فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ جَامِعِ الْأَيْمَانِ

رقم الحديث 1033 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ، وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ.


( جامع الأيمان)

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) اتفقت الرواة على أنه من مسند ابن عمر وحكى يعقوب بن شيبة أن عبد الله العمري المكبر الضعيف رواه عن نافع فقال عن ابن عمر عن عمر ( أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب) راكبي الإبل عشرة فصاعدًا وفي مسند يعقوب بن شيبة في غزاة ( وهو يحلف بأبيه) وفي رواية عبد الله بن دينار عند مسلم وكانت قريش تحلف بآبائها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد القعنبي ألا ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) لأن الحلف بشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عكرمة قال قال عمر حدّثت قومًا حديثًا فقلت: لا وأبي فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم.

قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوى بشواهد وأما قوله صلى الله عليه وسلم أفلح وأبيه إن صدق فقال ابن عبد البر إن هذه اللفظة منكرة غير محفوظة يردها الآثار الصحاح، وقيل إنها مصحفة من قوله: والله وهو محتمل ولكن مثل هذا لا يثبت بالاحتمال لا سيما وقد ثبت ذلك من لفظ الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال: وأبيك ما ليلك بليل سارق أخرجه الموطأ وغيره وفي مسلم مرفوعًا أن رجلاً سأله أي الصدقة أفضل فقال وأبيك لأنبئنك أو لأحدثنك.
وأحسن الأجوبة ما قاله البيهقي وارتضاه النووي وغيره إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف أو أن في الكلام حذفًا أي أفلح ورب أبيه قاله البيهقي أيضًا انتهى ومر لهذا مزيد في الصلاة وجملة ينهاكم في محل رفع خبر أن، وأن مصدرية في محل نصب عند الخليل والكسائي، أو جر بتقدير حرف الجر أي ينهاكم عن أن تحلفوا عند سيبويه، وحكم غير الآباء من سائر الخلق كالآباء في النهي وفي الترمذي وقال حسن والحاكم وقال صحيح عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول لا والكعبة فقال: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك والتعبير بذلك مبالغة في الزجر والتغليظ وهل النهي للتحريم أو التنزيه قولان شهرًا معًا عند المالكية والمشهور عند الشافعية أنه للتنزيه وعند الحنابلة للتحريم وبه قال الظاهرية.

وقال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه فإنه قال في موضع آخر أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها، وإنما خص الحديث بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو لكونه غالب حلفهم لقوله في الرواية الأخرى وكانت قريش تحلف بآبائها ويدل على التعميم قوله ( فمن كان حالفًا) أي مريدًا للحلف ( فليحلف بالله) لا بغيره من الآباء وغيرهم ( أو ليصمت) بضم الميم كما ضبطه غير واحد وكأنه الرواية المشهورة وإلا فقد قال الطوفي سمعناه بكسرها وهو القياس، لأن قياس فعل بفتح العين يفعل بكسرها كضرب يضرب ويفعل بضم العين فيه دخيل كما في خصائص ابن جني انتهى أي لا يحلف لا أنه يلزمه الصمت إذا لم يحلف بالله فهو نظير قوله تعالى { { سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } } أي أم لم تدعوهم والتخيير في حق من وجبت عليه اليمين فيحلف ليبرأ أو يترك ويغرم وظاهره أن اليمين بالله مباحة لأن أقل مراتب الأمر الإباحة وإليه ذهب الأكثر وهو الصحيح نقلاً لأنه صلى الله عليه وسلم حلف كثيرًا وأمره الله به قل: إي وربي إنه لحق، ونظرًا لأنه تعظيم لله تعالى ومن شرطية في موضع رفع بالابتداء وكان واسمها وخبرها في محل الخبر وظاهره تخصيص الحلف بالله خاصة، لكن اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية فكأن المراد بقوله بالله الذات لا خصوص لفظ الله فمن حلف بغيره لم تنعقد يمينه كان المحلوف به يستحق التعظيم كالأنبياء والملائكة والكعبة أولا كالآحاد أو يستحق التحقير كالشياطين والأصنام، وليستغفر الله لإقدامه على ما نهي عنه، ولا كفارة.
نعم استثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ينعقد به اليمين وتجب الكفارة بالحنث به لأنه صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به ولا حجة في ذلك إذ لا يلزم منه انعقاد اليمين به بل ولا جواز الحلف به، ولا سيما مع صحة هذا النهي الصريح عنه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه كالليل والنهار ليعجب بها المخلوقين، ويعرّفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها أما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق كما قيل.

ويقبح من سواك الشيء عندي
وتفعله فيحسن منك ذا كا

وزاد البخاري ومسلم من طريق سالم عن أبيه قال عمر: فوالله ما حلفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاكرًا ولا آثرًا بمد الهمزة وكسر المثلثة أي حاكيًا عن غيري أي ما حلفت بأبي عامدًا ولا حاكيًا عن غيري، واستشكل بأن الحاكي لا يسمى حالفًا وأجيب بأن العامل محذوف أي ولا ذكرتها آثرًا عن غيري أو ضمن حلفت معنى تكلمت أو معناه يرجع إلى التفاخر بالآباء فكأنه قال: ما حلفت بآبائي ذاكرًا لمآثرهم.
وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به ورواه مسلم وغيره.

( مالك أنه بلغه) معلوم أن بلاغه صحيح، ولعل هذا بلغه من شيخه موسى بن عقبة، فقد رواه البخاري في الأيمان من طريق الثوري وفي التوحيد من طريق ابن المبارك وابن عبد البر من طريق سليمان بن بلال الثلاثة عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول) ولفظ رواية الثوري بسنده كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن المبارك عن موسى عن سالم عن أبيه كنت كثيرًا ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يحلف ( لا) نفي للكلام السابق على اليمين ( ومقلب القلوب) بتقليب أغراضها وأحوالها لا بتقليب ذات القلوب.

