فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ

رقم الحديث 1408 حَدَّثَنَا يحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ.
وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ.
فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ.


( كتاب الأقضية)

( بسم الله الرحمن الرحيم)

( الترغيب في القضاء بالحق)

( مالك عن هشام بن عروة) بن الزبير بن العوام ( عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة) عبد الله بن عبد الأسد المخزومي الصحابي ( عن) أمها ( أم سلمة) هند بنت أبي أمية ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم) قال أبو عمر: هذا حديث لم يختلف في إسناده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) وفي رواية في الصحيح أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم وفي أخرى جلبة خصام بفتح الجيم واللام والموحدة، اختلاط الأصوات.
وفي أبي داود عن عبد الله بن نافع مولى أم سلمة عنها قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما فلم يكن لهما بينة إلا دعواهما فقال صلى الله عليه وسلم:

( إنما أنا بشر) بفتحتين، الخلق يطلق على الواحد والجماعة بمعنى أنه منهم والمراد أنه مشارك لهم في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته والحصر مجازي لأنه حصر خاص أي باعتبار علم البواطن، ويسمى عند علماء البيان قصر قلب لأنه أتي به للرد على من زعم أن من كان رسولاً يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم ونحو ذلك فأشار إلى أن الوضع البشري يقتضي أن لا يدرك من الأمور إلا ظواهرها فإنه خلق خلقًا لا يسلم من قضايا تحجبه عن حقائق الأشياء، فإذا ترك على ما جبل عليه من القضايا البشرية ولم يؤيد بالوحي السماوي طرأ عليه ما يطرأ على سائر البشر زاد في رواية في الصحيح مثلكم ( وإنكم تختصمون إلي) فيما بينكم لأنه الإمام فلا يصلح أن يحكم إلا هو أو من قدّمه لذلك قال تعالى { { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } } الآية وقال { { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } } الآية وقال: { { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } } الآية، قاله الباجي ثم تردّونه إلي ولا أعلم باطن الأمر ( فلعل بعضكم أن يكون ألحن) بالحاء المهملة أي أبلغ وأعلم ( بحجته) .
وفي رواية للبخاري: أبلغ، وهو بمعناه لأنه من اللحن: بفتح الحاء، الفطنة أي أبلغ وأفصح وأعلم في تقرير مقصوده، وأعلم ببيان دليله وأقدر على البرهنة على دفع دعوى خصمه بحيث يظن أن الحق معه، وهو كاذب هذا ما عليه أكثر الشراح وجوز بعضهم أنه من اللحن، بسكون الحاء، وهو الصرف عن الصواب: أي يكون أعجز عن الإعراب بالحجة وتعسفه لا يخفى وجملة أن يكون خبر لعل من قبيل رجل عدل، أي كائن، أو أن زائدة، أو المضاف محذوف، أي لعل وصف بعضكم أن يكون ألحن بحجته ( من بعض) فيغلب خصمه وهو كاذب، وفي رواية للبخاري فأحسب أنه صدق ( فأقضي) فأحكم ( له) أي للذي غلب بحجته على خصمه فلا حاجة إلى قوله في الاستذكار فأقضي له أي عليه، وإن كان الواقع أن الحق لخصمه لكنه لم يفطن لحجته ولم يقدر على معارضته ( وإنما أقضي على نحو ما أسمع) لبناء أحكام الشريعة على الظاهر، وفي رواية على نحو بالتنوين مما أسمع ( منه) ومن في مما بمعنى لأجل، أو بمعنى على، أي أقضي على الظاهر من كلامه.
وتمسك به أحمد ومالك في المشهور عنه أن الحاكم لا يقضي بعلمه لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه لا يحكم إلا بما سمع في مجلس حكمه ولم يقل على نحو ما علمت.
وقد قيل في قوله وفصل الخطاب أنه البينة أو الإقرار والعلة في منع القضاء بالعلم التهمة.

