فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ

رقم الحديث 293 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً.


( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ) بفتح أوّله وسكون الفاء وضم الضاد ( صَلَاةَ الْفَذِّ) بفتح الفاء وشدّ المعجمة أي المنفرد، ولمسلم من رواية عبيد الله بضم العين عن نافع عن ابن عمر: صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده ( بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) قال الترمذي: عامة من رواه قالوا خمسًا وعشرين إلا ابن عمر فقال سبعًا وعشرين.

قال الحافظ: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما رواه عبد الرزاق عن عبد الله بفتح العين العمري فقال: خمس وعشرون، لكن العمري ضعيف، ولأبي عوانة عن أبي أسامة عن عبيد الله بضم العين ابن عمر عن نافع فقال: بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع وإن كان راويهما ثقة، وأما ما في مسلم من رواية الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ: بضع وعشرين فلا تغاير رواية الحفاظ لصدق البضع بالسبع.

وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد في البخاري وأبي هريرة، وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم وعن عائشة وأنس عند السراج، وجاء أيضًا من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت وكلها عن الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أبيّ فقال أربع أو خمس بالشك وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد فقال: بسبع وعشرين وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف وفي رواية لأبي عوانة بضعًا وعشرين وليست مغايرة لصدق البضع على خمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذ لا أثر للشك، واختلف في أيها أرجح فقيل الخمس لكثرة رواتها، وقيل السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ، واختلف في مميز العدد ففي الروايات كلها التعبير بدرجة أو حذف المميز إلا طرق حديث أبي هريرة ففي بعضها ضعفًا وفي بعضها جزءًا وفي بعضها درجة وفي بعضها صلاة وهذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة ويحتمل أنه من التفنن في العبارة.

وأما قول ابن الأثير إنما قال درجة ولم يقل جزءًا ولا نصيبًا ولا حظًا ولا نحو ذلك لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع فإن تلك فوق هذه بكذا وكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق فكأنه بناه على أن الأصل لفظ درجة وما عداها من تصرف الرواة، لكن نفيه ورود الجزء مردود فإنه ثابت وكذا الضعف، وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بأن ذكر القليل لا ينفي الكثير وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد لكن قد قال به جماعة وحكي عن الشافعي، وبأنه لعله صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بسبع، وردّ بأنه يحتاج إلى تاريخ وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه، لكن إذا فرّعنا على الدخول تعين تقدّم الخمس على السبع لأن الفضل من الله يقبل الزيادة لا النقص وجمع أيضًا بأن اختلاف العددين باختلاف مميزهما، وعليه فقيل الدرجة أصغر من الجزء، ورد بأن الذي روى عنه الجزء روى عنه الدرجة، وقيل الجزء في الدنيا والدرجة في الآخرة وهو مبني على التغاير وبالفرق بين قرب المسجد وبعده، وبالفرق بحال المصلى كأن يكون أعلم أو أخشع وبإيقاعها في المسجد أو في غيره، وبالفرق بين المنتظر للصلاة وغيره، وبالفرق بين إدراكها كلها أو بعضها وبكثرة الجماعة وقلتهم وبأن السبع مختصة بالفجر والعشاء أو الفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك وبأن السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية، وهذا الوجه عندي أوجهها لطلب الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها ولتأمينه إذا سمعه ليوافق تأمين الملائكة ثم الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى.

ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله: أن ذلك لا يدرك بالرأي بل مرجعه إلى علم النبوّة التي قصرت علوم الألباء عن إدراك حقيقتها كلها انتهى.

وقال ابن عبد البر: الفضائل لا تدرك بقياس ولا مدخل فيها للنظر وإنما هي بالتوقيف قال: وقد روي مرفوعًا بإسناد لا أحفظه الآن صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم بأربعين درجة.

وقال الباجي: هذا الحديث يقتضي أن صلاة المأموم تعدل ثمانية وعشرين من صلاة الفذ لأنها تساويها وتزيد عليها سبعًا وعشرين.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) هكذا لجميع رواة الموطأ، ورواه عبد الملك بن زياد النصيبي ويحيى بن محمد بن عباد عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة، ورواه الشافعي وروح بن عبادة وعمار بن مطر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ) بالتاء وفي رواية بحذفها ( وَعِشْرِينَ جُزْءًا) ولا بد من تقدير أي صلاة أحدكم في جماعة، وإلاّ فظاهره أن صلاة كل الجماعة أفضل من صلاة الواحد وليس بمراد، ويدل على التقدير رواية صلاة الرجل، وفي رواية جويرية بن أسماء عن مالك بهذا الإسناد فضل صلاة الجماعة على صلاة أحدكم خمس وعشرون صلاة، ومعنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للجميع لما في مسلم في بعض طرقه بلفظ: صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفذ، وفي أخرى صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده، ولأحمد بسند حسن عن ابن مسعود نحوه وقال في آخره: كلها مثل صلاته وهو مقتضى لفظ أبي هريرة في البخاري ومسلم حيث قال: لا تضعف لأن الضعف كما قال الأزهري المثل أي ما زاد وليس بمقصور على المثلين يقال: هذا ضعف الشيء أي مثله أو مثلاه فصاعدًا لكن لا يزاد على العشرة، وظاهر قوله تضعف، وقوله في رواية أخرى تزيد أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين صلاة من صلاة المنفرد.

قال ابن عبد البر: يحتمل لفظ الحديث صلاة النافلة والمتخلف عن الفريضة لعذر والمتخلف عنها بلا عذر، لكن لما قال: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة علم أنه لم يرد النافلة، ولما قال من غلبه على صلاته نوم كتب له أجرها وقال: إذا كان للعبد عمل يعمله فمنعه منه مرض أمر الله كاتبيه أن يكتبا ما كان يعمل في صحته وما في معنى ذلك من الأحاديث علم أن المتخلف لعذر لم يقصد تفضيل غيره عليه، فإذا بطل هذان الوجهان صح أن المراد من تخلف بلا عذر وأنه لم يفاضل بينهما إلا وهما جائزان، غير أن أحدهما أفضل من الآخر انتهى.
ومرّ الجمع بين هذا وما قبله باثني عشر وجهًا وأن ذلك لا يدرك بقياس.

قال التوربشتي: ولعل الفائدة هي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة والاقتداء بالإمام وإظهار شعائر الإسلام وغير ذلك، وتعقب بأن هذا لا يفيد المطلوب، لكن أشار الكرماني إلى احتمال أن أصله كون المكتوبات خمسًا فأريد المبالغة في تكثيرها فضربت في مثلها فصارت خمسًا وعشرين، ثم ذكر للسبع مناسبة أيضًا من جهة ركعات عدد الفرائض وروايتها وقال غيره: الحسنة بعشر للمصلي منفردًا فإذا انضم إليه آخر بلغت عشرين، ثم زيد بقدر عدد الصلوات الخمس أو بعدد أيام الأسبوع.

قال الحافظ: ولا يخفى فساد هذا وقيل الأعداد عشرات ومئين وألوف وخير الأمور الوسط فاعتبرت المائة والعدد المذكور ربعها، وهذا أشد فسادًا مما قبله.

وقال السراج البلقيني: ظهر لي في هذين العددين شيء لم أسبق إليه لأنّ لفظ ابن عمر صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، ومعناه الصلاة في الجماعة كما في حديث أبي هريرة: صلاة الرجل في الجماعة يعني في بعض طرقه في البخاري وغيره قال: وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة وأدنى الأعداد التي يتحقق فيها ذلك ثلاثة حتى يكون كل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشرة فتحصل من مجموعه ثلاثون، فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد وهي سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك انتهى.

قال الحافظ: وظهر لي في الجمع بين العددين أن أقل الجماعة إمام ومأموم فلولا الإمام ما سمي المأموم مأمومًا وكذا عكسه، فإذا تفضل الله تعالى على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بفضلها على الفضل الزائد والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل وقد خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة وما جاءوا بطائل قاله ابن الجوزي.
لكن في حديث أبي هريرة إشارة إلى بعضها يعني قوله وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة رواه الشيخان.

ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك وقد نقحتها وحذفت ما لا يختص بصلاة الجماعة، فأوّلها: إجابة المؤذن بنية الصلاة جماعة، والتبكير إليها في أوّل الوقت، والمشي إلى المسجد بالسكينة، ودخول المسجد داعيًا، وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في جماعة، وانتظار الجماعة، وصلاة الملائكة عليه، وشهادتهم له وإجابة الإقامة، والسلامة من الشيطان إذا انفرد عند الإقامة.
حادي عشرها: الوقوف منتظرًا إحرام الإمام أو الدخول معه في أي هيئة وجده عليها.
ثاني عشرها: إدراك تكبيرة الإحرام لذلك.
ثالث عشرها: تسوية الصفوف وسدّ فرجها.
رابع عشرها: جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده.
خامس عشرها: الأمن من السهو غالبًا: وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه.
سادس عشرها: حصول الخشوع والسلامة مما يلهي غالبًا.
سابع عشرها: تحسين الهيئة غالبًا.
ثامن عشرها: احتفاف الملائكة به.
تاسع عشرها: التدرب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض، العشرون: إظهار شعار الإسلام.
الحادي والعشرون: إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل.
الثاني والعشرون: السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره الظن بأنه تارك الصلاة رأسًا.
الثالث والعشرون: نية رد السلام على الإمام.
الرابع والعشرون: الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص.
الخامس والعشرون: قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات.

فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها أمر أو ترغيب يخصه وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما: الإنصات عند قراءة الإمام.
والاستماع لها، والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمينه تأمين الملائكة، وبهذا يترجح أن السبع تختص بالجهرية ولا يرد على الخصال المذكورة أن بعضها يختص ببعض من صلى جماعة دون بعض كالتبكير في أول الوقت وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك، لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد النية ولو لم يقع.
ومقتضى الخصال المذكورة اختصاص التضعيف بالمسجد وهو الراجح في نظري، وعلى تقدير أن لا يختص بالمسجد فإنما يسقط مما ذكرته ثلاثة: المشي والدخول والتحية، فيمكن أن تعوض من بعض ما ذكر مما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة كالأخيرتين لأنّ منفعة الاجتماع على الدعاء والذكر غير منفعة عود بركة الكامل على الناقص وكذا فائدة قيام نظام الألفة غير فائدة حصول التعهد، وكذا فائدة أمن المأمومين من السهو غالبًا غير فائدة تنبيه الإمام إذا سها فهذه ثلاثة تعوض بها الثلاثة المذكورة فيحصل المطلوب.

قال: ودل حديث الباب على تساوي الجماعات في الفضل سواء كثرت أو قلّت لأنه ذكر فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة فيدخل فيه كل جماعة قاله بعض المالكية - يعني ابن عبد البر -.

وقواه بما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهما التضعيف وهو مسلم في أصل الحصول لكنه لا ينفي مزيد الفضل لما كان أكثر لا سيما مع وجود النص المصرح به، وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره عن أبيّ بن كعب مرفوعًا: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم وهو بفتح القاف والموحدة وبعد الألف مثلثة وأبوه بمعجمة بعدها تحتانية بوزن أحمر.

وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد خمس وعشرون درجة فإن كانوا أكثر فعلى عدد من في المسجد.
فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف؟ قال: نعم.
وهذا موقوف له حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي لكنه غير ثابت انتهى.

وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى عن مالك به، ورواه الشيخان من رواية شعيب عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة به بزيادة: علمت.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) قسم كان صلى الله عليه وسلم يقسم به كثيرًا والمعنى أنّ نفوس العباد بيد الله أي بتقديره وتدبيره، وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه تنبيهًا على عظم شأنه والرّد على من كره الحلف بالله مطلقًا ( لَقَدْ هَمَمْتُ) اللام جواب القسم والهم العزم وقيل دونه.
وزاد مسلم في أوّله: أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسًا في بعض الصلوات فقال: لقد هممت.
فأفاد سبب الحديث ( أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ) بالفاء والنصب عطفًا على المنصوب وكذا الأفعال الواقعة بعده.
قال الحافظ: أي يكسر ليسهل اشتعال النار به.
ويحتمل أنه أطلق عليه ذلك قبل أن يتصف به تجوّزًا بمعنى أنه سيتصف به، وتعقب بأنه لم يقل أحد من أهل اللغة أن معنى يحطب يكسر بل المعنى يجمع.

( ثُمَّ آمُرَ) بالمد وضم الميم ( بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ) أي آتيهم من خلفهم.
وقال الجوهري: خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه، والمعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة فأتركه وأسير إليهم أو أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم أو معنى أخالف أتخلف عن الصلاة إلى قصد المذكورين والتقييد برجال مخرج للنساء والصبيان ( فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ) بالنار عقوبة، وأحرق بشد الراء للتكثير والمبالغة في التحريق وفيه إشعار بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين والبيوت تبعًا للقاطنين بها ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فأحرق بيوتًا على من فيها.

( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أعاد اليمين مبالغة في التأكيد ( لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا) وللتنيسي: عرقًا سمينًا بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف.
قال الخليل: العرق العظم بلا لحم فإن كان عليه لحم فهو عراق، وفي المحكم عن الأصمعي العرق بسكون الراء قطعة لحم، وقال الأزهري: واحد العراق وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم رقيق ويتمشمش العظام، وقول الأصمعي هو اللائق هنا ( أَوْ مِرْمَاتَيْنِ) بكسر الميم وقد تفتح تثنية مرماة.
قال الخليل: هي ما بين ظلفي الشاة من اللحم حكاه أو عبيد وقال: لا أدري ما وجهه، ونقل المستملي عن الفربري عن البخاري: المرماة بكسر الميم مثل منساة وميضاة ما بين ظلفتي الشاة من اللحم.
قال عياض: فالميم على هذا أصلية، وقال الأخفش: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصاب محدّد يرمونها في كوم من تراب فأيهم أثبتها في الكوم غلب، ويبعد أن هذا مراد الحديث لأجل التثنية.
وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف قال: ويؤيده ما حدّثني ثم ساق حديث أبي هريرة بلفظ: لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل، وقيل: المرماة سهم يتعلم به الرمي وهو سهم رقيق مستو غير محدد.
قال ابن المنير: ويدل على ذلك التثنية فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر منها.
وقال الزمخشري: تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه ويدفعه ذكر العَرْق معه، ووجهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين لأنهما مما يتلهى به انتهى.

ووصف العظم بالسمن والمرماتين بقوله: ( حَسَنَتَيْنِ) أي مليحتين ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما وفيه إشارة إلى ذمّ المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة ( لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) أي صلاتها فالمضاف محذوف، وفيه إشارة إلى أنه يسعى إلى الشيء الحقير في ظلمة الليل فكيف يرغب عن الصلاة، وفيه إيماء إلى أن الصلاة التي وقع التهديد بسببها هي العشاء.
ولمسلم رواية يعني العشاء، وفي رواية لأحمد التصريح بتعيين العشاء، وفي الصحيحين من رواية أبي صالح عن أبي هريرة الإيماء إلى أنها العشاء والفجر، وللسراج من هذا الوجه أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلاً فغضب فذكر الحديث، ولابن حبان يعني العشاء والغداة، وسائر الروايات عن أبي هريرة بالإبهام وما لعبد الرزاق عن أبي هريرة أنها الجمعة فضعيف لشذوذه، ويدل على وهم راويها رواية أبي داود والطبراني أنه قيل ليزيد بن الأصم الجمعة عنى أو غيرها قال: صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها، فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة.
نعم في مسلم عن ابن مسعود الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة ولا يقدح أحدهما في الآخر لحمله على أنهما واقعتان كما أشار إليه النووي والمحب الطبري.

وقد وافق ابن أمّ مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء.
أخرج أحمد وابن خزيمة والحاكم عنه أنه صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أن آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول الله لقد علمت ما بي وليس لي قائد.
زاد أحمد: وإن بيني وبين المسجد شجرًا ونخلاً ولا أقدر على قائد كل ساعة.
قال: أتسمع الإقامة قال: نعم.
قال: فاحضرها ولم يرخص له.
ولابن حبان عن جابر قال: أتسمع الأذان قال: نعم.
قال: فأتها ولو حبوًا وحمله العلماء على أنه كان لا يشق عليه المشي وحده ككثير من العميان.

واحتج بهذا وبحديث الباب على أن الجماعة فرض عين إذ لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق أو فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه، وإليه ذهب الأوزاعي وعطاء وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان.
وبالغ داود وأتباعه فجعلوها شرطًا في صحة الصلاة.
وردّ بأنّ الوجوب قد ينفك عن الشرطية، ولذا قال أحمد وغيره: إنها واجبة غير شرط، وذهب الشافعي إلى أنها فرض كفاية وعليه جمهور متقدمي أصحابه وكثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة، وأجابوا عن ظاهر حديث الباب بأنه دال على عدم الوجوب لأنه هم ولم يفعل فلو كانت فرض عين لما عفا عنهم وتركهم قاله عياض والنووي.

وضعفه ابن دقيق العيد لأنه صلى الله عليه وسلم إنما يهم بما يجوز فعله لو فعله والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أنهم انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمّهم بسببه على أنه بين سبب الترك فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرّقون الحديث.

وأجيب أيضًا: بأن الحديث دال على أن لا وجوب لأنه صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين فلو كانت فرض عين لما همّ بتركها إذا توجه وضعفه ابن بزيرة بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه وبأنه لو فعل ذلك قد يتداركها في جماعة آخرين.

وأجاب ابن بطال وغيره: بأنها لو كانت فرضًا لقال لما توعد عليها بالإحراق من تخلف عن الصلاة لم تجزه صلاته لأنه وقت البيان، وردّه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالنص وقد يكون بالدلالة فلما قال: لقد هممت إلخ... دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان.

