فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الْحَجِّ عَمَّنْ يُحَجُّ عَنْهُ

رقم الحديث 805 قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا.
فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ
}
}
قَالَ مَالِكٌ: فَالَّذِي يَصِيدُ الصَّيْدَ وَهُوَ حَلَالٌ.
ثُمَّ يَقْتُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَبْتَاعُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
ثُمَّ يَقْتُلُهُ.
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِ.
فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَصَابَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ حُكِمَ عَلَيْهِ قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ، أَنْ يُقَوَّمَ الصَّيْدُ الَّذِي أَصَابَ، فَيُنْظَرَ كَمْ ثَمَنُهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَيُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا.
أَوْ يَصُومَ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا.
وَيُنْظَرَ كَمْ عِدَّةُ الْمَسَاكِينِ.
فَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانُوا عِشْرِينَ مِسْكِينًا صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا عَدَدَهُمْ مَا كَانُوا، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ حَلَالٌ، بِمِثْلِ مَا يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ.



( الحكم في الصيد)

( قال مالك قال الله تبارك وتعالى { { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } } ) أي محرمون اختلف المفسرون فقيل معناه وقد أحرمتم بأحد النسكين وقيل دخلتم في الحرم وقيل هما مرادان لأنه يقال لمن دخل الحرم أحرم لأن الإحرام الدخول في حرمات الشيء ومنه أحرم بالصلاة وأنجد وأتهم وأصبح وأمسى إذا دخل نجد أو تهامة وفي الصباح والمساء والثالث اعتمده الفقهاء ولعله تعالى ذكر القتل دون الذبح للتعميم وأريد بالصيد ما يؤكل لحمه وما لا إلا المستثنيات عند مالك وقيل المراد ما يؤكل لأنه الغالب فيه عرفًا { { ومن قتله منكم متعمدًا } } ذاكرًا عالمًا بالحرمة { { فجزاء مثل ما قتل من النعم } } برفع جزاء بلا تنوين وخفض مثل على أن جزاء مصدر مضاف لمفعوله تخفيفًا والأصل فعليه أن يجزى المقتول من الصيد مثله من النعم فحذف الأول لدلالة الكلام عليه وأضيف المصدر إلى الثاني أو أن مثل مقحمة كقولهم مثلك لا يبخل أي أنت وهذه قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي عمرو وقرأ الباقون فجزاء بالرفع منونًا على الابتداء والخبر محذوف تقديره فعليه جزاء أو خبر مبتدأ محذوف أي فالواجب جزاء أو فاعل بفعل محذوف أي فيلزمه أو يجب عليه ومثل بالرفع صفة لجزاء أي فعليه جزاء موصوف بأنه مثل أي مماثل ما قتله وذهب الجمهور سلفًا وخلفًا إلى أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه فالقرآن دل على وجوب الجزاء على العامد وعلى إثمه بقوله { { ليذوق وبال أمره } } وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ كما دل عليه الكتاب في العمد وأيضًا فقتل الصيد إتلاف والإتلاف مضمون في العمد والنسيان لكن المتعمد آثم والمخطئ غير ملوم وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة عند مالك والشافعي والقيمة عند أبي حنيفة { { يحكم به } } بالجزاء { { ذوا عدل منكم } } أي من المسلمين فإن الأنواع تتشابه ففي النعامة بدنة والفيل بدنة لها سنامان وحمار الوحش بقرة إلى آخر ما بين في الفروع { { هديًا } } حال من ضمير به { { بالغ الكعبة } } صفة هديًا والإضافة لفظية أي واصلاً إليها بأن يذبح ويتصدق به { { أو كفارة } } عطف على جزاء { { طعام مساكين } } بدل منه أو تقديره هي طعام وقرأ نافع وابن عامر بإضافة كفارة إلى طعام لأنها لما تنوعت إلى تكفير بالطعام وبالجزاء المماثل وبالصيام حسنت إضافتها لأحد أنواعها تبيينًا لذلك والإضافة تكون بأدنى ملابسة ولا خلاف في جمع مساكين هنا لأنه لا يطعم في قتل الصيد مسكين واحد بل جماعة وإنما اختلف في البقرة لأن التوحيد يراد به عن كل يوم والجمع يراد به عن أيام كثيرة { { أو عدل ذلك صيامًا } } أي أو ما سواه من الصيام فيصوم عن طعام كل مسكين يومًا أو حينًا { { ليذوق وبال أمره } } ثقله وجزاء معصيته عفا الله عما سلف أي قبل التحريم ومن عاد فينتقم الله منه أي في الآخرة وعليه مع ذلك الجزاء ( قال مالك فالذي يصيد الصيد وهو حلال ثم يقتله وهو محرم بمنزلة الذي يبتاعه وهو محرم ثم يقتله وقد نهى الله عن قتله) بقوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم فإنه شامل لما إذا صاده وهو حلال أو ابتاعه وهو محرم ( فعليه جزاؤه) بما بين في الآية ( والأمر عندنا أن من أصاب الصيد وهو محرم حكم عليه بالجزاء)