وقد روت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهم شجاج فأتوه صلى الله عليه وسلم فأخبروه فأعطاهم الأرش ثم قال: إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم رضيتم، أرضيتم؟ قالوا: نعم فصعد المنبر فخطب وذكر القصة.
وقال أرضيتم قالوا: لا، فهم بهم المهاجرون فنزل صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد فقال: أرضيتم قالوا: نعم فهذا بين أنه لم يأخذهم بما علم من رضاهم الأول.
وقال الشافعي وجماعة يقضي بعلمه مطلقًا لأنه قاطع بصحة ما يقضي به إذا حقق علمه وليست الشهادة عنده كذلك إذ لعلها كاذبة أو واهمة.
وقال أبو حنيفة: في المال فقط دون الحدود وغيرها وأجمعوا على أنه يجرح ويعدل بعلمه ( فمن قضيت له بشيء من حق أخيه) بحسب الظاهر وليس كذلك في الباطن، وفي رواية بحق مسلم وذكره ليكون أهول على المحكوم له لأن وعيد غيره معلوم عند كل أحد فذكر المسلم تنبيهًا على أنه في حقه أشدّ وإن كان الذمي والمعاهد كذلك ( فلا يأخذن منه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار) أي مآله إلى النار فأطلق عليه ذلك لأنه سبب في حصول النار له فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى { { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } }

قال السبكي هذه قضية شرطية لا تستدعي وجودها بل معناها بيان أن ذلك جائز الوقوع قال: ولم يثبت لنا قط أنه صلى الله عليه وسلم حكم بحكم ثم بان خلافه لا بسبب تبين حجة ولا بغيرها وقد صان الله أحكام نبيه عن ذلك مع أنه لو وقع لم يكن فيه محذور، وفي رواية في الصحيحين: فليأخذها أو ليتركها وليس الأمر للتخيير بل للتهديد كقوله { { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } } وقال ابن التين هو خطاب للمقضي له ومعناه أنه أعلم بنفسه هل هو محق أو مبطل فإن كان محقًا فليأخذ وإن كان مبطلاً فليترك لأن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه، وفيه دلالة قوية لمذهب الأئمة الثلاثة والجمهور أن الحكم فيما باطن الأمر فيه بخلاف الظاهر لا يحل الحرام ولا عكسه، فإذا شهد شاهد زور لإنسان بمال فحكم به القاضي لظاهر العدالة لم يحل له ذلك المال، وإن شهدا بقتل لم يحل للولي قتله مع علمه بكذبهما، وإن شهدا عليه أنه طلق امرأته لم يحل لمن علم كذبهما أن يتزوجها بعد الحكم بالطلاق.
وقال أبو حنيفة: يحل الحرام في العقود كنكاح وطلاق وبيع وشراء فإذا ادعت امرأة على رجل أنه تزوجها، وأقامت شاهدي زور حل له وطؤها أو ادعاه الرجل وهي تجحد أو تعمد رجلان شهادة الزور أنه طلق زوجته فيحل لأحدهما بعد العدة تزوجها مع علمه بكذبه، وأن زوجها لم يطلقها لأن حكم الحاكم لما أحلها للأزواج إجماعًا كان الشهود وغيرهم سواء، وهذا بخلاف الأموال.
وتعقب بأن هذا خلاف الحديث في الصحيح فمن حق الرجل عصمة زوجته التي لم يطلقها، وخلاف لإجماع من قبله ومخالف لقاعدة اتفق هو وغيره عليها وهي أن الإبضاع أولى بالاحتياط من الأموال.

هذا وقال النووي رحمه الله ملخصًا لكلام من تقدمه كابن عبد البر والباجي وعياض وغيرهم: معنى الحديث التنبيه على حالة البشرية وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمر شيئًا إلا أن يطلعهم الله على شيء من ذلك، وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم، وأنه إنما يحكم بين الناس في الظاهر مع إمكان أنه في الباطن بخلافه ولكنه إنما كلف بالحكم بالظاهر، ولو شاء الله لأطلعه على باطن أمر الخصمين فحكم فيه بيقين نفسه من غير حاجة إلى شهادة أو يمين، ولكن لما أمر الله أمته باتباعه والاقتداء بأقواله وأحكامه أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه فأجرى الله أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره ليصح الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن، فإن قيل هذا الحديث ظاهره أنه قد يقع منه صلى الله عليه وسلم حكم في الظاهر مخالف للباطن، وقد اتفق الأصوليون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ في الأحكام فالجواب أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة الأصوليين لأن مرادهم فيما حكم فيه باجتهاده، أما إذا حكم فيما خالف ظاهره باطنه فإنه لا يسمى الحكم خطأ بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلاً فإن كانا شاهدي زور ونحو ذلك فالتقصير منهما وممن ساعدهما.
وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عتب عليه بسببه بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع اهـ.