وقال الباجي وغيره: الحديث ورد مورد الزجر وحقيقته ليست مرادة وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بعقوبة الكفار والإجماع على منع عقوبة المسلمين به، وردّ بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزًا كما دل عليه حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره، فلا يمتنع حمل التهديد على حقيقته فهذه أجوبة أربعة.

خامسها: أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسًا لا مجرّد الجماعة، وردّ بأن في رواية لمسلم لا يشهدون الصلاة أي لا يحضرون، ولأحمد لا يشهدون العشاء في الجمع أي الجماعة، وفي ابن ماجه عن أسامة مرفوعًا: لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرّقنّ بيوتهم.

سادسها: أنه ورد في الحث على خلاف فعل المنافقين والتحذير من التشبه بفعلهم لا لخصوص ترك الجماعة أشار إليه الزين بن المنير وهو قريب من جواب الباجي المتقدّم.

سابعها: أنه ورد في المنافقين فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل، وردّ باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على ترك الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم وبأنه صلى الله عليه وسلم كان معرضًا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقد قال: لا يتحدّث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه، ومنع ابن دقيق العيد هذا الردّ بأنه إنما يتم إذا كان ترك عقاب المنافقين واجبًا عليه، فإذا ثبت أنه مخير فليس في إعراضه عنهم دليل على وجوب ترك عقوبتهم.

ثامنها: أن فريضة الجماعة كانت أوّلاً لسدّ باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ حكاه عياض، ويقويه نسخ الوعيد المذكور وهو التحريق بالنار، وكذا نسخ ما تضمنه التحريق وهو جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ أحاديث فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل ومن لازمه الجواز.

تاسعها: أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات، ونصره القرطبي وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء، وبحث فيه ابن دقيق العيد باختلاف الأحاديث في الصلاة التي هدّد بسببها هل الجمعة أو العشاء أو الصبح والعشاء معًا، فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضها أرجح من بعض وإلاّ وقف الاستدلال وتقدّم ما فيه.

عاشرها: أن التهديد المذكور يمكن أن يقع في حق تارك فرض الكفاية كمشروعية مقاتلة تاركه، وتعقب بأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة وبأن المقاتلة إنما تشرع إذا تمالأ الجميع على الترك.

قال الحافظ: فالذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لحديث الصحيحين ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء والفجر، ولقوله: لو يعلم أحدهم إلخ... لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر لرواية أحمد لا يشهدون العشاء في الجمع.
وفي حديث أسامة لا يشهدون الجماعة، وأصرح منه رواية أبي داود عن أبي هريرة: ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست بهم علة؛ فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله من الكفر والاستهزاء نبه عليه القرطبي، وأيضًا فقوله في رواية المقبري: لولا ما في البيوت من النساء والذرية يدل على أنهم لم يكونوا كفارًا لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقًا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرّية في بيته، وعلى تقدير أن المراد نفاق الكفر فلا يدل على عدم الوجوب لتضمنه أن ترك الجماعة من صفات المنافق وقد نهينا عن التشبه بهم، وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها.

قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق رواه مسلم انتهى.

وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عمير بن أنس قال: حدّثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال صلى الله عليه وسلم: ما يشهدهما منافق - يعني العشاء والفجر - وهذا يقوّي ما ظهر لي أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازًا لما دل عليه مجموع الأحاديث انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، وتابعه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سالم بن أبي أمية تابعي صغير ثقة ثبت ( مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بضم العين ابن معمر التيمي القرشي ( عَنْ بُسْرِ) بضم الموحدة وإسكان المهملة ( بْنِ سَعِيدٍ) بكسر العين المدني العابد ثقة حافظ ( أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) بن الضحاك الأنصاري النجاري أحد كتّاب الوحي من الراسخين في العلم ( قَالَ: أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) لبعدها عن الرياء ولتحصل البركة في البيوت فتنزل فيها الرحمة ويخرج منها الشيطان، وعليه فيمكن أن يخرج بقوله في بيوتكم بيت غيره ولو أمن الرياء كذا في الفتح.
( إِلَّا صَلَاةَ الْمَكْتُوبَةِ) أي المفروضة، فليست في البيوت أفضل بل في المسجد أفضل لأن الجماعة تشرع لها فمحلها أولى، وظاهره يشمل كل نفل لكنه محمول على ما لا يشرع له التجميع كالتراويح والعيدين وما تشرع له الجماعة أو ما يفوت إذا رجع المصلي إلى بيته ولم يفعله وما لا يخص المسجد كالتحية.

قال الحافظ: ويحتمل أنه أراد بالصلاة ما يشرع في البيت وفي المسجد معًا فلا تدخله التحية أو أنه لم يرد بالمكتوبة المفروضة بل ما تشرع له الجماعة وفيما وجب لعارض كمنذورة احتمال.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف في جميع الموطآت على زيد وهو مرفوع عنه من وجوه صحاح ويستحيل أن يكون رأيًا لأن الفضائل لا مدخل للرأي فيها انتهى.

وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طرق عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت مرفوعًا به، وفيه قصة هي سبب الحديث.

وروى الخطيب من طريق إسماعيل بن أبان، حدثنا عبد الأعلى بن مسهر، حدثنا مالك عن أنس عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت قال: قال صلى الله عليه وسلم: خير صلاتكم صلاتكم في بيوتكم إلا صلاة الفريضة قال ابن حوصا: لم يتابع أحمد إسماعيل بن أبان على رفع هذا الحديث أي عن مالك، لكن لم يذكر إسماعيل بجرح لا في اللسان ولا في الميزان.

قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث دليل على أن لا جماعة إلا في الفريضة وأن أعمال البر في السر أفضل، وقال بعض الحكماء: إخفاء العلم هلكة وإخفاء العمل نجاة وقال تعالى في الصدقات: { { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } }



رقم الحديث 294 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا.


( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ) بفتح أوّله وسكون الفاء وضم الضاد ( صَلَاةَ الْفَذِّ) بفتح الفاء وشدّ المعجمة أي المنفرد، ولمسلم من رواية عبيد الله بضم العين عن نافع عن ابن عمر: صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده ( بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) قال الترمذي: عامة من رواه قالوا خمسًا وعشرين إلا ابن عمر فقال سبعًا وعشرين.

قال الحافظ: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما رواه عبد الرزاق عن عبد الله بفتح العين العمري فقال: خمس وعشرون، لكن العمري ضعيف، ولأبي عوانة عن أبي أسامة عن عبيد الله بضم العين ابن عمر عن نافع فقال: بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع وإن كان راويهما ثقة، وأما ما في مسلم من رواية الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ: بضع وعشرين فلا تغاير رواية الحفاظ لصدق البضع بالسبع.

وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد في البخاري وأبي هريرة، وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم وعن عائشة وأنس عند السراج، وجاء أيضًا من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت وكلها عن الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أبيّ فقال أربع أو خمس بالشك وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد فقال: بسبع وعشرين وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف وفي رواية لأبي عوانة بضعًا وعشرين وليست مغايرة لصدق البضع على خمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذ لا أثر للشك، واختلف في أيها أرجح فقيل الخمس لكثرة رواتها، وقيل السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ، واختلف في مميز العدد ففي الروايات كلها التعبير بدرجة أو حذف المميز إلا طرق حديث أبي هريرة ففي بعضها ضعفًا وفي بعضها جزءًا وفي بعضها درجة وفي بعضها صلاة وهذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة ويحتمل أنه من التفنن في العبارة.

وأما قول ابن الأثير إنما قال درجة ولم يقل جزءًا ولا نصيبًا ولا حظًا ولا نحو ذلك لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع فإن تلك فوق هذه بكذا وكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق فكأنه بناه على أن الأصل لفظ درجة وما عداها من تصرف الرواة، لكن نفيه ورود الجزء مردود فإنه ثابت وكذا الضعف، وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بأن ذكر القليل لا ينفي الكثير وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد لكن قد قال به جماعة وحكي عن الشافعي، وبأنه لعله صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بسبع، وردّ بأنه يحتاج إلى تاريخ وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه، لكن إذا فرّعنا على الدخول تعين تقدّم الخمس على السبع لأن الفضل من الله يقبل الزيادة لا النقص وجمع أيضًا بأن اختلاف العددين باختلاف مميزهما، وعليه فقيل الدرجة أصغر من الجزء، ورد بأن الذي روى عنه الجزء روى عنه الدرجة، وقيل الجزء في الدنيا والدرجة في الآخرة وهو مبني على التغاير وبالفرق بين قرب المسجد وبعده، وبالفرق بحال المصلى كأن يكون أعلم أو أخشع وبإيقاعها في المسجد أو في غيره، وبالفرق بين المنتظر للصلاة وغيره، وبالفرق بين إدراكها كلها أو بعضها وبكثرة الجماعة وقلتهم وبأن السبع مختصة بالفجر والعشاء أو الفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك وبأن السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية، وهذا الوجه عندي أوجهها لطلب الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها ولتأمينه إذا سمعه ليوافق تأمين الملائكة ثم الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى.

ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله: أن ذلك لا يدرك بالرأي بل مرجعه إلى علم النبوّة التي قصرت علوم الألباء عن إدراك حقيقتها كلها انتهى.

وقال ابن عبد البر: الفضائل لا تدرك بقياس ولا مدخل فيها للنظر وإنما هي بالتوقيف قال: وقد روي مرفوعًا بإسناد لا أحفظه الآن صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم بأربعين درجة.

وقال الباجي: هذا الحديث يقتضي أن صلاة المأموم تعدل ثمانية وعشرين من صلاة الفذ لأنها تساويها وتزيد عليها سبعًا وعشرين.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) هكذا لجميع رواة الموطأ، ورواه عبد الملك بن زياد النصيبي ويحيى بن محمد بن عباد عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة، ورواه الشافعي وروح بن عبادة وعمار بن مطر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ) بالتاء وفي رواية بحذفها ( وَعِشْرِينَ جُزْءًا) ولا بد من تقدير أي صلاة أحدكم في جماعة، وإلاّ فظاهره أن صلاة كل الجماعة أفضل من صلاة الواحد وليس بمراد، ويدل على التقدير رواية صلاة الرجل، وفي رواية جويرية بن أسماء عن مالك بهذا الإسناد فضل صلاة الجماعة على صلاة أحدكم خمس وعشرون صلاة، ومعنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للجميع لما في مسلم في بعض طرقه بلفظ: صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفذ، وفي أخرى صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده، ولأحمد بسند حسن عن ابن مسعود نحوه وقال في آخره: كلها مثل صلاته وهو مقتضى لفظ أبي هريرة في البخاري ومسلم حيث قال: لا تضعف لأن الضعف كما قال الأزهري المثل أي ما زاد وليس بمقصور على المثلين يقال: هذا ضعف الشيء أي مثله أو مثلاه فصاعدًا لكن لا يزاد على العشرة، وظاهر قوله تضعف، وقوله في رواية أخرى تزيد أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين صلاة من صلاة المنفرد.

قال ابن عبد البر: يحتمل لفظ الحديث صلاة النافلة والمتخلف عن الفريضة لعذر والمتخلف عنها بلا عذر، لكن لما قال: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة علم أنه لم يرد النافلة، ولما قال من غلبه على صلاته نوم كتب له أجرها وقال: إذا كان للعبد عمل يعمله فمنعه منه مرض أمر الله كاتبيه أن يكتبا ما كان يعمل في صحته وما في معنى ذلك من الأحاديث علم أن المتخلف لعذر لم يقصد تفضيل غيره عليه، فإذا بطل هذان الوجهان صح أن المراد من تخلف بلا عذر وأنه لم يفاضل بينهما إلا وهما جائزان، غير أن أحدهما أفضل من الآخر انتهى.
ومرّ الجمع بين هذا وما قبله باثني عشر وجهًا وأن ذلك لا يدرك بقياس.

قال التوربشتي: ولعل الفائدة هي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة والاقتداء بالإمام وإظهار شعائر الإسلام وغير ذلك، وتعقب بأن هذا لا يفيد المطلوب، لكن أشار الكرماني إلى احتمال أن أصله كون المكتوبات خمسًا فأريد المبالغة في تكثيرها فضربت في مثلها فصارت خمسًا وعشرين، ثم ذكر للسبع مناسبة أيضًا من جهة ركعات عدد الفرائض وروايتها وقال غيره: الحسنة بعشر للمصلي منفردًا فإذا انضم إليه آخر بلغت عشرين، ثم زيد بقدر عدد الصلوات الخمس أو بعدد أيام الأسبوع.

قال الحافظ: ولا يخفى فساد هذا وقيل الأعداد عشرات ومئين وألوف وخير الأمور الوسط فاعتبرت المائة والعدد المذكور ربعها، وهذا أشد فسادًا مما قبله.

وقال السراج البلقيني: ظهر لي في هذين العددين شيء لم أسبق إليه لأنّ لفظ ابن عمر صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، ومعناه الصلاة في الجماعة كما في حديث أبي هريرة: صلاة الرجل في الجماعة يعني في بعض طرقه في البخاري وغيره قال: وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة وأدنى الأعداد التي يتحقق فيها ذلك ثلاثة حتى يكون كل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشرة فتحصل من مجموعه ثلاثون، فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد وهي سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك انتهى.

قال الحافظ: وظهر لي في الجمع بين العددين أن أقل الجماعة إمام ومأموم فلولا الإمام ما سمي المأموم مأمومًا وكذا عكسه، فإذا تفضل الله تعالى على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بفضلها على الفضل الزائد والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل وقد خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة وما جاءوا بطائل قاله ابن الجوزي.
لكن في حديث أبي هريرة إشارة إلى بعضها يعني قوله وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة رواه الشيخان.

ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك وقد نقحتها وحذفت ما لا يختص بصلاة الجماعة، فأوّلها: إجابة المؤذن بنية الصلاة جماعة، والتبكير إليها في أوّل الوقت، والمشي إلى المسجد بالسكينة، ودخول المسجد داعيًا، وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في جماعة، وانتظار الجماعة، وصلاة الملائكة عليه، وشهادتهم له وإجابة الإقامة، والسلامة من الشيطان إذا انفرد عند الإقامة.
حادي عشرها: الوقوف منتظرًا إحرام الإمام أو الدخول معه في أي هيئة وجده عليها.
ثاني عشرها: إدراك تكبيرة الإحرام لذلك.
ثالث عشرها: تسوية الصفوف وسدّ فرجها.
رابع عشرها: جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده.
خامس عشرها: الأمن من السهو غالبًا: وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه.
سادس عشرها: حصول الخشوع والسلامة مما يلهي غالبًا.
سابع عشرها: تحسين الهيئة غالبًا.
ثامن عشرها: احتفاف الملائكة به.
تاسع عشرها: التدرب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض، العشرون: إظهار شعار الإسلام.
الحادي والعشرون: إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل.
الثاني والعشرون: السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره الظن بأنه تارك الصلاة رأسًا.
الثالث والعشرون: نية رد السلام على الإمام.
الرابع والعشرون: الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص.
الخامس والعشرون: قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات.

فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها أمر أو ترغيب يخصه وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما: الإنصات عند قراءة الإمام.
والاستماع لها، والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمينه تأمين الملائكة، وبهذا يترجح أن السبع تختص بالجهرية ولا يرد على الخصال المذكورة أن بعضها يختص ببعض من صلى جماعة دون بعض كالتبكير في أول الوقت وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك، لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد النية ولو لم يقع.
ومقتضى الخصال المذكورة اختصاص التضعيف بالمسجد وهو الراجح في نظري، وعلى تقدير أن لا يختص بالمسجد فإنما يسقط مما ذكرته ثلاثة: المشي والدخول والتحية، فيمكن أن تعوض من بعض ما ذكر مما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة كالأخيرتين لأنّ منفعة الاجتماع على الدعاء والذكر غير منفعة عود بركة الكامل على الناقص وكذا فائدة قيام نظام الألفة غير فائدة حصول التعهد، وكذا فائدة أمن المأمومين من السهو غالبًا غير فائدة تنبيه الإمام إذا سها فهذه ثلاثة تعوض بها الثلاثة المذكورة فيحصل المطلوب.

قال: ودل حديث الباب على تساوي الجماعات في الفضل سواء كثرت أو قلّت لأنه ذكر فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة فيدخل فيه كل جماعة قاله بعض المالكية - يعني ابن عبد البر -.

وقواه بما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهما التضعيف وهو مسلم في أصل الحصول لكنه لا ينفي مزيد الفضل لما كان أكثر لا سيما مع وجود النص المصرح به، وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره عن أبيّ بن كعب مرفوعًا: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم وهو بفتح القاف والموحدة وبعد الألف مثلثة وأبوه بمعجمة بعدها تحتانية بوزن أحمر.

وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد خمس وعشرون درجة فإن كانوا أكثر فعلى عدد من في المسجد.
فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف؟ قال: نعم.
وهذا موقوف له حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي لكنه غير ثابت انتهى.

وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى عن مالك به، ورواه الشيخان من رواية شعيب عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة به بزيادة: علمت.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) قسم كان صلى الله عليه وسلم يقسم به كثيرًا والمعنى أنّ نفوس العباد بيد الله أي بتقديره وتدبيره، وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه تنبيهًا على عظم شأنه والرّد على من كره الحلف بالله مطلقًا ( لَقَدْ هَمَمْتُ) اللام جواب القسم والهم العزم وقيل دونه.
وزاد مسلم في أوّله: أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسًا في بعض الصلوات فقال: لقد هممت.
فأفاد سبب الحديث ( أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ) بالفاء والنصب عطفًا على المنصوب وكذا الأفعال الواقعة بعده.
قال الحافظ: أي يكسر ليسهل اشتعال النار به.
ويحتمل أنه أطلق عليه ذلك قبل أن يتصف به تجوّزًا بمعنى أنه سيتصف به، وتعقب بأنه لم يقل أحد من أهل اللغة أن معنى يحطب يكسر بل المعنى يجمع.

