فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

رقم الحديث 408 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.



رقم الحديث 409 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَرَوْنَ قِبْلَتِي هَاهُنَا؟ فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ وَلَا رُكُوعُكُمْ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.



رقم الحديث 410 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.



رقم الحديث 411 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي الشَّارِبِ، وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي؟ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ فِيهِمْ، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: هُنَّ فَوَاحِشُ.
وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ.
وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.



رقم الحديث 412 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.



رقم الحديث 413 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرِيضُ السُّجُودَ، أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِيمَاءً، وَلَمْ يَرْفَعْ إِلَى جَبْهَتِهِ شَيْئًا.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.



رقم الحديث 414 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَاءَ الْمَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّى النَّاسُ، بَدَأَ بِصَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا شَيْئًا.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.



رقم الحديث 415 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُصَلِّي.
فَسَلَّمَ عَلَيْهِ.
فَرَدَّ الرَّجُلُ كَلَامًا.
فَرَجَعَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: إِذَا سُلِّمَ عَلَى أَحَدِكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلَا يَتَكَلَّمْ، وَلْيُشِرْ بِيَدِهِ.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.



رقم الحديث 416 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، فَلْيُصَلِّ الصَّلَاةَ الَّتِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُصَلِّ بَعْدَهَا الْأُخْرَى.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.



رقم الحديث 417 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى جِدَارِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلَاتِي انْصَرَفْتُ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ شِقِّي الْأَيْسَرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِكَ؟ قَالَ فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ، فَانْصَرَفْتُ إِلَيْكَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَإِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ.
إِنَّ قَائِلًا يَقُولُ: انْصَرِفْ عَنْ يَمِينِكَ، فَإِذَا كُنْتَ تُصَلِّي، فَانْصَرِفْ حَيْثُ شِئْتَ.
إِنْ شِئْتَ عَنْ يَمِينِكَ.
وَإِنْ شِئْتَ عَنْ يَسَارِكَ.


الْعَمَلِ فِي جَامِعِ الصَّلَاةِ

( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين) وفي حديث عائشة: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر رواه البخاري وغيره.
قال الداودي: هو محمول على أن كل واحد وصف ما رأى، ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع.
قال الحافظ: هذا الاحتمال بعيد، والأولى أن يحمل على حالين فتارة كان يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعًا، وقيل يحمل على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته أربعًا أو يصلي في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين، ويقوي الأوّل ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا ثم يخرج.
قال ابن جرير: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها.

( وبعدها ركعتين) وللترمذي وصححه مرفوعًا: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار ولم يذكر الصلاة قبل العصر، وللترمذي والنسائي عن علي كان يصلي قبل العصر أربعًا، ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رفعه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا.

( وبعد المغرب ركعتين) وقوله ( في بيته) لم يقله يحيى والقعنبي سوى هنا، ففيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري، وفي الاستدلال به نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبًا وبالليل يكون في بيته كذا في الفتح.

( وبعد صلاة العشاء ركعتين) زاد ابن وهب وجماعة في بيته ( وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته ( فيركع ركعتين) زاد ابن بكير في بيته ولم يذكر ابن وهب وجماعة انصرافه من الجمعة قاله أبو عمر.

قال الحافظ: وحكمة ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر كان يبرد بها فكان يقيل قبلها.

وقال ابن بطال: إنما ذكر ابن عمر الجمعة بعد الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر.
قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت انتهى.

وعلى هذا فلا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى، ولأبي داود وابن حبان من رواية أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، واحتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها، وتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله ويصلي بعدها لرواية الليث عن نافع: كان عبد الله إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال كان صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك أخرجه مسلم.

وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة فلا حجة فيه لسنة الجمعة قبلها بل هو تنفل مطلق، وردّ الترغيب فيه كما تقدّم في حديث سليمان وغيره حيث قال فيه: ثم صلى ما كتب له وورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث ضعيفة كحديث أبي هريرة كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا رواه البزار وفي إسناده ضعف.
وعن علي عند الأثرم والطبراني في الأوسط كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي ضعفه البخاري وغيره.
وقال الأثرم: إنه حديث واه، وروى ابن ماجه بإسناد واه عن ابن عباس مثله.
وزاد ولا يفصل في شيء منهن.