قال الراغب: تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي والتقليب الصرف وسمي قلب الإنسان قلبًا لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وقال ابن العربي أبو بكر: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية، ووكل بها ملكًا يأمر بالخير وشيطانًا يأمر بالشر، فالعقل بنوره يهديه، والهوى بظلمته يغويه، والقضاء والقدر مسيطر على الكل، والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة، والمحفوظ من حفظه الله تعالى، وقد تمسك بهذا الحديث من أوجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله تعالى.
فحنث ولا نزاع في أصل ذلك إنما اختلف في أي صفة تنعقد بها اليمين، والتحقيق اختصاصها بصفة لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب.

( مالك عن عثمان بن حفص بن عمر) بن عبد الرحمن ( بن خلدة) بفتح المعجمة وسكون اللام الأنصاري الزرقي كان رجلاً صالحًا ولي قضاء المدينة في زمن عبد الملك وروى عن معاوية وعن جده عمر وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص والزهري وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن عبد البر ثقة فقيه روى عنه مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ولم يرو عنه غيرهما فيما علمت ووهم العقيلي فسماه عمر وبنو خلدة معروفون بالمدينة لهم أحوال وشرف وجلالة في الفقه وحمل العلم ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة ( أنه بلغه) وعند ابن وهب في موطئه عن يونس عن الزهري قال أخبرني بعض بني السائب بن أبي لبابة ورواه إسماعيل ابن علية عن الزهري عن ابن لكعب بن مالك عن أبيه وعن ابن أبي لبابة عن أبيه.

( أن أبا لبابة) بشير وقيل رفاعة ووهم من سماه مروان ( بن عبد المنذر) الأنصاري المدني الأوسي أحد النقباء وعاش إلى خلافة علي ( حين تاب الله عليه) من إشارته إلى بني قريظة كما جزم به ابن إسحاق وكانوا حلفاء الأوس أو من تخلفه عن غزوة تبوك فارتبط بسارية المسجد حتى نزل { { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } } الآية كما رواه ابن مردويه وابن جرير عن ابن عباس وابن منده وأبو الشيخ عن جابر بإسناد قوي فيحمل تعدد ربطه نفسه وتعدد النزول ذكر ابن إسحاق وغيره أن بني قريظة بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أن ابعث لنا أبا لبابة فبعثه فقام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فرق لهم فقالوا: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح قال: فوالله مازالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، فندمت واسترجعت فنزلت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقًا أخرى حتى جئت المسجد وارتبطت بالأسطوانة المخلقة وقلت: لا أبرح حتى أموت أو يتوب الله عليّ مما صنعت وعاهدت الله أن لا أطأ بني قريظة أبدًا ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا فلما بلغه صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

وروى ابن مردويه عن أم سلمة، أن توبة أبي لبابة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها قالت: فسمعته من السحر يضحك فقلت: يا رسول الله مم تضحك؟ أضحك الله سنك قال: تيب على أبي لبابة قلت: أفلا أبشره؟ قال: ما شئت فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب فقلت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فلما خرج إلى الصبح أطلقه ونزلت { { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } } الآية، وروى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه، وكاد يذهب بصره فكانت ابنته تحله للصلاة وللحاجة فإذا فرغ أعادته وذكر ابن إسحاق أنه ارتبط ست ليال تأتيه امرأته فتحله للصلاة، ثم تربطه فلعل امرأته تقيدت به في الست وابنته في باقي البضع عشرة فلا خلف.

( قال يا رسول الله أهجر) بتقدير همزة الاستفهام ( دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأجاورك) في مسجدك أو أسكن ببيت بجوارك ( وأنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله) بصرفها في وجوه البر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزيك من ذلك الثلث) قال ابن عبد البر: كذا هذا الحديث عند يحيى وابن القاسم وابن وهب وطائفة وروته طائفة منهم عبد الله بن يوسف عن مالك أنه بلغه لم يذكر عثمان ولا ابن شهاب وليس هذا الحديث في الموطأ عند ابن بكير ولا القعنبي ولا أكثر الرواة.

( مالك عن أيوب بن موسى) بن عمرو بن سعيد بن العاصي المكي الأموي ثقة مات سنة اثنين وثلاثين ومائة ( عن منصور بن عبد الرحمن) بن طلحة بن الحارث العبدري ( الحجبي) بفتح الحاء والجيم نسبة إلى حجابة الكعبة المكي ثقة أخطأ ابن حزم في تضعيفه ( عن أمه) صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة، وفي البخاري التصريح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر الدارقطني إدراكها ( عن عائشة أم المؤمنين أنها سئلت عن رجل قال مالي في رتاج الكعبة) براء مكسورة ففوقية فألف فجيم أي بابها ( فقالت عائشة يكفره ما يكفر اليمين) ولم يأخذ الإمام بهذا ففي المدونة عنه لا يلزمه شيء لا كفارة يمين ولا غيرها.

( قال مالك في الذي يقول مالي في سبيل الله ثم يحنث قال: يجعل ثلث ماله في سبيل الله) الجهاد وغيره ( وذلك للذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أبي لبابة) في الحديث المتقدم وإليه ذهب ابن المسيب والزهري وقال الشافعي وأحمد وعليه كفارة يمين وقال أبو حنيفة: عليه إخراج ماله كله ولا يترك إلا ما يواري عورته ويقومه فإذا أفاد قيمته أخرجه.
قال ابن عبد البر: أظنه جعله كالمفلس يقسم ماله بين غرمائه ويترك ما لا بد منه حتى يستفيد فيؤدي إليهم.



رقم الحديث 1034 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ.