( ثُمَّ آمُرَ) بالمد وضم الميم ( بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ) أي آتيهم من خلفهم.
وقال الجوهري: خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه، والمعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة فأتركه وأسير إليهم أو أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم أو معنى أخالف أتخلف عن الصلاة إلى قصد المذكورين والتقييد برجال مخرج للنساء والصبيان ( فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ) بالنار عقوبة، وأحرق بشد الراء للتكثير والمبالغة في التحريق وفيه إشعار بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين والبيوت تبعًا للقاطنين بها ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فأحرق بيوتًا على من فيها.

( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أعاد اليمين مبالغة في التأكيد ( لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا) وللتنيسي: عرقًا سمينًا بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف.
قال الخليل: العرق العظم بلا لحم فإن كان عليه لحم فهو عراق، وفي المحكم عن الأصمعي العرق بسكون الراء قطعة لحم، وقال الأزهري: واحد العراق وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم رقيق ويتمشمش العظام، وقول الأصمعي هو اللائق هنا ( أَوْ مِرْمَاتَيْنِ) بكسر الميم وقد تفتح تثنية مرماة.
قال الخليل: هي ما بين ظلفي الشاة من اللحم حكاه أو عبيد وقال: لا أدري ما وجهه، ونقل المستملي عن الفربري عن البخاري: المرماة بكسر الميم مثل منساة وميضاة ما بين ظلفتي الشاة من اللحم.
قال عياض: فالميم على هذا أصلية، وقال الأخفش: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصاب محدّد يرمونها في كوم من تراب فأيهم أثبتها في الكوم غلب، ويبعد أن هذا مراد الحديث لأجل التثنية.
وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف قال: ويؤيده ما حدّثني ثم ساق حديث أبي هريرة بلفظ: لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل، وقيل: المرماة سهم يتعلم به الرمي وهو سهم رقيق مستو غير محدد.
قال ابن المنير: ويدل على ذلك التثنية فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر منها.
وقال الزمخشري: تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه ويدفعه ذكر العَرْق معه، ووجهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين لأنهما مما يتلهى به انتهى.

ووصف العظم بالسمن والمرماتين بقوله: ( حَسَنَتَيْنِ) أي مليحتين ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما وفيه إشارة إلى ذمّ المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة ( لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) أي صلاتها فالمضاف محذوف، وفيه إشارة إلى أنه يسعى إلى الشيء الحقير في ظلمة الليل فكيف يرغب عن الصلاة، وفيه إيماء إلى أن الصلاة التي وقع التهديد بسببها هي العشاء.
ولمسلم رواية يعني العشاء، وفي رواية لأحمد التصريح بتعيين العشاء، وفي الصحيحين من رواية أبي صالح عن أبي هريرة الإيماء إلى أنها العشاء والفجر، وللسراج من هذا الوجه أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلاً فغضب فذكر الحديث، ولابن حبان يعني العشاء والغداة، وسائر الروايات عن أبي هريرة بالإبهام وما لعبد الرزاق عن أبي هريرة أنها الجمعة فضعيف لشذوذه، ويدل على وهم راويها رواية أبي داود والطبراني أنه قيل ليزيد بن الأصم الجمعة عنى أو غيرها قال: صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها، فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة.
نعم في مسلم عن ابن مسعود الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة ولا يقدح أحدهما في الآخر لحمله على أنهما واقعتان كما أشار إليه النووي والمحب الطبري.

وقد وافق ابن أمّ مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء.
أخرج أحمد وابن خزيمة والحاكم عنه أنه صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أن آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول الله لقد علمت ما بي وليس لي قائد.
زاد أحمد: وإن بيني وبين المسجد شجرًا ونخلاً ولا أقدر على قائد كل ساعة.
قال: أتسمع الإقامة قال: نعم.
قال: فاحضرها ولم يرخص له.
ولابن حبان عن جابر قال: أتسمع الأذان قال: نعم.
قال: فأتها ولو حبوًا وحمله العلماء على أنه كان لا يشق عليه المشي وحده ككثير من العميان.

واحتج بهذا وبحديث الباب على أن الجماعة فرض عين إذ لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق أو فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه، وإليه ذهب الأوزاعي وعطاء وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان.
وبالغ داود وأتباعه فجعلوها شرطًا في صحة الصلاة.
وردّ بأنّ الوجوب قد ينفك عن الشرطية، ولذا قال أحمد وغيره: إنها واجبة غير شرط، وذهب الشافعي إلى أنها فرض كفاية وعليه جمهور متقدمي أصحابه وكثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة، وأجابوا عن ظاهر حديث الباب بأنه دال على عدم الوجوب لأنه هم ولم يفعل فلو كانت فرض عين لما عفا عنهم وتركهم قاله عياض والنووي.

وضعفه ابن دقيق العيد لأنه صلى الله عليه وسلم إنما يهم بما يجوز فعله لو فعله والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أنهم انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمّهم بسببه على أنه بين سبب الترك فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرّقون الحديث.

وأجيب أيضًا: بأن الحديث دال على أن لا وجوب لأنه صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين فلو كانت فرض عين لما همّ بتركها إذا توجه وضعفه ابن بزيرة بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه وبأنه لو فعل ذلك قد يتداركها في جماعة آخرين.

وأجاب ابن بطال وغيره: بأنها لو كانت فرضًا لقال لما توعد عليها بالإحراق من تخلف عن الصلاة لم تجزه صلاته لأنه وقت البيان، وردّه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالنص وقد يكون بالدلالة فلما قال: لقد هممت إلخ... دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان.

وقال الباجي وغيره: الحديث ورد مورد الزجر وحقيقته ليست مرادة وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بعقوبة الكفار والإجماع على منع عقوبة المسلمين به، وردّ بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزًا كما دل عليه حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره، فلا يمتنع حمل التهديد على حقيقته فهذه أجوبة أربعة.

خامسها: أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسًا لا مجرّد الجماعة، وردّ بأن في رواية لمسلم لا يشهدون الصلاة أي لا يحضرون، ولأحمد لا يشهدون العشاء في الجمع أي الجماعة، وفي ابن ماجه عن أسامة مرفوعًا: لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرّقنّ بيوتهم.

سادسها: أنه ورد في الحث على خلاف فعل المنافقين والتحذير من التشبه بفعلهم لا لخصوص ترك الجماعة أشار إليه الزين بن المنير وهو قريب من جواب الباجي المتقدّم.

سابعها: أنه ورد في المنافقين فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل، وردّ باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على ترك الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم وبأنه صلى الله عليه وسلم كان معرضًا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقد قال: لا يتحدّث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه، ومنع ابن دقيق العيد هذا الردّ بأنه إنما يتم إذا كان ترك عقاب المنافقين واجبًا عليه، فإذا ثبت أنه مخير فليس في إعراضه عنهم دليل على وجوب ترك عقوبتهم.

ثامنها: أن فريضة الجماعة كانت أوّلاً لسدّ باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ حكاه عياض، ويقويه نسخ الوعيد المذكور وهو التحريق بالنار، وكذا نسخ ما تضمنه التحريق وهو جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ أحاديث فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل ومن لازمه الجواز.

تاسعها: أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات، ونصره القرطبي وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء، وبحث فيه ابن دقيق العيد باختلاف الأحاديث في الصلاة التي هدّد بسببها هل الجمعة أو العشاء أو الصبح والعشاء معًا، فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضها أرجح من بعض وإلاّ وقف الاستدلال وتقدّم ما فيه.

عاشرها: أن التهديد المذكور يمكن أن يقع في حق تارك فرض الكفاية كمشروعية مقاتلة تاركه، وتعقب بأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة وبأن المقاتلة إنما تشرع إذا تمالأ الجميع على الترك.

قال الحافظ: فالذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لحديث الصحيحين ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء والفجر، ولقوله: لو يعلم أحدهم إلخ... لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر لرواية أحمد لا يشهدون العشاء في الجمع.
وفي حديث أسامة لا يشهدون الجماعة، وأصرح منه رواية أبي داود عن أبي هريرة: ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست بهم علة؛ فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله من الكفر والاستهزاء نبه عليه القرطبي، وأيضًا فقوله في رواية المقبري: لولا ما في البيوت من النساء والذرية يدل على أنهم لم يكونوا كفارًا لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقًا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرّية في بيته، وعلى تقدير أن المراد نفاق الكفر فلا يدل على عدم الوجوب لتضمنه أن ترك الجماعة من صفات المنافق وقد نهينا عن التشبه بهم، وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها.

قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق رواه مسلم انتهى.

وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عمير بن أنس قال: حدّثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال صلى الله عليه وسلم: ما يشهدهما منافق - يعني العشاء والفجر - وهذا يقوّي ما ظهر لي أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازًا لما دل عليه مجموع الأحاديث انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، وتابعه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سالم بن أبي أمية تابعي صغير ثقة ثبت ( مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بضم العين ابن معمر التيمي القرشي ( عَنْ بُسْرِ) بضم الموحدة وإسكان المهملة ( بْنِ سَعِيدٍ) بكسر العين المدني العابد ثقة حافظ ( أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) بن الضحاك الأنصاري النجاري أحد كتّاب الوحي من الراسخين في العلم ( قَالَ: أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) لبعدها عن الرياء ولتحصل البركة في البيوت فتنزل فيها الرحمة ويخرج منها الشيطان، وعليه فيمكن أن يخرج بقوله في بيوتكم بيت غيره ولو أمن الرياء كذا في الفتح.
( إِلَّا صَلَاةَ الْمَكْتُوبَةِ) أي المفروضة، فليست في البيوت أفضل بل في المسجد أفضل لأن الجماعة تشرع لها فمحلها أولى، وظاهره يشمل كل نفل لكنه محمول على ما لا يشرع له التجميع كالتراويح والعيدين وما تشرع له الجماعة أو ما يفوت إذا رجع المصلي إلى بيته ولم يفعله وما لا يخص المسجد كالتحية.

قال الحافظ: ويحتمل أنه أراد بالصلاة ما يشرع في البيت وفي المسجد معًا فلا تدخله التحية أو أنه لم يرد بالمكتوبة المفروضة بل ما تشرع له الجماعة وفيما وجب لعارض كمنذورة احتمال.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف في جميع الموطآت على زيد وهو مرفوع عنه من وجوه صحاح ويستحيل أن يكون رأيًا لأن الفضائل لا مدخل للرأي فيها انتهى.

وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طرق عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت مرفوعًا به، وفيه قصة هي سبب الحديث.

وروى الخطيب من طريق إسماعيل بن أبان، حدثنا عبد الأعلى بن مسهر، حدثنا مالك عن أنس عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت قال: قال صلى الله عليه وسلم: خير صلاتكم صلاتكم في بيوتكم إلا صلاة الفريضة قال ابن حوصا: لم يتابع أحمد إسماعيل بن أبان على رفع هذا الحديث أي عن مالك، لكن لم يذكر إسماعيل بجرح لا في اللسان ولا في الميزان.

قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث دليل على أن لا جماعة إلا في الفريضة وأن أعمال البر في السر أفضل، وقال بعض الحكماء: إخفاء العلم هلكة وإخفاء العمل نجاة وقال تعالى في الصدقات: { { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } }



رقم الحديث 295 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ.


( مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ) بفتح أوّله وسكون الفاء وضم الضاد ( صَلَاةَ الْفَذِّ) بفتح الفاء وشدّ المعجمة أي المنفرد، ولمسلم من رواية عبيد الله بضم العين عن نافع عن ابن عمر: صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده ( بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) قال الترمذي: عامة من رواه قالوا خمسًا وعشرين إلا ابن عمر فقال سبعًا وعشرين.

قال الحافظ: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما رواه عبد الرزاق عن عبد الله بفتح العين العمري فقال: خمس وعشرون، لكن العمري ضعيف، ولأبي عوانة عن أبي أسامة عن عبيد الله بضم العين ابن عمر عن نافع فقال: بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع وإن كان راويهما ثقة، وأما ما في مسلم من رواية الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ: بضع وعشرين فلا تغاير رواية الحفاظ لصدق البضع بالسبع.

وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد في البخاري وأبي هريرة، وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم وعن عائشة وأنس عند السراج، وجاء أيضًا من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت وكلها عن الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أبيّ فقال أربع أو خمس بالشك وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد فقال: بسبع وعشرين وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف وفي رواية لأبي عوانة بضعًا وعشرين وليست مغايرة لصدق البضع على خمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذ لا أثر للشك، واختلف في أيها أرجح فقيل الخمس لكثرة رواتها، وقيل السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ، واختلف في مميز العدد ففي الروايات كلها التعبير بدرجة أو حذف المميز إلا طرق حديث أبي هريرة ففي بعضها ضعفًا وفي بعضها جزءًا وفي بعضها درجة وفي بعضها صلاة وهذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة ويحتمل أنه من التفنن في العبارة.

وأما قول ابن الأثير إنما قال درجة ولم يقل جزءًا ولا نصيبًا ولا حظًا ولا نحو ذلك لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع فإن تلك فوق هذه بكذا وكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق فكأنه بناه على أن الأصل لفظ درجة وما عداها من تصرف الرواة، لكن نفيه ورود الجزء مردود فإنه ثابت وكذا الضعف، وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بأن ذكر القليل لا ينفي الكثير وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد لكن قد قال به جماعة وحكي عن الشافعي، وبأنه لعله صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بسبع، وردّ بأنه يحتاج إلى تاريخ وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه، لكن إذا فرّعنا على الدخول تعين تقدّم الخمس على السبع لأن الفضل من الله يقبل الزيادة لا النقص وجمع أيضًا بأن اختلاف العددين باختلاف مميزهما، وعليه فقيل الدرجة أصغر من الجزء، ورد بأن الذي روى عنه الجزء روى عنه الدرجة، وقيل الجزء في الدنيا والدرجة في الآخرة وهو مبني على التغاير وبالفرق بين قرب المسجد وبعده، وبالفرق بحال المصلى كأن يكون أعلم أو أخشع وبإيقاعها في المسجد أو في غيره، وبالفرق بين المنتظر للصلاة وغيره، وبالفرق بين إدراكها كلها أو بعضها وبكثرة الجماعة وقلتهم وبأن السبع مختصة بالفجر والعشاء أو الفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك وبأن السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية، وهذا الوجه عندي أوجهها لطلب الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها ولتأمينه إذا سمعه ليوافق تأمين الملائكة ثم الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى.

ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله: أن ذلك لا يدرك بالرأي بل مرجعه إلى علم النبوّة التي قصرت علوم الألباء عن إدراك حقيقتها كلها انتهى.

وقال ابن عبد البر: الفضائل لا تدرك بقياس ولا مدخل فيها للنظر وإنما هي بالتوقيف قال: وقد روي مرفوعًا بإسناد لا أحفظه الآن صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم بأربعين درجة.

وقال الباجي: هذا الحديث يقتضي أن صلاة المأموم تعدل ثمانية وعشرين من صلاة الفذ لأنها تساويها وتزيد عليها سبعًا وعشرين.

وهذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) هكذا لجميع رواة الموطأ، ورواه عبد الملك بن زياد النصيبي ويحيى بن محمد بن عباد عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة، ورواه الشافعي وروح بن عبادة وعمار بن مطر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسَةٍ) بالتاء وفي رواية بحذفها ( وَعِشْرِينَ جُزْءًا) ولا بد من تقدير أي صلاة أحدكم في جماعة، وإلاّ فظاهره أن صلاة كل الجماعة أفضل من صلاة الواحد وليس بمراد، ويدل على التقدير رواية صلاة الرجل، وفي رواية جويرية بن أسماء عن مالك بهذا الإسناد فضل صلاة الجماعة على صلاة أحدكم خمس وعشرون صلاة، ومعنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للجميع لما في مسلم في بعض طرقه بلفظ: صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفذ، وفي أخرى صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده، ولأحمد بسند حسن عن ابن مسعود نحوه وقال في آخره: كلها مثل صلاته وهو مقتضى لفظ أبي هريرة في البخاري ومسلم حيث قال: لا تضعف لأن الضعف كما قال الأزهري المثل أي ما زاد وليس بمقصور على المثلين يقال: هذا ضعف الشيء أي مثله أو مثلاه فصاعدًا لكن لا يزاد على العشرة، وظاهر قوله تضعف، وقوله في رواية أخرى تزيد أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين صلاة من صلاة المنفرد.

قال ابن عبد البر: يحتمل لفظ الحديث صلاة النافلة والمتخلف عن الفريضة لعذر والمتخلف عنها بلا عذر، لكن لما قال: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة علم أنه لم يرد النافلة، ولما قال من غلبه على صلاته نوم كتب له أجرها وقال: إذا كان للعبد عمل يعمله فمنعه منه مرض أمر الله كاتبيه أن يكتبا ما كان يعمل في صحته وما في معنى ذلك من الأحاديث علم أن المتخلف لعذر لم يقصد تفضيل غيره عليه، فإذا بطل هذان الوجهان صح أن المراد من تخلف بلا عذر وأنه لم يفاضل بينهما إلا وهما جائزان، غير أن أحدهما أفضل من الآخر انتهى.
ومرّ الجمع بين هذا وما قبله باثني عشر وجهًا وأن ذلك لا يدرك بقياس.