قال النووي في الخلاصة: حديث باطل وعن ابن مسعود مثله عند الطبراني وفيه ضعف وانقطاع ورواه عبد الرزاق عنه موقوفًا وهو الصواب انتهى ببعض اختصار.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، ورواه مسلم وغيره.

( مالك عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أترون) بفتح التاء والاستفهام إنكاري أي أتظنون ( قبلتي) أي مقابلتي ومواجهتي ( هاهنا) فقط لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه فبين أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة ( فوالله ما يخفى علي خشوعكم) أي في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود لأن فيه غاية الخشوع وصرح بالسجود في رواية لمسلم قاله الحافظ وغيره وعلى الأوّل فقوله: ( ولا ركوعكم) من الأخص بعد الأعم إما لأن التقصير فيه كان أكثر أو لأنه أعظم الأركان من حيث إن المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع ( إني لأراكم) بفتح الهمزة بدل من جواب القسم وهو ما يخفى أو بيان له ( من وراء ظهري) رؤية حقيقية أختص بها عليكم وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون وهو مناف لكمال الصلاة فيكون مستحبًا لا واجبًا لأنه لم يأمرهم بالإعادة.

وحكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقب بأن في الزهد لابن المبارك عن عمار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه، وفي كلام غير واحد ما يقتضي وجوبه ثم الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية وتارة من فعل البدن كالسكون، وقيل لا بدّ من اعتبارهما حكاه الرازي في تفسيره.

وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث عليٌّ الخشوع في القلب أخرجه الحاكم.
وأما حديث لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه فأشار إلى أن الظاهر عنوان الباطن.

قال الحافظ: اختلف في معنى الرؤية فقيل المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما بأن يلهم وفيه نظر لأنه لو أريد العلم لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، وقيل المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير نادر أو يوصف من هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف وفيه عدول عن الظاهر بلا دليل والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا حمل البخاري فأخرج الحديث في علامات النبوّة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عين انخرقت له العادة فيه فكان يرى من غير مقابلة لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع لوقوفهم مع العادة.
وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من وراءه دائمًا، وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره وقيل بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة فترى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله وقد نقل ذلك عن مجاهد.

وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء انتهى.
وتعقب تخصيصه بالصلاة بأن جمعًا من المتقدّمين صرح بالعموم وعللوه بأنه إنما كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من كل جهة.

وقال ابن عبد البر: دفعت طائفة من أهل الزيغ هذا قالوا: كيف يقبل مع قوله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكرة: أنا.
فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد وسمع صلى الله عليه وسلم الذي انتهى إلى الصف فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه فقال: من المتكلم؟ الحديث إذ لو كان يرى ما سأل.
والجواب أن فضائله صلى الله عليه وسلم كانت تزيد في كل وقت.
ألا ترى أنه قال: كنت عبدًا قبل أن أكون نبيًا وكنت نبيًا قبل أن أكون رسولاً وقال: لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس وقيل له: يا خير البرية قال: ذاك إبراهيم حتى نزل { { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } } ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره.

والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به، إلا أن لفظ مسلم: فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم.

( مالك عن نافع) كذا ليحيى والقعنبي وابن وهب وإسحاق الطباع، وقال جل الرواة عن عبد الله بن دينار، قال ابن عبد البر: والحديث صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء) بضم القاف وموحدة ممدود عند أكثر اللغويين قال الشاعر:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
قباء وهل زال العقيق وحاضره

وأنكر بعضهم قصره لكن حكاه صاحب العين قال البكري: من العرب من يذكره فيصرفه، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه، وفي المطالع على ثلاثة أميال من المدينة، وقال ياقوت: على ميلين على يسار قاصد مكة وهو من عوالي المدينة سمي باسم بئر هناك.
قال أبو عمر: اختلف في سبب إتيانه فقيل لزيارة الأنصار، وقيل للتفرّج في حيطانها، وقيل للصلاة في مسجدها وهو الأشبه.

وفي مسلم من رواية ابن عيينة والبخاري من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ( راكبًا) تارة ( وماشيًا) أخرى بحسب ما تيسر، والواو بمعنى أو زاد مسلم من رواية عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين، وزاد الشيخان في الطريق المذكورة: وكان عبد الله بن عمر يفعله، وخص السبت لأجل مواصلته لأهل قباء وتفقده لحال من تأخر منهم عن حضور الجمعة معه صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة.