وقال القرطبي في المفهم قد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة على بواطن كل من يتخاصم إليه فيحكم بخفي ذلك لكن لما كان ذلك من جملة معجزاته لم يجعل الله ذلك طريقًا عامًا ولا قاعدة كلية للأنبياء ولا غيرهم لاستمرار العادة بأن ذلك لا يقع لهم، وإن وقع فنادر، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً فمن خصائصه أن يحكم بالباطن أيضًا وأن يقتل بعلمه وأجمعت الأمة على أنه ليس لأحد أن يقتل بعلمه إلا النبي صلى الله عليه وسلم.

قال وقد شاهدت بعض المخرفين وسمعت منهم أنهم يعرضون عن القواعد الشرعية ويحكمون بالخواطر القلبية، ويقولون الشاهد المتصل بي أعدل من الشاهد المنفصل عني.
وهذه مخرقة أبرزتها زندقة يقتل صاحبها قطعًا وهذا خير البشر يقول في مثل هذه المواطن: إنما أنا بشر معترفًا بالقصور عن إدراك المغيبات وعاملاً بما نصبه الله تعالى له من اعتبار الإيمان والبينات اهـ.

وقد زاد في أبي داود عن عبد الله بن نافع مولى أم سلمة عنها فبكى الرجلان وقال كل منهما لصاحبه: حقي لك فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحاللا وتوخيا، أي اقصدا الحق في القسمة ثم استهما أي اقترعا ليظهر سهم كل واحد منكما.

وفي الحديث فوائد كثيرة غير ما سبق، وأخرجه البخاري في الشهادات وفي الأحكام عن القعنبي عن مالك به، وتابعه سفيان عند البخاري ووكيع وأبو معاوية وعبدة بن سليمان عند مسلم أربعتهم عن هشام وتابعه الزهري عن عروة في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب) بن حزن القرشي المخزومي التابعي ابن الصحابي حفيد الصحابي ( أن عمر بن الخطاب) أمير المؤمنين رضي الله عنه ( اختصم إليه مسلم ويهودي) لم يسميا ( فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له) لوجوب ذلك عليه ( فقال له اليهودي والله لقد قضيت بالحق فضربه عمر بن الخطاب) لأنه كره مدحه له في وجهه ( بالدرة) بكسر الدال المهملة، آلة يضرب بها ( ثم قال وما يدريك فقال اليهودي إنا نجد) في الكتب ( أنه ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك) وهما جبريل وميكائيل ( يسددانه) بسين ودالين مهملات ( ويوفقانه للحق ما دام مع الحق فإذا ترك الحق عرجا) إلى السماء ( وتركاه) قال أبو عمر: ليس هذا عندي بجواب لقوله: وما يدريك ولكن لما علم أن عمر كره مدحه له أخبره أنه يجد في كتبه ما ذكر.
وفي رواية فقال لليهودي: والله إن الملكين جبريل وميكائيل ليتكلمان بلسانك وإنهما عن يمينك وشمالك، فضربه عمر بالدرّة وقال: لا أم لك وما يدريك؟ قال: لأنهما مع كل قاض يقضي بالحق ما دام مع الحق، فإذا ترك الحق عرجا وتركاه.
فقال عمر: والله ما أراك إلا أبعدت.
وفيه كراهة المدح في الوجه وأنه لا حرج في تأديب فاعله، وأن الراضي به ضعيف الرأي وسمع صلى الله عليه وسلم رجلاً يمدح رجلاً فقال: أما لو أسمعته لقطعت ظهره وقال صلى الله عليه وسلم المدح في الوجه هو الذبح وصح قوله صلى الله عليه وسلم: أحثوا في وجوه المدّاحين التراب، وهذا عندهم في المواجهة وروى ابن أبي شيبة مرفوعًا من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن يجبر عليه نزل عليه ملك يسدّده.



