أحصر عنه ( مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية) لما صدهم المشركون ( فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء) من ممنوع النسك ( قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي) أي بلا طواف ولا وصول هدي إلى البيت ( ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا من أصحابه) المتقدمين في صحبته الملازمين له ( ولا ممن كان معه) من الخارجين للحديبية معه المتأخرين في صحبته عن أولئك ( أن يقضوا شيئًا ولا) أمرهم أن ( يعودوا لشيء) يفعلونه ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال حين خرج) أي أراد أن يخرج ( إلى مكة معتمرًا في الفتنة) حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير كما في الصحيحين من وجه آخر وذكر أصحاب الأخبار أنه لما مات معاوية بن يزيد بن معاوية ولم يستخلف بقي الناس بلا خليفة شهرين وأيامًا فأجمع أهل الحل والعقد من أهل مكة فبايعوا عبد الله بن الزبير وتم له ملك الحجاز والعراق وخراسان وأعمال المشرق وبايع أهل الشام ومصر مروان بن الحكم فلم يزل الأمر كذلك حتى مات مروان وولي ابنه عبد الملك فمنع الناس الحج خوفًا أن يبايعوا ابن الزبير ثم بعث جيشًا أمر عليه الحجاج فقاتل أهل مكة وحاصرهم حتى غلبهم وقتل ابن الزبير وصلبه وذلك سنة ثلاث وسبعين وقال ابن عمر ذلك جوابًا لقول ولديه عبيد الله وسالم لا يضرك أن لا تحج العام إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت كما في الصحيحين من وجه آخر عن نافع وفي رواية أخرى فقال { { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } } ( إن صددت) بضم الصاد مبني للمفعول أي منعت ( عن البيت صنعنا) أنا ومن معي ( كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) من التحلل حيث منعوه من دخول مكة بالحديبية وفي رواية تأخير تلاوة الآية إلى هنا قال عياض توقع الحصر ولم يتحققه إذ لو تحققه لم تثبت له رخصة الحصر لأنه غرر بإحرامه وتعقبه الأبي بأنه لا يلزم من تحققه أن لا يترخص لجواز أنه تحقق واشترط على ما في حديث ضباعة ( فأهل) ابن عمر ( بعمرة) زاد في رواية جويرية من ذي الحليفة وفي رواية أيوب عن نافع فأهل بالعمرة من الدار أي المنزل الذي نزله بذي الحليفة أو المراد داره بالمدينة فيكون أهل بالعمرة من داخل بيته ثم أظهرها بعد أن استقر بذي الحليفة ( من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة عام الحديبية) سنة ست ليحصل له الموافقة ( ثم إن عبد الله نظر في أمره فقال ما أمرهما) أي الحج والعمرة ( إلا واحد) في حكم الحصر فإذا جاز التحلل في العمرة مع أنها غير محدودة بوقت فهو في الحج أجوز وفيه العمل بالقياس ( ثم التفت إلى أصحابه) فأخبرهم بما أداه إليه نظره ( فقال ما أمرهما إلا واحد) بالرفع وفي رواية الليث عن نافع ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال ما شأن الحج والعمرة إلا واحد ( أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة) وعبر بأشهدكم ولم يكتف بالنية ليعلم من اقتدى به أنه انتقل نظره للقران لاستوائهما في حكم الحصر ( ثم نفذ) بالذال المعجمة مضى ولم يصد ( حتى جاء البيت فطاف طوافًا واحدًا) لقرانه بعد الوقوف بعرفة وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور وقال أبو حنيفة والكوفيون على القارن طوافان