فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْعُمْرَةِ

رقم الحديث 775 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ.


( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام قال ابن عبد البر تفرد سمي بهذا الحديث واحتاج الناس إليه فيه وهو ثقة ثبت حجة فرواه عنه مالك والسفيانان وغيرهما حتى أن سهيل بن أبي صالح حدث به عن سمي عن أبي صالح ثم أسنده من طريقه قال الحافظ فكأن سهيلاً لم يسمعه من أبيه وتحقق بذلك تفرد سمي به فهو من غرائب الصحيح ( عن أبي صالح) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة) يحتمل كما قال الباجي وتبعه ابن التين أن إلى بمعنى مع كقوله تعالى { { من أنصاري إلى الله } } أي مع العمرة ( كفارة لما بينهما) قال ابن عبد البر من الذنوب الصغائر دون الكبائر وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم ذلك ثم بالغ في الإنكار عليه وكأنه يعني الباجي فإنه قال ما من ألفاظ العموم فتقتضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصه الدليل واستشكل بعضهم كون العمرة مع أن اجتناب الكبائر يكفر فماذا تكفره العمرة وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية وظاهر الحديث أن العمرة الأولى هي المكفرة لأنها التي وقع الخبر عنها أنها تكفر ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي المكفرة لما قبلها إلى العمرة السابقة فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر وقال الأبي الأظهر أنه خرج مخرج الحث على العمرة والإكثار منها لأنه إذا حمل على غير ذلك يشكل بما إذا اعتمر مرة واحدة إذ يلزم عليه أن لا فائدة لها لأن فائدتها وهو التكفير مشروط بفعلها ثانية إلا أن يقال لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيئات بل يكون فيها وفي ثبوت الحسنات ورفع الدرجات كما ورد في بعض الأحاديث من فعل كذا كتب له كذا كذا حسنة ومحيت عنه كذا كذا سيئة ورفعت له كذا كذا درجة فتكون فائدتها إذا لم تكرر ثبوت الحسنات ورفع الدرجات وقال شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة إذا لم تكرر كفر بعض ما وقع بعدها لا كله والله أعلم بقدر ذلك البعض ( والحج المبرور) قال ابن عبد البر قيل هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق ويكون بمال حلال وقال الباجي هو الذي أوقعه صاحبه على البر وقيل هو المقبول وعلامته أن يرجع خيرًا مما كان ولا يعاود المعاصي وقيل الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي وقال القرطبي الأقوال المذكورة في تفسيره متقاربة وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل ولأحمد والحاكم عن جابر قالوا يا رسول الله ما بر الحج قال إطعام الطعام وإفشاء السلام قال الحافظ وفي إسناده ضعف ولو صح لكان هو المتعين دون غيره وقال الأبي الأظهر أنه الذي لا معصية بعده لقوله في الحديث الآخر من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق إذ المعنى حج ثم لم يفعل شيئًا من ذلك ولهذا عطفه بالفاء المشعرة بالتعقيب وإذا فسر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد وتفسير الحديث بالحديث أولى ويكون الرجوع بلا ذنب كناية عن دخول الجنة مع السابقين ( ليس له جزاء إلا الجنة) أي لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة وروى الترمذي وغيره عن أبي مسعود مرفوعًا تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة بينهما تنفي الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة قال ابن بزيزة قال العلماء شرط الحج المبرور طيب النفقة فيه قيل لمالك رجل سرق مالاً فتزوج به أيضارع الزنا قال أي والله الذي لا إله إلا هو وسئل عمن حج بمال حرام قال حجه مجزر يأثم بسبب جنايته وبالحقيقة لا يرقى إلى العالم المطهر إلا المطهر فالقبول أخص من الإجزاء لأنه عبارة عن سقوط القضاء والقبول عبارة عن ترتب الثواب على الفعل فلذا قال يجزي وهو إثم وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في الصحيحين وغيرهما عن سمي ( مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن) مولاه ( يقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن عبد البر هكذا لجميع رواة الموطأ وهو مرسل ظاهرًا لكن صح أن أبا بكر سمعه من تلك المرأة فصار بذلك مسندًا فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن امرأة من بني أسد بن خزيمة يقال لها أم معقل هكذا سماها الزهري وهو المشهور المعروف وتابعه على ذلك جماعة وفي بعض طرقه تسميتها أم سنان الأنصارية ورجح الحافظ أنهما قصتان وقعتا للمرأتين لتغاير قصتيهما ولأن أم معقل أسدية وأم سنان أنصارية وفي أبي داود عن أم معقل أن مجيئها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد رجوعه من حجة الوداع وأنه قال لها ما منعك أن تخرجي معنا في وجهنا هذا ( فقالت إني قد كنت تجهزت للحج فاعترض لي) أي عاقني عائق منعني وعند أبي داود فأصابتنا هذه القرحة الحصبة أو الجدري فهلك فيها أو معقل وأصابني فيها مرضي هذا حتى صححت منها وكان لنا جمل هو الذي تريد أن نخرج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال فهلا خرجت عليه فإن الحج من سبيل الله وفي رواية عبد الرزاق قلت يا رسول الله إني أردت الحج فضل جملي أو قالت بعيري ويجمع بأنه ضل ثم وجد فحصلت لهم القرحة أو ضل بعد حصولها ثم وجد فذكرت له الوجهين واقتصر بعض الرواة على أحدهما ( فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمري في رمضان فإن عمرة فيه كحجة) وفي لفظ تعدل حجة واعتمر هو في شوال لأنه لم يتيسر له الاعتمار في رمضان صلى الله عليه وسلم وفيه أن أعمال البر قد تفضل بعضها بعضًا في أوقات وأن الشهور بعضها أفضل من بعض والعمل في بعضها أفضل من بعض وأن شهر رمضان مما يتضاعف فيه عمل البر وذلك دليل على عظيم فضله وأن الحج أفضل من العمرة لما فيه من زيادة المشقة والعمل ووقعت لأم طليق قصة مثل هذه أخرجها ابن السكن وابن منده في الصحابة والدولابي في الكنى من طريق طلق بن حبيب أن أبا طليق حدثه أن امرأته أم طليق قالت له وكان له جمل يغزو عليه وناقة يحج عليها أعطني جملك أحج عليه قال إن جملي حبس في سبيل الله فقالت إن الحج من سبيل الله قالت فأعطني الناقة وحج أنت على الجمل قال لا أوثرك على نفسي قالت فأعطني من نفقتك قال ما عندي فضل عني وعن عيالي ما أخرج به وما أتركه لكم قالت إنك لو أعطيتني أخلفها الله فلما أبيت عليها قالت إذا لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره مني السلام وأخبره بالذي قلت لك فأتيته وأقريته منها السلام