قال التوربشتي: ولعل الفائدة هي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة والاقتداء بالإمام وإظهار شعائر الإسلام وغير ذلك، وتعقب بأن هذا لا يفيد المطلوب، لكن أشار الكرماني إلى احتمال أن أصله كون المكتوبات خمسًا فأريد المبالغة في تكثيرها فضربت في مثلها فصارت خمسًا وعشرين، ثم ذكر للسبع مناسبة أيضًا من جهة ركعات عدد الفرائض وروايتها وقال غيره: الحسنة بعشر للمصلي منفردًا فإذا انضم إليه آخر بلغت عشرين، ثم زيد بقدر عدد الصلوات الخمس أو بعدد أيام الأسبوع.

قال الحافظ: ولا يخفى فساد هذا وقيل الأعداد عشرات ومئين وألوف وخير الأمور الوسط فاعتبرت المائة والعدد المذكور ربعها، وهذا أشد فسادًا مما قبله.

وقال السراج البلقيني: ظهر لي في هذين العددين شيء لم أسبق إليه لأنّ لفظ ابن عمر صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، ومعناه الصلاة في الجماعة كما في حديث أبي هريرة: صلاة الرجل في الجماعة يعني في بعض طرقه في البخاري وغيره قال: وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة وأدنى الأعداد التي يتحقق فيها ذلك ثلاثة حتى يكون كل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشرة فتحصل من مجموعه ثلاثون، فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد وهي سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك انتهى.

قال الحافظ: وظهر لي في الجمع بين العددين أن أقل الجماعة إمام ومأموم فلولا الإمام ما سمي المأموم مأمومًا وكذا عكسه، فإذا تفضل الله تعالى على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بفضلها على الفضل الزائد والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل وقد خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة وما جاءوا بطائل قاله ابن الجوزي.
لكن في حديث أبي هريرة إشارة إلى بعضها يعني قوله وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة رواه الشيخان.

ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك وقد نقحتها وحذفت ما لا يختص بصلاة الجماعة، فأوّلها: إجابة المؤذن بنية الصلاة جماعة، والتبكير إليها في أوّل الوقت، والمشي إلى المسجد بالسكينة، ودخول المسجد داعيًا، وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في جماعة، وانتظار الجماعة، وصلاة الملائكة عليه، وشهادتهم له وإجابة الإقامة، والسلامة من الشيطان إذا انفرد عند الإقامة.
حادي عشرها: الوقوف منتظرًا إحرام الإمام أو الدخول معه في أي هيئة وجده عليها.
ثاني عشرها: إدراك تكبيرة الإحرام لذلك.
ثالث عشرها: تسوية الصفوف وسدّ فرجها.
رابع عشرها: جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده.
خامس عشرها: الأمن من السهو غالبًا: وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه.
سادس عشرها: حصول الخشوع والسلامة مما يلهي غالبًا.
سابع عشرها: تحسين الهيئة غالبًا.
ثامن عشرها: احتفاف الملائكة به.
تاسع عشرها: التدرب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض، العشرون: إظهار شعار الإسلام.
الحادي والعشرون: إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل.
الثاني والعشرون: السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره الظن بأنه تارك الصلاة رأسًا.
الثالث والعشرون: نية رد السلام على الإمام.
الرابع والعشرون: الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص.
الخامس والعشرون: قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات.

فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها أمر أو ترغيب يخصه وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما: الإنصات عند قراءة الإمام.
والاستماع لها، والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمينه تأمين الملائكة، وبهذا يترجح أن السبع تختص بالجهرية ولا يرد على الخصال المذكورة أن بعضها يختص ببعض من صلى جماعة دون بعض كالتبكير في أول الوقت وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك، لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد النية ولو لم يقع.
ومقتضى الخصال المذكورة اختصاص التضعيف بالمسجد وهو الراجح في نظري، وعلى تقدير أن لا يختص بالمسجد فإنما يسقط مما ذكرته ثلاثة: المشي والدخول والتحية، فيمكن أن تعوض من بعض ما ذكر مما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة كالأخيرتين لأنّ منفعة الاجتماع على الدعاء والذكر غير منفعة عود بركة الكامل على الناقص وكذا فائدة قيام نظام الألفة غير فائدة حصول التعهد، وكذا فائدة أمن المأمومين من السهو غالبًا غير فائدة تنبيه الإمام إذا سها فهذه ثلاثة تعوض بها الثلاثة المذكورة فيحصل المطلوب.

قال: ودل حديث الباب على تساوي الجماعات في الفضل سواء كثرت أو قلّت لأنه ذكر فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة فيدخل فيه كل جماعة قاله بعض المالكية - يعني ابن عبد البر -.

وقواه بما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهما التضعيف وهو مسلم في أصل الحصول لكنه لا ينفي مزيد الفضل لما كان أكثر لا سيما مع وجود النص المصرح به، وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره عن أبيّ بن كعب مرفوعًا: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم وهو بفتح القاف والموحدة وبعد الألف مثلثة وأبوه بمعجمة بعدها تحتانية بوزن أحمر.

وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد خمس وعشرون درجة فإن كانوا أكثر فعلى عدد من في المسجد.
فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف؟ قال: نعم.
وهذا موقوف له حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي لكنه غير ثابت انتهى.

وهذا الحديث أخرجه مسلم عن يحيى عن مالك به، ورواه الشيخان من رواية شعيب عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة به بزيادة: علمت.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) قسم كان صلى الله عليه وسلم يقسم به كثيرًا والمعنى أنّ نفوس العباد بيد الله أي بتقديره وتدبيره، وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه تنبيهًا على عظم شأنه والرّد على من كره الحلف بالله مطلقًا ( لَقَدْ هَمَمْتُ) اللام جواب القسم والهم العزم وقيل دونه.
وزاد مسلم في أوّله: أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسًا في بعض الصلوات فقال: لقد هممت.
فأفاد سبب الحديث ( أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ) بالفاء والنصب عطفًا على المنصوب وكذا الأفعال الواقعة بعده.
قال الحافظ: أي يكسر ليسهل اشتعال النار به.
ويحتمل أنه أطلق عليه ذلك قبل أن يتصف به تجوّزًا بمعنى أنه سيتصف به، وتعقب بأنه لم يقل أحد من أهل اللغة أن معنى يحطب يكسر بل المعنى يجمع.

( ثُمَّ آمُرَ) بالمد وضم الميم ( بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ) أي آتيهم من خلفهم.
وقال الجوهري: خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه، والمعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة فأتركه وأسير إليهم أو أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم أو معنى أخالف أتخلف عن الصلاة إلى قصد المذكورين والتقييد برجال مخرج للنساء والصبيان ( فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ) بالنار عقوبة، وأحرق بشد الراء للتكثير والمبالغة في التحريق وفيه إشعار بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين والبيوت تبعًا للقاطنين بها ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة فأحرق بيوتًا على من فيها.

( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أعاد اليمين مبالغة في التأكيد ( لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا) وللتنيسي: عرقًا سمينًا بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف.
قال الخليل: العرق العظم بلا لحم فإن كان عليه لحم فهو عراق، وفي المحكم عن الأصمعي العرق بسكون الراء قطعة لحم، وقال الأزهري: واحد العراق وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم رقيق ويتمشمش العظام، وقول الأصمعي هو اللائق هنا ( أَوْ مِرْمَاتَيْنِ) بكسر الميم وقد تفتح تثنية مرماة.
قال الخليل: هي ما بين ظلفي الشاة من اللحم حكاه أو عبيد وقال: لا أدري ما وجهه، ونقل المستملي عن الفربري عن البخاري: المرماة بكسر الميم مثل منساة وميضاة ما بين ظلفتي الشاة من اللحم.
قال عياض: فالميم على هذا أصلية، وقال الأخفش: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصاب محدّد يرمونها في كوم من تراب فأيهم أثبتها في الكوم غلب، ويبعد أن هذا مراد الحديث لأجل التثنية.
وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف قال: ويؤيده ما حدّثني ثم ساق حديث أبي هريرة بلفظ: لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل، وقيل: المرماة سهم يتعلم به الرمي وهو سهم رقيق مستو غير محدد.
قال ابن المنير: ويدل على ذلك التثنية فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر منها.
وقال الزمخشري: تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه ويدفعه ذكر العَرْق معه، ووجهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين لأنهما مما يتلهى به انتهى.