قال أبو عمر: لا يعارضه حديث لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد لأن معناه عند العلماء في النذر إذا نذر أحد الثلاثة لزمه إتيانه.
أما إتيان مسجد قباء وغيره تطوعًا بلا نذر فيجوز، وإعمال المطي معناه الكلفة والمؤنة والمشقة.

وقال الباجي: ليس إتيان قباء من المدينة من إعمال المطيّ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطيّ ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعة أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه لكن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبَّة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إليّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل انتهى.

وروى النسائي وقاسم بن أصبغ عن سهل بن حنيف مرفوعًا: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج حتى يأتي مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة وفي رواية عند قاسم: ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان له بمنزلة عمرة.
وللترمذي عن أسيد بن ظهير رفعه: الصلاة في مسجد قباء كعمرة والجمهور أنه المراد بقوله تعالى: { { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } }

وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعيد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعًا نصًا أخرج مسلم عن أبي سعيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدكم هذا.
ولأحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: هو هذا وفي ذلك خير كثير وأخرج أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
ومن وجه آخر عن سهل عن أبي بن كعب مرفوعًا.

ولهذه الأحاديث وصحتها جزم مالك في العتبية بأنه مسجد المدينة، وقال ابن رشد في شرحها إنه الصحيح.
قال الحافظ: والحق أنّ كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية { { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } يؤيد أن المراد مسجد قباء، ولأبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا نزلت { { رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } } في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بأنه مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافًا لأن كلاً منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد لكن قوله: { { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } } يقتضي مسجد قباء لأن تأسيسه في أوّل يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة انتهى.

والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك عن ابن دينار به، وتابعه عبد العزيز بن مسلم في البخاري، وإسماعيل بن جعفر وسفيان بن عيينة في مسلم ثلاثتهم عن ابن دينار، وتابعه في روايته عن نافع أيوب السختياني في الصحيحين، وعبيد الله بن عمر وابن عجلان كلاهما في مسلم.
( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين ووهم من عده في الصحابة قال العسكري لا صحبة له وذكره البخاري في التابعين.
وقال أبو حاتم: حديثه مرسل، وقال أبو عمر: لم تختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وروى النعمان عن علي وجرير وأنس وعنه أيضًا محمد بن علي الباقر وليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث.

( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في الشارب) للخمر ( والسارق والزاني وذلك قبل أن ينزل فيهم) قال أبو عبد الملك: إنما يرجع إلى السارق والزاني لأن الشارب لم ينزل فيه شيء، وقال الباجي: فيه إخبار بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه ويحتمل أن يريد تقريب التعليم عليهم فقصد أن يعلمهم على أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة وهو أسوأ مما تقرر عندهم، وسؤاله عن ذلك قبل أن ينزل فيهم صريح في جواز الحكم بالرأي لأنهم إنما سألهم ليقولوا فيه ( قالوا: الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يبدوا رأيًا عنده صلى الله عليه وسلم بل ردّوا العلم إلى الله ورسوله.

( قال: هن فواحش) ما فحش من الذنوب كما يقال خطأ فاحش أي شديد وقد حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ( وفيهن عقوبة) وروي ما تعدون الكبائر فيكم؟ قالوا: الشرك والزنا والسرقة وشرب الخمر قال: هنّ كبائر وفيهن عقوبات ( وأسوأ السرقة) رواية الموطأ بكسر الراء أي سرقة الذي كما قال تعالى: { { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ } } أي بر من آمن، وروي بفتح الراء جمع سارق كفاسق وفسقة قاله ابن عبد البر فأسوأ مبتدأ خبره ( الذي) على حذف مضاف أي سرقة الذي ( يسرق صلاته.
قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)
أعاد لا دفعًا لتوهم الاكتفاء بالطمأنينة في أحدهما قال الباجي: خصهما لأنّ الإخلال غالبًا إنما يقع بهما وسماه سرقة على معنى أنه خيانة فيما ائتمن على أدائه.
قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارف وغير متعارف وهو ما ينقص من الطمأنينة والخشوع، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، ووجه كونه أسوأ أن السارق إذا وجد مال الغير قد ينتفع به في الدنيا أو يستحل صاحبه أو يحد فينجو من عذاب الآخرة بخلاف هذا فإنه سرق حق نفسه من الثواب وأبدل منه العقاب في العقبى.