رقم الحديث 1409 حَدَّثَنِي يَحْيَى، قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْبَزِّ يَشْتَرِيهِ الرَّجُلُ بِبَلَدٍ، ثُمَّ يَقْدَمُ بِهِ بَلَدًا آخَرَ، فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً إِنَّهُ لَا يَحْسِبُ فِيهِ أَجْرَ السَّمَاسِرَةِ، وَلَا أَجْرَ الطَّيِّ، وَلَا الشَّدِّ، وَلَا النَّفَقَةَ، وَلَا كِرَاءَ بَيْتٍ، فَأَمَّا كِرَاءُ الْبَزِّ فِي حُمْلَانِهِ، فَإِنَّهُ يُحْسَبُ فِي أَصْلِ الثَّمَنِ، وَلَا يُحْسَبُ فِيهِ رِبْحٌ، إِلَّا أَنْ يُعْلِمَ الْبَائِعُ مَنْ يُسَاوِمُهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ رَبَّحُوهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الْقِصَارَةُ، وَالْخِيَاطَةُ، وَالصِّبَاغُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَزِّ يُحْسَبُ فِيهِ الرِّبْحُ كَمَا يُحْسَبُ فِي الْبَزِّ، فَإِنْ بَاعَ الْبَزَّ، وَلَمْ يُبَيِّنْ شَيْئًا مِمَّا سَمَّيْتُ إِنَّهُ لَا يُحْسَبُ لَهُ فِيهِ رِبْحٌ، فَإِنْ فَاتَ الْبَزُّ، فَإِنَّ الْكِرَاءَ يُحْسَبُ، وَلَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ رِبْحٌ، فَإِنْ لَمْ يَفُتِ الْبَزُّ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَهُمَا قَالَ مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْمَتَاعَ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْوَرِقِ، وَالصَّرْفُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ، فَيَقْدَمُ بِهِ بَلَدًا فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً، أَوْ يَبِيعُهُ حَيْثُ اشْتَرَاهُ مُرَابَحَةً عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي بَاعَهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ابْتَاعَهُ بِدَرَاهِمَ، وَبَاعَهُ بِدَنَانِيرَ، أَوِ ابْتَاعَهُ بِدَنَانِيرَ، وَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ، وَكَانَ الْمَتَاعُ لَمْ يَفُتْ، فَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، فَإِنْ فَاتَ الْمَتَاعُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ الْبَائِعُ، وَيُحْسَبُ لِلْبَائِعِ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَاهُ بِهِ عَلَى مَا رَبَّحَهُ الْمُبْتَاعُ قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ سِلْعَةً قَامَتْ عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، لِلْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ، ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا قَامَتْ عَلَيْهِ بِتِسْعِينَ دِينَارًا، وَقَدْ فَاتَتِ السِّلْعَةُ خُيِّرَ الْبَائِعُ، فَإِنْ أَحَبَّ فَلَهُ قِيمَةُ سِلْعَتِهِ يَوْمَ قُبِضَتْ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بِهِ الْبَيْعُ أَوَّلَ يَوْمٍ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِائَةُ دِينَارٍ وَعَشْرَةُ دَنَانِيرَ، وَإِنْ أَحَبَّ ضُرِبَ لَهُ الرِّبْحُ عَلَى التِّسْعِينَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي بَلَغَتْ سِلْعَتُهُ مِنَ الثَّمَنِ أَقَلَّ مِنَ الْقِيمَةِ فَيُخَيَّرُ فِي الَّذِي بَلَغَتْ سِلْعَتُهُ وَفِي رَأْسِ مَالِهِ وَرِبْحِهِ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِينَارًا قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ سِلْعَةً مُرَابَحَةً، فَقَالَ: قَامَتْ عَلَيَّ بِمِائَةِ دِينَارٍ.
ثُمَّ جَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا قَامَتْ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا.
خُيِّرَ الْمُبْتَاعُ.
فَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْبَائِعَ قِيمَةَ السِّلْعَةِ يَوْمَ قَبَضَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الثَّمَنَ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ عَلَى حِسَابِ مَا رَبَّحَهُ.
بَالِغًا مَا بَلَغَ.
إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ السِّلْعَةَ.
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنَقِّصَ رَبَّ السِّلْعَةِ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ رَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَاءَ رَبُّ السِّلْعَةِ يَطْلُبُ الْفَضْلَ فَلَيْسَ لِلْمُبْتَاعِ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْبَائِعِ.
بِأَنْ يَضَعَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ عَلَى الْبَرْنَامَجِ.