( جامع الأيمان)

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) اتفقت الرواة على أنه من مسند ابن عمر وحكى يعقوب بن شيبة أن عبد الله العمري المكبر الضعيف رواه عن نافع فقال عن ابن عمر عن عمر ( أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب) راكبي الإبل عشرة فصاعدًا وفي مسند يعقوب بن شيبة في غزاة ( وهو يحلف بأبيه) وفي رواية عبد الله بن دينار عند مسلم وكانت قريش تحلف بآبائها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد القعنبي ألا ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) لأن الحلف بشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عكرمة قال قال عمر حدّثت قومًا حديثًا فقلت: لا وأبي فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم.

قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوى بشواهد وأما قوله صلى الله عليه وسلم أفلح وأبيه إن صدق فقال ابن عبد البر إن هذه اللفظة منكرة غير محفوظة يردها الآثار الصحاح، وقيل إنها مصحفة من قوله: والله وهو محتمل ولكن مثل هذا لا يثبت بالاحتمال لا سيما وقد ثبت ذلك من لفظ الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال: وأبيك ما ليلك بليل سارق أخرجه الموطأ وغيره وفي مسلم مرفوعًا أن رجلاً سأله أي الصدقة أفضل فقال وأبيك لأنبئنك أو لأحدثنك.
وأحسن الأجوبة ما قاله البيهقي وارتضاه النووي وغيره إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف أو أن في الكلام حذفًا أي أفلح ورب أبيه قاله البيهقي أيضًا انتهى ومر لهذا مزيد في الصلاة وجملة ينهاكم في محل رفع خبر أن، وأن مصدرية في محل نصب عند الخليل والكسائي، أو جر بتقدير حرف الجر أي ينهاكم عن أن تحلفوا عند سيبويه، وحكم غير الآباء من سائر الخلق كالآباء في النهي وفي الترمذي وقال حسن والحاكم وقال صحيح عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول لا والكعبة فقال: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك والتعبير بذلك مبالغة في الزجر والتغليظ وهل النهي للتحريم أو التنزيه قولان شهرًا معًا عند المالكية والمشهور عند الشافعية أنه للتنزيه وعند الحنابلة للتحريم وبه قال الظاهرية.

وقال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه فإنه قال في موضع آخر أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها، وإنما خص الحديث بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو لكونه غالب حلفهم لقوله في الرواية الأخرى وكانت قريش تحلف بآبائها ويدل على التعميم قوله ( فمن كان حالفًا) أي مريدًا للحلف ( فليحلف بالله) لا بغيره من الآباء وغيرهم ( أو ليصمت) بضم الميم كما ضبطه غير واحد وكأنه الرواية المشهورة وإلا فقد قال الطوفي سمعناه بكسرها وهو القياس، لأن قياس فعل بفتح العين يفعل بكسرها كضرب يضرب ويفعل بضم العين فيه دخيل كما في خصائص ابن جني انتهى أي لا يحلف لا أنه يلزمه الصمت إذا لم يحلف بالله فهو نظير قوله تعالى { { سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } } أي أم لم تدعوهم والتخيير في حق من وجبت عليه اليمين فيحلف ليبرأ أو يترك ويغرم وظاهره أن اليمين بالله مباحة لأن أقل مراتب الأمر الإباحة وإليه ذهب الأكثر وهو الصحيح نقلاً لأنه صلى الله عليه وسلم حلف كثيرًا وأمره الله به قل: إي وربي إنه لحق، ونظرًا لأنه تعظيم لله تعالى ومن شرطية في موضع رفع بالابتداء وكان واسمها وخبرها في محل الخبر وظاهره تخصيص الحلف بالله خاصة، لكن اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية فكأن المراد بقوله بالله الذات لا خصوص لفظ الله فمن حلف بغيره لم تنعقد يمينه كان المحلوف به يستحق التعظيم كالأنبياء والملائكة والكعبة أولا كالآحاد أو يستحق التحقير كالشياطين والأصنام، وليستغفر الله لإقدامه على ما نهي عنه، ولا كفارة.
نعم استثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ينعقد به اليمين وتجب الكفارة بالحنث به لأنه صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به ولا حجة في ذلك إذ لا يلزم منه انعقاد اليمين به بل ولا جواز الحلف به، ولا سيما مع صحة هذا النهي الصريح عنه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه كالليل والنهار ليعجب بها المخلوقين، ويعرّفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها أما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق كما قيل.

ويقبح من سواك الشيء عندي
وتفعله فيحسن منك ذا كا

وزاد البخاري ومسلم من طريق سالم عن أبيه قال عمر: فوالله ما حلفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاكرًا ولا آثرًا بمد الهمزة وكسر المثلثة أي حاكيًا عن غيري أي ما حلفت بأبي عامدًا ولا حاكيًا عن غيري، واستشكل بأن الحاكي لا يسمى حالفًا وأجيب بأن العامل محذوف أي ولا ذكرتها آثرًا عن غيري أو ضمن حلفت معنى تكلمت أو معناه يرجع إلى التفاخر بالآباء فكأنه قال: ما حلفت بآبائي ذاكرًا لمآثرهم.
وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به ورواه مسلم وغيره.

( مالك أنه بلغه) معلوم أن بلاغه صحيح، ولعل هذا بلغه من شيخه موسى بن عقبة، فقد رواه البخاري في الأيمان من طريق الثوري وفي التوحيد من طريق ابن المبارك وابن عبد البر من طريق سليمان بن بلال الثلاثة عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول) ولفظ رواية الثوري بسنده كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن المبارك عن موسى عن سالم عن أبيه كنت كثيرًا ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يحلف ( لا) نفي للكلام السابق على اليمين ( ومقلب القلوب) بتقليب أغراضها وأحوالها لا بتقليب ذات القلوب.

قال الراغب: تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي والتقليب الصرف وسمي قلب الإنسان قلبًا لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وقال ابن العربي أبو بكر: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية، ووكل بها ملكًا يأمر بالخير وشيطانًا يأمر بالشر، فالعقل بنوره يهديه، والهوى بظلمته يغويه، والقضاء والقدر مسيطر على الكل، والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة، والمحفوظ من حفظه الله تعالى، وقد تمسك بهذا الحديث من أوجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله تعالى.
فحنث ولا نزاع في أصل ذلك إنما اختلف في أي صفة تنعقد بها اليمين، والتحقيق اختصاصها بصفة لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب.

( مالك عن عثمان بن حفص بن عمر) بن عبد الرحمن ( بن خلدة) بفتح المعجمة وسكون اللام الأنصاري الزرقي كان رجلاً صالحًا ولي قضاء المدينة في زمن عبد الملك وروى عن معاوية وعن جده عمر وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص والزهري وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن عبد البر ثقة فقيه روى عنه مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ولم يرو عنه غيرهما فيما علمت ووهم العقيلي فسماه عمر وبنو خلدة معروفون بالمدينة لهم أحوال وشرف وجلالة في الفقه وحمل العلم ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة ( أنه بلغه) وعند ابن وهب في موطئه عن يونس عن الزهري قال أخبرني بعض بني السائب بن أبي لبابة ورواه إسماعيل ابن علية عن الزهري عن ابن لكعب بن مالك عن أبيه وعن ابن أبي لبابة عن أبيه.

( أن أبا لبابة) بشير وقيل رفاعة ووهم من سماه مروان ( بن عبد المنذر) الأنصاري المدني الأوسي أحد النقباء وعاش إلى خلافة علي ( حين تاب الله عليه) من إشارته إلى بني قريظة كما جزم به ابن إسحاق وكانوا حلفاء الأوس أو من تخلفه عن غزوة تبوك فارتبط بسارية المسجد حتى نزل { { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } } الآية كما رواه ابن مردويه وابن جرير عن ابن عباس وابن منده وأبو الشيخ عن جابر بإسناد قوي فيحمل تعدد ربطه نفسه وتعدد النزول ذكر ابن إسحاق وغيره أن بني قريظة بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أن ابعث لنا أبا لبابة فبعثه فقام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فرق لهم فقالوا: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح قال: فوالله مازالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، فندمت واسترجعت فنزلت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقًا أخرى حتى جئت المسجد وارتبطت بالأسطوانة المخلقة وقلت: لا أبرح حتى أموت أو يتوب الله عليّ مما صنعت وعاهدت الله أن لا أطأ بني قريظة أبدًا ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا فلما بلغه صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

وروى ابن مردويه عن أم سلمة، أن توبة أبي لبابة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها قالت: فسمعته من السحر يضحك فقلت: يا رسول الله مم تضحك؟ أضحك الله سنك قال: تيب على أبي لبابة قلت: أفلا أبشره؟ قال: ما شئت فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب فقلت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فلما خرج إلى الصبح أطلقه ونزلت { { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } } الآية، وروى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه، وكاد يذهب بصره فكانت ابنته تحله للصلاة وللحاجة فإذا فرغ أعادته وذكر ابن إسحاق أنه ارتبط ست ليال تأتيه امرأته فتحله للصلاة، ثم تربطه فلعل امرأته تقيدت به في الست وابنته في باقي البضع عشرة فلا خلف.

( قال يا رسول الله أهجر) بتقدير همزة الاستفهام ( دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأجاورك) في مسجدك أو أسكن ببيت بجوارك ( وأنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله) بصرفها في وجوه البر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزيك من ذلك الثلث) قال ابن عبد البر: كذا هذا الحديث عند يحيى وابن القاسم وابن وهب وطائفة وروته طائفة منهم عبد الله بن يوسف عن مالك أنه بلغه لم يذكر عثمان ولا ابن شهاب وليس هذا الحديث في الموطأ عند ابن بكير ولا القعنبي ولا أكثر الرواة.

( مالك عن أيوب بن موسى) بن عمرو بن سعيد بن العاصي المكي الأموي ثقة مات سنة اثنين وثلاثين ومائة ( عن منصور بن عبد الرحمن) بن طلحة بن الحارث العبدري ( الحجبي) بفتح الحاء والجيم نسبة إلى حجابة الكعبة المكي ثقة أخطأ ابن حزم في تضعيفه ( عن أمه) صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة، وفي البخاري التصريح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر الدارقطني إدراكها ( عن عائشة أم المؤمنين أنها سئلت عن رجل قال مالي في رتاج الكعبة) براء مكسورة ففوقية فألف فجيم أي بابها ( فقالت عائشة يكفره ما يكفر اليمين) ولم يأخذ الإمام بهذا ففي المدونة عنه لا يلزمه شيء لا كفارة يمين ولا غيرها.

( قال مالك في الذي يقول مالي في سبيل الله ثم يحنث قال: يجعل ثلث ماله في سبيل الله) الجهاد وغيره ( وذلك للذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أبي لبابة) في الحديث المتقدم وإليه ذهب ابن المسيب والزهري وقال الشافعي وأحمد وعليه كفارة يمين وقال أبو حنيفة: عليه إخراج ماله كله ولا يترك إلا ما يواري عورته ويقومه فإذا أفاد قيمته أخرجه.
قال ابن عبد البر: أظنه جعله كالمفلس يقسم ماله بين غرمائه ويترك ما لا بد منه حتى يستفيد فيؤدي إليهم.



رقم الحديث 1035 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ خَلْدَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.
أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ، وَأُجَاوِرُكَ وَأَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ.