وسعيان وأولوا قوله طوافًا واحدًا على أنه طاف لكل منهما طوافًا يشبه الطواف الذي للآخر ولا يخفى ما فيه ورده قوله ( ورأى ذلك مجزيًا) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الزاي بلا همز كافيًا ( عنه) إذ على هذا الحمل يضيع إذ كل من طاف طوافين لا يقال إنه مجزي ويمنع التأويل على بعده قوله في رواية الليث ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول وقد روى سعيد بن منصور عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد فهذا صريح في المراد ( وأهدى) بفتح الهمزة فعل ماض من الإهداء زاد القعنبي شاة وفي رواية الليث هديًا اشتراه بقديد وقال ابن عمر كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قوله مجزيًا بالنصب مفعول رأى ووقع في البخاري ورأى أن ذلك مجزيًا بزيادة أن والنصب على أنها تنصب الجزأين أو خبر كان محذوفة ولبعض رواته مجزئ بالرفع والهمز خبر أن قال الحافظ والذي عندي أن النصب خطأ من الكاتب فإن أصحاب الموطأ اتفقوا على روايته بالرفع على الصواب وتعقب بأن حكايته اتفاقهم على ذلك دعوى بلا دليل وبتقدير اتفاقهم عليه لا يستلزم أن النصب خطأ مع أن له وجهًا في العربية انتهى ولعل ذلك كله في رواية غير يحيى ومن وافقه فليس فيها أن فنصب مجزيًا متعين وهذا الحديث رواه البخاري هنا عن إسماعيل بتمامه وقبله بقليل عن عبد الله بن يوسف مختصرًا بدون قوله ثم إن عبد الله نظر إلى آخره وفي المغازي عن قتيبة مختصرًا كذلك ومسلم عن يحيى تامًا الثلاثة عن مالك وتابعه أيوب والليث في الصحيحين وجويرية بن أسماء عند البخاري وعبيد الله عند مسلم كلهم عن نافع بنحوه ( قال مالك فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو) يفعل ( كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) أي كفعله من التحلل ونحر هديه ولا قضاء لأن الله تعالى قال { { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } } ولم يذكر قضاء وقد تخلف جماعة في عمرة القضية ممن كان معه صلى الله عليه وسلم في الحديبية بلا ضرورة في نفس ولا مال ولم يأمرهم المصطفى بعدم التخلف ولا بالقضاء ( فأما من أحصر بغير عدو) كمرض ( فإنه لا يحل دون البيت) وبهذا قال الشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة خلافًا لأبي حنيفة ككثير من الصحابة وغيرهم في أنه عام في كل حابس من عدو ومرض وغيرهما حتى أفتى ابن مسعود رجلاً لدغ أنه محصر رواه ابن حزم والطحاوي لنا أن الآية وردت في حكم إحصاره صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكان بالعدو وقال في سياق الآية { { إذا أمنتم } } فعلم أن مشروعية الإحلال في العدو كان لتحصيل الأمن منه والإحلال لا يجوز من المرض فلا يكون الإحصار بالمرض في معناه فلا يكون النص الوارد في العدو واردًا في المرض فلا يلحق به دلالة ولا قياسًا لأن مشروعية التحلل قبل أداء الأفعال بعد الشروع في الإحرام على خلاف القياس فلا يقاس عليه.



رقم الحديث 807 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ مَعَهَا، فَذَلِكَ لَهُ.
مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَدْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ حِينَ قَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ أَهَلَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا.


( مالك عن جعفر) الصادق ( ابن محمد) الباقر ( عن أبيه) محمد بن علي بن الحسين وفيه انقطاع لأن محمدًا لم يدرك المقداد ولا عليًا لكنه في الصحيحين وغيرهما من طرق بنحوه ( أن المقداد بن الأسود) الصحابي الشهير البدري ( دخل على علي بن أبي طالب بالسقيا) بضم السين وإسكان القاف مقصور قرية جامعة بطريق مكة وفي البخاري عن سعيد بن المسيب أن ذلك كان بعسفان ( وهو ينجع) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الجيم وعين مهملة من نجع كمنع وبضم أوله وكسر الجيم من أنجع أي يسقي ( بكرات له) جمع بكرة بالفتح والضم ولد الناقة أو الفتى منها أو الثني إلى أن يجذع أو ابن المخاض إلى أن يثنى أو ابن اللبون أو الذي لم يبزل ( دقيقًا وخبطًا) بفتح المعجمة والموحدة ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن ويخلط بدقيق أو غيره ويوخف بالماء ويسقى للإبل ويقال نجعت البعير إذا سقيته المديد وهو أن يسقيه الماء بالبزر أو السمسم أو الدقيق واسم المديد النجوع ( فقال) المقداد لعلي ( هذا عثمان بن عفان) أمير المؤمنين ( ينهى عن أن يقرن) بفتح أوله وكسر ثالثه أي الإنسان مبني للفاعل أو بضم أوله وفتح الراء مبني للمفعول والنائب قوله ( بين الحج والعمرة فخرج علي بن أبي طالب وعلى يديه أثر الدقيق والخبط) لاستعجاله لأنه كبر عليه نهيه عن أمر أباحه المصطفى ( فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه) فأطلق اليدين أولاً على ما يشمل الذراعين ( حتى دخل على عثمان بن عفان فقال أنت تنهى عن أن يقرن) بالبناء للمفعول أو الفاعل أي الإنسان ( بين الحج والعمرة) ولمسلم عن سعيد بن المسيب فقال علي ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عثمان دعنا عنك فقال إني لا أستطيع أن أدعك ( فقال عثمان ذلك رأيي فخرج علي مغضبًا) لأن معارضة النص بالرأي شديدة عندهم ( وهو يقول لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معًا) وللنسائي والإسماعيلي فقال عثمان تراني أنهى الناس وأنت تفعله قال ما كنت أدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد وللنسائي أيضًا ما يشعر بأن عثمان رجع عن النهي ولفظه فلبى علي وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان فقال علي ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع قال بلى وله من وجه آخر عن علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعًا ولمسلم عن عبد الله بن شقيق قال أي عثمان بلى ولكن كنا خائفين قال الحافظ هي رواية شاذة فقد روى الحديث مروان بن الحكم وسعيد بن المسيب وهما أعلم من ابن شقيق فلم يقولا ذلك والتمتع والقران إنما كانا في حجة الوداع ولا خوف فيها وفي الصحيحين عن ابن مسعود كنا آمن ما يكون وقال القرطبي قوله خائفين أي من أن يكون من أفرد أكثر أجرًا ممن تمتع وهو جمع حسن على بعده انتهى.
وفي البخاري عن مروان بن الحكم شهدت عثمان وعليًا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى ذلك علي أهل بهما لبيك بحجة وعمرة قال ما كنت أدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد ففيه أنه نهى عن القران والتمتع معًا أو عطف مساوٍ على ما مر أن السلف كانوا يطلقون على القران تمتعًا لأن القارن يتمتع بترك السفر مرتين وفي قصة عثمان وعلي من الفوائد إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد مناصحة المسلمين والبيان بالفعل مع القول وجواز الاستنباط من النص لأن عثمان لم يخف عليه جواز القران والتمتع وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل كما وقع لعمر لكن خشي على أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع جواز ذلك فكل منهما مجتهد مأجور وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهدًا آخر بتقليده لعدم إنكار عثمان مع أنه الإمام حينئذ على علي رضي الله عنهما ( قال مالك الأمر عندنا أن من قرن الحج والعمرة) أحرم بهما معًا أو أردفه بطوافها ( لم يأخذ من شعره شيئًا ويحلل) بكسر اللام ( من شيء) لأنه محرم ( حتى ينحر هديًا إن كان معه ويحل بمنى يوم النحر) برمي جمرة العقبة ( مالك عن محمد بن عبد الرحمن) بن نوفل أبي الأسود يتيم عروة ( عن سليمان بن يسار) أحد الفقهاء التابعي ( أن رسول الله) أرسله سليمان وقد مر أن أبا الأسود وصله عن عروة عن عائشة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع خرج إلى الحج) في تسعين ألفًا ويقال مائة ألف وأربعة عشر ألفًا ويقال أكثر من ذلك حكاه البيهقي وهذا في عدة الذين خرجوا معه وأما الذين حجوا معه فأكثر المقيمين بمكة والذين أتوا من اليمن مع علي وأبي موسى وفي حديث إن الله وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف إنسان فإن نقصوا كملهم الله بالملائكة قال الحافظ في تسديد القوس هذا الحديث ذكره الغزالي ولم يخرجه شيخنا العراقي ( فمن أصحابه من أهل بحج) مفرد وهم أكثرهم ( ومنهم من جمع الحج والعمرة) قرن بينهما ( ومنهم من أهل بعمرة) فقط ( فأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلل) حتى كان يوم النحر ( وأما من كان أهل بعمرة فحلوا) لما طافوا وسعوا وحلقوا أو قصروا من لم يسق هديًا بإجماع ومن ساقه عند مالك والشافعي وجماعة قياسًا على من لم يسقه ولأنه يحل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء وقال أبو حنيفة وأحمد وجماعة لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر لما في مسلم عن عائشة مرفوعًا من أحرم بعمرة ولم يهد فليتحلل ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه ومن أهل بحج فليتم حجه وهو ظاهر فيما قالوه وأجيب بأن هذه الرواية مختصرة من الرواية الأخرى الآتية في الموطأ والصحيحين عن عائشة مرفوعًا من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا فهذه مفسرة للمحذوف من تلك وتقديرها ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهلل بالحج مع العمرة ولا يحل حتى ينحر هديه وهذا التأويل متعين جمعًا بين الروايتين لاتحاد القصة والراوي ( مالك أنه سمع بعض أهل العلم يقول من أهل بعمرة ثم بدا له أن يهل بحج معها فذلك) جائز ( له ما لم يطف بالبيت و) يسعى ( بين الصفا والمروة) فإن طاف وصلى ركعتيه فليس له الإرداف ولا ينعقد وأولى إن سعى لها ولا قضاء عليه ولا دم لأنه كالعدم لأنه يصح الإهلال بالحج بعد سعي العمرة وقبل حلاقها لكن يحرم عليه الحلق حتى يفرغ من الحج وعليه الهدي فلو حلق وجب عليه هدي وفدية ( وقد صنع ذلك ابن عمر حين قال) كما رواه الإمام بعد ذلك عن نافع عنه أنه قال حين خرج إلى مكة معتمرًا في الفتنة ( إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) من التحلل حين حصرنا بالحديبية زاد في الرواية الآتية فأهل بعمرة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة عام الحديبية ثم نظر عبد الله في أمره فقال ما أمرهما إلا واحد ( ثم التفت إلى أصحابه فقال) مخبرًا لهم بما أدى إليه نظره ( ما أمرهما إلا واحد) بالرفع أي في حكم الحصر فإذا جاز التحلل في العمرة مع أنها غير محدودة بوقت فهو في الحج أجوز وفيه العمل بالقياس ( أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة) فأدخل الحج عليها قبل أن يعمل شيئًا من عملها وهو جائز باتفاق وإنما أشهد بذلك ولم يكتف بالنية لأنه أراد الإعلام لمن يريد الاقتداء به ( قال) ابن عمر محتجًا على إدخال الحج على العمرة ( وقد أهل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي بعضهم كما في حديث عائشة ( عام حجة الوداع بالعمرة ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة) التي أهل بها أي يدخلها عليها ( ثم لا يحل) من كل شيء حرم على المحرم ( حتى يحل منهما جميعًا) يوم النحر بتمام طواف الإفاضة.


رقم الحديث 807 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ: الْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.


( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس) مبتدأ نكرة لتخصيصه بقوله ( من الدواب) وخبره ( ليس على المحرم) بأحد النسكين أو في الحرم ( في قتلهن جناح) أي إثم أو حرج بالرفع اسم ليس مؤخرًا ( الغراب) وهو يختلس وينقر ظهر البعير وينزع عينيه زاد في حديث عائشة الأبقع وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض وأخذ بهذا القيد قوم ورجح الأكثر الإطلاق لأن رواياته أصح ( والحدأة) بكسر الحاء وفتح الدال المهملتين مهموزة وجمعها حدأ بكسر الحاء والقصر والهمزة كعنب وعنبة وهي أخس الطير يخطف أطعمة الناس وفي حديث عائشة والحديا بضم الحاء وفتح الدال وشد الياء مقصور تصغير الحدأة ( والعقرب) واحدة العقارب مؤنثة والأنثى عقربة وعقرباء بالمد بلا صرف ولها ثمانية أرجل وعيناها في ظهرها تلدغ وتؤلم إيلامًا شديدًا وربما ماتت بلسعتها الأفعى وتقتل الفيل والبعير بلسعتها ولا تضرب الميت ولا النائم حتى يتحرك شيء من بدنه فتضربه وتأوي إلى الخنافس وتسالمها وفي ابن ماجه عن عائشة لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب وهو في الصلاة فلما فرغ قال لعن الله العقرب ما تدع مصليًا ولا غيره اقتلوها في الحل والحرم ( والفأرة) بهمزة ساكنة وتسهل وهي الفويسقة روى الطحاوي عن يزيد بن أبي نعيم أنه سأل أبا سعيد الخدري لم سميت الفأرة الفويسقة قال استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد أخذت فأرة فتيلة لتحرق عليه البيت فقام إليها وقتلها وأحل قتلها للحلال والمحرم وفي أبي داود عن ابن عباس قال جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها فاحترق منها موضع درهم زاد الحاكم فقال صلى الله عليه وسلم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم قال الحاكم صحيح الإسناد وليس في الحيوان أفسد من الفأر لأنه لا يبقي على حقير ولا جليل إلا أهلكه وأتلفه ( والكلب العقور) بمعنى عاقر أي جارح وهو كل سبع وجارح يعقر ويفترس كما أفاده الإمام بعد وفيه جواز قتل المذكورات وبه قال الجمهور وحكي عن النخعي لا يجوز للمحرم قتل الفأرة قال الخطابي هذا مخالف للنص خارج عن أقاويل العلماء وعن علي ومجاهد لا يقتل الغراب ولكن يرميه قال عياض لا يصح عن علي وهو مخالف للأحاديث الصحيحة لكن يوافقه ما لأبي داود والترمذي وقال حسن وابن ماجه عن أبي سعيد مرفوعًا ويرمي الغراب ولا يقتله قال الخطابي يشبه أن المراد به الغراب الصغير الذي يأكل الحب وهو الذي استثناه مالك من جملة الغربان وقال عطاء فيه الفدية ولم يتابعه أحد والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه ابن جريج والليث وجرير بن حازم وعبيد الله وأيوب ويحيى بن سعيد كل هؤلاء عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك ولم يقل أحد منهم عن نافع عن ابن عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم إلا ابن جريج وحده وتابعه محمد بن إسحاق قاله مسلم في صحيحه ( مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس من الدواب من قتلهن وهو محرم) أو في الحرم ( فلا جناح) لا إثم ( عليه العقرب والفأرة والغراب) سمي به لسواده وغرابيب سود وهما لفظتان بمعنى واحد والعرب تتشاءم به فلذا اشتقوا الغربة والاغتراب وغراب البين هو الأبقع قال صاحب المجالسة سمي بذلك لأنه بان من نوح لما وجهه إلى الماء فذهب ولم يرجع وقال ابن قتيبة سمي فاسقًا لتخلفه عن نوح حين أرسله ليأتيه بخبر أرض فترك أمره وسقط على جيفة وقيل سمي غرابًا لأنه نأى واغترب لما نفذه نوح ليختبر أمر الطوفان ( والحدأة) بزنة عنبة ( والكلب العقور) من أبنية المبالغة أي الجارح المفترس كأسد وذئب سماها كلابًا لاشتراكها في السبعية ونظيره قوله في دعائه على عتيبة اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك فافترسه الأسد وقيل المراد الكلب المعروف واستدل بالحديث على جواز قتل من وجب عليه قتل بقصاص أو رجم بزنا أو محاربة أو غير ذلك في الحرم وإنه يجوز إقامة سائر الحدود فيه سواء جرى موجب القتل والحد في الحرم أو خارجه ثم لجأ صاحبه إلى الحرم وبه قال مالك والشافعي وآخرون وقال أبو حنيفة وطائفة ما ارتكبه من ذلك في الحرم يقام عليه فيه وما فعله خارجه ثم لجأ إليه إن كان إتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم بل يضيق عليه ولا يكلم ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه فيقام عليه خارجه وما كان دون النفس يقام فيه قال عياض روي عن ابن عباس وعطاء والشعبي والحكم نحوه لكنهم لم يفرقوا بين النفس وما دونها وحجتهم قوله تعالى { { ومن دخله كان آمنًا } } وحجتنا عليهم هذه الأحاديث لمشاركة فاعل الجناية لهذه الدواب في اسم الفسق بل فسقه أفحش لكونه مكلفًا ولأن التضييق الذي ذكروه لا يبقى لصاحبه أمان فقد خالفوا ظاهر ما فسروا به الآية قال ومعنى الآية عندنا وعند أكثر المفسرين أنه إخبار عما كان قبل الإسلام وعطف على ما قبله من الآيات وقيل آمن من النار وقيل إنها منسوخة بقوله { { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } } وقيل الآية في البيت لا في الحرم وقد اتفقوا على أنه لا يقام في المسجد ولا في البيت ويخرج منهما فيقام عليه خارجه لأن المسجد ينزه عن مثل هذا وقالت طائفة يخرج ويقام عليه الحد وهو قول ابن الزبير والحسن ومجاهد وحماد وأعاد الإمام الحديث لإفادة أن له فيه شيخًا آخر ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن القعنبي كلاهما عن مالك به وتابعه إسماعيل بن جعفر عند مسلم ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه) مرسل وصله مسلم والنسائي من طريق حماد بن زيد ومسلم من طريق ابن نمير كلاهما عن هشام عن أبيه عن عائشة ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خمس فواسق) روي بالإضافة وبالتنوين كما قال غير واحد وبالثاني جزم النووي وزعم أنه قال بإضافة خمس لا بتنوينه وهم فإنما قال ذلك في الرواية الثانية عند مسلم قالت عائشة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم قال ابن دقيق العيد وبين الإضافة والتنوين فرق دقيق في المعنى لأن الإضافة تقتضي الحكم على خمس من الفواسق بالقتل وربما أشعر التخصيص بخلاف الحكم في غيرها بطريق المفهوم وأما التنوين فيقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى وقد يشعر بأن الحكم المترتب على ذلك وهو القتل معلل بما جعل وصفًا وهو الفسق فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم وهو التخصيص ( يقتلن في الحرم) بفتح الحاء والراء كما ضبطه جماعة من المحققين أي حرم مكة وبضم الحاء والراء واقتصر عليه في المشارق قال وهو جمع حرام كما قال تعالى { { وأنتم حرم } } والمراد به المواضع المحرمة والفتح أظهر قاله النووي ( الفأرة والعقرب والغراب والحدأة والكلب العقور) ولمسلم من رواية سعيد بن المسيب عن عائشة الحية وأسقط العقرب وله من طريق زيد بن جبير قال سأل رجل ابن عمر عما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم قال حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحديا والغراب والحية قال وفي الصلاة أيضًا فهي ستة قال عياض سموا فواسق لخروجهم عن السلامة منهم إلى الإضرار والأذى فخرجت بالإذابة عن جنسها من الحيوان وقيل لخروجها عن الحرمة التي لغيرها والأمر بقتلها في الحل والحرم وأنه لا فدية فيها وقيل لخروجها عن الانتفاع بها وقيل لتحريم أكلها كما قال تعالى وإنه لفسق عند ذكر المحرمات وقالت عائشة من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقًا وقال الفراء سميت الفأرة بذلك لخروجها عن جحرها واغتيالها أموال الناس بالفساد وأصل الفسق الخروج وقال ابن قتيبة سمي بذلك الغراب بتخلفه عن نوح وفيهما نظر إذ لا يسمى كل خارج ولا متخلف فاسقًا في عرف الاستعمال قال الأبي قيده بذلك لأنه لا يسمى بذلك لغة ولكن عرف الاستعمال خصصه وقال ابن العربي أمر بالقتل وعلل بالفسق فيتعدى الحكم إلى كل ما وجدت فيه العلة ونبه بالخمسة على خمسة أنواع من الفسق فنبه بالغراب على ما يجانسه من سباع الطير وكذا بالحدأة ويزيد الغراب بحل سفرة المسافر ونقب جرابه وبالحية على كل ما يلسع والعقرب كذلك والحية تلسع وتفترس والعقرب تلدغ ولا تفترس وبالفأرة على ما يجانسها من هوام المنزل المؤذية وبالكلب العقور على كل مفترس قال ومعنى فسقهن خروجهن عن حد الكف إلى الأذية ( مالك عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب أمر بقتل الحيات في الحرم) إما لأنه بلغه الحديث الذي فيه الحية وإما لأنها أولى من العقرب قال الأبي وقد صح النهي عن قتل حيات البيوت بلا إنذار فهو مخصص لهذا العموم والإنذار عند مالك في حيات بيوت المدينة آكد من حيات بيوت غيرها ( قال مالك في) تفسير ( الكلب العقور الذي أمر بقتله في الحرم أن كل ما عقر الناس) جرحهم ( وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد) يقع على الذكر والأنثى ويجمع على أسود وربما قيل أسدة للأنثى ( والنمر) بفتح النون وكسر الميم ويجوز التخفيف بكسر النون وسكون الميم سبع أخبث وأجرأ من الأسد ( والفهد) بكسر الفاء وسكون الهاء سبع معروف والأنثى فهدة ( والذئب) بالهمز وعدمه يقع على الذكر والأنثى وربما قيل ذئبة بالهاء ( فهو الكلب العقور) وبهذا قال السفيانان والشافعي وأحمد والجمهور وقال الأوزاعي وأبو حنيفة والحسن بن صالح المراد الكلب المعروف خاصة وألحقوا به الذئب ودليل الجمهور قوله في حديث أبي سعيد والسبع العادي فكل ما كان هذا نعتًا له من أسد ونمر ونحوهما هذا الحكم وحديث الترمذي وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عتيبة بالتصغير ابن أبي لهب اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك فعدا عليه الأسد فقتله ( وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع) بضم الباء لغة قيس وسكونها لغة تميم وهي أنثى وقيل يقع على الذكر والأنثى وربما قيل في الأنثى ضبعة ( والثعلب) يقع على الأنثى الذكر ويختص بثعلبان بضم الثاء واللام قاله ابن الأنباري وقال غيره يقال في الأنثى ثعلبة بالهاء ( والهر) ذكر القط والأنثى هرة قاله الأزهري وقال ابن الأنباري الهر يقع على الذكر والأنثى وربما دخلت فيها الهاء وتصغيرها هريرة ( وما أشبههن من السباع) قال الأزهري يقع السبع على كل ما له ناب يعدو به ويفترس كالذئب والفهد والنمر وأما الثعلب فليس بسبع وإن كان له ناب لأنه لا يعدو به ولا يفترس وكذا الضبع وعلى هذا فعدهما في السباع تجوز علاقته المشابهة للسباع في الناب وإن لم يفترس به ( فلا يقتلهن المحرم فإن قتله فداه) وفي نسخة وداه فالعلة في قتل المذكورات في الحديث وما في معناها عند مالك رحمه الله كونهن مؤذيات فكل مؤذ يجوز للمحرم وفي الحرم قتله ولا فدية وما لا فلا وعلته عند الشافعي كونهن مما لا يؤكل عنده فكل ما لا يؤكل ولا تولد من مأكول وغيره جاز قتله ولا فدية ( وأما ما ضر) آذى ( من الطير فإن المحرم لا يقتله إلا ما سمى النبي صلى الله عليه وسلم الغراب والحدأة وإن قتل المحرم شيئًا من الطير سواهما فداه) كرخم ونسر إلا أن يخاف منه ولا يندفع إلا بقتله قال الباجي لا خلاف أنه لا يجوز قتل سباع الطير غير ما في الحديث ابتداءً ومن قتلها فعليه الفدية فإن ابتدأت بالضرر فلا جزاء على قاتلها على المشهور من المذهب فيمن عدت عليه سباع الطير وغيرها.