( بيع المرابحة)

( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا في البز) بموحدة مفتوحة وزاي، الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها وبائعه البزاز ( يشتريه الرجل ببلد ثم يقدم به بلدًا آخر فيبيعه مرابحة إنه لا يحسب فيه أجر السماسرة) جمع سمسار المتوسط بين البائع والمشتري ( ولا أجر الطي ولا الشد ولا النفقة ولا كراء بيت) لأنه لا عين له قائمة ولا يختص بالمبيع غالبًا ( فأما كراء البز في حملانه) بضم الحاء، أي حمله ( فإنه يحسب في أصل الثمن ولا يحسب فيه ربح) لأنه لا عين له قائمة ( إلا أن يعلم) بضم أوله، أي يخبر ( البائع من يساومه بذلك كله فإن ربحوه) بالتثقيل والجمع على معنى من ( بعد العلم به فلا بأس به) أي يجوز ( فأما القصارة والخياطة والصباغ وما أشبه ذلك) كطرز وفتل، وكمد وتطرية من كل ما له عين قائمة في المبيع ويختص به غالبًا ( فهو بمنزلة البز يحسب فيه الربح كما يحسب في البز) لزيادته بذلك ( فإن باع البز ولم يبين شيئًا مما سميت) بضم تاء المتكلم ( إنه لا يحسب له فيه ربح فإن فات البز فإن الكراء يحسب ولا يحسب عليه ربح فإن لم يفت البز فالبيع مفسوخ بينهما إلا أن يتراضيا على شيء مما يجوز بينهما) فلا يفسخ.

( قال مالك في الرجل يشتري المتاع بالذهب أو بالورق) الفضة ( والصرف يوم اشتراه عشرة دراهم بدينار فيقدم به بلدًا فيبيعه مرابحة أو يبيعه حيث اشتراه) أي في المحل الذي اشتراه ( به مرابحة على صرف ذلك اليوم الذي باعه فيه) وقد اختلف الصرف في وقت البيع والشراء ( فإنه إن كان ابتاعه بدراهم وباعه بدنانير أو ابتاعه بدنانير وباعه بدراهم وكان المبتاع لم يفت فالمبتاع بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه) وليس للبائع أن يلزمه إياه بما نقد لأن المبتاع لم يرد الشراء بهذه ( فإن فات المبتاع كان للمشتري بالثمن الذي ابتاعه به البائع ويحسب للبائع الربح على ما اشتراه به على ما ربحه المبتاع) وقال في المدونة: يضرب له الربح على ما هو أفضل للمشتري وقال في الموازية إلا أن يجيء ذلك أكثر مما رضي به ولم يجعل مالك في هذا قيمة كما جعل في مسألة الزيادة في الثمن ( وإذا باع رجل سلعة قامت عليه بمائة دينار) صفة سلعة مرابحة ( للعشرة أحد عشر ثم جاءه بعد ذلك أنها قامت عليه بتسعين دينارا وقد فاتت السلعة خير البائع فإن أحب فله قيمة سلعته يوم قبضت) أي قبضها المشتري منه لأنه يشبه البيع الفاسد كما روي عن مالك تعليله بذلك، ووافقه ابن القاسم في المدونة وروى فيها علي عن مالك له قيمتها يوم باعها أي لأنه عقد صحيح ( إلا أن تكون القيمة أكثر من الثمن الذي وجب له به البيع أول يوم فلا يكون له أكثر من ذلك وذلك مائة دينار وعشرة دنانير) الذي وقع عقد البيع عليها فلا يزاد عليها ( وإن أحب ضرب له الربح على التسعين إلا أن يكون الذي بلغت سلعته من الثمن أقل من القيمة فيخير في الذي بلغت سلعته وفي رأس ماله وربحه وذلك تسعة وتسعون دينارًا) لا يزاد عليها ( وإن باع رجل سلعة مرابحة فقال: قامت علي بمائة دينار) غلطًا على نفسه ( ثم جاءه بعد ذلك) العلم ( أنها قامت بمائة وعشرين دينارًا خير المبتاع فإن شاء أعطى البائع قيمة السلعة يوم قبضها وإن شاء أعطى الثمن الذي ابتاع به على حساب ما ربحه بالغًا ما بلغ إلا أن يكون ذلك أقل من الثمن الذي ابتاع به السلعة فليس له أن ينقص رب السلعة من الثمن الذي ابتاعها به لأنه كان قد رضي بذلك) فيلزمه ما رضي به لصحة البيع ( وإنما جاء رب السلعة يطلب الفضل) الزائد الذي غلط فيه ( فليس للمبتاع في هذا حجة على البائع بأن يضع) يسقط ( من الثمن الذي به ابتاع على البرنامج) قال الباجي: كذا وقع في الموطأ ورواية علي في المدونة على لفظ التخيير ولا معنى له إلا أن يكون بمعنى أنه يندب للمبتاع أن لا ينقصه شيئًا فإن السلعة إن كانت قائمة فللمشتري ردها أو يضرب له الربح على مائة وعشرين وإن فاتت فالقيمة إلا أن تكون أقل من المائة وربحها فلا ينقص أو يكون أكثر من مائة وعشرين وربحها فلا يزاد على ذلك.



رقم الحديث 1409 وحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ.
فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ.
فَضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: إِنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ، إِلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ، يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ.


( كتاب الأقضية)

( بسم الله الرحمن الرحيم)

( الترغيب في القضاء بالحق)

( مالك عن هشام بن عروة) بن الزبير بن العوام ( عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة) عبد الله بن عبد الأسد المخزومي الصحابي ( عن) أمها ( أم سلمة) هند بنت أبي أمية ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم) قال أبو عمر: هذا حديث لم يختلف في إسناده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) وفي رواية في الصحيح أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم وفي أخرى جلبة خصام بفتح الجيم واللام والموحدة، اختلاط الأصوات.
وفي أبي داود عن عبد الله بن نافع مولى أم سلمة عنها قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما فلم يكن لهما بينة إلا دعواهما فقال صلى الله عليه وسلم:

( إنما أنا بشر) بفتحتين، الخلق يطلق على الواحد والجماعة بمعنى أنه منهم والمراد أنه مشارك لهم في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته والحصر مجازي لأنه حصر خاص أي باعتبار علم البواطن، ويسمى عند علماء البيان قصر قلب لأنه أتي به للرد على من زعم أن من كان رسولاً يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم ونحو ذلك فأشار إلى أن الوضع البشري يقتضي أن لا يدرك من الأمور إلا ظواهرها فإنه خلق خلقًا لا يسلم من قضايا تحجبه عن حقائق الأشياء، فإذا ترك على ما جبل عليه من القضايا البشرية ولم يؤيد بالوحي السماوي طرأ عليه ما يطرأ على سائر البشر زاد في رواية في الصحيح مثلكم ( وإنكم تختصمون إلي) فيما بينكم لأنه الإمام فلا يصلح أن يحكم إلا هو أو من قدّمه لذلك قال تعالى { { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } } الآية وقال { { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } } الآية وقال: { { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } } الآية، قاله الباجي ثم تردّونه إلي ولا أعلم باطن الأمر ( فلعل بعضكم أن يكون ألحن) بالحاء المهملة أي أبلغ وأعلم ( بحجته) .
وفي رواية للبخاري: أبلغ، وهو بمعناه لأنه من اللحن: بفتح الحاء، الفطنة أي أبلغ وأفصح وأعلم في تقرير مقصوده، وأعلم ببيان دليله وأقدر على البرهنة على دفع دعوى خصمه بحيث يظن أن الحق معه، وهو كاذب هذا ما عليه أكثر الشراح وجوز بعضهم أنه من اللحن، بسكون الحاء، وهو الصرف عن الصواب: أي يكون أعجز عن الإعراب بالحجة وتعسفه لا يخفى وجملة أن يكون خبر لعل من قبيل رجل عدل، أي كائن، أو أن زائدة، أو المضاف محذوف، أي لعل وصف بعضكم أن يكون ألحن بحجته ( من بعض) فيغلب خصمه وهو كاذب، وفي رواية للبخاري فأحسب أنه صدق ( فأقضي) فأحكم ( له) أي للذي غلب بحجته على خصمه فلا حاجة إلى قوله في الاستذكار فأقضي له أي عليه، وإن كان الواقع أن الحق لخصمه لكنه لم يفطن لحجته ولم يقدر على معارضته ( وإنما أقضي على نحو ما أسمع) لبناء أحكام الشريعة على الظاهر، وفي رواية على نحو بالتنوين مما أسمع ( منه) ومن في مما بمعنى لأجل، أو بمعنى على، أي أقضي على الظاهر من كلامه.
وتمسك به أحمد ومالك في المشهور عنه أن الحاكم لا يقضي بعلمه لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه لا يحكم إلا بما سمع في مجلس حكمه ولم يقل على نحو ما علمت.
وقد قيل في قوله وفصل الخطاب أنه البينة أو الإقرار والعلة في منع القضاء بالعلم التهمة.

