فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ

رقم الحديث 883 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ.


(الوقوف بعرفة والمزدلفة)

(مالك أنه بلغه) وأخرجه ابن وهب في موطئه قال أخبرني محمد بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر مرسلاً بلفظ الموطأ ووصله عبد الرزاق بلفظه عن معمر عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عرفة كلها موقف) أي أن الواقف بأي جزء منها آتٍ بسنة إبراهيم متبع لطريقته (وإن بعد موقفه عن موقفي) أراد به رفع توهم تعين الموقف الذي اختاره هو للوقوف (وارتفعوا عن بطن عرنة) بضم العين وفتح الراء ونون وفي لغة بضمتين موضع بين منى وعرفات وهي ما بين العلمين الكبيرين جهة عرفة والعلمين الكبيرين جهة منى (والمزدلفة) المكان المعروف سميت بذلك لأنه يتقرب فيها من زلف إذا تقرب وقيل لمجيء الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات والمزدلفة كلها من الحرم (كلها موقف) وفي حديث جابر قد وقفت ههنا ومزدلفة كلها موقف (وارتفعوا عن بطن محسر) بكسر السين مشددة بين منى ومزدلفة سمي بذلك لأن فيل أبرهة كل فيه وأعيا فحسر أصحابه بفعله وأوقفهم في الحسرات وإضافته للبيان كشجر أراك وبقية رواية عبد الرزاق المذكورة عقب هذا ومنى كلها منحر وفجاج مكة كلها منحر ففي أي محل وقف أجزأ وإن كان الأفضل أن يقف عند الصخرات التي وقف عندها صلى الله عليه وسلم قال النووي وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات وأن الفضيلة في موقفه صلى الله عليه وسلم عند الصخرات فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان وهذا الحديث قد جاء أيضًا موصولاً عن جابر عند مسلم وغيره مرفوعًا بلفظ وقفت ههنا وعرفات كلها موقف ووقفت ههنا وجمع كلها موقف وروى الطبراني والديلمي برجال ثقات عن ابن عباس مرفوعًا عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة ومزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر ومنى كلها منحر (مالك عن هشام بن عروة عن) عمه (عبد الله بن الزبير أنه كان يقول اعلموا أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة) بالنون لكونها في الحرم (وإن المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر) عقب المرفوع بالموقوف إشارة إلى استمرار العمل به فلا يتطرق إليه احتمال النسخ (قال مالك قال الله تبارك وتعالى { { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } } ) بالفتح في الثلاثة على أن لا للتبرئة والجمهور على أنها فتحة بناء وقيل إعراب وقرئ بالرفع على إلغاء لا وما بعدها مبتدأ سوغ الابتداء بالنكرة تقدم النفي عليها وفي الحج خبر المبتدأ الثالث وحذف خبر الأولين لدلالته عليهما (قال فالرفث إصابة النساء والله أعلم) بدليل أنه (قال الله تبارك وتعالى { { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } } ) أي جماعهن بلا شك فيحمل عليها الرفث في آية الحج وقيل إنه الفحش في الكلام وقيل التصريح بذكر الجماع قال الأزهري هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة وخصه ابن عباس بما خوطب به النساء قال عياض يعني من ذكر الجماع وما يوصل إليه لا كل كلام قال أبو عمر روى ابن وهب عن ابن عمر الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك والرجال والنساء فيه سواء (قال والفسوق الذبح للأنصاب) جمع نصب بضمتين حجارة تنصب وتعبد (والله أعلم قال الله تبارك وتعالى { { أو فسقًا أهل لغير الله به } } ) فسمى ذلك فسقًا فدل على أنه المراد في الحج وروى ابن وهب عن ابن عمر الفسوق المعاصي في الحرم ولذا قيل المراد ما هو أعم من ذلك وهو الترك لأمر الله والعصيان والخروج عن طريق الحق والفجور قال الباجي إنما خص مالك الفسوق بما ذكر لأن الحج شرع فيه الذبح فخص بالنهي عن ذلك وإن كان قد نهي عن المعاصي جملة ولا يمتنع حمل الآية على العموم في الحج وغيره لكنه يتأكد في الحج (قال والجدال في الحج أن قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام) بفتح الميم وبه جاء القرآن وقيل بكسرها وقال بعضهم أنه أكثر في كلام العرب وذكر القعنبي وغيره أنه لم يقرأ بها أحد وذكر الهذلي أن أبا السماك قرأ بالكسر جبل (بالمزدلفة بقزح) بفتح القاف وفتح الزاي وبالحاء المهملة وقيل المشعر الحرام كل المزدلفة وقيل هو ما بين المزدلفة ومأزمي عرفات سمي بذلك لأنه معلم للعبادة وموضع لها قال الأزهري الشعائر المعالم التي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها (وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة) على أصل شرع إبراهيم وأما قريش فقال سفيان كان الشيطان قد استهواهم فقال لهم إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانت قريش لا تجاوز الحرم وتقول نحن أهل الله لا نخرج من الحرم وكان سائر الناس يقف بعرفة وذلك قوله تعالى { { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } } رواه الحميدي والإسماعيلي وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى { { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } } وروى ابن خزيمة وابن راهويه وابن إسحاق عن جبير بن مطعم قال كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة وتقول نحن الحمس فلا نخرج من الحرم وقد تركوا الموقف بعرفة قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا توفيقًا من الله له وفي الصحيحين عن جبير رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفة فقلت هذا والله من الحمس فما شأنه ههنا والحمس بضم الحاء المهملة وبالميم الساكنة وسين مهملة هم قريش ومن أخذ مأخذها من القبائل من التحمس وهو التشدد (فكانوا يتجادلون) يتخاصمون (يقول هؤلاء نحن أصوب) لأنا لم نخرج من الحرم (ويقول هؤلاء نحن أصوب) لأنا اتبعنا الشرائع القديمة ولم نبتدع (فقال الله تعالى و { { لكل أمة جعلنا منسكًا } } ) بفتح السين وكسرها شريعة ( { { هم ناسكوه } } عاملون به ( { { فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك } } ) إلى دينه ( { { إنك لعلى هدى } } ) دين { { مستقيم } } فهذا الجدال فيما نرى نظن (والله أعلم) بما أراد (وقد سمعت ذلك من أهل العلم) وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه رواه الشيخان ولم يذكر الجدال لارتفاعه بين العرب وقريش بالإسلام ووقف الكل بعرفة.