( قال مالك) بيانًا لكيفية الحكم ( أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أن يقوم الصيد الذي أصاب فينظر كم ثمنه من الطعام فيطعم) بالرفع والنصب ( كل) بالنصب والرفع ( مسكين مدًا أو يصوم مكان كل مد يومًا وينظر) بالرفع والنصب ( كم عدة المساكين فإن كانوا عشرة صام عشرة أيام وإن كانوا عشرين مسكينًا صام عشرين يومًا عددهم ما كانوا) قلوا أو كثروا ( وإن كانوا أكثر من ستين مسكينًا) لقول الله تعالى { { أو عدل ذلك صيامًا } }

( قال مالك سمعت أنه يحكم على من قتل الصيد في الحرم وهو حلال بمثل ما يحكم به على المحرم الذي يقتل الصيد في الحرم وهو محرم) لتناول الآية لهما على ما مرّ.



رقم الحديث 805 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ.
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا.
لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.


( الحج عمن يحج عنه)

( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن سليمان بن يسار) الهلالي ( عن عبد الله بن عباس قال كان الفضل بن عباس) أكبر ولده وبه كان يكنى أبوه استشهد في خلافة عمر بأجنادين هكذا قال مالك وأكثر الرواة عن الزهري أن الحديث من مسند عبد الله وخالفهم ابن جريج عن ابن شهاب في الصحيحين فقال عن ابن عباس عن الفضل أن امرأة فذكره فجعله من مسند الفضل وتابعه معمر قال الترمذي سألت محمدًا يعني البخاري عن هذا فقال أصح شيء في هذا ما روي عن ابن عباس عن الفضل قال محمد ويحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل وغيره ثم رواه بلا واسطة انتهى وكأنه رجح هذا لأن الفضل كان رديف المصطفى حينئذ وكان عبد الله تقدم من مزدلفة إلى منى مع الضعفة فكأن الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة لكن عند أحمد والترمذي أن العباس كان حاضرًا فلا مانع أن عبد الله كان معه فحمله تارة عن أخيه وتارة حدث به عن مشاهدة فقال كان الفضل ( رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد البخاري من رواية شعيب عن الزهري على عجز راحلته وفيه جواز الإرداف وهو من التواضع ولا خلاف فيه إذا أطاقته الدابة والرجل الجليل جميل به الارتداف والآنفة منه تجبر وتكبر قاله أبو عمر ( فجاءته امرأة) قال الحافظ لم تسم ( من خثعم) بفتح الخاء المعجمة وسكون المثلثة وفتح المهملة غير مصروف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة لا العلمية ووزن الفعل قبيلة مشهورة سميت باسم جدها واسمه أفتل بن أنمار قال ابن الكلبي عن أبيه إنما سمي خثعم بجمل يقال له خثعم ويقال إنه لما تحالف ولد أفتل على إخوته نحروا بعيرًا ثم تخثعموا بدمه أي تلطخوا به بلغتهم ( تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر) المرأة ( إليه) وكان جميلاً قال القرطبي هذا النظر هو بمقتضى الطباع فإنها مجبولة على النظر إلى الصورة الحسنة ولذا قال في بعض طرق الحديث وكان الفضل أبيض وسيمًا ( فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر) الذي ليس فيه المرأة منعًا له عن مقتضى الطبع وردًا إلى مقتضى الشرع وقال ابن عبد البر وتبعه عياض فيه ما يلزم الأئمة من تغيير ما يخشى فتنته ومنعه ما ينكر في الدين وقال النووي فيه حرمة النظر إلى الأجنبية وتغيير المنكر