وقد روت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهم شجاج فأتوه صلى الله عليه وسلم فأخبروه فأعطاهم الأرش ثم قال: إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم رضيتم، أرضيتم؟ قالوا: نعم فصعد المنبر فخطب وذكر القصة.
وقال أرضيتم قالوا: لا، فهم بهم المهاجرون فنزل صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد فقال: أرضيتم قالوا: نعم فهذا بين أنه لم يأخذهم بما علم من رضاهم الأول.
وقال الشافعي وجماعة يقضي بعلمه مطلقًا لأنه قاطع بصحة ما يقضي به إذا حقق علمه وليست الشهادة عنده كذلك إذ لعلها كاذبة أو واهمة.
وقال أبو حنيفة: في المال فقط دون الحدود وغيرها وأجمعوا على أنه يجرح ويعدل بعلمه ( فمن قضيت له بشيء من حق أخيه) بحسب الظاهر وليس كذلك في الباطن، وفي رواية بحق مسلم وذكره ليكون أهول على المحكوم له لأن وعيد غيره معلوم عند كل أحد فذكر المسلم تنبيهًا على أنه في حقه أشدّ وإن كان الذمي والمعاهد كذلك ( فلا يأخذن منه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار) أي مآله إلى النار فأطلق عليه ذلك لأنه سبب في حصول النار له فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى { { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } }

قال السبكي هذه قضية شرطية لا تستدعي وجودها بل معناها بيان أن ذلك جائز الوقوع قال: ولم يثبت لنا قط أنه صلى الله عليه وسلم حكم بحكم ثم بان خلافه لا بسبب تبين حجة ولا بغيرها وقد صان الله أحكام نبيه عن ذلك مع أنه لو وقع لم يكن فيه محذور، وفي رواية في الصحيحين: فليأخذها أو ليتركها وليس الأمر للتخيير بل للتهديد كقوله { { فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } } وقال ابن التين هو خطاب للمقضي له ومعناه أنه أعلم بنفسه هل هو محق أو مبطل فإن كان محقًا فليأخذ وإن كان مبطلاً فليترك لأن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه، وفيه دلالة قوية لمذهب الأئمة الثلاثة والجمهور أن الحكم فيما باطن الأمر فيه بخلاف الظاهر لا يحل الحرام ولا عكسه، فإذا شهد شاهد زور لإنسان بمال فحكم به القاضي لظاهر العدالة لم يحل له ذلك المال، وإن شهدا بقتل لم يحل للولي قتله مع علمه بكذبهما، وإن شهدا عليه أنه طلق امرأته لم يحل لمن علم كذبهما أن يتزوجها بعد الحكم بالطلاق.
وقال أبو حنيفة: يحل الحرام في العقود كنكاح وطلاق وبيع وشراء فإذا ادعت امرأة على رجل أنه تزوجها، وأقامت شاهدي زور حل له وطؤها أو ادعاه الرجل وهي تجحد أو تعمد رجلان شهادة الزور أنه طلق زوجته فيحل لأحدهما بعد العدة تزوجها مع علمه بكذبه، وأن زوجها لم يطلقها لأن حكم الحاكم لما أحلها للأزواج إجماعًا كان الشهود وغيرهم سواء، وهذا بخلاف الأموال.
وتعقب بأن هذا خلاف الحديث في الصحيح فمن حق الرجل عصمة زوجته التي لم يطلقها، وخلاف لإجماع من قبله ومخالف لقاعدة اتفق هو وغيره عليها وهي أن الإبضاع أولى بالاحتياط من الأموال.

هذا وقال النووي رحمه الله ملخصًا لكلام من تقدمه كابن عبد البر والباجي وعياض وغيرهم: معنى الحديث التنبيه على حالة البشرية وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمر شيئًا إلا أن يطلعهم الله على شيء من ذلك، وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم، وأنه إنما يحكم بين الناس في الظاهر مع إمكان أنه في الباطن بخلافه ولكنه إنما كلف بالحكم بالظاهر، ولو شاء الله لأطلعه على باطن أمر الخصمين فحكم فيه بيقين نفسه من غير حاجة إلى شهادة أو يمين، ولكن لما أمر الله أمته باتباعه والاقتداء بأقواله وأحكامه أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه فأجرى الله أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره ليصح الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن، فإن قيل هذا الحديث ظاهره أنه قد يقع منه صلى الله عليه وسلم حكم في الظاهر مخالف للباطن، وقد اتفق الأصوليون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ في الأحكام فالجواب أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة الأصوليين لأن مرادهم فيما حكم فيه باجتهاده، أما إذا حكم فيما خالف ظاهره باطنه فإنه لا يسمى الحكم خطأ بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلاً فإن كانا شاهدي زور ونحو ذلك فالتقصير منهما وممن ساعدهما.
وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عتب عليه بسببه بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع اهـ.