وأخبرته بما قالت فقال صدقت أم طليق لو أعطيتها الجمل لكان في سبيل الله ولو أعطيتها الناقة لكانت وكنت في سبيل الله ولو أعطيتها من نفقتك لأخلفها الله قال فإنها تسألك ما يعدل الحج قال عمرة في رمضان وسنده جيد قال الحافظ وزعم ابن عبد البر أن أم معقل هي أم طليق لها كنيتان وفيه نظر لأن أبا معقل مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق بن حبيب وهو من صغار التابعين فدل على تغاير المرأتين ويدل عليه تغاير السياقين أيضًا وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية ما منعك من الحج قالت كان لنا ناضحان فركب أبو فلان تعني زوجها وابنه على أحدهما والآخر يسقي أرضًا لنا قال فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي وعند ابن حبان قالت أم سليم خرج أبو طلحة وابنه وتركاني والظاهر أن الابن أنس مجازًا لأنه ربيبه لأن أبا طلحة لم يكن له ابن كبير وبالجملة فهي وقائع متعددة ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال افصلوا) فرقوا ( بين حجكم وعمرتكم) بأن تحرموا بكل منهما وحده ( فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج) فكره عمر التمتع لئلا يترفه الحاج وكان من رأيه عدم الترفه للحاج بكل طريق وهذا رواه جابر أيضًا عن عمر عند مسلم ومر قريبًا ما فيه ( مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان كان إذا اعتمر ربما لم يحطط عن راحلته حتى يرجع) إلى المدينة لأنه كان ينهى عن المتعة كما مر ولأنه صلى الله عليه وسلم إنما أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا أي لقضاء حاجته فرأى عثمان أنه مستغن عن الرخصة فعجل الأوبة إلى دار مقامه لقيامه بأمور العامة والخاصة ( قال مالك العمرة سنة) مؤكدة آكد من الوتر وهذا هو المشهور في المذهب وبه قال أبو حنيفة في المشهور عنه ( ولا نعلم أحدًا من المسلمين أرخص في تركها) حمل على السنية لأن تركها لا يرخص فيه بل ثمة سنة يقاتل عليها وحمله بعضهم على الوجوب وبه قال ابن حبيب وابن الجهم وهو المشهور عن أحمد والشافعي احتجوا بقوله تعالى { { وأتموا الحج والعمرة لله } } لعطفها على الحج الواجب وبأن الإتمام إذا وجب وجب الابتداء وبأن معنى أتموا أقيموا كما أن معنى أقيموا أتموا في قوله تعالى { { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } } وتعقب الأول بأنه لا يلزم من الاقتران بالحج وجوب العمرة فهو استدلال ضعيف لضعف دلالة الاقتران والثاني بأن غير الواجب يلزم إتمامه بالدخول فيه والثالث بأنه لا يلزم من كون أقيموا بمعنى أتموا أن يكون أتموا بمعنى أقيموا لأن اللغة لا تثبت بالعكس مع أنه اختلف في معنى أتموا هل هو كمالها بعد الشروع فيها وترك قطعها وهو أظهر بدليل قوله { { فمن تمتع } } الآية أو إتمامها أن يحرم لكل واحد على انفراده في سفرين وقيل غير هذا وقرأ الشعبي والعمرة لله برفع العمرة ففصل بهذا القراءة عطف العمرة على الحج فارتفع الإشكال وصار من أدلة السنية وللترمذي من طريق الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي فقال لا وأن تعتمر خير لك قال الترمذي حسن صحيح قال الكمال بن الهمام في فتح القدير لا ينزل عن درجة الحسن وإن كان الحجاج بن أرطأة قال الدارقطني لا يحتج به فقد تابعه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر وأخرجه الطبراني في الصغير والدارقطني بطريق آخر عن جابر فيه يحيى بن أيوب وضعفه وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعًا الحج جهاد والعمرة تطوع ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود الحج فريضة والعمرة تطوع انتهى ملخصًا واستدلوا أيضًا بحديث بني الإسلام على خمس فذكر الحج دون العمرة وزيادتها في رواية الدارقطني شاذة ضعيفة وحديث ابن عدي عن جابر مرفوعًا الحج والعمرة فريضتان ضعيف لأن فيه ابن لهيعة وللحاكم عن ابن عباس الحج والعمرة فريضتان وإسناده ضعيف مع أنه موقوف والثابت عنه في البخاري تعليقًا وأخرجه الشافعي وسعيد بن منصور والله إنها لقرينته في كتاب الله { { وأتموا الحج والعمرة لله } } فبين أنه استنباط له من الآية واجتهاد وهو محل النزاع فلا حجة فيه لأن دلالة الاقتران ضعيفة عند أهل الأصول ( قال مالك ولا أرى لأحد أن يعتمر في السنة مرارًا) من إطلاق الجمع على ما فوق الواحد فتكره المرة الثانية فأكثر لأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعًا كل واحدة في سنة مع تمكنه من التكرير نعم إن شرع في المكروه لزمه إتمامها لأنه من قسم الجائز وأجاز الجمهور وكثير من المالكية التكرار بلا كراهة للحديث السابق العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما حتى بالغ ابن عبد البر فقال لا أعلم لمن كره ذلك حجة من كتاب ولا سنة يجب التسليم لمثلها واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بالحج إلا ما نقل عن الحنفية أنها تكره يوم عرفة والنحر وأيام التشريق ( قال مالك في المعتمر يقع بأهله) يجامعها ( إن عليه في ذلك الهدي وعمرة أخرى) قضاء عن التي أفسد ( يبتدئ بها) عاجلاً ( بعد إتمامه التي أفسدها) بالوقاع ( ويحرم) في عمرة القضاء ( من حيث أحرم بعمرته التي أفسد إلا أن يكون أحرم) في التي أفسد ( من مكان أبعد من ميقاته) كمصري أحرم من ذي الحليفة بعمرة فأفسدها ( فليس عليه أن يحرم) في قضائها ( إلا من ميقاته) كالجحفة ( قال مالك ومن دخل مكة بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وهو جنب أو على غير وضوء) ناسيًا ( ثم وقع بأهله) معتقدًا تمام عمرته ( ثم ذكر) ذلك ( قال يغتسل أو يتوضأ ثم يعود فيطوف بالبيت) لبطلان الطواف الأول بعدم الطهارة ( وبين الصفا والمروة) لأن صحة السعي بتقدم الطواف وقد عدم بعدم شرطه وهذا إتمام للعمرة الفاسدة بالوقاع ( ويعتمر عمرة أخرى) قضاء عنها سريعًا ( ويهدي) للفساد ( وعلى المرأة إذا أصابها زوجها وهي محرمة مثل ذلك) إذ النساء شقائق الرجال ( قال مالك فأما العمرة من التنعيم فإنه) وإن كان فيه فضل ( لا يتعين) و ( من شاء أن يخرج من الحرم) إلى أي موضع من الحل ( فإن ذلك مجزئ عنه إن شاء الله) للتبرك إذ شرط الإحرام أن يجمع فيه بين الحل والحرم ( ولكن الفضل أن يهل من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما هو أبعد من التنعيم) كالجعرانة والحديبية لإحرامه صلى الله عليه وسلم منهما بالعمرة.


رقم الحديث 776 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ تَجَهَّزْتُ لِلْحَجِّ.
فَاعْتَرَضَ لِي.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ.
فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ كَحِجَّةٍ.


( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام قال ابن عبد البر تفرد سمي بهذا الحديث واحتاج الناس إليه فيه وهو ثقة ثبت حجة فرواه عنه مالك والسفيانان وغيرهما حتى أن سهيل بن أبي صالح حدث به عن سمي عن أبي صالح ثم أسنده من طريقه قال الحافظ فكأن سهيلاً لم يسمعه من أبيه وتحقق بذلك تفرد سمي به فهو من غرائب الصحيح ( عن أبي صالح) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة) يحتمل كما قال الباجي وتبعه ابن التين أن إلى بمعنى مع كقوله تعالى { { من أنصاري إلى الله } } أي مع العمرة ( كفارة لما بينهما) قال ابن عبد البر من الذنوب الصغائر دون الكبائر وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم ذلك ثم بالغ في الإنكار عليه وكأنه يعني الباجي فإنه قال ما من ألفاظ العموم فتقتضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصه الدليل واستشكل بعضهم كون العمرة مع أن اجتناب الكبائر يكفر فماذا تكفره العمرة وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية وظاهر الحديث أن العمرة الأولى هي المكفرة لأنها التي وقع الخبر عنها أنها تكفر ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي المكفرة لما قبلها إلى العمرة السابقة فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر وقال الأبي الأظهر أنه خرج مخرج الحث على العمرة والإكثار منها لأنه إذا حمل على غير ذلك يشكل بما إذا اعتمر مرة واحدة إذ يلزم عليه أن لا فائدة لها لأن فائدتها وهو التكفير مشروط بفعلها ثانية إلا أن يقال لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيئات بل يكون فيها وفي ثبوت الحسنات ورفع الدرجات كما ورد في بعض الأحاديث من فعل كذا كتب له كذا كذا حسنة ومحيت عنه كذا كذا سيئة ورفعت له كذا كذا درجة فتكون فائدتها إذا لم تكرر ثبوت الحسنات ورفع الدرجات وقال شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة إذا لم تكرر كفر بعض ما وقع بعدها لا كله والله أعلم بقدر ذلك البعض ( والحج المبرور) قال ابن عبد البر قيل هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق ويكون بمال حلال وقال الباجي هو الذي أوقعه صاحبه على البر وقيل هو المقبول وعلامته أن يرجع خيرًا مما كان ولا يعاود المعاصي وقيل الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي وقال القرطبي الأقوال المذكورة في تفسيره متقاربة وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل ولأحمد والحاكم عن جابر قالوا يا رسول الله ما بر الحج قال إطعام الطعام وإفشاء السلام قال الحافظ وفي إسناده ضعف ولو صح لكان هو المتعين دون غيره وقال الأبي الأظهر أنه الذي لا معصية بعده لقوله في الحديث الآخر من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق إذ المعنى حج ثم لم يفعل شيئًا من ذلك ولهذا عطفه بالفاء المشعرة بالتعقيب وإذا فسر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد وتفسير الحديث بالحديث أولى ويكون الرجوع بلا ذنب كناية عن دخول الجنة مع السابقين ( ليس له جزاء إلا الجنة) أي لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة وروى الترمذي وغيره عن أبي مسعود مرفوعًا تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة بينهما تنفي الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة قال ابن بزيزة قال العلماء شرط الحج المبرور طيب النفقة فيه قيل لمالك رجل سرق مالاً فتزوج به أيضارع الزنا قال أي والله الذي لا إله إلا هو وسئل عمن حج بمال حرام قال حجه مجزر يأثم بسبب جنايته وبالحقيقة لا يرقى إلى العالم المطهر إلا المطهر فالقبول أخص من الإجزاء لأنه عبارة عن سقوط القضاء والقبول عبارة عن ترتب الثواب على الفعل فلذا قال يجزي وهو إثم وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في الصحيحين وغيرهما عن سمي ( مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن) مولاه ( يقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن عبد البر هكذا لجميع رواة الموطأ وهو مرسل ظاهرًا لكن صح أن أبا بكر سمعه من تلك المرأة فصار بذلك مسندًا فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن امرأة من بني أسد بن خزيمة يقال لها أم معقل هكذا سماها الزهري وهو المشهور المعروف وتابعه على ذلك جماعة وفي بعض طرقه تسميتها أم سنان الأنصارية ورجح الحافظ أنهما قصتان وقعتا للمرأتين لتغاير قصتيهما ولأن أم معقل أسدية وأم سنان أنصارية وفي أبي داود عن أم معقل أن مجيئها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد رجوعه من حجة الوداع وأنه قال لها ما منعك أن تخرجي معنا في وجهنا هذا ( فقالت إني قد كنت تجهزت للحج فاعترض لي) أي عاقني عائق منعني وعند أبي داود فأصابتنا هذه القرحة الحصبة أو الجدري فهلك فيها أو معقل وأصابني فيها مرضي هذا حتى صححت منها وكان لنا جمل هو الذي تريد أن نخرج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال فهلا خرجت عليه فإن الحج من سبيل الله وفي رواية عبد الرزاق قلت يا رسول الله إني أردت الحج فضل جملي أو قالت بعيري ويجمع بأنه ضل ثم وجد فحصلت لهم القرحة أو ضل بعد حصولها ثم وجد فذكرت له الوجهين واقتصر بعض الرواة على أحدهما ( فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمري في رمضان فإن عمرة فيه كحجة) وفي لفظ تعدل حجة واعتمر هو في شوال لأنه لم يتيسر له الاعتمار في رمضان صلى الله عليه وسلم وفيه أن أعمال البر قد تفضل بعضها بعضًا في أوقات وأن الشهور بعضها أفضل من بعض والعمل في بعضها أفضل من بعض وأن شهر رمضان مما يتضاعف فيه عمل البر وذلك دليل على عظيم فضله وأن الحج أفضل من العمرة لما فيه من زيادة المشقة والعمل ووقعت لأم طليق قصة مثل هذه أخرجها ابن السكن وابن منده في الصحابة والدولابي في الكنى من طريق طلق بن حبيب أن أبا طليق حدثه أن امرأته أم طليق قالت له وكان له جمل يغزو عليه وناقة يحج عليها أعطني جملك أحج عليه قال إن جملي حبس في سبيل الله فقالت إن الحج من سبيل الله قالت فأعطني الناقة وحج أنت على الجمل قال لا أوثرك على نفسي قالت فأعطني من نفقتك قال ما عندي فضل عني وعن عيالي ما أخرج به وما أتركه لكم قالت إنك لو أعطيتني أخلفها الله فلما أبيت عليها قالت إذا لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره مني السلام وأخبره بالذي قلت لك فأتيته وأقريته منها السلام وأخبرته بما قالت فقال صدقت أم طليق لو أعطيتها الجمل لكان في سبيل الله ولو