باليد لمن قدر عليه قال الأبي الأظهر أن صرفه وجه الفضل ليس للوقوع في المحرم كما يعطيه كلام عياض والنووي وإنما هو لخوف الوقوع كما يعطيه كلام القرطبي انتهى وقال الولي العراقي إن أراد النووي تحريم النظر عند خوف الفتنة فهو محل وفاق من العلماء وإن أراد الأعم من خوفها وأمنه ففي حالة أمنها خلاف مشهور للعلماء وهما وجهان ولا يصح الاستدلال بالحديث على التحريم في هذه الحالة لأن الأمر محتمل لكل منهما بل الظاهر أن المصطفى خشي عليهما الفتنة وبه صرح جابر في حديثه الطويل عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل فقال له العباس لويت عنق ابن عمك فقال رأيت شابًا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما قال النووي نفسه فهذا يدل على أن وضع يده على الفضل كان لدفع الفتنة عنه وعنها وفي مسلم عن جابر وضع يده على وجه الفضل فكأنه صرف وجهه بل عنقه ووضع يده عليه مبالغة في منعه وهذا أولى من قول الولي فعل كلا منهما في وقت فلوى عنقه تارة ووضع يده على وجهه تارة وبين استفتاء ما يقوله ( فقالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي) لم يسم أيضًا ( شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة) صفة بعد صفة أو من الأحوال المتداخلة أو شيخًا بدل لكونه موصوفًا أي وجب عليه الحج بأن أسلم وهو شيخ كبير وحصل له المال في هذه الحالة والأول أوجه قاله الطيبي ( أفأحج) أي أيصح أن أنوب عنه فأحج ( عنه قال نعم) أي حجي عنه وبه استدل من قال كالشافعي تجب الاستنابة على العاجز عن الحج الفرض قال عياض ولا حجة فيه لأن قولها إن فريضة الله إلى آخره لا يوجب دخول أبيها في هذا الفرض وإنما الظاهر من الحديث أنها أخبرت أن فرض الحج بالاستطاعة نزل وأبوها غير مستطيع فسألت هل يباح لها أن تحج عنه ويكون له في ذلك أجر ولا يخالفه قوله في رواية فحجي عنه لأنه أمر ندب وإرشاد ورخصة لها أن تفعل لما رأى من حرصها على تحصيل الخير لأبيها وقال أبو عمر حديث الخثعمية خاص بها لا يجوز أن يتعدى إلى غيرها لقوله تعالى { { من استطاع إليه سبيلاً } } وكان أبوها ممن لا يستطيع فلم يكن عليه الحج فكانت ابنته مخصوصة بذلك الجواب وممن قال بذلك مالك وأصحابه قال المازري للآية لأن الظاهر في الاستطاعة أنها البدنية إذ لو كانت المالية لقال أحجاج البيت والحج فرع بين أصلين أحدهما عمل بدون صرف كالصلاة والصوم فلا استنابة فيه والثاني مال صرف كالصدقة وقال عياض الاستطاعة عند مالك هي القدرة ولو على رجليه دون مشقة فادحة وقال الأكثر هي الزاد والراحلة وجاء فيه حديث لكن ضعفه أهل الحديث وتأويله عندنا أنه أحد أنواع الاستطاعة لا كلها ولعمري إنه بين إن صح فإن كانت الاستطاعة هي السبب فقد تضمن الزاد والراحلة أمن الطريق وصحة الجسم ( وذلك في حجة الوداع) وفي رواية شعيب عن الزهري يوم النحر وفي الترمذي وأحمد ما يدل على أن السؤال وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي والبخاري أيضًا عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى والنسائي من طريق ابن القاسم الأربعة عن مالك به وتابعه عبد العزيز بن أبي سلمة وشعيب والأوزاعي عند البخاري وابن عيينة وصالح بن كيسان وأيوب السختياني ويحيى بن أبي إسحاق عند النسائي سبعتهم عن الزهري به.