وقال القرطبي في المفهم قد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة على بواطن كل من يتخاصم إليه فيحكم بخفي ذلك لكن لما كان ذلك من جملة معجزاته لم يجعل الله ذلك طريقًا عامًا ولا قاعدة كلية للأنبياء ولا غيرهم لاستمرار العادة بأن ذلك لا يقع لهم، وإن وقع فنادر، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً فمن خصائصه أن يحكم بالباطن أيضًا وأن يقتل بعلمه وأجمعت الأمة على أنه ليس لأحد أن يقتل بعلمه إلا النبي صلى الله عليه وسلم.

قال وقد شاهدت بعض المخرفين وسمعت منهم أنهم يعرضون عن القواعد الشرعية ويحكمون بالخواطر القلبية، ويقولون الشاهد المتصل بي أعدل من الشاهد المنفصل عني.
وهذه مخرقة أبرزتها زندقة يقتل صاحبها قطعًا وهذا خير البشر يقول في مثل هذه المواطن: إنما أنا بشر معترفًا بالقصور عن إدراك المغيبات وعاملاً بما نصبه الله تعالى له من اعتبار الإيمان والبينات اهـ.

وقد زاد في أبي داود عن عبد الله بن نافع مولى أم سلمة عنها فبكى الرجلان وقال كل منهما لصاحبه: حقي لك فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحاللا وتوخيا، أي اقصدا الحق في القسمة ثم استهما أي اقترعا ليظهر سهم كل واحد منكما.

وفي الحديث فوائد كثيرة غير ما سبق، وأخرجه البخاري في الشهادات وفي الأحكام عن القعنبي عن مالك به، وتابعه سفيان عند البخاري ووكيع وأبو معاوية وعبدة بن سليمان عند مسلم أربعتهم عن هشام وتابعه الزهري عن عروة في الصحيحين وغيرهما.

( مالك عن يحيى بن سعيد) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب) بن حزن القرشي المخزومي التابعي ابن الصحابي حفيد الصحابي ( أن عمر بن الخطاب) أمير المؤمنين رضي الله عنه ( اختصم إليه مسلم ويهودي) لم يسميا ( فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له) لوجوب ذلك عليه ( فقال له اليهودي والله لقد قضيت بالحق فضربه عمر بن الخطاب) لأنه كره مدحه له في وجهه ( بالدرة) بكسر الدال المهملة، آلة يضرب بها ( ثم قال وما يدريك فقال اليهودي إنا نجد) في الكتب ( أنه ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك) وهما جبريل وميكائيل ( يسددانه) بسين ودالين مهملات ( ويوفقانه للحق ما دام مع الحق فإذا ترك الحق عرجا) إلى السماء ( وتركاه) قال أبو عمر: ليس هذا عندي بجواب لقوله: وما يدريك ولكن لما علم أن عمر كره مدحه له أخبره أنه يجد في كتبه ما ذكر.
وفي رواية فقال لليهودي: والله إن الملكين جبريل وميكائيل ليتكلمان بلسانك وإنهما عن يمينك وشمالك، فضربه عمر بالدرّة وقال: لا أم لك وما يدريك؟ قال: لأنهما مع كل قاض يقضي بالحق ما دام مع الحق، فإذا ترك الحق عرجا وتركاه.
فقال عمر: والله ما أراك إلا أبعدت.
وفيه كراهة المدح في الوجه وأنه لا حرج في تأديب فاعله، وأن الراضي به ضعيف الرأي وسمع صلى الله عليه وسلم رجلاً يمدح رجلاً فقال: أما لو أسمعته لقطعت ظهره وقال صلى الله عليه وسلم المدح في الوجه هو الذبح وصح قوله صلى الله عليه وسلم: أحثوا في وجوه المدّاحين التراب، وهذا عندهم في المواجهة وروى ابن أبي شيبة مرفوعًا من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن يجبر عليه نزل عليه ملك يسدّده.