( جامع الأيمان)

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) اتفقت الرواة على أنه من مسند ابن عمر وحكى يعقوب بن شيبة أن عبد الله العمري المكبر الضعيف رواه عن نافع فقال عن ابن عمر عن عمر ( أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب) راكبي الإبل عشرة فصاعدًا وفي مسند يعقوب بن شيبة في غزاة ( وهو يحلف بأبيه) وفي رواية عبد الله بن دينار عند مسلم وكانت قريش تحلف بآبائها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد القعنبي ألا ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) لأن الحلف بشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عكرمة قال قال عمر حدّثت قومًا حديثًا فقلت: لا وأبي فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم.

قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوى بشواهد وأما قوله صلى الله عليه وسلم أفلح وأبيه إن صدق فقال ابن عبد البر إن هذه اللفظة منكرة غير محفوظة يردها الآثار الصحاح، وقيل إنها مصحفة من قوله: والله وهو محتمل ولكن مثل هذا لا يثبت بالاحتمال لا سيما وقد ثبت ذلك من لفظ الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال: وأبيك ما ليلك بليل سارق أخرجه الموطأ وغيره وفي مسلم مرفوعًا أن رجلاً سأله أي الصدقة أفضل فقال وأبيك لأنبئنك أو لأحدثنك.
وأحسن الأجوبة ما قاله البيهقي وارتضاه النووي وغيره إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف أو أن في الكلام حذفًا أي أفلح ورب أبيه قاله البيهقي أيضًا انتهى ومر لهذا مزيد في الصلاة وجملة ينهاكم في محل رفع خبر أن، وأن مصدرية في محل نصب عند الخليل والكسائي، أو جر بتقدير حرف الجر أي ينهاكم عن أن تحلفوا عند سيبويه، وحكم غير الآباء من سائر الخلق كالآباء في النهي وفي الترمذي وقال حسن والحاكم وقال صحيح عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول لا والكعبة فقال: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك والتعبير بذلك مبالغة في الزجر والتغليظ وهل النهي للتحريم أو التنزيه قولان شهرًا معًا عند المالكية والمشهور عند الشافعية أنه للتنزيه وعند الحنابلة للتحريم وبه قال الظاهرية.

وقال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه فإنه قال في موضع آخر أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها، وإنما خص الحديث بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو لكونه غالب حلفهم لقوله في الرواية الأخرى وكانت قريش تحلف بآبائها ويدل على التعميم قوله ( فمن كان حالفًا) أي مريدًا للحلف ( فليحلف بالله) لا بغيره من الآباء وغيرهم ( أو ليصمت) بضم الميم كما ضبطه غير واحد وكأنه الرواية المشهورة وإلا فقد قال الطوفي سمعناه بكسرها وهو القياس، لأن قياس فعل بفتح العين يفعل بكسرها كضرب يضرب ويفعل بضم العين فيه دخيل كما في خصائص ابن جني انتهى أي لا يحلف لا أنه يلزمه الصمت إذا لم يحلف بالله فهو نظير قوله تعالى { { سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } } أي أم لم تدعوهم والتخيير في حق من وجبت عليه اليمين فيحلف ليبرأ أو يترك ويغرم وظاهره أن اليمين بالله مباحة لأن أقل مراتب الأمر الإباحة وإليه ذهب الأكثر وهو الصحيح نقلاً لأنه صلى الله عليه وسلم حلف كثيرًا وأمره الله به قل: إي وربي إنه لحق، ونظرًا لأنه تعظيم لله تعالى ومن شرطية في موضع رفع بالابتداء وكان واسمها وخبرها في محل الخبر وظاهره تخصيص الحلف بالله خاصة، لكن اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية فكأن المراد بقوله بالله الذات لا خصوص لفظ الله فمن حلف بغيره لم تنعقد يمينه كان المحلوف به يستحق التعظيم كالأنبياء والملائكة والكعبة أولا كالآحاد أو يستحق التحقير كالشياطين والأصنام، وليستغفر الله لإقدامه على ما نهي عنه، ولا كفارة.
نعم استثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ينعقد به اليمين وتجب الكفارة بالحنث به لأنه صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به ولا حجة في ذلك إذ لا يلزم منه انعقاد اليمين به بل ولا جواز الحلف به، ولا سيما مع صحة هذا النهي الصريح عنه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه كالليل والنهار ليعجب بها المخلوقين، ويعرّفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها أما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق كما قيل.

ويقبح من سواك الشيء عندي
وتفعله فيحسن منك ذا كا

وزاد البخاري ومسلم من طريق سالم عن أبيه قال عمر: فوالله ما حلفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاكرًا ولا آثرًا بمد الهمزة وكسر المثلثة أي حاكيًا عن غيري أي ما حلفت بأبي عامدًا ولا حاكيًا عن غيري، واستشكل بأن الحاكي لا يسمى حالفًا وأجيب بأن العامل محذوف أي ولا ذكرتها آثرًا عن غيري أو ضمن حلفت معنى تكلمت أو معناه يرجع إلى التفاخر بالآباء فكأنه قال: ما حلفت بآبائي ذاكرًا لمآثرهم.
وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به ورواه مسلم وغيره.

( مالك أنه بلغه) معلوم أن بلاغه صحيح، ولعل هذا بلغه من شيخه موسى بن عقبة، فقد رواه البخاري في الأيمان من طريق الثوري وفي التوحيد من طريق ابن المبارك وابن عبد البر من طريق سليمان بن بلال الثلاثة عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول) ولفظ رواية الثوري بسنده كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن المبارك عن موسى عن سالم عن أبيه كنت كثيرًا ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يحلف ( لا) نفي للكلام السابق على اليمين ( ومقلب القلوب) بتقليب أغراضها وأحوالها لا بتقليب ذات القلوب.

قال الراغب: تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي والتقليب الصرف وسمي قلب الإنسان قلبًا لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وقال ابن العربي أبو بكر: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية، ووكل بها ملكًا يأمر بالخير وشيطانًا يأمر بالشر، فالعقل بنوره يهديه، والهوى بظلمته يغويه، والقضاء والقدر مسيطر على الكل، والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة، والمحفوظ من حفظه الله تعالى، وقد تمسك بهذا الحديث من أوجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله تعالى.
فحنث ولا نزاع في أصل ذلك إنما اختلف في أي صفة تنعقد بها اليمين، والتحقيق اختصاصها بصفة لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب.

( مالك عن عثمان بن حفص بن عمر) بن عبد الرحمن ( بن خلدة) بفتح المعجمة وسكون اللام الأنصاري الزرقي كان رجلاً صالحًا ولي قضاء المدينة في زمن عبد الملك وروى عن معاوية وعن جده عمر وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص والزهري وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن عبد البر ثقة فقيه روى عنه مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ولم يرو عنه غيرهما فيما علمت ووهم العقيلي فسماه عمر وبنو خلدة معروفون بالمدينة لهم أحوال وشرف وجلالة في الفقه وحمل العلم ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة ( أنه بلغه) وعند ابن وهب في موطئه عن يونس عن الزهري قال أخبرني بعض بني السائب بن أبي لبابة ورواه إسماعيل ابن علية عن الزهري عن ابن لكعب بن مالك عن أبيه وعن ابن أبي لبابة عن أبيه.

( أن أبا لبابة) بشير وقيل رفاعة ووهم من سماه مروان ( بن عبد المنذر) الأنصاري المدني الأوسي أحد النقباء وعاش إلى خلافة علي ( حين تاب الله عليه) من إشارته إلى بني قريظة كما جزم به ابن إسحاق وكانوا حلفاء الأوس أو من تخلفه عن غزوة تبوك فارتبط بسارية المسجد حتى نزل { { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } } الآية كما رواه ابن مردويه وابن جرير عن ابن عباس وابن منده وأبو الشيخ عن جابر بإسناد قوي فيحمل تعدد ربطه نفسه وتعدد النزول ذكر ابن إسحاق وغيره أن بني قريظة بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أن ابعث لنا أبا لبابة فبعثه فقام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فرق لهم فقالوا: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح قال: فوالله مازالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، فندمت واسترجعت فنزلت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقًا أخرى حتى جئت المسجد وارتبطت بالأسطوانة المخلقة وقلت: لا أبرح حتى أموت أو يتوب الله عليّ مما صنعت وعاهدت الله أن لا أطأ بني قريظة أبدًا ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا فلما بلغه صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

وروى ابن مردويه عن أم سلمة، أن توبة أبي لبابة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها قالت: فسمعته من السحر يضحك فقلت: يا رسول الله مم تضحك؟ أضحك الله سنك قال: تيب على أبي لبابة قلت: أفلا أبشره؟ قال: ما شئت فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب فقلت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فلما خرج إلى الصبح أطلقه ونزلت { { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } } الآية، وروى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه، وكاد يذهب بصره فكانت ابنته تحله للصلاة وللحاجة فإذا فرغ أعادته وذكر ابن إسحاق أنه ارتبط ست ليال تأتيه امرأته فتحله للصلاة، ثم تربطه فلعل امرأته تقيدت به في الست وابنته في باقي البضع عشرة فلا خلف.

( قال يا رسول الله أهجر) بتقدير همزة الاستفهام ( دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأجاورك) في مسجدك أو أسكن ببيت بجوارك ( وأنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله) بصرفها في وجوه البر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزيك من ذلك الثلث) قال ابن عبد البر: كذا هذا الحديث عند يحيى وابن القاسم وابن وهب وطائفة وروته طائفة منهم عبد الله بن يوسف عن مالك أنه بلغه لم يذكر عثمان ولا ابن شهاب وليس هذا الحديث في الموطأ عند ابن بكير ولا القعنبي ولا أكثر الرواة.

( مالك عن أيوب بن موسى) بن عمرو بن سعيد بن العاصي المكي الأموي ثقة مات سنة اثنين وثلاثين ومائة ( عن منصور بن عبد الرحمن) بن طلحة بن الحارث العبدري ( الحجبي) بفتح الحاء والجيم نسبة إلى حجابة الكعبة المكي ثقة أخطأ ابن حزم في تضعيفه ( عن أمه) صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة، وفي البخاري التصريح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر الدارقطني إدراكها ( عن عائشة أم المؤمنين أنها سئلت عن رجل قال مالي في رتاج الكعبة) براء مكسورة ففوقية فألف فجيم أي بابها ( فقالت عائشة يكفره ما يكفر اليمين) ولم يأخذ الإمام بهذا ففي المدونة عنه لا يلزمه شيء لا كفارة يمين ولا غيرها.

( قال مالك في الذي يقول مالي في سبيل الله ثم يحنث قال: يجعل ثلث ماله في سبيل الله) الجهاد وغيره ( وذلك للذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أبي لبابة) في الحديث المتقدم وإليه ذهب ابن المسيب والزهري وقال الشافعي وأحمد وعليه كفارة يمين وقال أبو حنيفة: عليه إخراج ماله كله ولا يترك إلا ما يواري عورته ويقومه فإذا أفاد قيمته أخرجه.
قال ابن عبد البر: أظنه جعله كالمفلس يقسم ماله بين غرمائه ويترك ما لا بد منه حتى يستفيد فيؤدي إليهم.



رقم الحديث 1036 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَجَبِيِّ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: مَالِي فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ قَالَ مَالِكٌ: فِي الَّذِي يَقُولُ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ يَحْنَثُ قَالَ: يَجْعَلُ ثُلُثَ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَذَلِكَ لِلَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ أَبِي لُبَابَةَ.