أعطيتها الناقة لكانت وكنت في سبيل الله ولو أعطيتها من نفقتك لأخلفها الله قال فإنها تسألك ما يعدل الحج قال عمرة في رمضان وسنده جيد قال الحافظ وزعم ابن عبد البر أن أم معقل هي أم طليق لها كنيتان وفيه نظر لأن أبا معقل مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق بن حبيب وهو من صغار التابعين فدل على تغاير المرأتين ويدل عليه تغاير السياقين أيضًا وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية ما منعك من الحج قالت كان لنا ناضحان فركب أبو فلان تعني زوجها وابنه على أحدهما والآخر يسقي أرضًا لنا قال فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي وعند ابن حبان قالت أم سليم خرج أبو طلحة وابنه وتركاني والظاهر أن الابن أنس مجازًا لأنه ربيبه لأن أبا طلحة لم يكن له ابن كبير وبالجملة فهي وقائع متعددة ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال افصلوا) فرقوا ( بين حجكم وعمرتكم) بأن تحرموا بكل منهما وحده ( فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج) فكره عمر التمتع لئلا يترفه الحاج وكان من رأيه عدم الترفه للحاج بكل طريق وهذا رواه جابر أيضًا عن عمر عند مسلم ومر قريبًا ما فيه ( مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان كان إذا اعتمر ربما لم يحطط عن راحلته حتى يرجع) إلى المدينة لأنه كان ينهى عن المتعة كما مر ولأنه صلى الله عليه وسلم إنما أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا أي لقضاء حاجته فرأى عثمان أنه مستغن عن الرخصة فعجل الأوبة إلى دار مقامه لقيامه بأمور العامة والخاصة ( قال مالك العمرة سنة) مؤكدة آكد من الوتر وهذا هو المشهور في المذهب وبه قال أبو حنيفة في المشهور عنه ( ولا نعلم أحدًا من المسلمين أرخص في تركها) حمل على السنية لأن تركها لا يرخص فيه بل ثمة سنة يقاتل عليها وحمله بعضهم على الوجوب وبه قال ابن حبيب وابن الجهم وهو المشهور عن أحمد والشافعي احتجوا بقوله تعالى { { وأتموا الحج والعمرة لله } } لعطفها على الحج الواجب وبأن الإتمام إذا وجب وجب الابتداء وبأن معنى أتموا أقيموا كما أن معنى أقيموا أتموا في قوله تعالى { { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } } وتعقب الأول بأنه لا يلزم من الاقتران بالحج وجوب العمرة فهو استدلال ضعيف لضعف دلالة الاقتران والثاني بأن غير الواجب يلزم إتمامه بالدخول فيه والثالث بأنه لا يلزم من كون أقيموا بمعنى أتموا أن يكون أتموا بمعنى أقيموا لأن اللغة لا تثبت بالعكس مع أنه اختلف في معنى أتموا هل هو كمالها بعد الشروع فيها وترك قطعها وهو أظهر بدليل قوله { { فمن تمتع } } الآية أو إتمامها أن يحرم لكل واحد على انفراده في سفرين وقيل غير هذا وقرأ الشعبي والعمرة لله برفع العمرة ففصل بهذا القراءة عطف العمرة على الحج فارتفع الإشكال وصار من أدلة السنية وللترمذي من طريق الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي فقال لا وأن تعتمر خير لك قال الترمذي حسن صحيح قال الكمال بن الهمام في فتح القدير لا ينزل عن درجة الحسن وإن كان الحجاج بن أرطأة قال الدارقطني لا يحتج به فقد تابعه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر وأخرجه الطبراني في الصغير والدارقطني بطريق آخر عن جابر فيه يحيى بن أيوب وضعفه وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعًا الحج جهاد والعمرة تطوع ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود الحج فريضة والعمرة تطوع انتهى ملخصًا واستدلوا أيضًا بحديث بني الإسلام على خمس فذكر الحج دون العمرة وزيادتها في رواية الدارقطني شاذة ضعيفة وحديث ابن عدي عن جابر مرفوعًا الحج والعمرة فريضتان ضعيف لأن فيه ابن لهيعة وللحاكم عن ابن عباس الحج والعمرة فريضتان وإسناده ضعيف مع أنه موقوف والثابت عنه في البخاري تعليقًا وأخرجه الشافعي وسعيد بن منصور والله إنها لقرينته في كتاب الله { { وأتموا الحج والعمرة لله } } فبين أنه استنباط له من الآية واجتهاد وهو محل النزاع فلا حجة فيه لأن دلالة الاقتران ضعيفة عند أهل الأصول ( قال مالك ولا أرى لأحد أن يعتمر في السنة مرارًا) من إطلاق الجمع على ما فوق الواحد فتكره المرة الثانية فأكثر لأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعًا كل واحدة في سنة مع تمكنه من التكرير نعم إن شرع في المكروه لزمه إتمامها لأنه من قسم الجائز وأجاز الجمهور وكثير من المالكية التكرار بلا كراهة للحديث السابق العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما حتى بالغ ابن عبد البر فقال لا أعلم لمن كره ذلك حجة من كتاب ولا سنة يجب التسليم لمثلها واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بالحج إلا ما نقل عن الحنفية أنها تكره يوم عرفة والنحر وأيام التشريق ( قال مالك في المعتمر يقع بأهله) يجامعها ( إن عليه في ذلك الهدي وعمرة أخرى) قضاء عن التي أفسد ( يبتدئ بها) عاجلاً ( بعد إتمامه التي أفسدها) بالوقاع ( ويحرم) في عمرة القضاء ( من حيث أحرم بعمرته التي أفسد إلا أن يكون أحرم) في التي أفسد ( من مكان أبعد من ميقاته) كمصري أحرم من ذي الحليفة بعمرة فأفسدها ( فليس عليه أن يحرم) في قضائها ( إلا من ميقاته) كالجحفة ( قال مالك ومن دخل مكة بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وهو جنب أو على غير وضوء) ناسيًا ( ثم وقع بأهله) معتقدًا تمام عمرته ( ثم ذكر) ذلك ( قال يغتسل أو يتوضأ ثم يعود فيطوف بالبيت) لبطلان الطواف الأول بعدم الطهارة ( وبين الصفا والمروة) لأن صحة السعي بتقدم الطواف وقد عدم بعدم شرطه وهذا إتمام للعمرة الفاسدة بالوقاع ( ويعتمر عمرة أخرى) قضاء عنها سريعًا ( ويهدي) للفساد ( وعلى المرأة إذا أصابها زوجها وهي محرمة مثل ذلك) إذ النساء شقائق الرجال ( قال مالك فأما العمرة من التنعيم فإنه) وإن كان فيه فضل ( لا يتعين) و ( من شاء أن يخرج من الحرم) إلى أي موضع من الحل ( فإن ذلك مجزئ عنه إن شاء الله) للتبرك إذ شرط الإحرام أن يجمع فيه بين الحل والحرم ( ولكن الفضل أن يهل من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما هو أبعد من التنعيم) كالجعرانة والحديبية لإحرامه صلى الله عليه وسلم منهما بالعمرة.


رقم الحديث 777 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: افْصِلُوا بَيْنَ حَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَتَمُّ لِحَجِّ أَحَدِكُمْ، وَأَتَمُّ لِعُمْرَتِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ.


( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام قال ابن عبد البر تفرد سمي بهذا الحديث واحتاج الناس إليه فيه وهو ثقة ثبت حجة فرواه عنه مالك والسفيانان وغيرهما حتى أن سهيل بن أبي صالح حدث به عن سمي عن أبي صالح ثم أسنده من طريقه قال الحافظ فكأن سهيلاً لم يسمعه من أبيه وتحقق بذلك تفرد سمي به فهو من غرائب الصحيح ( عن أبي صالح) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة) يحتمل كما قال الباجي وتبعه ابن التين أن إلى بمعنى مع كقوله تعالى { { من أنصاري إلى الله } } أي مع العمرة ( كفارة لما بينهما) قال ابن عبد البر من الذنوب الصغائر دون الكبائر وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم ذلك ثم بالغ في الإنكار عليه وكأنه يعني الباجي فإنه قال ما من ألفاظ العموم فتقتضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصه الدليل واستشكل بعضهم كون العمرة مع أن اجتناب الكبائر يكفر فماذا تكفره العمرة وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية وظاهر الحديث أن العمرة الأولى هي المكفرة لأنها التي وقع الخبر عنها أنها تكفر ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي المكفرة لما قبلها إلى العمرة السابقة فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر وقال الأبي الأظهر أنه خرج مخرج الحث على العمرة والإكثار منها لأنه إذا حمل على غير ذلك يشكل بما إذا اعتمر مرة واحدة إذ يلزم عليه أن لا فائدة لها لأن فائدتها وهو التكفير مشروط بفعلها ثانية إلا أن يقال لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيئات بل يكون فيها وفي ثبوت الحسنات ورفع الدرجات كما ورد في بعض الأحاديث من فعل كذا كتب له كذا كذا حسنة ومحيت عنه كذا كذا سيئة ورفعت له كذا كذا درجة فتكون فائدتها إذا لم تكرر ثبوت الحسنات ورفع الدرجات وقال شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة إذا لم تكرر كفر بعض ما وقع بعدها لا كله والله أعلم بقدر ذلك البعض ( والحج المبرور) قال ابن عبد البر قيل هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق ويكون بمال حلال وقال الباجي هو الذي أوقعه صاحبه على البر وقيل هو المقبول وعلامته أن يرجع خيرًا مما كان ولا يعاود المعاصي وقيل الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي وقال القرطبي الأقوال المذكورة في تفسيره متقاربة وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل ولأحمد والحاكم عن جابر قالوا يا رسول الله ما بر الحج قال إطعام الطعام وإفشاء السلام قال الحافظ وفي إسناده ضعف ولو صح لكان هو المتعين دون غيره وقال الأبي الأظهر أنه الذي لا معصية بعده لقوله في الحديث الآخر من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق إذ المعنى حج ثم لم يفعل شيئًا من ذلك ولهذا عطفه بالفاء المشعرة بالتعقيب وإذا فسر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد وتفسير الحديث بالحديث أولى ويكون الرجوع بلا ذنب كناية عن دخول الجنة مع السابقين ( ليس له جزاء إلا الجنة) أي لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة وروى الترمذي وغيره عن أبي مسعود مرفوعًا تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة بينهما تنفي الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة قال ابن بزيزة قال العلماء شرط الحج المبرور طيب النفقة فيه قيل لمالك رجل سرق مالاً فتزوج به أيضارع الزنا قال أي والله الذي لا إله إلا هو وسئل عمن حج بمال حرام قال حجه مجزر يأثم بسبب جنايته وبالحقيقة لا يرقى إلى العالم المطهر إلا المطهر فالقبول أخص من الإجزاء لأنه عبارة عن سقوط القضاء والقبول عبارة عن ترتب الثواب على الفعل فلذا قال يجزي وهو إثم وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في الصحيحين وغيرهما عن سمي ( مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن) مولاه ( يقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن عبد البر هكذا لجميع رواة الموطأ وهو مرسل ظاهرًا لكن صح أن أبا بكر سمعه من تلك المرأة فصار بذلك مسندًا فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن امرأة من بني أسد بن خزيمة يقال لها أم معقل هكذا سماها الزهري وهو المشهور المعروف وتابعه على ذلك جماعة وفي بعض طرقه تسميتها أم سنان الأنصارية ورجح الحافظ أنهما قصتان وقعتا للمرأتين لتغاير قصتيهما ولأن أم معقل أسدية وأم سنان أنصارية وفي أبي داود عن أم معقل أن مجيئها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد رجوعه من حجة الوداع وأنه قال لها ما منعك أن تخرجي معنا في وجهنا هذا ( فقالت إني قد كنت تجهزت للحج فاعترض لي) أي عاقني عائق منعني وعند أبي داود فأصابتنا هذه القرحة الحصبة أو الجدري فهلك فيها أو معقل وأصابني فيها مرضي هذا حتى صححت منها وكان لنا جمل هو الذي تريد أن نخرج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال فهلا خرجت عليه فإن الحج من سبيل الله وفي رواية عبد الرزاق قلت يا رسول الله إني أردت الحج فضل جملي أو قالت بعيري ويجمع بأنه ضل ثم وجد فحصلت لهم القرحة أو ضل بعد حصولها ثم وجد فذكرت له الوجهين واقتصر بعض الرواة على أحدهما ( فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمري في رمضان فإن عمرة فيه كحجة) وفي لفظ تعدل حجة واعتمر هو في شوال لأنه لم يتيسر له الاعتمار في رمضان صلى الله عليه وسلم وفيه أن أعمال البر قد تفضل بعضها بعضًا في أوقات وأن الشهور بعضها أفضل من بعض والعمل في بعضها أفضل من بعض وأن شهر رمضان مما يتضاعف فيه عمل البر وذلك دليل على عظيم فضله وأن الحج أفضل من العمرة لما فيه من زيادة المشقة والعمل ووقعت لأم طليق قصة مثل هذه أخرجها ابن السكن وابن منده في الصحابة والدولابي في الكنى من طريق طلق بن حبيب أن أبا طليق حدثه أن امرأته أم طليق قالت له وكان له جمل يغزو عليه وناقة يحج عليها أعطني جملك أحج عليه قال إن جملي حبس في سبيل الله فقالت إن الحج من سبيل الله قالت فأعطني الناقة وحج أنت على الجمل قال لا أوثرك على نفسي قالت فأعطني من نفقتك قال ما عندي فضل عني وعن عيالي ما أخرج به وما أتركه لكم قالت إنك لو أعطيتني أخلفها الله فلما أبيت عليها قالت إذا لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره مني السلام وأخبره بالذي قلت لك فأتيته وأقريته منها السلام وأخبرته بما قالت فقال صدقت أم طليق لو أعطيتها الجمل لكان في سبيل الله ولو أعطيتها الناقة لكانت وكنت في سبيل الله ولو أعطيتها من نفقتك لأخلفها الله قال فإنها تسألك ما يعدل الحج قال عمرة في رمضان وسنده جيد قال الحافظ وزعم ابن عبد البر أن أم معقل هي أم طليق لها كنيتان وفيه نظر لأن أبا معقل مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق بن حبيب وهو من صغار التابعين فدل على تغاير المرأتين ويدل عليه تغاير السياقين أيضًا وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية ما منعك من الحج قالت كان لنا ناضحان فركب أبو فلان تعني زوجها وابنه على أحدهما والآخر يسقي أرضًا لنا قال فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي وعند ابن حبان قالت أم سليم خرج أبو طلحة وابنه وتركاني والظاهر أن الابن أنس مجازًا لأنه ربيبه لأن أبا طلحة لم يكن له ابن كبير وبالجملة فهي وقائع متعددة ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال افصلوا) فرقوا ( بين حجكم وعمرتكم) بأن تحرموا بكل منهما وحده ( فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج) فكره عمر التمتع لئلا يترفه الحاج وكان من رأيه عدم الترفه للحاج بكل طريق وهذا رواه جابر أيضًا عن عمر عند مسلم ومر قريبًا ما فيه ( مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان كان إذا اعتمر ربما لم يحطط عن راحلته حتى يرجع) إلى المدينة لأنه كان ينهى عن المتعة كما مر ولأنه صلى الله عليه وسلم إنما أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا أي لقضاء حاجته فرأى عثمان أنه مستغن عن الرخصة فعجل الأوبة إلى دار مقامه لقيامه بأمور العامة والخاصة ( قال مالك العمرة سنة) مؤكدة آكد من الوتر وهذا هو المشهور في المذهب وبه قال أبو حنيفة في المشهور عنه ( ولا نعلم أحدًا من المسلمين أرخص في تركها) حمل على السنية لأن تركها لا يرخص فيه بل ثمة سنة يقاتل عليها وحمله بعضهم على الوجوب وبه قال ابن حبيب وابن الجهم وهو المشهور عن أحمد والشافعي احتجوا بقوله تعالى { { وأتموا الحج والعمرة لله } } لعطفها على الحج الواجب وبأن الإتمام إذا وجب وجب الابتداء وبأن معنى أتموا أقيموا كما أن معنى أقيموا أتموا في قوله تعالى { { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } } وتعقب الأول بأنه لا يلزم من الاقتران بالحج وجوب العمرة فهو استدلال ضعيف لضعف دلالة الاقتران والثاني بأن غير الواجب يلزم إتمامه بالدخول فيه والثالث بأنه لا يلزم من كون أقيموا بمعنى أتموا أن يكون أتموا بمعنى أقيموا لأن اللغة لا تثبت بالعكس مع أنه اختلف في معنى أتموا هل هو كمالها بعد الشروع فيها وترك قطعها وهو أظهر بدليل قوله { { فمن تمتع } } الآية أو إتمامها أن يحرم لكل واحد على انفراده في سفرين وقيل غير هذا وقرأ الشعبي والعمرة لله برفع العمرة ففصل بهذا القراءة عطف العمرة على الحج فارتفع الإشكال وصار من أدلة السنية وللترمذي من طريق الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي فقال لا وأن تعتمر خير لك قال الترمذي حسن صحيح قال الكمال بن الهمام في فتح القدير لا ينزل عن درجة الحسن وإن كان الحجاج بن أرطأة قال الدارقطني لا يحتج به فقد تابعه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر وأخرجه الطبراني في الصغير والدارقطني بطريق آخر عن جابر فيه يحيى بن أيوب وضعفه وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعًا الحج جهاد والعمرة تطوع ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود الحج فريضة والعمرة تطوع انتهى ملخصًا واستدلوا أيضًا بحديث بني الإسلام على خمس فذكر الحج دون العمرة وزيادتها في رواية الدارقطني شاذة ضعيفة وحديث ابن عدي عن جابر مرفوعًا الحج والعمرة فريضتان ضعيف لأن فيه ابن لهيعة وللحاكم عن ابن عباس الحج والعمرة فريضتان وإسناده ضعيف مع أنه موقوف والثابت عنه في البخاري تعليقًا وأخرجه الشافعي وسعيد بن منصور والله إنها لقرينته في كتاب الله { { وأتموا الحج والعمرة لله } } فبين أنه استنباط له من الآية واجتهاد وهو محل النزاع فلا حجة فيه لأن دلالة الاقتران ضعيفة عند أهل الأصول ( قال مالك ولا أرى لأحد أن يعتمر في السنة مرارًا) من إطلاق الجمع على ما فوق الواحد فتكره المرة الثانية فأكثر لأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعًا كل واحدة في سنة مع تمكنه من التكرير نعم إن شرع في المكروه لزمه إتمامها لأنه من قسم الجائز وأجاز الجمهور وكثير من المالكية التكرار بلا كراهة للحديث السابق العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما حتى بالغ ابن عبد البر فقال لا أعلم لمن كره ذلك حجة من كتاب ولا سنة يجب التسليم لمثلها واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بالحج إلا ما نقل عن الحنفية أنها تكره يوم عرفة والنحر وأيام التشريق ( قال مالك في المعتمر يقع بأهله) يجامعها ( إن عليه في ذلك الهدي وعمرة أخرى) قضاء عن التي أفسد ( يبتدئ بها) عاجلاً ( بعد إتمامه التي أفسدها) بالوقاع ( ويحرم) في عمرة القضاء ( من حيث أحرم بعمرته التي أفسد إلا أن يكون أحرم) في التي أفسد ( من مكان أبعد من ميقاته) كمصري أحرم من ذي الحليفة بعمرة فأفسدها ( فليس عليه أن يحرم) في قضائها ( إلا من ميقاته) كالجحفة ( قال مالك ومن دخل مكة بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وهو جنب أو على غير وضوء) ناسيًا ( ثم وقع بأهله) معتقدًا تمام عمرته ( ثم ذكر) ذلك ( قال يغتسل أو يتوضأ ثم يعود فيطوف بالبيت) لبطلان الطواف الأول بعدم الطهارة ( وبين الصفا والمروة) لأن صحة السعي بتقدم الطواف وقد عدم بعدم شرطه وهذا إتمام للعمرة الفاسدة بالوقاع ( ويعتمر عمرة أخرى) قضاء عنها سريعًا ( ويهدي) للفساد ( وعلى المرأة إذا أصابها زوجها وهي محرمة مثل ذلك) إذ النساء شقائق الرجال ( قال مالك فأما العمرة من التنعيم فإنه) وإن كان فيه فضل ( لا يتعين) و ( من شاء أن يخرج من الحرم) إلى أي موضع من الحل ( فإن ذلك مجزئ عنه إن شاء الله) للتبرك إذ شرط الإحرام أن يجمع فيه بين الحل والحرم ( ولكن الفضل أن يهل من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما هو أبعد من التنعيم) كالجعرانة والحديبية لإحرامه صلى الله عليه وسلم منهما بالعمرة.


رقم الحديث 778 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ إِذَا اعْتَمَرَ رُبَّمَا لَمْ يَحْطُطْ عَنْ رَاحِلَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ قَالَ مَالِكٌ: الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ.
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْخَصَ فِي تَرْكِهَا قَالَ مَالِكٌ: وَلَا أَرَى لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا قَالَ مَالِكٌ: فِي الْمُعْتَمِرِ يَقَعُ بِأَهْلِهِ: إِنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْهَدْيَ.
وَعُمْرَةً أُخْرَى يَبْتَدِئُ بِهَا بَعْدَ إِتْمَامِهِ الَّتِي أَفْسَدَهَا.
وَيُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ بِعُمْرَتِهِ الَّتِي أَفْسَدَهَا.
إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَانٍ أَبْعَدَ مِنْ مِيقَاتِهِ.
فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ إِلَّا مِنْ مِيقَاتِهِ قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ.
ثُمَّ وَقَعَ بِأَهْلِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ قَالَ: يَغْتَسِلُ أَوْ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَعُودُ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَعْتَمِرُ عُمْرَةً أُخْرَى، وَيُهْدِي.