وهذا الحديث وإن رواه مالك مرسلاً فهو صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد قاله ابن عبد البر.
روى أحمد والطيالسي وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها.
وروى الطبراني مثله من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وأحمد والحاكم وصححه عن أبي قتادة، والبخاري في الأدب المفرد من حديث عمران بن حصين.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله) مرسل عند جميع الرواة، وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) لتنزل الرحمة فيه والبعد عن الرياء.
قال أبو عمر: قيل النافلة، وقيل المكتوبة لتعليم الأهل حدود الصلاة معاينة وهو أثبت أحيانًا من التعليم بالقول، ومن على الأوّل زائدة وعلى الثاني تبعيضية قاله في التمهيد.

وقال في الاستذكار: قيل النافلة وقيل الفريضة ليقتدي بكم أهلوكم ومن لا يخرج إلى المسجد ومن يلزمكم تعليمهم كما قال تعالى: { { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } } أي علموهم، والصلاة إذا أطلقت إنما يراد بها المكتوبة فلا يخرج عن حقيقة معناها إلا بدليل لا يحتمل التأويل.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ولم يخص جماعة من الجماعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم انتهى.
فأومأ إلى ترجيح أن المراد الفريضة.

وقال الباجي: الصحيح النافلة كما ذكره ابن مزين عن عيسى بن دينار وابن نافع إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التخلف عن الجماعة في المساجد والنساء يخرجن إليها في ذلك الزمان فيتعلمن وأيضًا فقد يعلم أهله بالقول.

وقال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل لما رواه مسلم عن جابر مرفوعًا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته.
قال الحافظ: وليس فيه ما ينفي الاحتمال، وقد حكى عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن، وهذا وإن كان محتملاً لكن الأوّل هو الراجح، وبالغ النووي فقال: لا يجوز حمله على الفريضة انتهى، وكأنه لحديث الصحيحين أيها الناس صلوا في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء) إلى الأرض ( ولم يرفع إلى جبهته شيئًا) يسجد عليه فيكره عند أكثر العلماء وأجازه ابن عباس وعروة، وعن أمّ سلمة أنها سجدت على مرفقة لرمد كان بها قاله أبو عمر.

( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن عمر كان إذا جاء المسجد وقد صلى الناس بدأ بصلاة المكتوبة ولم يصل قبلها شيئًا) لأنه رأى البدء بالفرض أولى قال الباجي: إن ضاق الوقت عن الفريضة ونافلة قبلها بدأ بالفريضة ولم يجز النفل قبلها وإن اتسع فهو بالخيار.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي فسلم عليه فرد الرجل كلامًا فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له إذا سلم) بضم السين ( على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم) برّد السلام لأنه مفسد للصلاة عند جمهور العلماء كالأئمة الأربعة ( وليشر بيده) وقال قتادة والحسن وطائفة من التابعين: يجوز رده كلامًا.
أبو عمر أجمعوا على أنه ليس عليه أن يسلم على المصلي، واختلفوا في جوازه فمنعه بعضهم لأنه في شغل عن رده، وإنما السلام على من يمكنه الرد، ولحديث: إنّ في الصلاة شغلاً وأجازه بعضهم لحديث: كان الأنصار يدخلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلمون فيرد عليهم إشارة بيده وتأول أنه كان يشير عليهم أن لا يفعلوا فيه بعد.

( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام) فلا يقطع لأنه من مساجين الإمام فحذف جواب الشرط لعلمه من قوله ( فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي) باتفاق ( ثم ليصل بعدها الأخرى) التي صلاها مع الإمام، وبهذا قال الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي: يعتدّ بصلاته مع الإمام ويقضي التي ذكر.

( مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وشدّ الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني التابعي ثقة فقيه مات سنة إحدى وعشرين ومائة وهو ابن أربع وسبعين سنة ( عن عمه واسع بن حبان) بن منقذ بن عمرو الأنصاري المازني المدني صحابي ابن صحابي وقيل بل من كبار التابعين الثقات.