( جامع الأيمان)

( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) اتفقت الرواة على أنه من مسند ابن عمر وحكى يعقوب بن شيبة أن عبد الله العمري المكبر الضعيف رواه عن نافع فقال عن ابن عمر عن عمر ( أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب) راكبي الإبل عشرة فصاعدًا وفي مسند يعقوب بن شيبة في غزاة ( وهو يحلف بأبيه) وفي رواية عبد الله بن دينار عند مسلم وكانت قريش تحلف بآبائها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد القعنبي ألا ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) لأن الحلف بشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عكرمة قال قال عمر حدّثت قومًا حديثًا فقلت: لا وأبي فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم.

قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوى بشواهد وأما قوله صلى الله عليه وسلم أفلح وأبيه إن صدق فقال ابن عبد البر إن هذه اللفظة منكرة غير محفوظة يردها الآثار الصحاح، وقيل إنها مصحفة من قوله: والله وهو محتمل ولكن مثل هذا لا يثبت بالاحتمال لا سيما وقد ثبت ذلك من لفظ الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال: وأبيك ما ليلك بليل سارق أخرجه الموطأ وغيره وفي مسلم مرفوعًا أن رجلاً سأله أي الصدقة أفضل فقال وأبيك لأنبئنك أو لأحدثنك.
وأحسن الأجوبة ما قاله البيهقي وارتضاه النووي وغيره إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف أو أن في الكلام حذفًا أي أفلح ورب أبيه قاله البيهقي أيضًا انتهى ومر لهذا مزيد في الصلاة وجملة ينهاكم في محل رفع خبر أن، وأن مصدرية في محل نصب عند الخليل والكسائي، أو جر بتقدير حرف الجر أي ينهاكم عن أن تحلفوا عند سيبويه، وحكم غير الآباء من سائر الخلق كالآباء في النهي وفي الترمذي وقال حسن والحاكم وقال صحيح عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول لا والكعبة فقال: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك والتعبير بذلك مبالغة في الزجر والتغليظ وهل النهي للتحريم أو التنزيه قولان شهرًا معًا عند المالكية والمشهور عند الشافعية أنه للتنزيه وعند الحنابلة للتحريم وبه قال الظاهرية.

وقال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه فإنه قال في موضع آخر أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها، وإنما خص الحديث بالآباء لوروده على سببه المذكور، أو لكونه غالب حلفهم لقوله في الرواية الأخرى وكانت قريش تحلف بآبائها ويدل على التعميم قوله ( فمن كان حالفًا) أي مريدًا للحلف ( فليحلف بالله) لا بغيره من الآباء وغيرهم ( أو ليصمت) بضم الميم كما ضبطه غير واحد وكأنه الرواية المشهورة وإلا فقد قال الطوفي سمعناه بكسرها وهو القياس، لأن قياس فعل بفتح العين يفعل بكسرها كضرب يضرب ويفعل بضم العين فيه دخيل كما في خصائص ابن جني انتهى أي لا يحلف لا أنه يلزمه الصمت إذا لم يحلف بالله فهو نظير قوله تعالى { { سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } } أي أم لم تدعوهم والتخيير في حق من وجبت عليه اليمين فيحلف ليبرأ أو يترك ويغرم وظاهره أن اليمين بالله مباحة لأن أقل مراتب الأمر الإباحة وإليه ذهب الأكثر وهو الصحيح نقلاً لأنه صلى الله عليه وسلم حلف كثيرًا وأمره الله به قل: إي وربي إنه لحق، ونظرًا لأنه تعظيم لله تعالى ومن شرطية في موضع رفع بالابتداء وكان واسمها وخبرها في محل الخبر وظاهره تخصيص الحلف بالله خاصة، لكن اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية فكأن المراد بقوله بالله الذات لا خصوص لفظ الله فمن حلف بغيره لم تنعقد يمينه كان المحلوف به يستحق التعظيم كالأنبياء والملائكة والكعبة أولا كالآحاد أو يستحق التحقير كالشياطين والأصنام، وليستغفر الله لإقدامه على ما نهي عنه، ولا كفارة.
نعم استثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ينعقد به اليمين وتجب الكفارة بالحنث به لأنه صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به ولا حجة في ذلك إذ لا يلزم منه انعقاد اليمين به بل ولا جواز الحلف به، ولا سيما مع صحة هذا النهي الصريح عنه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه كالليل والنهار ليعجب بها المخلوقين، ويعرّفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها أما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق كما قيل.

ويقبح من سواك الشيء عندي
وتفعله فيحسن منك ذا كا

وزاد البخاري ومسلم من طريق سالم عن أبيه قال عمر: فوالله ما حلفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاكرًا ولا آثرًا بمد الهمزة وكسر المثلثة أي حاكيًا عن غيري أي ما حلفت بأبي عامدًا ولا حاكيًا عن غيري، واستشكل بأن الحاكي لا يسمى حالفًا وأجيب بأن العامل محذوف أي ولا ذكرتها آثرًا عن غيري أو ضمن حلفت معنى تكلمت أو معناه يرجع إلى التفاخر بالآباء فكأنه قال: ما حلفت بآبائي ذاكرًا لمآثرهم.
وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به ورواه مسلم وغيره.

( مالك أنه بلغه) معلوم أن بلاغه صحيح، ولعل هذا بلغه من شيخه موسى بن عقبة، فقد رواه البخاري في الأيمان من طريق الثوري وفي التوحيد من طريق ابن المبارك وابن عبد البر من طريق سليمان بن بلال الثلاثة عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول) ولفظ رواية الثوري بسنده كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن المبارك عن موسى عن سالم عن أبيه كنت كثيرًا ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يحلف ( لا) نفي للكلام السابق على اليمين ( ومقلب القلوب) بتقليب أغراضها وأحوالها لا بتقليب ذات القلوب.

قال الراغب: تقليب الله القلوب والأبصار صرفها عن رأي إلى رأي والتقليب الصرف وسمي قلب الإنسان قلبًا لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وقال ابن العربي أبو بكر: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية، ووكل بها ملكًا يأمر بالخير وشيطانًا يأمر بالشر، فالعقل بنوره يهديه، والهوى بظلمته يغويه، والقضاء والقدر مسيطر على الكل، والقلب يتقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة، والمحفوظ من حفظه الله تعالى، وقد تمسك بهذا الحديث من أوجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله تعالى.
فحنث ولا نزاع في أصل ذلك إنما اختلف في أي صفة تنعقد بها اليمين، والتحقيق اختصاصها بصفة لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب.

( مالك عن عثمان بن حفص بن عمر) بن عبد الرحمن ( بن خلدة) بفتح المعجمة وسكون اللام الأنصاري الزرقي كان رجلاً صالحًا ولي قضاء المدينة في زمن عبد الملك وروى عن معاوية وعن جده عمر وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص والزهري وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن عبد البر ثقة فقيه روى عنه مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ولم يرو عنه غيرهما فيما علمت ووهم العقيلي فسماه عمر وبنو خلدة معروفون بالمدينة لهم أحوال وشرف وجلالة في الفقه وحمل العلم ( عن ابن شهاب) محمد بن مسلم شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة ( أنه بلغه) وعند ابن وهب في موطئه عن يونس عن الزهري قال أخبرني بعض بني السائب بن أبي لبابة ورواه إسماعيل ابن علية عن الزهري عن ابن لكعب بن مالك عن أبيه وعن ابن أبي لبابة عن أبيه.

( أن أبا لبابة) بشير وقيل رفاعة ووهم من سماه مروان ( بن عبد المنذر) الأنصاري المدني الأوسي أحد النقباء وعاش إلى خلافة علي ( حين تاب الله عليه) من إشارته إلى بني قريظة كما جزم به ابن إسحاق وكانوا حلفاء الأوس أو من تخلفه عن غزوة تبوك فارتبط بسارية المسجد حتى نزل { { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } } الآية كما رواه ابن مردويه وابن جرير عن ابن عباس وابن منده وأبو الشيخ عن جابر بإسناد قوي فيحمل تعدد ربطه نفسه وتعدد النزول ذكر ابن إسحاق وغيره أن بني قريظة بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أن ابعث لنا أبا لبابة فبعثه فقام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فرق لهم فقالوا: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح قال: فوالله مازالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، فندمت واسترجعت فنزلت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقًا أخرى حتى جئت المسجد وارتبطت بالأسطوانة المخلقة وقلت: لا أبرح حتى أموت أو يتوب الله عليّ مما صنعت وعاهدت الله أن لا أطأ بني قريظة أبدًا ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا فلما بلغه صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

وروى ابن مردويه عن أم سلمة، أن توبة أبي لبابة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها قالت: فسمعته من السحر يضحك فقلت: يا رسول الله مم تضحك؟ أضحك الله سنك قال: تيب على أبي لبابة قلت: أفلا أبشره؟ قال: ما شئت فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب فقلت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فلما خرج إلى الصبح أطلقه ونزلت { { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } } الآية، وروى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه، وكاد يذهب بصره فكانت ابنته تحله للصلاة وللحاجة فإذا فرغ أعادته وذكر ابن إسحاق أنه ارتبط ست ليال تأتيه امرأته فتحله للصلاة، ثم تربطه فلعل امرأته تقيدت به في الست وابنته في باقي البضع عشرة فلا خلف.

( قال يا رسول الله أهجر) بتقدير همزة الاستفهام ( دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأجاورك) في مسجدك أو أسكن ببيت بجوارك ( وأنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله) بصرفها في وجوه البر ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزيك من ذلك الثلث) قال ابن عبد البر: كذا هذا الحديث عند يحيى وابن القاسم وابن وهب وطائفة وروته طائفة منهم عبد الله بن يوسف عن مالك أنه بلغه لم يذكر عثمان ولا ابن شهاب وليس هذا الحديث في الموطأ عند ابن بكير ولا القعنبي ولا أكثر الرواة.

( مالك عن أيوب بن موسى) بن عمرو بن سعيد بن العاصي المكي الأموي ثقة مات سنة اثنين وثلاثين ومائة ( عن منصور بن عبد الرحمن) بن طلحة بن الحارث العبدري ( الحجبي) بفتح الحاء والجيم نسبة إلى حجابة الكعبة المكي ثقة أخطأ ابن حزم في تضعيفه ( عن أمه) صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة، وفي البخاري التصريح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر الدارقطني إدراكها ( عن عائشة أم المؤمنين أنها سئلت عن رجل قال مالي في رتاج الكعبة) براء مكسورة ففوقية فألف فجيم أي بابها ( فقالت عائشة يكفره ما يكفر اليمين) ولم يأخذ الإمام بهذا ففي المدونة عنه لا يلزمه شيء لا كفارة يمين ولا غيرها.

( قال مالك في الذي يقول مالي في سبيل الله ثم يحنث قال: يجعل ثلث ماله في سبيل الله) الجهاد وغيره ( وذلك للذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أبي لبابة) في الحديث المتقدم وإليه ذهب ابن المسيب والزهري وقال الشافعي وأحمد وعليه كفارة يمين وقال أبو حنيفة: عليه إخراج ماله كله ولا يترك إلا ما يواري عورته ويقومه فإذا أفاد قيمته أخرجه.
قال ابن عبد البر: أظنه جعله كالمفلس يقسم ماله بين غرمائه ويترك ما لا بد منه حتى يستفيد فيؤدي إليهم.