وَعَلَى الْمَرْأَةِ، إِذَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ.
مِثْلُ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الْعُمْرَةُ مِنَ التَّنْعِيمِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ يُحْرِمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَلَكِنِ الْفَضْلُ أَنْ يُهِلَّ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ التَّنْعِيمِ.


( مالك عن سمي) بضم السين وفتح الميم ( مولى أبي بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام قال ابن عبد البر تفرد سمي بهذا الحديث واحتاج الناس إليه فيه وهو ثقة ثبت حجة فرواه عنه مالك والسفيانان وغيرهما حتى أن سهيل بن أبي صالح حدث به عن سمي عن أبي صالح ثم أسنده من طريقه قال الحافظ فكأن سهيلاً لم يسمعه من أبيه وتحقق بذلك تفرد سمي به فهو من غرائب الصحيح ( عن أبي صالح) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة) يحتمل كما قال الباجي وتبعه ابن التين أن إلى بمعنى مع كقوله تعالى { { من أنصاري إلى الله } } أي مع العمرة ( كفارة لما بينهما) قال ابن عبد البر من الذنوب الصغائر دون الكبائر وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم ذلك ثم بالغ في الإنكار عليه وكأنه يعني الباجي فإنه قال ما من ألفاظ العموم فتقتضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصه الدليل واستشكل بعضهم كون العمرة مع أن اجتناب الكبائر يكفر فماذا تكفره العمرة وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية وظاهر الحديث أن العمرة الأولى هي المكفرة لأنها التي وقع الخبر عنها أنها تكفر ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي المكفرة لما قبلها إلى العمرة السابقة فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر وقال الأبي الأظهر أنه خرج مخرج الحث على العمرة والإكثار منها لأنه إذا حمل على غير ذلك يشكل بما إذا اعتمر مرة واحدة إذ يلزم عليه أن لا فائدة لها لأن فائدتها وهو التكفير مشروط بفعلها ثانية إلا أن يقال لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيئات بل يكون فيها وفي ثبوت الحسنات ورفع الدرجات كما ورد في بعض الأحاديث من فعل كذا كتب له كذا كذا حسنة ومحيت عنه كذا كذا سيئة ورفعت له كذا كذا درجة فتكون فائدتها إذا لم تكرر ثبوت الحسنات ورفع الدرجات وقال شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة إذا لم تكرر كفر بعض ما وقع بعدها لا كله والله أعلم بقدر ذلك البعض ( والحج المبرور) قال ابن عبد البر قيل هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق ويكون بمال حلال وقال الباجي هو الذي أوقعه صاحبه على البر وقيل هو المقبول وعلامته أن يرجع خيرًا مما كان ولا يعاود المعاصي وقيل الذي لا يخالطه شيء من الإثم ورجحه النووي وقال القرطبي الأقوال المذكورة في تفسيره متقاربة وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل ولأحمد والحاكم عن جابر قالوا يا رسول الله ما بر الحج قال إطعام الطعام وإفشاء السلام قال الحافظ وفي إسناده ضعف ولو صح لكان هو المتعين دون غيره وقال الأبي الأظهر أنه الذي لا معصية بعده لقوله في الحديث الآخر من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق إذ المعنى حج ثم لم يفعل شيئًا من ذلك ولهذا عطفه بالفاء المشعرة بالتعقيب وإذا فسر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد وتفسير الحديث بالحديث أولى ويكون الرجوع بلا ذنب كناية عن دخول الجنة مع السابقين ( ليس له جزاء إلا الجنة) أي لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة وروى الترمذي وغيره عن أبي مسعود مرفوعًا تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة بينهما تنفي الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة قال ابن بزيزة قال العلماء شرط الحج المبرور طيب النفقة فيه قيل لمالك رجل سرق مالاً فتزوج به أيضارع الزنا قال أي والله الذي لا إله إلا هو وسئل عمن حج بمال حرام قال حجه مجزر يأثم بسبب جنايته وبالحقيقة لا يرقى إلى العالم المطهر إلا المطهر فالقبول أخص من الإجزاء لأنه عبارة عن سقوط القضاء والقبول عبارة عن ترتب الثواب على الفعل فلذا قال يجزي وهو إثم وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في الصحيحين وغيرهما عن سمي ( مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن) مولاه ( يقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن عبد البر هكذا لجميع رواة الموطأ وهو مرسل ظاهرًا لكن صح أن أبا بكر سمعه من تلك المرأة فصار بذلك مسندًا فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن امرأة من بني أسد بن خزيمة يقال لها أم معقل هكذا سماها الزهري وهو المشهور المعروف وتابعه على ذلك جماعة وفي بعض طرقه تسميتها أم سنان الأنصارية ورجح الحافظ أنهما قصتان وقعتا للمرأتين لتغاير قصتيهما ولأن أم معقل أسدية وأم سنان أنصارية وفي أبي داود عن أم معقل أن مجيئها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد رجوعه من حجة الوداع وأنه قال لها ما منعك أن تخرجي معنا في وجهنا هذا ( فقالت إني قد كنت تجهزت للحج فاعترض لي) أي عاقني عائق منعني وعند أبي داود فأصابتنا هذه القرحة الحصبة أو الجدري فهلك فيها أو معقل وأصابني فيها مرضي هذا حتى صححت منها وكان لنا جمل هو الذي تريد أن نخرج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال فهلا خرجت عليه فإن الحج من سبيل الله وفي رواية عبد الرزاق قلت يا رسول الله إني أردت الحج فضل جملي أو قالت بعيري ويجمع بأنه ضل ثم وجد فحصلت لهم القرحة أو ضل بعد حصولها ثم وجد فذكرت له الوجهين واقتصر بعض الرواة على أحدهما ( فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمري في رمضان فإن عمرة فيه كحجة) وفي لفظ تعدل حجة واعتمر هو في شوال لأنه لم يتيسر له الاعتمار في رمضان صلى الله عليه وسلم وفيه أن أعمال البر قد تفضل بعضها بعضًا في أوقات وأن الشهور بعضها أفضل من بعض والعمل في بعضها أفضل من بعض وأن شهر رمضان مما يتضاعف فيه عمل البر وذلك دليل على عظيم فضله وأن الحج أفضل من العمرة لما فيه من زيادة المشقة والعمل ووقعت لأم طليق قصة مثل هذه أخرجها ابن السكن وابن منده في الصحابة والدولابي في الكنى من طريق طلق بن حبيب أن أبا طليق حدثه أن امرأته أم طليق قالت له وكان له جمل يغزو عليه وناقة يحج عليها أعطني جملك أحج عليه قال إن جملي حبس في سبيل الله فقالت إن الحج من سبيل الله قالت فأعطني الناقة وحج أنت على الجمل قال لا أوثرك على نفسي قالت