ووصف العظم بالسمن والمرماتين بقوله: ( حَسَنَتَيْنِ) أي مليحتين ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما وفيه إشارة إلى ذمّ المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة ( لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) أي صلاتها فالمضاف محذوف، وفيه إشارة إلى أنه يسعى إلى الشيء الحقير في ظلمة الليل فكيف يرغب عن الصلاة، وفيه إيماء إلى أن الصلاة التي وقع التهديد بسببها هي العشاء.
ولمسلم رواية يعني العشاء، وفي رواية لأحمد التصريح بتعيين العشاء، وفي الصحيحين من رواية أبي صالح عن أبي هريرة الإيماء إلى أنها العشاء والفجر، وللسراج من هذا الوجه أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلاً فغضب فذكر الحديث، ولابن حبان يعني العشاء والغداة، وسائر الروايات عن أبي هريرة بالإبهام وما لعبد الرزاق عن أبي هريرة أنها الجمعة فضعيف لشذوذه، ويدل على وهم راويها رواية أبي داود والطبراني أنه قيل ليزيد بن الأصم الجمعة عنى أو غيرها قال: صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها، فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة.
نعم في مسلم عن ابن مسعود الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة ولا يقدح أحدهما في الآخر لحمله على أنهما واقعتان كما أشار إليه النووي والمحب الطبري.

وقد وافق ابن أمّ مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء.
أخرج أحمد وابن خزيمة والحاكم عنه أنه صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أن آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول الله لقد علمت ما بي وليس لي قائد.
زاد أحمد: وإن بيني وبين المسجد شجرًا ونخلاً ولا أقدر على قائد كل ساعة.
قال: أتسمع الإقامة قال: نعم.
قال: فاحضرها ولم يرخص له.
ولابن حبان عن جابر قال: أتسمع الأذان قال: نعم.
قال: فأتها ولو حبوًا وحمله العلماء على أنه كان لا يشق عليه المشي وحده ككثير من العميان.

واحتج بهذا وبحديث الباب على أن الجماعة فرض عين إذ لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق أو فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه، وإليه ذهب الأوزاعي وعطاء وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان.
وبالغ داود وأتباعه فجعلوها شرطًا في صحة الصلاة.
وردّ بأنّ الوجوب قد ينفك عن الشرطية، ولذا قال أحمد وغيره: إنها واجبة غير شرط، وذهب الشافعي إلى أنها فرض كفاية وعليه جمهور متقدمي أصحابه وكثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة، وأجابوا عن ظاهر حديث الباب بأنه دال على عدم الوجوب لأنه هم ولم يفعل فلو كانت فرض عين لما عفا عنهم وتركهم قاله عياض والنووي.

وضعفه ابن دقيق العيد لأنه صلى الله عليه وسلم إنما يهم بما يجوز فعله لو فعله والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أنهم انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمّهم بسببه على أنه بين سبب الترك فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرّقون الحديث.

وأجيب أيضًا: بأن الحديث دال على أن لا وجوب لأنه صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين فلو كانت فرض عين لما همّ بتركها إذا توجه وضعفه ابن بزيرة بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه وبأنه لو فعل ذلك قد يتداركها في جماعة آخرين.

وأجاب ابن بطال وغيره: بأنها لو كانت فرضًا لقال لما توعد عليها بالإحراق من تخلف عن الصلاة لم تجزه صلاته لأنه وقت البيان، وردّه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالنص وقد يكون بالدلالة فلما قال: لقد هممت إلخ... دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان.

وقال الباجي وغيره: الحديث ورد مورد الزجر وحقيقته ليست مرادة وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بعقوبة الكفار والإجماع على منع عقوبة المسلمين به، وردّ بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزًا كما دل عليه حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره، فلا يمتنع حمل التهديد على حقيقته فهذه أجوبة أربعة.

خامسها: أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسًا لا مجرّد الجماعة، وردّ بأن في رواية لمسلم لا يشهدون الصلاة أي لا يحضرون، ولأحمد لا يشهدون العشاء في الجمع أي الجماعة، وفي ابن ماجه عن أسامة مرفوعًا: لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرّقنّ بيوتهم.

سادسها: أنه ورد في الحث على خلاف فعل المنافقين والتحذير من التشبه بفعلهم لا لخصوص ترك الجماعة أشار إليه الزين بن المنير وهو قريب من جواب الباجي المتقدّم.

سابعها: أنه ورد في المنافقين فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل، وردّ باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على ترك الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم وبأنه صلى الله عليه وسلم كان معرضًا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقد قال: لا يتحدّث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه، ومنع ابن دقيق العيد هذا الردّ بأنه إنما يتم إذا كان ترك عقاب المنافقين واجبًا عليه، فإذا ثبت أنه مخير فليس في إعراضه عنهم دليل على وجوب ترك عقوبتهم.

ثامنها: أن فريضة الجماعة كانت أوّلاً لسدّ باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ حكاه عياض، ويقويه نسخ الوعيد المذكور وهو التحريق بالنار، وكذا نسخ ما تضمنه التحريق وهو جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ أحاديث فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل ومن لازمه الجواز.

تاسعها: أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات، ونصره القرطبي وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء، وبحث فيه ابن دقيق العيد باختلاف الأحاديث في الصلاة التي هدّد بسببها هل الجمعة أو العشاء أو الصبح والعشاء معًا، فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضها أرجح من بعض وإلاّ وقف الاستدلال وتقدّم ما فيه.

عاشرها: أن التهديد المذكور يمكن أن يقع في حق تارك فرض الكفاية كمشروعية مقاتلة تاركه، وتعقب بأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة وبأن المقاتلة إنما تشرع إذا تمالأ الجميع على الترك.

قال الحافظ: فالذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لحديث الصحيحين ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء والفجر، ولقوله: لو يعلم أحدهم إلخ... لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر لرواية أحمد لا يشهدون العشاء في الجمع.
وفي حديث أسامة لا يشهدون الجماعة، وأصرح منه رواية أبي داود عن أبي هريرة: ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست بهم علة؛ فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله من الكفر والاستهزاء نبه عليه القرطبي، وأيضًا فقوله في رواية المقبري: لولا ما في البيوت من النساء والذرية يدل على أنهم لم يكونوا كفارًا لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقًا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرّية في بيته، وعلى تقدير أن المراد نفاق الكفر فلا يدل على عدم الوجوب لتضمنه أن ترك الجماعة من صفات المنافق وقد نهينا عن التشبه بهم، وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها.

قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق رواه مسلم انتهى.

وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عمير بن أنس قال: حدّثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال صلى الله عليه وسلم: ما يشهدهما منافق - يعني العشاء والفجر - وهذا يقوّي ما ظهر لي أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازًا لما دل عليه مجموع الأحاديث انتهى.

والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، وتابعه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) سالم بن أبي أمية تابعي صغير ثقة ثبت ( مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) بضم العين ابن معمر التيمي القرشي ( عَنْ بُسْرِ) بضم الموحدة وإسكان المهملة ( بْنِ سَعِيدٍ) بكسر العين المدني العابد ثقة حافظ ( أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) بن الضحاك الأنصاري النجاري أحد كتّاب الوحي من الراسخين في العلم ( قَالَ: أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) لبعدها عن الرياء ولتحصل البركة في البيوت فتنزل فيها الرحمة ويخرج منها الشيطان، وعليه فيمكن أن يخرج بقوله في بيوتكم بيت غيره ولو أمن الرياء كذا في الفتح.
( إِلَّا صَلَاةَ الْمَكْتُوبَةِ) أي المفروضة، فليست في البيوت أفضل بل في المسجد أفضل لأن الجماعة تشرع لها فمحلها أولى، وظاهره يشمل كل نفل لكنه محمول على ما لا يشرع له التجميع كالتراويح والعيدين وما تشرع له الجماعة أو ما يفوت إذا رجع المصلي إلى بيته ولم يفعله وما لا يخص المسجد كالتحية.

قال الحافظ: ويحتمل أنه أراد بالصلاة ما يشرع في البيت وفي المسجد معًا فلا تدخله التحية أو أنه لم يرد بالمكتوبة المفروضة بل ما تشرع له الجماعة وفيما وجب لعارض كمنذورة احتمال.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف في جميع الموطآت على زيد وهو مرفوع عنه من وجوه صحاح ويستحيل أن يكون رأيًا لأن الفضائل لا مدخل للرأي فيها انتهى.

وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طرق عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت مرفوعًا به، وفيه قصة هي سبب الحديث.

وروى الخطيب من طريق إسماعيل بن أبان، حدثنا عبد الأعلى بن مسهر، حدثنا مالك عن أنس عن أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت قال: قال صلى الله عليه وسلم: خير صلاتكم صلاتكم في بيوتكم إلا صلاة الفريضة قال ابن حوصا: لم يتابع أحمد إسماعيل بن أبان على رفع هذا الحديث أي عن مالك، لكن لم يذكر إسماعيل بجرح لا في اللسان ولا في الميزان.

قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث دليل على أن لا جماعة إلا في الفريضة وأن أعمال البر في السر أفضل، وقال بعض الحكماء: إخفاء العلم هلكة وإخفاء العمل نجاة وقال تعالى في الصدقات: { { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } }