فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَالِسٌ

رقم الحديث 311 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَصَلَّى صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ قَاعِدٌ.
وَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا.
فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا.
وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ.


صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَالِسٌ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) قال أبو عمر لم تختلف رواة الموطأ في سنده ورواه سويد بن سعيد عن مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة وهو خطأ لم يتابعه أحد عليه ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا) في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة أفاده ابن حبان ( فَصُرِعَ) بضم الصاد وكسر الراء أي سقط عن الفرس وللتنيسي ومعن فصرع عنه، وفي أبي داود وابن خزيمة بسند صحيح عن جابر: وركب صلى الله عليه وسلم فرسًا بالمدينة فصرعه على جذع نخلة ( فَجُحِشَ) بضم الجيم وكسر الحاء المهملة أي خدش وقيل الجحش فوق الخدش، وحسبك أنه لم يقدر أن يصلي قائمًا قاله ابن عبد البر، والخدش قشر الجلد ( شِقُّهُ الْأَيْمَنُ) بأن قشر جلده ولعبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري ساقه الأيمن وليست مصحفة كما زعم بعضهم لموافقة رواية حميد لها، وإنما هي مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن لأن الخدش لم يستوعبه ( فَصَلَّى صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ) قال القرطبي: اللام للعهد ظاهرًا والمراد الفرض لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة.
وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلاً، وتعقب بأن في أبي داود وابن خزيمة عن جابر الجزم بأنها فرض.
قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس فصلى بنا يومئذ فكأنها نهارية الظهر أو العصر ( وَهُوَ قَاعِدٌ) قال عياض: يحتمل أنه أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام.
قال الحافظ: وليس كذلك وإنما كانت قدمه منفكة كما في رواية بشر بن المفضل عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي، وكذا لأبي داود وابن خزيمة عن جابر فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه لا ينافيه جحش شقه لاحتمال وقوع الأمرين ( وَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا) ظاهره يخالف حديث عائشة بعده والجمع بينهما أن في رواية أنس اختصارًا وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس.

وفي الصحيحين عن حميد عن أنس فصلى بهم جالسًا وهم قيام، وفيها أيضًا اختصار لأنه لم يذكر قوله لهم اجلسوا والجمع بينهما أنهم ابتدءوا الصلاة قيامًا فأومأ إليهم أن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة.
وكذا جابر في مسلم، وجمع القرطبي باحتمال أن بعضهم قعد من أوّل الحال وهو ما حكاه أنس وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهو ما حكته عائشة وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه صلى الله عليه وسلم لاستلزامه النسخ بالاجتهاد لأن فرض القادر في الأصل القيام، وجمع آخرون باحتمال تعدّد الواقعة وفيه بعد لأن حديث أنس إن كان سابقًا لزم النسخ بالاجتهاد، وإن كان متأخرًا لم يحتج إلى إعادة إنما جعل الإمام إلخ... لأنهم امتثلوا أمره السابق وصلوا قعودًا لقعوده، وفي حديث جابر عند أبي داود أنهم دخلوا يعودونه مرتين فصلى بهم فيهما، لكن بين أن الأولى كانت نافلة وأقرّهم على القيام وهو جالس والثانية كانت فريضة وابتدءوا قيامًا فأشار إليهم بالجلوس، ونحوه في رواية بشر عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي.

( فَلَمَّا انْصَرَفَ) من الصلاة ( قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ) إمامًا ( لِيُؤْتَمَّ) ليقتدى ( بِهِ) ويتبع ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال قاله البيضاوي وغيره.

قال في الاستذكار: زاد معن في الموطأ عن مالك فلا تختلفوا عليه ففيه حجة لقول مالك والثوري وأبي حنيفة وأكثر التابعين بالمدينة والكوفة أن من خالفت نيته نية إمامه بطلت صلاة المأموم، إذ لا اختلاف أشدّ من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال انتهى.

وفي التمهيد روى الزيادة ابن وهب ويحيى بن مالك وأبو علي الحنفي عن مالك عن الزهري عن أنس، وليست في الموطأ إلا بلاغات مالك، وقد رواها معن وأبو قرّة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وثبتت زيادة معن هذه في رواية همام عن أبي هريرة في الصحيحين، وأفادت أن الأمر بالاتباع يعم جميع المؤمنين ولا يكفي اتباع بعض دون بعض.

( فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ) أي أجاب الدعاء ( لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) بالواو لجميع الرواة في حديث أنس هذا إلا في رواية شعيب عن الزهري رواه البخاري بدونها، ورجح إثباتها باتفاق رواة حديث عائشة وأبي هريرة على ذلك أيضًا وبأن فيها معنى زائدًا لأنها عاطفة على محذوف تقديره: ربنا استجب أو ربنا أطعناك ولك الحمد فتشتمل على الدعاء والثناء معًا، ورجح قوم حذفها لأن الأصل عدم التقدير فتصير عاطفة على كلام غير تامّ.
قال ابن دقيق العيد: والأوّل أوجه، وقال النووي: ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها والوجهان جائزان بغير ترجيح، وزاد في بعض طرق حديث عائشة عند البخاري وغيره: وإذا سجد فاسجدوا.

( وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) ظاهره صحة إمامة الجالس المعذور بمثله وجلوس مأمومه القادر معه لكن الثاني منسوخ قاله الشافعي وغيره.
وقال الباجي: مقتضى سياق الحديث أن معناه إذا صلى جالسًا في موضع الجلوس أن يقتدى به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين لأنه وصف أفعال الصلاة من أولها فصلاً فصلاً، وانتقل إلى الائتمام به في حال الجلوس وهو موضع التشهد فأمر أن يقتدى به فيها، وأيد بأنه ذكر ذلك عقب الرفع من الركوع فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيمًا له فأمرهم بالجلوس تواضعًا، وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر: إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا.
رواه أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح.
واستبعد ذلك ابن دقيق العيد بأن سياق طرق الحديث تأباه، وبأنه لو كان الأمر بالجلوس في الركن لقال: وإذا جلس فاجلسوا ليناسب قوله: وإذا سجد فاسجدوا، فلما عدل إلى قوله: وإذا صلى جالسًا كان كقوله: وإذا صلى قائمًا، والمراد بذلك جميع الصلاة.

ويؤيده قول أنس: وصلينا وراءه قعودًا ( أَجْمَعُونَ) بالواو في جميع طرق حديث أنس تأكيدًا لضمير الفاعل في قوله فصلوا، وأخطأ من ضعفه فإن المعنى عليه، واختلفوا في رواية همام عن أبي هريرة فقال بعضهم: أجمعين بالياء نصب على الحال أي جلوسًا مجتمعين أو على التأكيد لضمير مقدّر منصوب كأنه قيل: أعنيكم أجمعين، وفيه مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له منها سقوط ونحوه بما اتفق له صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة وبه الأسوة الحسنة، وفيه أنه يجوز عليه ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره لذلك بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم من طريق معن كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ شَاكٍ) بخفة الكاف بوزن قاض من الشكاية وهي المرض، وسببه ما في حديث أنس قبله أنه سقط عن فرس، وحاصل القصة أن عائشة أبهمت الشكوى، وبيَّن أنس وجابر سببها وهو السقوط عن الفرس، وعيّن جابر كأنس في بعض طرق حديثه عند الإسماعيلي العلة في الصلاة قاعدًا وهي انفكاك القدم.

( فَصَلَّى) حال كونه ( جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ) حال كونهم ( قِيَامًا) ولمسلم من رواية عبدة عن هشام فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه الحديث، وسمى منهم أنس كما مرّ في حديثه وأبو بكر وجابر عند مسلم وغيره وعمر كما لعبد الرزاق من مرسل الحسن ( فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا) بلفظ إلى من الإشارة لجميع رواة الموطأ، وتابعه يحيى القطان عن هشام عند البخاري في الطب وهو ما لأكثر رواة البخاري في الصلاة من طريق الموطأ، ولبعضهم عليهم بلفظ على من المشورة، والأوّل أصح فقد رواه أيوب عن هشام بلفظ فأومأ إليهم وعبد الرزاق عن معمر عن هشام بلفظ فأخلف بيده يومئ بها إليهم، وفي مرسل الحسن ولم يبلغ بها الغاية.
زاد في رواية عبدة عن هشام عند مسلم فجلسوا.

( فَلَمَّا انْصَرَفَ) من الصلاة ( قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ) أي نصب أو اتخذ ( الْإِمَامُ) أو التقدير إمامًا ( لِيُؤْتَمَّ بِهِ) ليقتدى به ( فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا) قال ابن المنير: مقتضاه أن ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام إما بعد تمام انحنائه، وإما بأن يسبقه الإمام بأوّله فيشرع فيه بعد أن يشرع ( وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا) زاد في رواية عبدة عن هشام: وإذا سجد فاسجدوا رواه البخاري والرفع يتناول الرفع من الركوع ومن السجود وجميع السجدات.

قال ابن المنير: وحديث أنس أتمّ من حديث عائشة لأنه زاد المتابعة في الأقوال أيضًا.

قال الحافظ: ووقعت الزيادة المذكورة وهي: وإذا قال سمع الله لمن حمده في حديث عائشة أيضًا يعني ما في رواية أبي ذر وابن عساكر للبخاري من طريق مالك هذه عقب قوله: فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، لكنها ليست في الموطأ ولا في رواية غير هذين للبخاري.

نعم وردت في حديث أنس وجابر وأبي هريرة في الصحيحين: ( وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) ولو قادرين على القيام لكنه منسوخ.

وأخرجه البخاري في مواضع عن عبد الله بن يوسف وقتيبة بن سعيد وإسماعيل، وأبو داود عن القعنبي أربعتهم عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) لم تختلف رواة مالك في إرساله وقد أسنده الشافعي في الأم من طريق حماد بن سلمة والبخاري ومسلم وابن ماجه من طريق عبد الله بن نمير كلاهما عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ) الذي توفي فيه ( فَأَتَى) زاد في بعض النسخ المسجد، وفي رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر ( فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ) كما أمر صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال الحافظ: فصرح في الرواية المذكورة بالظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح لرواية ابن ماجه بسند حسن عن ابن عباس، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث بلغ أبو بكر وفيه نظر لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان عليه السلام يسمع الآية أحيانًا في الصلاة السرية كما في البخاري، وصرح الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل بالناس في مرض موته بالمسجد إلا مرة واحدة وهي هذه التي صلى فيها قاعدًا وكان أبو بكر فيها إمامًا ثم صار مأمومًا كما قال.

( فَاسْتَأْخَرَ) أي تأخر ( أَبُو بَكْرٍ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ كَمَا أَنْتَ) أي كالذي أنت عليه أو فيه من الإمامة وأنت مبتدأ حذف خبره والكاف للتشبيه أي ليكن حالك في المستقبل مشابهًا لحالك في الماضي أو زائدة أي الذي أنت عليه وهو الإمامة ( فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ) لا خلفه ولا قدامه، وفي رواية الصحيحين حذاء أبي بكر والأصل في الإمام أن يتقدّم على المأموم إلا لضيق المكان وكذا لو كانوا عراة وما عدا ذلك يجوز ويجزي ولكن يفوّت الفضيلة ( فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي) قائمًا ( بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ) أي بتبليغه لهم أي يتعرّفون به ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله لضعف صوته عن أن يسمع الناس تكبير الانتقال فكان الصدّيق يسمعهم ذلك.

وفي رواية الصحيحين عن عبيد الله عنها: فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور للقائم الصحيح، وإليه ذهب الشافعي ومالك في رواية الوليد بن مسلم وأبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي وجعلوا ذلك ناسخًا لقوله: وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا لأنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، والرواية المشهورة عن مالك عدم صحة الائتمام وقاله محمد بن الحسن وقال ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لحديث جابر الجعفي عن الشعبي مرفوعًا: لا يؤمنّ أحد بعدي جالسًا.
وتعقب بأن جابرًا ضعيف مع إرساله.

وقال ابن بزيزة: لو صح لم يكن فيه حجة لاحتمال أن المراد منع الصلاة بالجالس أي بإعراب جالسًا مفعولاً لا حالاً.
وقال غيره: لو صح احتاج إلى تاريخ لكن قوّاه عياض بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم والنسخ لا يثبت بعده صلى الله عليه وسلم لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث، واحتج عياض أيضًا على أنه خصوصية له صلى الله عليه وسلم بأنه لا يصح التقدّم بين يديه لنهي الله تعالى عن ذلك ولأن الأئمة شفعاء ولا يكون أحد شافعًا له، ولا يشكل عليه بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف وأبي بكر كما قدّمته سابقًا لأن محل المنع إذا أمّه هو أمّا إذا أمّ غيره وجاء وأبقاه فلا منع بدليل قصتي عبد الرحمن وأبي بكر إذ كل منهما أمّ غيره لغيبته فجاء وأبقاه وألحق له.

وقد نقل ابن العربي عن بعض الأشياخ أن الحال أحد وجوه التخصيص وحال النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العروض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها وليس ذلك لغيره ولا يرد عليه قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي لأنه عامّ، وأنكر أحمد وإسحاق وغيرهما دعوى النسخ وقالوا: إن صلى الإمام جالسًا صلى المأموم كذلك ولو قدر على القيام.
قال أحمد: وفعله أربعة من الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: جابر وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد بفتح القاف وسكون الهاء الأنصاري.



رقم الحديث 312 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا.
وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا.
فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا.


صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَالِسٌ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) قال أبو عمر لم تختلف رواة الموطأ في سنده ورواه سويد بن سعيد عن مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة وهو خطأ لم يتابعه أحد عليه ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا) في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة أفاده ابن حبان ( فَصُرِعَ) بضم الصاد وكسر الراء أي سقط عن الفرس وللتنيسي ومعن فصرع عنه، وفي أبي داود وابن خزيمة بسند صحيح عن جابر: وركب صلى الله عليه وسلم فرسًا بالمدينة فصرعه على جذع نخلة ( فَجُحِشَ) بضم الجيم وكسر الحاء المهملة أي خدش وقيل الجحش فوق الخدش، وحسبك أنه لم يقدر أن يصلي قائمًا قاله ابن عبد البر، والخدش قشر الجلد ( شِقُّهُ الْأَيْمَنُ) بأن قشر جلده ولعبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري ساقه الأيمن وليست مصحفة كما زعم بعضهم لموافقة رواية حميد لها، وإنما هي مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن لأن الخدش لم يستوعبه ( فَصَلَّى صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ) قال القرطبي: اللام للعهد ظاهرًا والمراد الفرض لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة.
وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلاً، وتعقب بأن في أبي داود وابن خزيمة عن جابر الجزم بأنها فرض.
قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس فصلى بنا يومئذ فكأنها نهارية الظهر أو العصر ( وَهُوَ قَاعِدٌ) قال عياض: يحتمل أنه أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام.
قال الحافظ: وليس كذلك وإنما كانت قدمه منفكة كما في رواية بشر بن المفضل عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي، وكذا لأبي داود وابن خزيمة عن جابر فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه لا ينافيه جحش شقه لاحتمال وقوع الأمرين ( وَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا) ظاهره يخالف حديث عائشة بعده والجمع بينهما أن في رواية أنس اختصارًا وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس.