فأعطني من نفقتك قال ما عندي فضل عني وعن عيالي ما أخرج به وما أتركه لكم قالت إنك لو أعطيتني أخلفها الله فلما أبيت عليها قالت إذا لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره مني السلام وأخبره بالذي قلت لك فأتيته وأقريته منها السلام وأخبرته بما قالت فقال صدقت أم طليق لو أعطيتها الجمل لكان في سبيل الله ولو أعطيتها الناقة لكانت وكنت في سبيل الله ولو أعطيتها من نفقتك لأخلفها الله قال فإنها تسألك ما يعدل الحج قال عمرة في رمضان وسنده جيد قال الحافظ وزعم ابن عبد البر أن أم معقل هي أم طليق لها كنيتان وفيه نظر لأن أبا معقل مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق بن حبيب وهو من صغار التابعين فدل على تغاير المرأتين ويدل عليه تغاير السياقين أيضًا وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية ما منعك من الحج قالت كان لنا ناضحان فركب أبو فلان تعني زوجها وابنه على أحدهما والآخر يسقي أرضًا لنا قال فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي وعند ابن حبان قالت أم سليم خرج أبو طلحة وابنه وتركاني والظاهر أن الابن أنس مجازًا لأنه ربيبه لأن أبا طلحة لم يكن له ابن كبير وبالجملة فهي وقائع متعددة ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال افصلوا) فرقوا ( بين حجكم وعمرتكم) بأن تحرموا بكل منهما وحده ( فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج) فكره عمر التمتع لئلا يترفه الحاج وكان من رأيه عدم الترفه للحاج بكل طريق وهذا رواه جابر أيضًا عن عمر عند مسلم ومر قريبًا ما فيه ( مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان كان إذا اعتمر ربما لم يحطط عن راحلته حتى يرجع) إلى المدينة لأنه كان ينهى عن المتعة كما مر ولأنه صلى الله عليه وسلم إنما أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا أي لقضاء حاجته فرأى عثمان أنه مستغن عن الرخصة فعجل الأوبة إلى دار مقامه لقيامه بأمور العامة والخاصة ( قال مالك العمرة سنة) مؤكدة آكد من الوتر وهذا هو المشهور في المذهب وبه قال أبو حنيفة في المشهور عنه ( ولا نعلم أحدًا من المسلمين أرخص في تركها) حمل على السنية لأن تركها لا يرخص فيه بل ثمة سنة يقاتل عليها وحمله بعضهم على الوجوب وبه قال ابن حبيب وابن الجهم وهو المشهور عن أحمد والشافعي احتجوا بقوله تعالى { { وأتموا الحج والعمرة لله } } لعطفها على الحج الواجب وبأن الإتمام إذا وجب وجب الابتداء وبأن معنى أتموا أقيموا كما أن معنى أقيموا أتموا في قوله تعالى { { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } } وتعقب الأول بأنه لا يلزم من الاقتران بالحج وجوب العمرة فهو استدلال ضعيف لضعف دلالة الاقتران والثاني بأن غير الواجب يلزم إتمامه بالدخول فيه والثالث بأنه لا يلزم من كون أقيموا بمعنى أتموا أن يكون أتموا بمعنى أقيموا لأن اللغة لا تثبت بالعكس مع أنه اختلف في معنى أتموا هل هو كمالها بعد الشروع فيها وترك قطعها وهو أظهر بدليل قوله { { فمن تمتع } } الآية أو إتمامها أن يحرم لكل واحد على انفراده في سفرين وقيل غير هذا وقرأ الشعبي والعمرة لله برفع العمرة ففصل بهذا القراءة عطف العمرة على الحج فارتفع الإشكال وصار من أدلة السنية وللترمذي من طريق الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي فقال لا وأن تعتمر خير لك قال الترمذي حسن صحيح قال الكمال بن الهمام في فتح القدير لا ينزل عن درجة الحسن وإن كان الحجاج بن أرطأة قال الدارقطني لا يحتج به فقد تابعه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر وأخرجه الطبراني في الصغير والدارقطني بطريق آخر عن جابر فيه يحيى بن أيوب وضعفه وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعًا الحج جهاد والعمرة تطوع ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود الحج فريضة والعمرة تطوع انتهى ملخصًا واستدلوا أيضًا بحديث بني الإسلام على خمس فذكر الحج دون العمرة وزيادتها في رواية الدارقطني شاذة ضعيفة وحديث ابن عدي عن جابر مرفوعًا الحج والعمرة فريضتان ضعيف لأن فيه ابن لهيعة وللحاكم عن ابن عباس الحج والعمرة فريضتان وإسناده ضعيف مع أنه موقوف والثابت عنه في البخاري تعليقًا وأخرجه الشافعي وسعيد بن منصور والله إنها لقرينته في كتاب الله { { وأتموا الحج والعمرة لله } } فبين أنه استنباط له من الآية واجتهاد وهو محل النزاع فلا حجة فيه لأن دلالة الاقتران ضعيفة عند أهل الأصول ( قال مالك ولا أرى لأحد أن يعتمر في السنة مرارًا) من إطلاق الجمع على ما فوق الواحد فتكره المرة الثانية فأكثر لأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعًا كل واحدة في سنة مع تمكنه من التكرير نعم إن شرع في المكروه لزمه إتمامها لأنه من قسم الجائز وأجاز الجمهور وكثير من المالكية التكرار بلا كراهة للحديث السابق العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما حتى بالغ ابن عبد البر فقال لا أعلم لمن كره ذلك حجة من كتاب ولا سنة يجب التسليم لمثلها واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بالحج إلا ما نقل عن الحنفية أنها تكره يوم عرفة والنحر وأيام التشريق ( قال مالك في المعتمر يقع بأهله) يجامعها ( إن عليه في ذلك الهدي وعمرة أخرى) قضاء عن التي أفسد ( يبتدئ بها) عاجلاً ( بعد إتمامه التي أفسدها) بالوقاع ( ويحرم) في عمرة القضاء ( من حيث أحرم بعمرته التي أفسد إلا أن يكون أحرم) في التي أفسد ( من مكان أبعد من ميقاته) كمصري أحرم من ذي الحليفة بعمرة فأفسدها ( فليس عليه أن يحرم) في قضائها ( إلا من ميقاته) كالجحفة ( قال مالك ومن دخل مكة بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وهو جنب أو على غير وضوء) ناسيًا ( ثم وقع بأهله) معتقدًا تمام عمرته ( ثم ذكر) ذلك ( قال يغتسل أو يتوضأ ثم يعود فيطوف بالبيت) لبطلان الطواف الأول بعدم الطهارة ( وبين الصفا والمروة) لأن صحة السعي بتقدم الطواف وقد عدم بعدم شرطه وهذا إتمام للعمرة الفاسدة بالوقاع ( ويعتمر عمرة أخرى) قضاء عنها سريعًا ( ويهدي) للفساد ( وعلى المرأة إذا أصابها زوجها وهي محرمة مثل ذلك) إذ النساء شقائق الرجال ( قال مالك فأما العمرة من التنعيم فإنه) وإن كان فيه فضل ( لا يتعين) و ( من شاء أن يخرج من الحرم) إلى أي موضع من الحل ( فإن ذلك مجزئ عنه إن شاء الله) للتبرك إذ شرط الإحرام أن يجمع فيه بين الحل والحرم ( ولكن الفضل أن يهل من الميقات الذي وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما هو أبعد من التنعيم) كالجعرانة والحديبية لإحرامه صلى الله عليه وسلم منهما بالعمرة.