( أنه قال: كنت أصلي وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة) فيه جواز الاستناد إليها، لكن لا ينبغي لأحد أن يصلي مواجهًا غيره وأبصر عمر رجلاً يصلي وآخر مستقبله فضربهما جميعًا ( فلما قضيت) أتممت ( صلاتي انصرفت إليه من قبل) بكسر ففتح جهة ( شقي الأيسر فقال عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قال فقلت: رأيتك فانصرفت إليك.
قال عبد الله: فإنك قد أصبت إن قائلاً يقول انصرف عن يمينك فإذا كنت تصلي فانصرف حيث شئت إن شئت عن يمينك وإن شئت عن يسارك)
.

والأفضل عند الأكثر الانصراف عن اليمين لحديث أنس كان صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ولا دلالة فيه على أنه لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد قال ابن مسعود: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، وأما حديث كان يحب التيمن في أمره كله في طهوره وانتعاله فقد حصر ما استحب ذلك فيه ولم يذكر الانصراف وقد كان ينصرف عن يمينه وشماله قاله أبو عمر.

( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من المهاجرين لم ير به بأسًا أنه سأل عبد الله بن عمرو بن العاص) الصحابي ابن الصحابي ( أأصلي في عطن الإبل؟) بروكها عند الماء خاصة ولها شربتان فعطنها بروكها بينهما وقيل ماؤها مطلقًا ( فقال عبد الله: لا) تصل فيها ( ولكن صل في مراح الغنم) بضم الميم مجتمعها آخر النهار موضع مبيتها.

قال ابن عبد البر: مثل هذا من الفرق بينهما لا يدرك بالرأي، وروى هذا الحديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: صلوا في مراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ويونس لا يحتج به عن هشام فيما خالفه فيه مالك إذ لا يقاس به وليس بالحافظ، والصحيح في إسناد هشام رواية مالك نعم جاء من حديث أبي هريرة والبراء وجابر بن سمرة وعبد الله بن مغفل وكلها بأسانيد حسان وأكثرها تواتر وأحسنها حديث البراء وحديث عبد الله بن مغفل رواه خمسة عشر رجلاً عن الحسن وسماعه من ابن مغفل صحيح، وفيه دليل على أنّ ما يخرج من مخرجي الحيوان المأكول لحمه ليس بنجس، وأصح ما قيل في الفرق أنّ الإبل لا تكاد تهدأ ولا تقرّ في العطن بل تثور فربما قطعت على المصلي صلاته.

وفي الحديث بأنها خلقت من جن فبينّ علة ذلك، والقول بأنه كان يستتر بها عند الخلاء لا يعرف في الأحاديث المسندة، بل فيها غيره.
روى أبو داود عن البراء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مراح الغنم؟ فقال: صلوا فيها فإنها بركة.
وللنسائي وغيره عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين وفي بعض الآثار فإنها خلقت من جن انتهى.

وحديث جابر بن سمرة في مسلم وأبي هريرة في الترمذي وجاء أيضًا من حديث سبرة بن معبد عن ابن ماجه وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل.
قال في الفتح: وفرّق بعضهم بين الواحد منها فيجوز وبين كونها مجتمعة لما طبعت عليه من النفار المفضي إلى تشويش قلب المصلي بخلاف الصلاة على المركوب منها لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة وهو على بعيره أو إلى جهة واحدة وهو معقول.

( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن سعيد بن المسيب) بكسر الياء وفتحها ( أنه قال: ما صلاة يجلس) بالبناء للمفعول ( في كل ركعة منها) فيه طرح العالم على جلسائه ويجيبهم عما وقفوا عنه ( ثم قال سعيد: هي المغرب إذا فاتتك ركعة منها) لا خلاف عند العلماء في ذلك، وكذا إذا أدركت منها ركعة إلا أن جندب بن عبد الله الصحابي أدرك هو ومسروق ركعة من المغرب فأما مسروق فقعد فيهن كلهن، وأما جندب فلم يقعد بعد الإمام إلا في آخرهنّ فذكرا ذلك لابن مسعود فقال: كلاكما محسن ولو كنت صانعًا لصنعت كما صنع مسروق، وقول سعيد ( وكذلك سنة الصلاة كلها) يريد إذا فات المأموم منها ركعة أن يقعد إذا قضاها لأنها آخر صلاته قاله كله ابن عبد البر.

قال الباجي: وإنما تصير الرباعية كلها جلوسًا إذا فاتته منها ركعة ثم أدرك الثانية ثم فاتته بقية الصلاة برعاف أو غيره أو أدرك مقيم من صلاة مسافر ركعة.