وفي الصحيحين عن حميد عن أنس فصلى بهم جالسًا وهم قيام، وفيها أيضًا اختصار لأنه لم يذكر قوله لهم اجلسوا والجمع بينهما أنهم ابتدءوا الصلاة قيامًا فأومأ إليهم أن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة.
وكذا جابر في مسلم، وجمع القرطبي باحتمال أن بعضهم قعد من أوّل الحال وهو ما حكاه أنس وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهو ما حكته عائشة وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه صلى الله عليه وسلم لاستلزامه النسخ بالاجتهاد لأن فرض القادر في الأصل القيام، وجمع آخرون باحتمال تعدّد الواقعة وفيه بعد لأن حديث أنس إن كان سابقًا لزم النسخ بالاجتهاد، وإن كان متأخرًا لم يحتج إلى إعادة إنما جعل الإمام إلخ... لأنهم امتثلوا أمره السابق وصلوا قعودًا لقعوده، وفي حديث جابر عند أبي داود أنهم دخلوا يعودونه مرتين فصلى بهم فيهما، لكن بين أن الأولى كانت نافلة وأقرّهم على القيام وهو جالس والثانية كانت فريضة وابتدءوا قيامًا فأشار إليهم بالجلوس، ونحوه في رواية بشر عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي.

( فَلَمَّا انْصَرَفَ) من الصلاة ( قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ) إمامًا ( لِيُؤْتَمَّ) ليقتدى ( بِهِ) ويتبع ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال قاله البيضاوي وغيره.

قال في الاستذكار: زاد معن في الموطأ عن مالك فلا تختلفوا عليه ففيه حجة لقول مالك والثوري وأبي حنيفة وأكثر التابعين بالمدينة والكوفة أن من خالفت نيته نية إمامه بطلت صلاة المأموم، إذ لا اختلاف أشدّ من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال انتهى.

وفي التمهيد روى الزيادة ابن وهب ويحيى بن مالك وأبو علي الحنفي عن مالك عن الزهري عن أنس، وليست في الموطأ إلا بلاغات مالك، وقد رواها معن وأبو قرّة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وثبتت زيادة معن هذه في رواية همام عن أبي هريرة في الصحيحين، وأفادت أن الأمر بالاتباع يعم جميع المؤمنين ولا يكفي اتباع بعض دون بعض.

( فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ) أي أجاب الدعاء ( لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) بالواو لجميع الرواة في حديث أنس هذا إلا في رواية شعيب عن الزهري رواه البخاري بدونها، ورجح إثباتها باتفاق رواة حديث عائشة وأبي هريرة على ذلك أيضًا وبأن فيها معنى زائدًا لأنها عاطفة على محذوف تقديره: ربنا استجب أو ربنا أطعناك ولك الحمد فتشتمل على الدعاء والثناء معًا، ورجح قوم حذفها لأن الأصل عدم التقدير فتصير عاطفة على كلام غير تامّ.
قال ابن دقيق العيد: والأوّل أوجه، وقال النووي: ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها والوجهان جائزان بغير ترجيح، وزاد في بعض طرق حديث عائشة عند البخاري وغيره: وإذا سجد فاسجدوا.

( وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) ظاهره صحة إمامة الجالس المعذور بمثله وجلوس مأمومه القادر معه لكن الثاني منسوخ قاله الشافعي وغيره.
وقال الباجي: مقتضى سياق الحديث أن معناه إذا صلى جالسًا في موضع الجلوس أن يقتدى به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين لأنه وصف أفعال الصلاة من أولها فصلاً فصلاً، وانتقل إلى الائتمام به في حال الجلوس وهو موضع التشهد فأمر أن يقتدى به فيها، وأيد بأنه ذكر ذلك عقب الرفع من الركوع فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيمًا له فأمرهم بالجلوس تواضعًا، وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر: إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا.
رواه أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح.
واستبعد ذلك ابن دقيق العيد بأن سياق طرق الحديث تأباه، وبأنه لو كان الأمر بالجلوس في الركن لقال: وإذا جلس فاجلسوا ليناسب قوله: وإذا سجد فاسجدوا، فلما عدل إلى قوله: وإذا صلى جالسًا كان كقوله: وإذا صلى قائمًا، والمراد بذلك جميع الصلاة.

ويؤيده قول أنس: وصلينا وراءه قعودًا ( أَجْمَعُونَ) بالواو في جميع طرق حديث أنس تأكيدًا لضمير الفاعل في قوله فصلوا، وأخطأ من ضعفه فإن المعنى عليه، واختلفوا في رواية همام عن أبي هريرة فقال بعضهم: أجمعين بالياء نصب على الحال أي جلوسًا مجتمعين أو على التأكيد لضمير مقدّر منصوب كأنه قيل: أعنيكم أجمعين، وفيه مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له منها سقوط ونحوه بما اتفق له صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة وبه الأسوة الحسنة، وفيه أنه يجوز عليه ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره لذلك بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم من طريق معن كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ شَاكٍ) بخفة الكاف بوزن قاض من الشكاية وهي المرض، وسببه ما في حديث أنس قبله أنه سقط عن فرس، وحاصل القصة أن عائشة أبهمت الشكوى، وبيَّن أنس وجابر سببها وهو السقوط عن الفرس، وعيّن جابر كأنس في بعض طرق حديثه عند الإسماعيلي العلة في الصلاة قاعدًا وهي انفكاك القدم.

( فَصَلَّى) حال كونه ( جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ) حال كونهم ( قِيَامًا) ولمسلم من رواية عبدة عن هشام فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه الحديث، وسمى منهم أنس كما مرّ في حديثه وأبو بكر وجابر عند مسلم وغيره وعمر كما لعبد الرزاق من مرسل الحسن ( فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا) بلفظ إلى من الإشارة لجميع رواة الموطأ، وتابعه يحيى القطان عن هشام عند البخاري في الطب وهو ما لأكثر رواة البخاري في الصلاة من طريق الموطأ، ولبعضهم عليهم بلفظ على من المشورة، والأوّل أصح فقد رواه أيوب عن هشام بلفظ فأومأ إليهم وعبد الرزاق عن معمر عن هشام بلفظ فأخلف بيده يومئ بها إليهم، وفي مرسل الحسن ولم يبلغ بها الغاية.
زاد في رواية عبدة عن هشام عند مسلم فجلسوا.

( فَلَمَّا انْصَرَفَ) من الصلاة ( قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ) أي نصب أو اتخذ ( الْإِمَامُ) أو التقدير إمامًا ( لِيُؤْتَمَّ بِهِ) ليقتدى به ( فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا) قال ابن المنير: مقتضاه أن ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام إما بعد تمام انحنائه، وإما بأن يسبقه الإمام بأوّله فيشرع فيه بعد أن يشرع ( وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا) زاد في رواية عبدة عن هشام: وإذا سجد فاسجدوا رواه البخاري والرفع يتناول الرفع من الركوع ومن السجود وجميع السجدات.

قال ابن المنير: وحديث أنس أتمّ من حديث عائشة لأنه زاد المتابعة في الأقوال أيضًا.

قال الحافظ: ووقعت الزيادة المذكورة وهي: وإذا قال سمع الله لمن حمده في حديث عائشة أيضًا يعني ما في رواية أبي ذر وابن عساكر للبخاري من طريق مالك هذه عقب قوله: فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، لكنها ليست في الموطأ ولا في رواية غير هذين للبخاري.

نعم وردت في حديث أنس وجابر وأبي هريرة في الصحيحين: ( وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) ولو قادرين على القيام لكنه منسوخ.

وأخرجه البخاري في مواضع عن عبد الله بن يوسف وقتيبة بن سعيد وإسماعيل، وأبو داود عن القعنبي أربعتهم عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) لم تختلف رواة مالك في إرساله وقد أسنده الشافعي في الأم من طريق حماد بن سلمة والبخاري ومسلم وابن ماجه من طريق عبد الله بن نمير كلاهما عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ) الذي توفي فيه ( فَأَتَى) زاد في بعض النسخ المسجد، وفي رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر ( فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ) كما أمر صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال الحافظ: فصرح في الرواية المذكورة بالظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح لرواية ابن ماجه بسند حسن عن ابن عباس، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث بلغ أبو بكر وفيه نظر لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان عليه السلام يسمع الآية أحيانًا في الصلاة السرية كما في البخاري، وصرح الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل بالناس في مرض موته بالمسجد إلا مرة واحدة وهي هذه التي صلى فيها قاعدًا وكان أبو بكر فيها إمامًا ثم صار مأمومًا كما قال.

( فَاسْتَأْخَرَ) أي تأخر ( أَبُو بَكْرٍ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ كَمَا أَنْتَ) أي كالذي أنت عليه أو فيه من الإمامة وأنت مبتدأ حذف خبره والكاف للتشبيه أي ليكن حالك في المستقبل مشابهًا لحالك في الماضي أو زائدة أي الذي أنت عليه وهو الإمامة ( فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ) لا خلفه ولا قدامه، وفي رواية الصحيحين حذاء أبي بكر والأصل في الإمام أن يتقدّم على المأموم إلا لضيق المكان وكذا لو كانوا عراة وما عدا ذلك يجوز ويجزي ولكن يفوّت الفضيلة ( فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي) قائمًا ( بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ) أي بتبليغه لهم أي يتعرّفون به ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله لضعف صوته عن أن يسمع الناس تكبير الانتقال فكان الصدّيق يسمعهم ذلك.

وفي رواية الصحيحين عن عبيد الله عنها: فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور للقائم الصحيح، وإليه ذهب الشافعي ومالك في رواية الوليد بن مسلم وأبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي وجعلوا ذلك ناسخًا لقوله: وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا لأنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، والرواية المشهورة عن مالك عدم صحة الائتمام وقاله محمد بن الحسن وقال ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لحديث جابر الجعفي عن الشعبي مرفوعًا: لا يؤمنّ أحد بعدي جالسًا.
وتعقب بأن جابرًا ضعيف مع إرساله.

وقال ابن بزيزة: لو صح لم يكن فيه حجة لاحتمال أن المراد منع الصلاة بالجالس أي بإعراب جالسًا مفعولاً لا حالاً.
وقال غيره: لو صح احتاج إلى تاريخ لكن قوّاه عياض بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم والنسخ لا يثبت بعده صلى الله عليه وسلم لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث، واحتج عياض أيضًا على أنه خصوصية له صلى الله عليه وسلم بأنه لا يصح التقدّم بين يديه لنهي الله تعالى عن ذلك ولأن الأئمة شفعاء ولا يكون أحد شافعًا له، ولا يشكل عليه بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف وأبي بكر كما قدّمته سابقًا لأن محل المنع إذا أمّه هو أمّا إذا أمّ غيره وجاء وأبقاه فلا منع بدليل قصتي عبد الرحمن وأبي بكر إذ كل منهما أمّ غيره لغيبته فجاء وأبقاه وألحق له.

وقد نقل ابن العربي عن بعض الأشياخ أن الحال أحد وجوه التخصيص وحال النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العروض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها وليس ذلك لغيره ولا يرد عليه قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي لأنه عامّ، وأنكر أحمد وإسحاق وغيرهما دعوى النسخ وقالوا: إن صلى الإمام جالسًا صلى المأموم كذلك ولو قدر على القيام.
قال أحمد: وفعله أربعة من الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: جابر وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد بفتح القاف وسكون الهاء الأنصاري.



رقم الحديث 313 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ.
فَأَتَى فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ.
فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ كَمَا أَنْتَ.
فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ.
فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ.


صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَالِسٌ

( مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) قال أبو عمر لم تختلف رواة الموطأ في سنده ورواه سويد بن سعيد عن مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة وهو خطأ لم يتابعه أحد عليه ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ فَرَسًا) في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة أفاده ابن حبان ( فَصُرِعَ) بضم الصاد وكسر الراء أي سقط عن الفرس وللتنيسي ومعن فصرع عنه، وفي أبي داود وابن خزيمة بسند صحيح عن جابر: وركب صلى الله عليه وسلم فرسًا بالمدينة فصرعه على جذع نخلة ( فَجُحِشَ) بضم الجيم وكسر الحاء المهملة أي خدش وقيل الجحش فوق الخدش، وحسبك أنه لم يقدر أن يصلي قائمًا قاله ابن عبد البر، والخدش قشر الجلد ( شِقُّهُ الْأَيْمَنُ) بأن قشر جلده ولعبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري ساقه الأيمن وليست مصحفة كما زعم بعضهم لموافقة رواية حميد لها، وإنما هي مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن لأن الخدش لم يستوعبه ( فَصَلَّى صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ) قال القرطبي: اللام للعهد ظاهرًا والمراد الفرض لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة.
وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلاً، وتعقب بأن في أبي داود وابن خزيمة عن جابر الجزم بأنها فرض.
قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس فصلى بنا يومئذ فكأنها نهارية الظهر أو العصر ( وَهُوَ قَاعِدٌ) قال عياض: يحتمل أنه أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام.
قال الحافظ: وليس كذلك وإنما كانت قدمه منفكة كما في رواية بشر بن المفضل عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي، وكذا لأبي داود وابن خزيمة عن جابر فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه لا ينافيه جحش شقه لاحتمال وقوع الأمرين ( وَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا) ظاهره يخالف حديث عائشة بعده والجمع بينهما أن في رواية أنس اختصارًا وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس.

وفي الصحيحين عن حميد عن أنس فصلى بهم جالسًا وهم قيام، وفيها أيضًا اختصار لأنه لم يذكر قوله لهم اجلسوا والجمع بينهما أنهم ابتدءوا الصلاة قيامًا فأومأ إليهم أن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة.
وكذا جابر في مسلم، وجمع القرطبي باحتمال أن بعضهم قعد من أوّل الحال وهو ما حكاه أنس وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهو ما حكته عائشة وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه صلى الله عليه وسلم لاستلزامه النسخ بالاجتهاد لأن فرض القادر في الأصل القيام، وجمع آخرون باحتمال تعدّد الواقعة وفيه بعد لأن حديث أنس إن كان سابقًا لزم النسخ بالاجتهاد، وإن كان متأخرًا لم يحتج إلى إعادة إنما جعل الإمام إلخ... لأنهم امتثلوا أمره السابق وصلوا قعودًا لقعوده، وفي حديث جابر عند أبي داود أنهم دخلوا يعودونه مرتين فصلى بهم فيهما، لكن بين أن الأولى كانت نافلة وأقرّهم على القيام وهو جالس والثانية كانت فريضة وابتدءوا قيامًا فأشار إليهم بالجلوس، ونحوه في رواية بشر عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي.

( فَلَمَّا انْصَرَفَ) من الصلاة ( قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ) إمامًا ( لِيُؤْتَمَّ) ليقتدى ( بِهِ) ويتبع ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال قاله البيضاوي وغيره.

قال في الاستذكار: زاد معن في الموطأ عن مالك فلا تختلفوا عليه ففيه حجة لقول مالك والثوري وأبي حنيفة وأكثر التابعين بالمدينة والكوفة أن من خالفت نيته نية إمامه بطلت صلاة المأموم، إذ لا اختلاف أشدّ من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال انتهى.

وفي التمهيد روى الزيادة ابن وهب ويحيى بن مالك وأبو علي الحنفي عن مالك عن الزهري عن أنس، وليست في الموطأ إلا بلاغات مالك، وقد رواها معن وأبو قرّة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا انتهى.

وثبتت زيادة معن هذه في رواية همام عن أبي هريرة في الصحيحين، وأفادت أن الأمر بالاتباع يعم جميع المؤمنين ولا يكفي اتباع بعض دون بعض.

( فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ) أي أجاب الدعاء ( لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) بالواو لجميع الرواة في حديث أنس هذا إلا في رواية شعيب عن الزهري رواه البخاري بدونها، ورجح إثباتها باتفاق رواة حديث عائشة وأبي هريرة على ذلك أيضًا وبأن فيها معنى زائدًا لأنها عاطفة على محذوف تقديره: ربنا استجب أو ربنا أطعناك ولك الحمد فتشتمل على الدعاء والثناء معًا، ورجح قوم حذفها لأن الأصل عدم التقدير فتصير عاطفة على كلام غير تامّ.
قال ابن دقيق العيد: والأوّل أوجه، وقال النووي: ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها والوجهان جائزان بغير ترجيح، وزاد في بعض طرق حديث عائشة عند البخاري وغيره: وإذا سجد فاسجدوا.

( وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) ظاهره صحة إمامة الجالس المعذور بمثله وجلوس مأمومه القادر معه لكن الثاني منسوخ قاله الشافعي وغيره.
وقال الباجي: مقتضى سياق الحديث أن معناه إذا صلى جالسًا في موضع الجلوس أن يقتدى به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين لأنه وصف أفعال الصلاة من أولها فصلاً فصلاً، وانتقل إلى الائتمام به في حال الجلوس وهو موضع التشهد فأمر أن يقتدى به فيها، وأيد بأنه ذكر ذلك عقب الرفع من الركوع فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيمًا له فأمرهم بالجلوس تواضعًا، وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر: إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا.
رواه أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح.
واستبعد ذلك ابن دقيق العيد بأن سياق طرق الحديث تأباه، وبأنه لو كان الأمر بالجلوس في الركن لقال: وإذا جلس فاجلسوا ليناسب قوله: وإذا سجد فاسجدوا، فلما عدل إلى قوله: وإذا صلى جالسًا كان كقوله: وإذا صلى قائمًا، والمراد بذلك جميع الصلاة.

ويؤيده قول أنس: وصلينا وراءه قعودًا ( أَجْمَعُونَ) بالواو في جميع طرق حديث أنس تأكيدًا لضمير الفاعل في قوله فصلوا، وأخطأ من ضعفه فإن المعنى عليه، واختلفوا في رواية همام عن أبي هريرة فقال بعضهم: أجمعين بالياء نصب على الحال أي جلوسًا مجتمعين أو على التأكيد لضمير مقدّر منصوب كأنه قيل: أعنيكم أجمعين، وفيه مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له منها سقوط ونحوه بما اتفق له صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة وبه الأسوة الحسنة، وفيه أنه يجوز عليه ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره لذلك بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة.

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم من طريق معن كلاهما عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ شَاكٍ) بخفة الكاف بوزن قاض من الشكاية وهي المرض، وسببه ما في حديث أنس قبله أنه سقط عن فرس، وحاصل القصة أن عائشة أبهمت الشكوى، وبيَّن أنس وجابر سببها وهو السقوط عن الفرس، وعيّن جابر كأنس في بعض طرق حديثه عند الإسماعيلي العلة في الصلاة قاعدًا وهي انفكاك القدم.

( فَصَلَّى) حال كونه ( جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ) حال كونهم ( قِيَامًا) ولمسلم من رواية عبدة عن هشام فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه الحديث، وسمى منهم أنس كما مرّ في حديثه وأبو بكر وجابر عند مسلم وغيره وعمر كما لعبد الرزاق من مرسل الحسن ( فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا) بلفظ إلى من الإشارة لجميع رواة الموطأ، وتابعه يحيى القطان عن هشام عند البخاري في الطب وهو ما لأكثر رواة البخاري في الصلاة من طريق الموطأ، ولبعضهم عليهم بلفظ على من المشورة، والأوّل أصح فقد رواه أيوب عن هشام بلفظ فأومأ إليهم وعبد الرزاق عن معمر عن هشام بلفظ فأخلف بيده يومئ بها إليهم، وفي مرسل الحسن ولم يبلغ بها الغاية.
زاد في رواية عبدة عن هشام عند مسلم فجلسوا.

( فَلَمَّا انْصَرَفَ) من الصلاة ( قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ) أي نصب أو اتخذ ( الْإِمَامُ) أو التقدير إمامًا ( لِيُؤْتَمَّ بِهِ) ليقتدى به ( فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا) قال ابن المنير: مقتضاه أن ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام إما بعد تمام انحنائه، وإما بأن يسبقه الإمام بأوّله فيشرع فيه بعد أن يشرع ( وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا) زاد في رواية عبدة عن هشام: وإذا سجد فاسجدوا رواه البخاري والرفع يتناول الرفع من الركوع ومن السجود وجميع السجدات.

قال ابن المنير: وحديث أنس أتمّ من حديث عائشة لأنه زاد المتابعة في الأقوال أيضًا.

قال الحافظ: ووقعت الزيادة المذكورة وهي: وإذا قال سمع الله لمن حمده في حديث عائشة أيضًا يعني ما في رواية أبي ذر وابن عساكر للبخاري من طريق مالك هذه عقب قوله: فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، لكنها ليست في الموطأ ولا في رواية غير هذين للبخاري.

نعم وردت في حديث أنس وجابر وأبي هريرة في الصحيحين: ( وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) ولو قادرين على القيام لكنه منسوخ.

وأخرجه البخاري في مواضع عن عبد الله بن يوسف وقتيبة بن سعيد وإسماعيل، وأبو داود عن القعنبي أربعتهم عن مالك به.

( مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) لم تختلف رواة مالك في إرساله وقد أسنده الشافعي في الأم من طريق حماد بن سلمة والبخاري ومسلم وابن ماجه من طريق عبد الله بن نمير كلاهما عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ) الذي توفي فيه ( فَأَتَى) زاد في بعض النسخ المسجد، وفي رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر ( فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ) كما أمر صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال الحافظ: فصرح في الرواية المذكورة بالظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح لرواية ابن ماجه بسند حسن عن ابن عباس، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث بلغ أبو بكر وفيه نظر لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان عليه السلام يسمع الآية أحيانًا في الصلاة السرية كما في البخاري، وصرح الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل بالناس في مرض موته بالمسجد إلا مرة واحدة وهي هذه التي صلى فيها قاعدًا وكان أبو بكر فيها إمامًا ثم صار مأمومًا كما قال.

( فَاسْتَأْخَرَ) أي تأخر ( أَبُو بَكْرٍ فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ كَمَا أَنْتَ) أي كالذي أنت عليه أو فيه من الإمامة وأنت مبتدأ حذف خبره والكاف للتشبيه أي ليكن حالك في المستقبل مشابهًا لحالك في الماضي أو زائدة أي الذي أنت عليه وهو الإمامة ( فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ) لا خلفه ولا قدامه، وفي رواية الصحيحين حذاء أبي بكر والأصل في الإمام أن يتقدّم على المأموم إلا لضيق المكان وكذا لو كانوا عراة وما عدا ذلك يجوز ويجزي ولكن يفوّت الفضيلة ( فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي) قائمًا ( بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ) أي بتبليغه لهم أي يتعرّفون به ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله لضعف صوته عن أن يسمع الناس تكبير الانتقال فكان الصدّيق يسمعهم ذلك.

وفي رواية الصحيحين عن عبيد الله عنها: فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور للقائم الصحيح، وإليه ذهب الشافعي ومالك في رواية الوليد بن مسلم وأبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي وجعلوا ذلك ناسخًا لقوله: وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا لأنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، والرواية المشهورة عن مالك عدم صحة الائتمام وقاله محمد بن الحسن وقال ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لحديث جابر الجعفي عن الشعبي مرفوعًا: لا يؤمنّ أحد بعدي جالسًا.
وتعقب بأن جابرًا ضعيف مع إرساله.

وقال ابن بزيزة: لو صح لم يكن فيه حجة لاحتمال أن المراد منع الصلاة بالجالس أي بإعراب جالسًا مفعولاً لا حالاً.
وقال غيره: لو صح احتاج إلى تاريخ لكن قوّاه عياض بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم والنسخ لا يثبت بعده صلى الله عليه وسلم لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث، واحتج عياض أيضًا على أنه خصوصية له صلى الله عليه وسلم بأنه لا يصح التقدّم بين يديه لنهي الله تعالى عن ذلك ولأن الأئمة شفعاء ولا يكون أحد شافعًا له، ولا يشكل عليه بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف وأبي بكر كما قدّمته سابقًا لأن محل المنع إذا أمّه هو أمّا إذا أمّ غيره وجاء وأبقاه فلا منع بدليل قصتي عبد الرحمن وأبي بكر إذ كل منهما أمّ غيره لغيبته فجاء وأبقاه وألحق له.

وقد نقل ابن العربي عن بعض الأشياخ أن الحال أحد وجوه التخصيص وحال النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العروض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها وليس ذلك لغيره ولا يرد عليه قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي لأنه عامّ، وأنكر أحمد وإسحاق وغيرهما دعوى النسخ وقالوا: إن صلى الإمام جالسًا صلى المأموم كذلك ولو قدر على القيام.
قال أحمد: وفعله أربعة من الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: جابر وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن قهد بفتح القاف وسكون الهاء الأنصاري.